((الْإِسْلَامُ مَصْدَرُ السَّعَادَةِ وَالصَّلَاحِ لِلْعَالَمِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نِعْمَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))
فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، لَا يَقْبَل اللهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ؛ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عِمْرَانَ: 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عِمْرَانَ: 85].
وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
لَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُحَقِّقًا لِهَذَا الدِّينِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، حَتَّى يَنْقَادَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُسْتَسْلِمًا، فَيَأْتِيَ بِتَوْحِيدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيَكُونَ مُذْعِنًا لِأَمْرِ رَبِّهِ الَّذِي بَلَّغَهُ نَبِيُّهُ ﷺ، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكْفِي، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَاكُمْ لَمَّا اخْتَارَ لَكُمْ دِينَهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ، فَهَذِهِ النِّعْمَةُ هِيَ أَعْظَمُ نِعَمِ رَبِّكُمْ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَفْهَمُوا دِينَ رَبِّكُمْ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوا إِلَيْهِ، وَعَلَيْكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَّقَ الْفَلَاحَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [الْعَصْر: 1-3].
فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الَعْالَمِينَ؛ مِنَ الْإِيمَانِ بِوُجُودِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِأُلُوهِيَّتِهِ، وَمِنَ الْإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِيمَانَ بِدُونِ عَمَلٍ.
إِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقَّ هُوَ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ اللِّسَانُ، وَقَامَت الْجَوَارِحُ بِمَا أَلْزَمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ: عَقْدُ الْقَلْبِ، وَنُطْقُ اللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ.
عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ أَعْظَمُ دِينٍ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، هُوَ الدِّينُ الَّذِي خَلَقَ اللهُ لِأَجْلِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ الْكُتَبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَقَامَتْ بِسَبَبِهِ مَعْرَكَةُ الْجِهَادِ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ.
وَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ أَعْظَمُ مِنَّةٍ مَنَّ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا عَلَى عَبْدٍ، الدِّينُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، يَأْمُرُ بِالْبِرِّ وَيَنْهَى عَنِ الْعُقُوقِ، يَأْمُرُ بِالْأَمَانَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْخِيَانَةِ، يَأْمُرُ بِالصِّلَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْقَطِيعَةِ، يَأْمُرُ بِالِائْتِلَافِ وَيَنْهَى عَنْ الِاخْتِلَافِ.
هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ، يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ وَيَنْهَى عَنِ البِدْعَةِ، يَأْمُرُ بِالْحَقِيقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْخُرَافَةِ، هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا؛ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ.
إنَّ أَعْظَمَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى عَبْدٍ قَطُّ هِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الْتِفَاتًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ إِلْفَ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ إِلْفَ النِّعْمَةِ.. يَجْعَلُهَا كَلَا نِعْمَةٍ؛ بَلْ يَجْعَلُهَا نِقْمَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ، فَلَا يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ فَقْدِهَا!!
إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْحَالِ، وَنَظَرَ إِلَى حَالِ دُوَلِ الْكُفْرِ فِي بُعْدِهِمْ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجُحُودِهِمْ لَهُ، وَمُحَارَبَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَظَرَ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَحْيَوْنَ بَيْنَ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ؛ وَجَدَ مَا يُعَانُونَ وَمَا يُلَاقُونَ مِنَ الْعَنَتِ وَمِنَ المَشَقَّةِ، مِنْ أَجْلِ الْإِتْيَانِ بِفَرَائِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.. عَلِمَ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، هَذَا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَجْزَلَ لَهُ الْعَطِيَّةَ، وَأَضْعَفَ لَهُ الْمِنَّةَ لَمَّا جَعَلَهُ مُسْلِمًا.
فَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.
إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَنْشَأَنَا فِي بِيئَةٍ مُسْلِمَةٍ، نَسْمَعُ فِيهَا آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تُتْلَى فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهَا الصِّغَارُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَلِّمِينَ قَبْلَ كِبَارِهِمْ.
وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ بِأَعْلَى الْأَصْوَاتِ فِي جَمِيعِ الْمَحَالِّ، وَفِي شَتَّى الْأَمَاكِنِ، وَفِي جَمِيعِ الرُّبُوعِ، فَيُرْفَعُ الْأَذَانُ، وَهُوَ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَلَبَةَ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْبِيئَةِ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ.
وَالْعَبْدُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يَعِيبَ نُورًا وَلَوْ كَانَ ضَئِيلًا إِلَّا إِذَا أَتَى بِنُورٍ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.
فَهَذَا الَّذِي جَعَلَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ؛ مِنْ إِنْشَائِنَا فِي هَذِهِ الْبِيئَةِ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُسْمَعُ فِيهَا أَحَادِيثُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، وَيَتَحَرَّكُ فِيهَا الْإِنْسَانُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ مَا عُقُوبَةٍ لَهُ عَلَى إِسْلَامِهِ وَلَا مُؤَاخَذَةٍ.. يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ تُشْكَرَ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا إِنْ كُفِرَتْ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ حَذَّرَ مَنْ كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [مُحَمَّد: 38].
((سَعَادَةُ الْعَالَمِ وَصَلَاحُهُ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ))
إِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَكْثَرَ مِنَ احْتِيَاجِهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَقَدَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ مَاتَ جَسَدُهُ، وَإِذَا فَقَدَ الْوَحْيَ وَالنُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مَاتَ قَلْبُهُ وَمَاتَتْ رُوحُهُ، وَمَوْتُ الْجَسَدِ لَيْسَ شَيْئًا بِإِزَاءِ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ.
بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَاتَ جَسَدُهُ رُبَّمَا انْعَتَقَتْ رُوحُهُ مِنْ أَسْرِ الْجَسَدِ إِلَى طَلَاقَةٍ تَكُونُ هُنَالِكَ بِسَعَادَةِ الْقُلُوبِ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا فَقَدَ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ فَذَلِكَ هَلَاكُ الْأَبَدِ، وَذَلِكَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
النَّاسُ يَحْتَاجُونَ الْوَحْيَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَاتِهِمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَالنَّفَسَ، عَلَى شِدَّةِ الْإِنْسَانِ فِي احْتِيَاجِهِ إِلَى النَّفَسِ وَعَلَى شِدَّةِ احْتِيَاجِ الْإِنْسَانِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَكِنَّ حَاجَتَهُ إِلَى الْوَحْيِ، وَحَاجَتَهُ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ سَعَادَةٍ وَفَلَاحٍ، وَكُلَّ هَنَاءٍ وَصَلَاحٍ؛ إِنَّمَا سَبَبُهُ طَاعَةُ الرَّسُولِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ شَقَاءٍ وَبَوَارٍ، وَخَرَابٍ وَدَمَارٍ؛ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ.
وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَطَاعُوا النَّبِيَّ ﷺ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَارُوا خَلْفَهُ، وَاتَّبَعُوا نَهْجَهُ، وَالْتَزَمُوا شَرْعَهُ.. مَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا شَرٌّ قَطُّ، وَلَكِنَّ الشَّرَّ يُوجَدُ فِي الْحَيَاةِ عَلَى قَدْرِ الْمُخَالَفَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَالشَّرُّ يَنْتَفِي عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِ، وَالصَّلَاحُ وَالْفَلَاحُ وَالْهَنَاءُ وَالِاسْتِقْرَارُ كُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النِّسَاء: 59].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَٰلِكَ}؛ يَعْنِي: مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِي وَطَاعَةِ نَبِيِّي ﷺ، وَرَدِّ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّنَازُعُ إِلَى كِتَابِي وَسُنَّةِ نَبِيِّي ﷺ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَبَدًا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاءً لِشَرْطٍ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وَجَاءَ هَاهُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالِاسْتِمْرَارِ وَعَدَمِ الِانْقِطَاعِ: {تُؤْمِنُونَ}.
لَمْ يَقُلْ: ((إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ))؛ وَإِنَّمَا قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- هَاهُنَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِيَّةِ الْحَدَثِ وَتَجَدُّدِهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
{ذَٰلِكَ}: الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَدَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدْتُكُمْ إِلَيْهِ، وَجَاءَكُمْ بِهِ نَبِيِّي وَرَسُولِي ﷺ.. {ذَٰلِكَ خَيْرٌ}: ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}؛ يَعْنِي: وَأَحْسَنُ مَآلًا لَكُمْ وَعَاقِبَةً لَكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.
فَدَلَّ الْأَمْرُ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ -يَعْنِي: عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ ﷺ- وَهِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطَاعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُعْصَى نَبِيُّهُ ﷺ.
وَلَا يُمْكِنُ أَبَدًا أَنْ يَتَصَوَّرَ عَقْلٌ، وَلَا أَنْ يَتَخَيَّلَ خَيَالٌ.. أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ طَائِعًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ مُحَادٌّ لِنَبِيِّهِ مُشَاقٌّ لَهُ، هُوَ فِي شِقٍّ وَنَبِيُّهُ فِي شِقٍّ، وَهُوَ فِي حَدٍّ وَنَبِيُّهُ فِي حَدٍّ!! وَإِنَّمَا يُطَاعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ الْأَمِينِ ﷺ.
{ذَٰلِكَ خَيْرٌ} سَعَادَةٌ لَكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} وَسَعَادَةً لَكُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ.
فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ -كَمَا رَأَيْتَ- بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَأْوِيلٍ وَلَا شَرْحٍ وَلَا تَفْسِيرٍ؛ عَلَى أَنَّ مَرْجِعَ السَّعَادَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَعَلَى أَنَّ انْعِقَادَ أَمْرِ السَّعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَاعَةِ الْمَأْمُونِ ﷺ، وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ﷺ، أَوْ بِسَبَبِ ارْتِكَابِ وَرُكُوبِ نَهْيِهِ.
وَمَا مِنْ شَرٍّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وَلَا فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى إِلَّا وَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَانْتِظَامُ أُمُورِ الْعَالَمِ، وَانْتِظَامُ أُمُورِ الْحَيَاةِ، وَسَيْرُ الْكَوْنِ عَلَى الْمُقْتَضَى الْأَمْثَلِ، وَعَلَى السَّنَنِ الْأَسْنَى.. إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَمَا مِنْ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ غَلَبَتْ فِيهِ طَاعَةُ النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا وَتَحَصَّلَ سَاكِنُوهُ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْهَنَاءِ عَلَى قَدْرِ طَاعَتِهِمْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَمَا عَمَّتِ الشُّرُورُ فِي مَكَانٍ، وَلَا غَلَبَتْ نَوَازِعُ الشَّرِّ فِي مَوْضِعٍ.. إِلَّا لِكَثْرَةِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
بَلْ إِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ عَلَى اسْتِقْرَارِ قَلْبِهِ، وَاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ، وَصَلَاحِ بَالِهِ، وَاسْتِقَامَةِ خَطْوِهِ.. إِنَّمَا يَتَحَصَّلُ عَلَى ذَلِكَ وَيَثْبُتُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ طَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَنْهَى بِنَهْيِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُبَلِّغُ الْوَحْيَ عَنْ رَبِّهِ، فَعَادَ صَلَاحُ الْعَالَمِ إِلَى هَذَا النُّورِ الْمُشْرِقِ الْمُبِينِ.
وَمَا مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ -وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا فِي ظَاهِرِهِ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالنَّهَلِ مِنْ نَبْعِهِ الصَّافِي الْمَعِينِ- فِيهِ صَلَاحٌ إِلَّا وَمَرَدُّهُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى وَحْيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَلَوْلَا الْوَحْيُ لَكَانَ النَّاسُ أَحَطَّ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَأَسْفَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، لَوْلَا الْوَحْيُ، وَلَوْلَا الرِّسَالَةُ، وَلَوْلَا النُّبُوَّةُ.. مَا كَانَ عِرْضٌ وَلَا شَرَفٌ، وَلَا كَانَ حِفَاظٌ وَلَا كَرَامَةٌ، وَلَا كَانَ مَالٌ يُقْتَنَى، وَلَا كَانَتْ دَارٌ تُسْكَنُ؛ وَإِنَّمَا لَعَمَّتْ -حِينَئِذٍ- شِرْعَةُ الْقُوَّةِ؛ يَتَغَلَّبُ الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ غَيْرِ رَادِعٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ حَدِّهِ، وَإِنَّمَا يَنْتَهِي الْإِنْسَانُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يَتَجَاوَزَهُ، كُلُّ ذَلِكَ.. وَلَوْ كَانَ فِي دَسَاتِيرَ وَضْعِيَّةٍ وَقَوَانِينَ بَشَرِيَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَرَدُّهُ فِي الْمُنْتَهَى إِلَى وَحْيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ، وَإِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.
مَا عَرَفَ النَّاسُ الْكَرَامَةَ، وَلَا عَشِقَ النَّاسُ الْفَضَائِلَ، وَلَا اسْتَدَلَّ النَّاسُ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَا حَادَ النَّاسُ عَنِ الشُّرُورِ وَالتَّسَفُّلِ وَالرَّذَالَةِ وَالْوَضَاعَةِ وَالتَّدَنِّي.. إِلَّا بِسَبَبِ الْوَحْيِ، وَبِسَبَبِ النُّبُوَّةِ، وَبِسَبَبِ الرِّسَالَةِ، يَأْتِي بِذَلِكَ كُلِّهِ أُولَئِكَ الْمُطَهَّرُونَ الْمُصْطَفُونَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ وَرُسُلِهِ الْمُكْرَمِينَ، وَخِتَامُهُمْ وَتَاجُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ.
سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ، وَشَقَاءُ الدَّارَيْنِ فِي مُجَانَبَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، وَعَلَى قَدْرِ الثَّبَاتِ عَلَى شِرْعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ مُفْرَدًا، وَاسْتِقْرَارُ الْمُجْتَمَعِ مَجْمُوعًا، وَاسْتِقْرَارُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِ.
وَعَلَى قَدْرِ الْبُعْدِ عَنْ دِينِ الرَّبِّ، عَنْ دِينِ الْإِلَهِ الْحَقِّ، عَنْ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.. يَحْدُثُ مَا يَحْدُثُ مِنَ انْتِهَاكٍ لِلْأَعْرَاضِ، وَسَفْكٍ لِلدِّمَاءِ، وَمِنْ نَهْبٍ لِلْأَمْوَالِ، وَمِنَ اعْتِدَاءٍ عَلَى الدِّيَارِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ؛ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الْبُعْدُ عَنِ الْوَحْيِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الرِّسَالَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ النُّبُوَّةِ.
وَالنَّاسُ مَعَ الْوَحْيِ إِمَّا رَادٌّ لَهُ أَبَدًا، مُكُذِّبٌ بِهِ سَلَفًا، فَهُوَ لَا يُقِرُّ أَنَّ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْيًا عَلَى عِبَادِهِ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ يَتَنَزَّلُ، لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ بَدْءًا وَلَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُكَذِّبُهُ سَلَفًا.
وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يُنْكِرُ الْعَقْلَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْفِطْرَةَ مَغْرُوسًا فِيهَا لُجُوءٌ إِلَى الْخَالِقِ الْأَعْظَمِ.
وَمَا تَرَاهُ هُنَالِكَ إِلَى الْيَوْمِ فِي تِلْكَ الْقَبَائِلِ الْبِدَائِيَّةِ الَّتِي تَعْبُدُ أَصْنَامًا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِـ (الدِّيَانَةِ الطَّوْطَمِيَّةِ) عِنْدَمَا يَأْتِي فِي الْكَوْنِ فَزَعٌ، أَوْ عِنْدَمَا يَحِلُّ بِالنَّاسِ جَزَعٌ، وَعِنْدَمَا يَحْدُثُ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي كَوْنِهِ الْمُمْتَدِّ مِنْ أُمُورٍ مَخُوفَةٍ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الضَّعِيفِ، لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، ثُمَّ كَانَ، ثُمَّ إِلَى الْعَدَمِ يَصِيرُ! فَمِنْ أَيْنَ؟! وَإِلَى أَيْنَ؟! وَلِمَ؟! وَلِمَاذَا؟!!
أُمُورٌ مُحَيِّرَاتٌ؛ لَا يَجِدُ الْمَرْءُ حَلَّهَا، وَلَا حَلَّ شَفْرَاتِهَا، وَلَا الِانْتِهَاءَ إِلَى حَلِّ مُفْرَدَاتِهَا وَعَوِيصِهَا.. إِلَّا فِي هَذَا الْوَحْيِ الْأَغَرِّ.
وَدِينُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِيهِ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْعُظْمَى، الَّتِي مَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى النَّاسِ؛ إِذْ يَسْرُدُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى نَبِيِّنَا ﷺ كَيْفَ كَانَ النَّاسُ يُعْمِلُونَ الْعَقْلَ، وَالْعَقْلُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا فِي مَجَالٍ، وَالْعَقْلُ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْحَدُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَهَذَا مِنَ احْتِرَامِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْعَقْلَ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ كَمَا هُوَ مَعْلُوم، فَمَتَى فُقِدَ فُقِدَ التَّكْلِيفُ ثَمَّةَ.
وَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا إِلَّا وَهُوَ حَاضِرُ الْعَقْلِ، وَإِلَّا إِذَا كَانَ مُنْتَظِمَ التَّفْكِيرِ وَالْفِكْرِ، وَأَمَّا إِذَا مَا غَابَ عَنْهُ عَقْلُهُ لِعَارِضٍ يَزُولُ أَوْ لِعَارِضٍ لَا يَزُولُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ -حِينَئِذٍ- يَرْتَفِعُ، وَالْمُؤَاخَذَةَ تَمْتَنِعُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ ظُلْمٌ عَلَى عَبْدٍ فِي كَوْنِ اللهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مَا حَكَمَ بِهِ هُوَ الْعَدْلُ، وَمَا قَالَهُ هُوَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
رَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّكْلِيفَ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَيَعْقِلَ وَيُمَيِّزَ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّكْلِيفَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ إِنْ كَانَ يَوْمًا مَا مُحَصِّلًا لِعَقْلٍ مَا، وَإِلَّا فَإِنَّ التَّكْلِيفَ عَنْهُ قَدِ ارْتَفَعَ، وَالْمُؤَاخَذَةَ عَنْهُ تُمْتَنَعُ، وَحِينَئِذٍ يَأْتِي الْعَدْلُ عَلَى سَوَائِهِ.
فَلِلْعَقْلِ احْتِرَامُهُ، وَلَهُ قَدْرُهُ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ضَارِبًا فِي كُلِّ مَجَالٍ آخِذًا فِي كُلِّ سَبِيلٍ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودٍ حَدَّدَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.
شَبَابَ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى لَا تُخْدَعُوا.. فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لَا تَجِدُونَ أَبَدًا قَضِيَّةً لَا تَتَّسِقُ مَعَ الْعَقْلِ، وَلَكِنْ إِمَّا إِجْمَالًا وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، فَإِذَا نُقِلَ أَمْرٌ مِنْ مَجَالٍ إِلَى مَجَالٍ وَوَقَعَ الْخَلْطُ؛ جَاءَ الزَّيْغُ وَجَاءَ الضَّلَالُ، وَلَرُبَّمَا لَمْ تَسْتَقِمِ الْقَدَمُ عَلَى الصِّرَاطِ، وَلَرُبَّمَا انْحَرَفَتْ إِلَى صِرَاطٍ آخَرَ مِنْ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، نَسْأَلُ اللهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ حَتَّى نَلْقَى وَجْهَ رَبِّنَا الْكَرِيمِ.
إِذَنْ؛ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ فِي أُمُورِ الْعِبَادَةِ وَإِثْبَاتِ الْخَلَّاقِ الرَّزَّاقِ الْعَظِيمِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَالِكَ أُمُورٌ تَفْرِقُ بَيْنَ خَالِقٍ وَمَخْلُوقٍ، بَيْنَ وَضِيعٍ وَعَظِيمٍ، بَيْنَ مُتَدَنٍّ وَمُرْتَفِعٍ لَهُ الْعُلُوُّ؛ عُلُوُّ الذَّاتِ، وَعُلُوُّ الصِّفَاتِ، وَعُلُوُّ الشَّأْنِ، وَعُلُوُّ الْقَدْرِ.
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ مِنَ الْفَوَارِقِ مَا بَيْنَ صَنْعَةٍ وَصَانِعِهَا، مَا بَيْنَ مَخْلُوقٍ وَخَالِقِهِ، مَا بَيْنَ مَأْلُوهٍ وَإِلَهٍ، وَإِلَّا.. فَأَيُّ عِبَادَةٍ هَذِهِ؟! وَأَيُّ دِينٍ؟!
وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ حَتَّى الْأَحْجَارَ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ حَتَّى الْأَبْقَارَ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْبَشَرَ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَسْرَارِ، وَعِنْدَهُمْ مِنَ الْأَلْغَازِ، وَعِنْدَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَحَاجِيِّ الَّتِي لَا تَتَّسِقُ مَعَ الْعَقْلِ أَبَدًا بِحَالٍ، لَا فِي جُمْلَتِهَا، وَلَا فِي تَفَاصِيلِهَا، بَلْ إِنَّهَا لَتُضْحِكُ الثَّكْلَى، عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَدْرٌ لَا يُمْكِنُ عَدُّهُ، وَلَا يُنْتَهَى لَهُ حَدٌّ عِنْدَ إِحْصَائِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ.. فَمَا مِنْ أَمْرٍ أَبَدًا إِلَّا وَهُوَ مُتَّسِقٌ مَعَ الْعَقْلِ؛ إِمَّا جُمْلَةً وَإِمَّا تَفْصِيلًا، فَلَا تَغِيبَنَّ عَنْ ذِهْنِكَ أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
((الوَحْيُ رُوحُ العَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ، وَقَطَعَ عَنْهُمُ العُذْرَ.. بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الكُتُبِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى كُلِّ قَوْمٍ رَسُولًا: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فَاطِر: 24]؛ لِكَيْ لَا يَقُومَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ القِيَامَةِ حُجَّةٌ، فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ!
وَخَتَمَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الأُمَمَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَخَتَمَ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ بِسَيِّدِهِمْ وَمُقَدَّمِهِمْ وَخَاتَمِهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَكَانَ كُلُّ رَسُولٍ يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأُرْسِلَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي عُمُومِ الزَّمَانِ وَعُمُومِ الْمَكَانِ، فَأَقَامَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الحُجَّةَ، وَقَطَعَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ المَعْذِرَةَ.
وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ الْإِسْلَامِ آخِرَ بَلَاغَاتِ السَّمَاءِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ؛ كَانَ حَتْمًا أَنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً قَائِمَةً دَائِمَةً إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
وَتَوَلَّى اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِفْظَ الْوَحْيِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَسْتَحْفِظْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، وَكَانَت الْأُمَمُ قَبْلَنَا يُسْتَحْفَظُونَ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِمْ؛ فَبَدَّلُوهُ وَحَرَّفُوهُ وَزَادُوا فِيهِ وَنَقَصُوا مِنْهُ، فَتَوَلَّى اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِفْظَ الرِّسَالَةِ الخَاتِمَةِ، فَتَوَلَّى حِفْظَ القُرْآنِ بِنَفْسِهِ، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ حِفْظَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ هُوَ المُبَيَّنُ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ المُبَيِّنُ.
وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ -جَلَّ وَعَلَا- حَفِظَ المُبَيَّنَ وَلَمْ يَحْفَظِ المُبَيِّنَ؛ لَأَحَالَنَا عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَهُ وَلَا أَنْ نَسْتَوعِبَ مَعَانِيَهُ.
يَعْنِي: إِذَا قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البَقَرَة: 196]، وَقَالَ لَنَا: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البَقَرَة: 43]، فَهَذَا مُبَيَّنٌ؛ تَأْتِي السُّنَّةُ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُبَيِّنَهُ.
فَنَقُولُ: إِذَا لَمْ يَحْفَظْ لَنَا السُّنَّةَ.. كَيْفَ نُصَلِّي؟! وَكَيْفَ نُزَكِّي؟! وَكَيْفَ نَحُجُّ؟! وَكَيْفَ نَعْتَمِرُ؟! إِلَى آخِرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ.
إِذَنْ؛ يَقُولُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحِجْر: 9].
وَالذِّكْرُ هُوَ القُرْآنُ بِالقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَيَشْمَلُ السُّنَّةَ -أَيْضًا- بِفَضْلِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ حَتْمًا لِإِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ؛ مِنْ حِفْظِ الذِّكْرِ وَالوَحْيِ الذِي يُقِيمُ تِلْكَ الحُجَّةَ.
وَالوَحْيُ هُوَ رُوحُ العَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ، وَإِذَا خَلَا العَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالحَيَاةِ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ القُرْآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ.
وَحِينَئِذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الوُجُودِ الحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ.
((دَلَائِلُ عَدْلِ وَرَحْمَةِ الْإِسْلَامِ بِالْعَالَمِ))
إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لَمْ يَشْهَدْ فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ، هَذَا كَلَامُ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ، وَلَا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ.
قَالَ (جُوسْتَاف لُوبُون): ((إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ لَمْ يَشْهَدْ فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ))؛ يَعْنِي: أَرْحَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ )).
لَمْ تَكُنِ الْحَرْبُ يَوْمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ إِبَادَةً وَاسْتِئْصَالًا، وَحَرْقًا لِلْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحَرْبُ رَحْمَةً؛ يَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ لِيُدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَنْهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ الشُّيُوخِ، وَعَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَعَنْ قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ، «أَلَا لَا تَقْتُلُوا الذُّرِّيَّةَ، أَلَا لَا تَقْتُلُوا الذُّرِّيَّةَ، أَلَا لَا تَقْتُلُوا الذُّرِّيَّةَ».
نَهَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرْحَى، وَنَهَاهُمْ عَنِ الرُّهْبَانِ وَالْقُسُوسِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ وَالْبِيَعِ، مَا دَامُوا لَمْ يَحْمِلُوا سَيْفًا، وَلَمْ يُسَدِّدُوا رُمْحًا؛ لِأَنَّ الْحَرْبَ لَمْ تَكُنْ يَوْمًا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِبَادَةً وَإِهْلَاكًا، وَإِنَّمَا هِيَ تَأْمِينٌ لِلدَّعْوَةِ، وَنَشْرٌ لِلْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّخَطِّي لِذَلِكَ الْحَاجِزِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الدُّعَاةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى التَّوْحِيدِ -تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- وَالشُّعُوبِ.
وَلَمْ يُحَارِبِ الْإِسْلَامُ يَوْمًا الشُّعُوبَ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحَرْبُ حَرْبًا عَلَى الْأَنْظِمَةِ الَّتِي تَحُولُ دُونَ كَلِمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَالشُّعُوبِ.
وَعِنْدَمَا يَحْدُثُ الْفَتْحُ لَا يَتَسَلَّطُ الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ كَانَ هُنَالِكَ مِنَ الْبَشَرِ؛ وَإِنَّمَا يُؤَمِّنُونَهُمْ، وَيَحْمُونَهُمْ، وَيَحْتَرِمُونَ آدَمِيَّتَهُمْ وَإِنْسَانِيَّتَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا مُشْرِكِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَمَا فُرِضَ مِنَ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ تَأْمِينِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ حِمَايَتِهِمْ.
لَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخُ -قَطُّ- فَاتِحًا أَرْحَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا دَفَعَ رَايَةَ الْأَنْصَارِ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَلَمَّا كَانَ هُنَالِكَ عَلَى مَشَارِفِ مَكَّةَ قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْـمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَبَاحُ الْحُرْمَةُ.
وَنُقِلَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الرَّايَةِ مِنْهُ، وَدَفَعَهَا إِلَى وَلَدِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، وَرَأَى بِذَلِكَ أَنَّ الرَّايَةَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ»، الْيَوْمَ أَعْلَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ شَأْنَ الْمُسْلِمِينَ، الْيَوْمَ سَيُؤَذِّنُ بِلَالٌ: وَهُوَ حَبَشِيٌّ أَسْوَدُ كَانَ عَبْدًا.
لَمَّا فَعَلَ الْقَوْمُ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ إِلَى قَرِيبٍ، كَانَ يُكْتَبُ هُنَالِكَ فِي الْمَشَارِفِ وَالْمَقَاصِفِ وَالْمَلَاهِي وَالْمُؤَسَّسَاتِ: ((يُمْنَعُ دُخُولُ السُّودِ، كَمَا يُمْنَعُ دُخُولُ الْكِلَابِ!)).
وَالنَبِيُّ ﷺ يُبَلِّغُ عَنْ رَبِّهِ أَنَّ الْمِيزَانَ عِنْدَهُ فِي التَّفْضِيلِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْوَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى حَبَشِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ.. إِلَّا بِالتَّقْوَى» .
«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، «وَمَنْ عَصَانِي دَخَلَ النَّارَ» وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا.
جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِدِينِ اللهِ ﻷ لِيُسَوِّيَ بَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَكُلُّهُمْ عَبِيدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّهُمْ عِبَادُهُ؛ يَأْمُرُهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَنْهَاهُمْ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَحْمِلُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَيَسِيرُ بِهَا فِي الْآفَاقِ، يَدْعُو النَّاسَ إِلَى دِينِ اللهِ ﻷ مُجَاهِدًا دُونَهُ، لَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْبِيَ النِّسَاءَ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْتُلَ الذُّرِّيَّةَ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَأْصِلَ كُلَّ خَضْرَاءَ، وَلَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَضْرِبَ ضَرْبَ عَشْوَاءَ، وَإِنَّمَا يَمْتَلِكُ الْقُوَّةَ الرَّشِيدَةَ الَّتِي تَحْمِي دِينَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالَّتِي تَحْمِي الْمُبَلِّغِينَ لِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لَيْسَ فِيهَا جَوْرٌ، وَلَا عَسْفٌ، وَلَا طُغْيَانٌ، وَلَا ظُلْمٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْقُوَّةُ الْعَادِلَةُ الرَّحِيمَةُ، يَحْمِلُهَا الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْقِيَمِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَأَصْحَابُ الصِّرَاطِ الْقَوِيمِ، يَسِيرُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى هَدْيِ نَبِيِّهِمُ الْعَظِيمِ ﷺ.
قَاتَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَقُوتِلَ، وَدَافَعَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دِينِ رَبِّهِ لَمَّا هُوجِمَ، وَحَمَلَ الدِّينَ لِيُبَلِّغَهُ لِلْعَالَمِينَ، وَمَعَهُ الثُّلَّةُ الصَّالِحَةُ، وَأُوذِيَ وَمَنْ مَعَهُ؛ فَشُرِّدُوا، وَطُرِدُوا، وَعُذِّبُوا، وَقُتِّلُوا، وَحُوصِرُوا، وَجُوِّعُوا، وَسُلِكَتْ مَعَهُمْ مَسَالِكُ تَأْبَاهَا النَّفْسُ الْكَرِيمَةُ، وَتَعَافُهَا الْفِطْرَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ.
فَلَمَّا مَلَكَ ﷺ الْأَمْرَ أَطْلَقَهُمْ، وَعَفَا عَنْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ يَوْمًا: يَا لَثَارَاتِ مَكَّةَ، وَلَمْ يَقُلْ يَوْمًا: يَا لَثَارَاتِ أُحُدٍ، وَلَا بَدْرٍ، وَلَا شَيْءٍ، إِنَّمَا أَطْلَقَهُمْ؛ ((عَسَى أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)).
خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ، أَجَابَ مَنْ أَجَابَ، وَعَصَى مَنْ عَصَى.
وَكَانَ مِيزَانُ الْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ مَقْلُوبًا، فَعَدَلَهُ الدِّينُ الْحَقُّ، وَاسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ، وَوَادَعَ النَّبِيُّ ﷺ قُرَيْشًا، سَاقَ الْهَدْيَ، وَأَتَى مُحْرِمًا وَأَصْحَابُهُ يُلَبُّونَ لِكَيْ يَعْتَمِرُوا، وَلِكَيْ يَزُورُوا بَيْتَ اللهِ الْحَرَامَ الَّذِي لَا يُصَدُّ عَنْهُ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ تَبِعَ مُحَمَّدًا ﷺ وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ، ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ.
وَوَادَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَوْمَ، وَكَانَتِ الشُّرُوطُ جَائِرَةً، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْضِي فِي أَمْرٍ إِلَّا بِوَحْيٍ، وَكَانَ فَتْحًا مُؤَزَّرًا، وَكَانَ نَصْرًا مُبِينًا كَمَا وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1] هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، سَمَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَنَعَتَهُ بِالظَّاهِرِ وَالْمُبِينِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَحْتَاجُ الْمُوَادَعَةَ وَالْهُدْنَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفِيءَ الْقَوْمُ إِلَى عُقُولِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى بَصَائِرِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ وَفِطَرِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُقَلِّبُوا الْمَسْأَلَةَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، مَاذَا يُرِيدُ مِنَّا؟ وَمَاذَا يُرِيدُ مِنَّا مَنْ مَعَهُ؟ وَمَا هَذَا الدَّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ؟
وَقَدْ كَانَ؛ فَدَخَلَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي سَنَتَيْنِ عَدَدٌ يَزِيدُ عَلَى الَّذِينَ دَخَلُوا الدِّينَ مُنْذُ دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.
وَفِي فَتْرَةِ الْمُوَادَعَةِ أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ كُتُبَهُ، وَ طَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ: ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ!
لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأَقْوَامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ!
كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ!
وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْبُهْتَانِ!
آمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ، وَأَلَّا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.
هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَى تَوْحِيدِهِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ.
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَبِيدٌ.
هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ؛ لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَإِنَّمَا الْحُكْمُ للهِ وَحْدَهُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ- لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا، حَاشَا وَكَلَّا، لَمْ يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ، كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ؟! ((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)) .
فَالْإِسْلَامُ يَحْتَرِمُ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَيَحْتَرِمُ الْجَسِدَ الْإِنْسَانِيَّ وَلَوْ كَانَ مَقْتُولًا عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ عِنْدَمَا تَشْتَبِكُ الرِّمَاحُ، وَعِنْدَمَا تَتَشَابَكُ الْأَسِنَّةُ، وَعِنْدَمَا تُسَلُّ السُّيُوفُ لَامِعَةً، يَأْتِي النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ حَامِلَ السَّيْفِ وَمُسَدِّدَ الرُّمْحِ لَا يَخْبِطُ بِهِ خَبْطَ عَشْوَاءَ.
وَإِنَّمَا هُوَ فَاعِلٌ بِذَلِكَ بِقُدْرَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَلَى مِنْهَاجِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ: ((لَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَخُونُوا، وَلَا تَغُلُّوا)).
فَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ، نَهَى عَنْ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَتِيلٍ، أَنْ تُشَوَّهَ صُورَتُهُ، أَوْ تُمَزَّقَ أَعْضَاؤُهُ، أَوْ يُعْبَثَ بَجُثَّتِهِ، فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ امْتِهَانِ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَاحَةِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.
ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِأَلَّا يَدَعُوا جُثَثَ الْكَافِرِينَ نَهْبًا لِجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَسِبَاعِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا تُخَدُّ لَهُمُ الْأَخَادِيدُ، ثُمَّ يُلْقَوْا فِيهَا، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ؛ احْتِرَامًا لِذَلِكَ الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ صَاحِبُهُ كَافِرًا، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا بِبَدْرٍ، وَجِيءَ بِهِمْ فَجُعِلُوا فِي الْقَلِيبِ، وَكَانَ جَافًّا يَابِسًا، ثُمَّ أُهِيلَ عَلَيْهِمُ التُّرَابُ، وَجُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الْحِجَارَةُ.
النَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِعَدَمِ التَّمْثِيلِ بِالْقَتْلَى، وَيَأْمُرُ ﷺ بِأَنْ يُحْتَرَمَ الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ.
الْحَقُّ حَقٌّ، وَتَبْلِيغُهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِحَدِّ السَّيْفِ وَالنَّصْلِ وَالرُّمْحِ.
وَلَكِنْ، لَا بُدَّ فِي النِّهَايَةِ مِنْ إِقَامَةِ ذَلِكَ عَلَى قَانُونِ الْعَدْلِ وَالرُّشْدِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص.
أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ خَالِدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَإِنَّمَا قَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا! فَأَوْقَعَ بِهِمُ الْقَتْلَ، وَأَعْمَلَ فِيهِمُ السَّيْفَ، فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ)).
لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ خَالِدًا جَاءَ قَوْمًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، لَيْسَ الْأَمْرُ مَبْنِيًّا عَلَى غَدْرٍ، وَلَا تَبْيِيتٍ بِلَيْلٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ دِينٍ، وَدَعْوَةٌ إِلَى الرُّشْدِ وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، فَإِذَا خُولِفَ فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْرِ عَلَى حَقِّهِ.
وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنْ يُعَادَ الْأَمْرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى مَا يُقَارِبُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَفْعِ الدِّيَةِ.
وَالْإِنْسَانُ يَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ، وَيُأْمَرُ عِنْدَ الْقَتْلِ خَطَأً بِدَفْعِ الدِّيَةِ، مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْفَاعِلَةِ لِسَفْكِ الدَّمِ وَإِزْهَاقِ الرُّوحِ.
وَلَكِنْ.. إِذَا وَقَعَ الْقَتْلُ، فَمَاذَا يَكُونُ؟ لَا بُدَّ مْنْ دِيَةٍ مَعَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ صَاحِبُهُ قَتْلًا، وَلَمْ يَعْمِدْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَحْتَرِمُ الْجَسَدَ الْإِنْسَانِيَّ وَالرُّوحَ الْإِنْسَانِيَّةَ، لَا يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ ذُبَابٌ، عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ وَحَشَرَاتِهَا.
لَا يَنْظُرُ إِلَى جِنْسٍ يَعْلُو عَلَى جِنْسٍ بِنَظْرَةٍ فِيهَا احْتِرَامٌ.
هَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لَا جِنْسَ يَعْلُو عَلَى جِنْسٍ، وَلَا لَوْنَ يَفُوقُ لَوْنًا، وَلَا قَوْمِيَّةَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللهِ وَعَبِيدُهُ، وَهُمْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَكُلُّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِعِبَادَتِهِ، وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ سَوَاءٌ.
فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحْتَرِمُ الْأَعْدَاءَ هَذَا الِاحْتِرَامَ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ.
أَمَّا قَبْلَ الْحَرْبِ فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ: إِمَّا الْإِسْلَامُ، وَإِمَّا الْجِزْيَةُ، وَإِمَّا الْحَرْبُ، إِمَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشُّعُوبِ الْمُنْهَكَةِ، الشُّعُوبِ الَّتِي ضُلِّلَتْ، الَّتِي حُرِفَتْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
إِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؛ نَدْعُوهُمْ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَنَنْشُرُ فِيهِمْ هِدَايَتَهُ، وَنَحْمِيهِمْ وَنُدَافِعُ عَنْهُمْ.
وَمَعْلُومٌ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ، وَفِي كُلِّ جِيلٍ وَأُمَّةٍ، أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ مُخَالِفًا فِي جُيُوشِهَا يَحْمِلُ رَايَتَهَا وَيُقَاتِلُ تَحْتَهَا، فَلَمْ يَقْبَلْهُمُ الْإِسْلَامُ مُدَافِعِينَ وَلَا مُهَاجِمِينَ وَلَا حَامِلِي سِلَاحٍ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمُ الْإِصْرَ الَّذِي أَقَضَّ مَضَاجِعَهُمْ، وَرَفَعَ عَنْهُمُ الْمِحْنَةَ الَّتِي سَاقَهَا إِلَيْهِمْ أَبْنَاءُ دِينِهِمْ فَعَذَّبُوهُمْ وَاضْطَهَدُوهُمْ، وَسَامُوهُمُ الْخَسْفَ وَأَذَلُّوهُمْ.
وَجَاءَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ بِالرَّحْمَةِ وَفَرَضَ الْجِزْيَةَ، وَتُرْفَعُ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي الْمُنْقَطِعِ، وَعَنِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ حَوْلًا وَلَا حِيلَةً، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْسِبَ رِزْقَهُ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الْإِمْكَانِ ظَاهِرًا.
وَالدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى رَحْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَبُعْدِهُ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْإِبَادَةِ وَالِاسْتِئْصَالِ.. أَنَّكَ تَجِدُ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَفْتُوحَةٍ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا مَنْ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ، لَمْ يُجْبِرْهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يَضْطَهِدْوهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، وَإِنَّمَا قَامُوا بِحِمَايَتِهُمْ وَرَفْعِ الْإِصْرِ عَنْهُمْ، وَبَقُوا عَلَى دِينِهِمْ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا.
أَسْعَدُ الْأَقَلِّيَّاتِ هِيَ الْأَقَلِّيَّاتُ الَّتي تَحْيَا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، أَسْعَدُ الْأَقَلِّيَّاتِ الَّتِي تَنْعَمُ بِالْعَدْلِ، وَتَنْعَمُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَتَنْعَمُ بِالِاحْتِرَامِ، وَتَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ، وَتَخْرُجُ عَلَى كُلِّ أُطُرِ النِّظَامِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تُقَتَّلُ تَقْتِيلًا، وَلَا تُسْتَأْصَلُ اسْتِئْصَالًا..
أَسْعَدُ الْأَقَلِّيَّاتِ هِيَ الْأَقَلِّيَّاتُ الَّتِي تَحْيَا بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَنْعَمُ بِحِمَايَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
وَعَلَّمَهُمُ الَمْسْلِمُونَ؛ عَلَّمُوهُمُ النَّظَافَةَ، عَلَّمُوهُمُ احْتِرَامَ الذَّاتِ، وَمَا فِيهِمْ مِنْ خَيْرٍ إِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ تَعَالِيمِ الدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ.
لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْأَنْدَلُسَ لَمْ يُبِيدُوا النَّاسَ، وَلَمْ يَقْتُلُوهُمْ؛ وَإِنَّمَا بَقِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ دَخَلَ سَعِيدًا بِهِ، قَرِيرًا بِهِ عَيْنُهُ.
وَتَعَلَّمُوا، وَكَانُوا -قَبْلُ- يَرَوْنَ الطَّهَارَةَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَيَرَوْنَ الِاغْتِسَالَ وَإِزَالَةَ النَّجَاسَاتِ عَمَلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرْضِيَ الرَّحِيمَ الرَّحْمَنَ.
عَلَّمُوهُمْ، وَنَظَّفُوهُمْ، وَأَخَذُوا بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى صَارُوا عَلَى صِرَاطِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَدَخَلَ فِي الدِّينِ مَنْ دَخَلَ.
النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ، بِدِينِ الرَّحْمَةِ، بِالدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ؛ هُوَ دِينُ الْحَقِّ، دِينُ اللهِ.
((رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْعَالَمِ بِشَهَادَةِ الْغَرْبِيِّينَ))
وَهَذِهِ شَهَادَاتٌ لِرِجَالٍ غَرْبِيِّينَ مُسْتَشْرِقِينَ بَاحِثِينَ فِي حَضَارَةِ الْإِسْلَامِ لَا يُشَكُّ فِي تَحَيُّزِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْطِقُونَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَفِيهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَا فِيهِمْ.
قَالَ (لِيبرِي) فِي كِتَابِهِ ((رُوحُ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ ص270)): ((وَالْمُنْصِفُ مِنَ الْغَرْبِيِّينَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرِ الْعَرَبُ عَلَى مَسْرَحِ التَّارِيخِ لَتَأَخَّرَتْ نَهْضَةُ أُورُوبَّا الْحَدِيثَةِ عِدَّةَ قُرُونٍ)).
وَهَذِهِ شَهَادَةُ الْمُسْتَشْرِقِ الْغَرْبِيِّ (جُوستَاف لُوبُون)؛ الَّذِي تَمَنَّى لَوْ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَوْلَوْا عَلَى فَرَنْسَا لِتَغْدُوَ بَارِيسُ مِثْلَ قُرْطُبَةَ فِي إِسْبَانيَا، مَرْكَزًا لِلْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ، حَيْثُ كَانَ رَجُلُ الشَّارِعِ فِي قُرْطُبَةَ يَكْتُبُ وَيَقْرَأُ وَيَقْرِضُ الشِّعْرَ أَحْيَانًا، فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مُلُوكُ أُورُوبَّا لَا يَعْرِفُونَ كِتَابَةَ أَسْمَائِهِمْ وَيَبْصِمُونَ بِأَخْتَامِهِمْ.
وَيُضِيفُ (لُوبُون) -سَاخِرًا مِمَّنْ يُقَارِنُ الْعَرَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى بِالْأُورُوبِّيِّينَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ-: ((قَدْ كَانَ الْوَضْعُ عَلَى عَكْسِ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ تَمَامًا؛ الْعَرَبُ هُمُ الْمُتَحَضِّرُونَ وَالْأُورُوبِّيُّونَ هُمُ الْمُتَخَلِّفُونَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّنَا -هَذَا كَلَامُهُ- نُسَمِّي تَارِيخَ أُورُوبَّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: الْعُصُورَ الْمُظْلِمَةَ)).
إِنَّ الْعَهْدَ الذَّهَبِيَّ لِأُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَ فِيمَا سُمِّيَ بِالْعُصُورِ الْوُسْطَى؛ حَيْثُ كَانَ الْكِتَابُ يُوزَنُ بِالذَّهَبِ، وَحِينَمَا مَلَكَ أَجْدَادُنَا نَاصِيَةَ الْعِلْمِ مَلَكُوا نَاصِيَةَ الْعَالَمِ.
لِذَلِكَ قَالَ (نِيكِلْسُون): ((وَمَا الْمُكْتَشَفَاتُ الْيَوْمَ لِتُعَدَّ شَيْئًا مَذْكُورًا بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا نَدِينُ بِهِ لِلرُّوَّادِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبَسًا مُضِيئًا لِظَلَامِ الْعُصُورِ الْوُسْطَى فِي أُورُوبَّا)).
وَلِذَلِكَ -أَيْضًا- قَالَ (هَالْمِيَارد) فِي كِتَابِهِ ((الْكِيميَاءُ حَتَّى عَصْرِ نِيُوتِن - فِي الصَّفْحَةِ الْعَاشِرَةِ))، بَعْدَ أَنْ عَدَّدَ فَضْلَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّطْبِيقَاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِلْكِيميَاءِ الْعَمَلِيَّةِ قَالَ: ((لِكُلِّ هَذِهِ الْخِبْرَاتِ الَّتِي حَقَّقَهَا لَنَا الْبَاحِثُونَ الْمُسْلِمُونَ دَعْنَا نُقَدِّمُ فُرُوضَ الْوَلَاءِ وَالتَّقْدِيرِ لِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ)) ﷺ.
يَقُولُ (جِيبُون) فِي كِتَابِهِ عَنِ ((اضْمِحْلَالِ وَسُقُوطِ الْإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ)): ((مِنَ الطَّبِيعِيِّ -وَنُزُولًا عَلَى مُقْتَضَيَاتِ قَانُونِ الطَّبِيعَةِ الَّتِي لَا جِدَالَ فِيهَا- أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ الْحَقَّ فِي أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْ مُمْتَلَكَاتِهِ، وَأَنْ تَصِلَ مُقْتَضَيَاتُ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى كُلِّ الْآفَاقِ الْمَعْقُولَةِ الَّتِي تُوَفِّرُ لَهُ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ وَالْقُدْرَةَ عَلَى رَدِّ الْأَعْدَاءِ عَنْ مَوْطِنِهِ)).
إِنَّ جِهَادَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَانْتِصَارَهُ عَلَى جُيُوشِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ الْأَشْرَارِ قَدْ جَعَلَتْ مُحَرِّرِي ((دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْبِرِيطَانِيَّةِ)) يُعْلِنُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هُوَ أَعْظَمُ الشَّخْصِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ نَجَاحًا فِي التَّارِيخِ.. فَهَذَا كَلَامُهُمْ.
كَيْفَ يَحِقُّ -إِذَنْ- لِخُصُومِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَعْتَبِرُوا أَنَّ انْتِصَارَاتِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَيُّ هَدَفٍ أَوْ أَيُّ قِيمَةٍ سِوَى أَنَّهَا قَدْ أَتَاحَتْ لَهُ أَنْ يَنْشُرَ دِينَهُ الْإِسْلَامِيَّ اعْتِمَادًا عَلَى السَّيْفِ، وَغَلَبَةِ الْجُيُوشِ وَالرِّمَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السِّلَاحِ؟!
هَلْ فَرَضَ مُحَمَّدٌ ﷺ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِأَنْ قَطَعَ رِقَابَ النَّاسِ؟!!
الْمُسْلِمُونَ كُثُرٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْبِلَادِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!
فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى رِقَابِ النَّاسِ بِقَطْعِ رِقَابِ النَّاسِ؟!
يَقُولُ (دِي لَاسِي أُولِيرِي) مَا نَصُّهُ: ((إِنَّ التَّارِيخَ يُؤَكِّدُ بِمَا لَا يَدَعُ مَجَالًا لَأَيِّ شَكٍّ أَنَّ خُرَافَةَ الِاجْتِيَاحِ الْبَرْبَرِيِّ لِمِسَاحَاتٍ شَاسِعَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِجْبَارِ النَّاسِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ فَوْقَ رِقَابِ الشُّعُوبِ الْمَغْلُوبَةِ عَلَى أَمْرِهَا.. إِنَّمَا هِيَ خُرَافَةٌ خَيَالِيَّةٌ مُضْحِكَةٌ عَارِيَةٌ تَمَامًا مِنَ الصِّحَّةِ، وَبَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَنِ الْحَقِيقَةِ عَلَى نَحْوٍ نَادِرِ الْمِثَالِ فِي دُنْيَا التَّارِيخِ، وَفِي عَالَمِ الْمُؤَرِّخِينَ)).
كِتَابُ ((الْإِسْلَامُ فِي مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ - لِدِي لَاسِي أُولِيرِي، طَبْعَةُ لَنْدَن سَنَةَ 1923م، الصَّفْحَةُ: 8)).
وَلَسْنَا بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ نَكُونَ مُؤَرِّخِينَ مِثْلَ (أُولِيرِي) لِكَيْ نَعْرِفَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ حَكَمُوا إِسْبَانيَا لِمُدَّةِ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةِ عَامٍ، وَبَعْدَ قُرَابَةِ ثَمَانِيَةِ قُرُونٍ تَمَّ إِقْصَاءُ وَإِبْعَادُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِسْبَانيَا؛ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ يُقِيمُ الْأَذَانَ مُعْلِنًا وُجُوبَ صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدِ اسْتَخْدَمُوا الْقُوَّةَ عَسْكَرِيًّا وَاقْتِصَادِيًّا فِي إِسْبَانيَا بَعْدَمَا فَتَحُوهَا لَمَا بَقِيَ فَوْقَ أَرْضِ إِسْبَانيَا أَيُّ نَصْرَانِيٍّ لِيَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرْدِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَ إِسْبَانيَا.
رُبَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَصِفَ الْإِنْسَانُ -لَوْ شَاءَ- الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَفَادُوا مِنْ خِبْرَاتِ وَثَرْوَاتِ الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحُوهَا، وَلَكِنْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَّهِمَهُمْ أَحَدٌ بِأَنَّهُمْ قَدِ اسْتَخْدَمُوا السَّيْفَ لِكَيْ يُحَوِّلُوا الْإِسْبَانِيِّينَ إِلَى مُسْلِمِينَ يَعْتَنِقُونَ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ خَوْفًا مِنْ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ.
يَقُولُ (بَاندِكْت جييانا نيترا ديب شاستري) في أَثْنَاءِ لِقَاءٍ تَمَّ عَقْدُهُ فِي جورافور بِالْهِنْدِ سَنَةَ (ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَأَلْفٍ 1928م)، يَقُولُ:
((إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ ﷺ يَرَوْنَ النَّارَ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُشَاهِدُوا النُّورَ، وَيَسْتَسِيغُونَ الْقُبْحَ بَدَلًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَمَالِ، إِنَّهُمْ يُخَرِّفُونَ، وَيَعْتَبِرُونَ كُلَّ فَضِيلَةٍ وَمِيْزَةٍ وَكَأَنَّهَا رَذِيلَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ؛ إِنَّ ذَلِكَ إِنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ نِعْمَةِ التَّمْيِيزِ وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ.
إِنَّ مُنْتَقِدِي مُحَمَّدٍ ﷺ إِنَّمَا هُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمْيَانِ -كَلَامُهُ- إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَ أَنَّ السَّيْفَ الْوَحِيدَ الَّذِي شَهَرَهُ وَشَرَعَهُ مُحَمَّدٌ ﷺ إِنَّمَا كَانَ هُوَ سَيْفُ الرَّحْمَةِ وَسَيْفُ التَّعَاطُفِ وَالصَّدَاقَةِ وَالتَّسَامُحِ، إِنَّهُ السَّيْفُ الَّذِي يَهْزِمُ الْأَعْدَاءَ وَيُنَظِّفُ قُلُوبَهُمْ مِنَ الْغَضَبِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْكَرَاهِيَةِ.
لَقَدْ كَانَ سَيْفُهُ أَمْضَى مِنَ السَّيْفِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الْحَدِيدِ الصُّلْبِ، لَقَدْ فَضَّلَ مُحَمَّدٌ ﷺ الْهِجْرَةَ عَلَى قِتَالِ أَبْنَاءِ بَلَدِهِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا تَجَاوَزَ الْعُدْوَانُ كُلَّ حُدُودِ إِمْكَانَاتِ التَّسَامُحِ امْتَشَقَ سَيْفَهُ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ.
وَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَيَّ دِينٍ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ نَشْرُهُ بِالسَّيْفِ إِنَّهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَمْقَى، لَا يَعْرِفُونَ الطُّرُقَ السَّلِيمَةَ لِنَشْرِ الدِّينِ، وَلَا يَعْرِفُونَ فِيمَا تُسْتَخْدَمُ السُّيُوفُ، وَلَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ شُؤُونِ الدُّنْيَا بِوَجْهٍ عَامٍّ، إِنَّهُمْ مَزْهُوُّونَ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الْحَقِّ بِمَسَافَاتٍ كَبِيرَةٍ شَاسِعَةٍ)).
قَالَ هَذَا الْكَلَامَ صَحَفِيٌّ مِنْ طَائِفَةِ السِّيخِ فِي جَرِيدَةٍ تَصْدُرُ فِي دِلْهِي فِي 17 من نُوفَمْبِر سَنَةَ 1947م.
لَقَدِ احْتَرَمَ الْإِسْلَامُ إِنْسَانِيَّةَ الخَلْقِ، وَلَمْ يُرْفَعِ السَّيْفُ إِلَّا لِأَجْلِ إِزَاحَةِ الأَنْظِمَةِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الشُّعُوبِ وَسَمَاعِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لَا لِتُغْمَدَ السُّيُوفُ فِي قُلُوبِ أَفْرَادِ الشُّعُوبِ المَفْتُوحَةِ؛ لِذَلِكَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا بِلَا ضَغْطٍ كَانَ.
إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ.
إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ الأَعْرَاقِ، وَلَا عَلَى حَسَبِ أَلْوَانِ بَشَرَاتِهِمْ.
لَا يُفَرِّقُ الإسْلَامُ العَظِيمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ مَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا الإِكْرَامُ وَالتَّكْرِيمُ عَلَى حَسَبِ التَّقْوَى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات: 13]، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا.
فَدِينُ الإِسْلَامِ العَظِيمِ يُقدِّمُ مَنْ تَمَلَّكَ المُؤَهِّلَاتِ وَالمُقَوِّمَاتِ الَّتِي تُقَدِّمُهُ, لَا يَنْظُرُ إِلَى لَوْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى بَلَدٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْمِيَّةٍ.
((عِيشُوا بِالْوَحْيِ تَسْعَدُوا!))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْوَحْيَ هُوَ نُورُ العَالَمِ وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ، وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالحَيَاةِ وَالهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ، وَهَذِهِ الغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الوَحْيِ المَعْصُومِ، وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الوَحْيِ سَعِدُوا فِي الحَيَاةِ، وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا العَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْوَحْيِ.
الشَّيْطَانُ فِي مَعْرَكَتِهِ مَعَ الْإِنْسَانِ حَرِيصٌ تَمَامَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ عَائِشِينَ بِنَقِيضِ الوَحْيِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا وَحْيٌ وَإِمَّا نَقِيضُهُ، فَإِمَّا أَنْ تَحْيَا بِالْوَحْيِ، وَإِمَّا أَنْ تَحْيَا بِنَقِيضِ الْوَحْيِ.
أَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الْوَحْيَ؛ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ، وَأَمَّا مَنْ فَارَقَ الْوَحْيَ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا وَحْيٌ وَإِمَّا نَقِيضُ الوَحْيِ.
وَالَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَّا هُوَ: ((أَنْ نَحْيَا بِالْوَحْيِ))، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ لَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحَ، وَجَعَلْتَهُ فِي حَيَاتِكِ نِبْرَاسًا وَمِنْهَاجًا، وَحَقَّقْتَهُ فِي ذَاتِكَ وَفِي رُوحِكَ وَفِي نَفْسِكَ وَفِي جَسَدِكَ وَفِي مَنْ حَوْلَكَ.. هَذِهِ الجُمْلَةُ تُورِثُكَ السَّعَادَةَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَتُجَنِّبُكَ الشَّقَاءَ وَالتَّعَاسَةَ دُنْيَا وَآخِرَةً؛ وَهِيَ: ((عِشْ بِالْوَحْيِ)).
يَقُولُ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَحُكَّ جَلْدَكَ بِظُفُرِكَ إِلَّا بِأَثَرٍ وَسُنَّةٍ فَافْعَلْ)) .
مَعْنَى هَذَا: أَنْ تَكُونَ عَائِشًا بِالوَحْيِ..
مَاذَا قَالَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟
وَمَاذَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الشَّأْنِ؟
ثُمَّ تَتَّبِعِ ذَلِكَ، إِنْ جَانَبْتَهُ فَأَنْتَ عَائِشٌ بِنَقِيضِ الوَحْيِ.
النَّبِيُّ ﷺ أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بُكَلِّ مَا يَنْفَعُنَا -يَأْمُرُنَا بِهِ- مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الدِّينِ، وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَمِنَ اتِّخَاذِ سُبُلِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مَنْهَجًا وَطَرِيقًا وَسَبِيلًا.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ شَيءٍ مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ.
قَدْ قِيلَ لِسَلْمَانَ -قَالَ لَهُ حَبْرٌ يَهُودِيٌّ-: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟!)).
يَعْنِي: حَتَّى كَيْفَ يَقْضِي الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ.
فَقَالَ: «أَجَلْ؛ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ».
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يَقْضِي الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ، أَفَيُبَيِّنُ هَذَا وَيَتْرُكُ مَا هُوَ فَوْقَهُ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، وَمِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْمُعَامَلَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ؟!!
هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ!!
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ شَيءٍ مِمَّا يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَكُلَّمَا اسْتَكْثَرَ المَرْءُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ زَادَ فَلَاحُهُ وَقَلَّ طَلَاحُهُ، وَازْدَادَ خَيْرُهُ وَانْتَفَى شَرُّهُ.
وَهَذَا كَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَعَكْسُهُ عَلَى عَكْسِهِ وَضِدِّهِ؛ كُلَّمَا ابْتَعَدَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ إِلَى زُبَالَاتِ الْأَفْكَارِ، وَإِلَى قُمَامَاتِ الْآرَاءِ، وَإِلَى مَا يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ مِنْ مُوَاضَعَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ مِمَّا تَرَبَّوْا عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَاجِعُوهُ، لِأَنَّهُم لَمْ يَتَلَقَّوْهُ تَلَقِّيًا صَحِيحًا، وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا الدِّينَ تَعْلِيمًا مُنَظَّمًا، فَمَا عِنْدَهُمْ مَحْضُ تَشْوِيشٍ، يَأْخُذُ مِنْ هَاهُنَا عِبَارَةً وَمِنْ هَاهُنَا حُكْمًا، وَدِينُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَالجَسَدِ الحَيِّ.
جَعَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ الْحَيِّ رَأْسًا وَجِذْعًا وَأَطْرَافًا، وَجَعَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَيْنَيْنِ مَوْضِعَهُمَا، وَلِلْأُذُنَيْنِ فِي الرَّأْسِ مَوْضِعَهُمَا، وَجَعَلَ الْإِنْسَانَ قَائِمًا عَلَى طَرَفَيْهِ السُّفْلِيَّينِ، وَجَعَلَ كُلَّ شَيءٍ فِي مَوْضِعِهِ.
لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا تَصَوَّرَ أَنَّهُ يُعِيدُ هَذَا التَّشْكِيلَ فِي كَائِنٍ إِنْسَانِيٍّ؛ فَيَجْعَلُ عَيْنَيْهِ فِي قَفَاهُ، وَيَجْعَلُ أُذُنَيْهِ فِي أَعْلَى رَأْسِهِ، وَيَجْعَلُ طَرَفَيْهِ العُلْوِيَّيْنِ فِي مَكَانِ طَرَفَيْهِ السُّفْلِيَّيْنِ وَبِالْعَكْسِ، لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مَا تَحَصَّلَ عَلَى كَائِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ أَدَاءً صَحِيحًا أَيَّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ وَمَعَاشُهُ.
فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْبَدِيعِ مِنَ التَّسْوِيَةِ؛ خَلَقَهُ فَسَوَّاهُ فَعَدَلَهُ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ، كَذَلِكَ الشَّأْنُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
فِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ مِثْلُ القَلْبِ فِي الْإِنسَانِ، وَفِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ مِثْلُ الْمُخِّ فِي الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ، وَمَا هُوَ مِثْلُ الْعَيْنَيْنِ، وَلِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فِي الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ قِيمَتُهُ وَوَظِيفَتُهُ، وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ بِالْقِيمَةِ وَبِالْوَظِيفَةِ، فَمَثَلًا: لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَارِنَ الْعَيْنَ بِالظُّفُرِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَارِنَ الْإِنْسَانُ الْقَلْبَ بِالشَّعْرِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا مُقَارَنَةَ لَهَا، كَذَلِكَ فِي الدِّينِ.
النَّاسُ -أَحْيَانًا- يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يُسَاوِي قُلَامَةَ الظُّفُرِ فِي الْإِنْسَانِ الْحَيِّ، وَيَتْرُكُونَ مَا يُوَازِي الْقَلْبَ وَالرُّوحَ وَالْعَقْلَ وَالنَّفْسَ؛ لِأَنَّهُم يَخْلِطُونَ، وَهَذَا مَعِيبٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُم يَتَحَصَّلُونَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى إِسْلَامٍ مُشَوَّشٍ مُشَوَّهٍ، لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ خَلْقِهِ.
فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْيَا بِقَلْبِهِ، وَالْقَلْبُ مَلِكُ هَذَا الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالْأَعْضَاءُ كُلُّهَا كَأَنَّمَا هِيَ مِنْ جُنُودِهِ تَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ قَلْبُهُ وَرُوحُهُ وَحَقِيقَتُهُ: تَوْحِيدُ اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ.
فَمَنْ لَمْ يُحَقِّقْ هَذَا وَأَخَذَ بِمَا هُوَ دُونَهُ، فَهُوَ تَمَامًا كَالَّذِي يُقَدِّمُ الظُّفُرَ عَلَى القَلْبِ، الشَّعْرَ عَلَى المُخِّ وَالعَقْلِ!! فَهَذَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مُشَوَّهٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَظِمَ مِنْهُ مَا يَنْفَعُهُ لَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةً.
لِذَلِكَ بَدَأَ كُلُّ نَبِيٍّ وَكُلُّ رَسُولٍ قَوْمَهُ بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}؛ فَيَبْدَأُ بِهَذَا قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لمَّا أَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ دِينَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَدْعُوَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُم إِلَى الدِّينِ الحَقِّ، قَالَ:
((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَاب، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -لَا تَبْدَأْ بِمَا هُوَ قَبْلَ هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ-.
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ وَأَطَاعُوكَ فِيهِ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
قَالَ: وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) .
فِي الْحَدِيثِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ الَّذِي نُرِيدُهُ هَاهُنَا -وَكُلُّ الْحَدِيثِ مُرَادٌ- هُوَ قَوْلُهُ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ؛ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)).
وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) هِيَ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلِأَجْلِهَا قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ.
مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، مِنْ أَجْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ، مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) يُقِيمُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السَّاعَةَ، وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ.
مِنْ أَجْلِهَا يُضْرَبُ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ -أَيْ: عَلَى ظَهْرِ- النَّارِ؛ فَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَنَاجٍ يَطِيرُ طَيَرَانًا، وَنَاجٍ كَالْبَرْقِ، وَنَاجٍ كَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَنَاجٍ يَعْدُو عَدْوًا، وَنَاجٍ عَلَى الصِّرَاطِ يَحْبُو حَبْوًا، وَنُورُهُ فِي إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ تَحَرَّكَ، وَإِذَا مَا أُطْفِئَ وَقَفَ، وَالنَّارُ تَحْتَهُ.
وَعَلَى جَانِبَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مِنْ حَدِيدٍ مَعْقُوفٍ -الكَلُّوبُ: هُوَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ-، فَعَلَى جَانِبَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ خَطْفًا عَلَى حَسَبِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُهَذَّبُوا، وَأَنْ يُنَقَّوْا وَأَنْ يُطَهَّرُوا؛ لِأَنَّ الجَنَّةَ هِيَ دَارُ الطَّيِّبِ الْمَحْضِ، هِيَ دَارُ السَّلَامِ، هِيَ بَيْتُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْآخِرَةِ، يَأْوِي إِلَيْهَا كُلُّ طَيِّبٍ، فَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الطَّيِّبُ الْمَحْضُ.
فَمَنْ خَلَّطَ؛ فَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَخْلِيطِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُهَذَّبَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَفَّى، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ طَيِّبًا مَحْضًا؛ لِيُجَاوِرَ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي جَنَّتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ مُطَهَّرًا.
فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كُلِّهِ خَلَقَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الخَلْقَ، وَأَتَى بِهَذَا كُلِّهِ مِنْ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ؛ مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، وَهِيَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي مُنْتَدَيَاتِهِمْ يَقُولُ لَهُم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. تُفْلِحُوا)) .
وَكَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إِلَّا بِعِلْمِ مَعْنَاهَا، وَالعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْإِتْيَانِ بِشُرُوطِهَا، وَاجْتِنَابِ نَوَاقِضِهَا.
فَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))؛ فَكَيْفَ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى مَا هُوَ بِهِ جَاهِلٌ؟! وَكَيْفَ يُحَقِّقُ شُرُوطَ مَا لَا يَعْلَمُهُ؟! وَكَيْفَ يَجْتَنِبُ نَوَاقِضَ شَيْءٍ لَا يَدْرِي عَنْهُ شَيْئًا؟!
لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)).
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)): لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانُ كُلَّ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِلَّهِ، لِأَنَّ لِلْقَلْبِ عِبَادَاتٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْحُبِّ، وَالْخُشُوعِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْإِنَابَةِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَاتِ القُلُوبِ.
وَلِلِّسَانِ عِبادَاتُهُ؛ مِنَ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَمَا أَشْبَهَ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِلْجَوَارِحِ -أَيْضًا- عِبَادَاتُهَا، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ صَارِفَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَهُ.. خَلَقَهُ وَحْدَهُ، لَمْ يُشَارِكْهُ أَحَدٌ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَرْزُقُهُ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ.
وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُنْصِفًا؛ لَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا وَلَا يَجْمُلُ أَنْ يُصْرَفَ شَيءٌ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى مِنْ خَادِمِهِ فَضْلًا عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ، لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ مِنْ أَجِيرٍ عِنْدَهُ أَنْ يَأْكُلَ خَيْرَهُ وَأَنْ يَخْدُمَ غَيْرَهُ.
يَعْنِي: لَوْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَ إِنْسَانًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْكَ عَمَلًا -مَنْفَعَةً- فِي نَظِيرِ أَجْرٍ، فَكَانَ أَجِيرًا عِنْدَكَ فِي عَمَلٍ بِذَاتِهِ لِقَاءَ مَا اتَّفَقْتُمَا عَلَيْهِ، فَأَخَذَ مِنْكَ الْمَالَ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ لِغَيْرِكَ، ثُمَّ جَاءَ آخِرَ النَّهَارِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُولَ لَكَ قَدْ أَدَّيْتُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ أَجْرَهُ فَهُوَ يُطَالِبُكَ بِأَجْرِهِ، أَنْتَ لَنْ تَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ!!
فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَكَ، وَأَنْتَ تَرْضَى لِرَبِّكَ مَا لَا تَرْضَاهُ لِنَفْسِكَ مِنْ أَجِيرِكَ وَمِنْ وَلَدِكَ!!
فَأَنْتَ لَا تَقْبَلُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَأْكُلَ خُبْزَكَ وَأَنْ يَعْصِيَ أَمْرَكَ، وَتَشْكُوهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، تَقُولُ: يَعْصِينِي، وَهُوَ وَلدٌ عَاقٌّ لَا بِرَّ فِيهِ، وَأَنَا أُنْفِقُ، وَأَفْعَلُ وَأَفْعَلُ، وَأَكْلَأُ وَأَحْفَظُ، وَقَدْ رَبَّيْتُ وَكَبَّرْتُ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَسْمَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا أَجْمَعِين إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.
فَلَا تَقْبَلُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَأْكُلَ خُبْزَكَ وَأَنْ يَعْصِيَ أَمْرَكَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَكَ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ جَادٌّ فِي مَعْصِيَةِ أَمْرِكَ وَالتَّمَرُّدِ عَلَيْكَ لَا يُطِيعُكَ.
فَأَنْتَ لَا تَقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَمَا خَلَقْتَهُ، وَمَا أَنْتَ بِالَّذِي تَرْزُقُهُ؛ بَلِ الَّذِي يَرْزُقُكَ وَيَرْزُقُهُ هُوَ اللَّهُ، وَالَّذِي يَكْلَؤُكَ وَيَحْفَظُكَ وَيَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ هُوَ اللَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنْتَ لَا تَقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ!! وَتَرْضَى ذَلِكَ مِنْكَ لِرَبِّكَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، وَيَرْزُقُكَ!!
((وَسَائِلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ السَّعِيدَةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّنَا لَوْ سَأَلْنَا أَيَّ مُسْلِمٍ عَنْ غَايَتِهِ لَقَالَ: إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعِيشَ سَعِيدًا، وَأَنْ يَمُوتَ حَمِيدًا، وَأَنْ يُبْعَثَ آمِنًا.
فَهَذِهِ غَايَةٌ شَرِيفَةٌ، وَمَقْصِدٌ كَرِيمٌ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ، وَلَكِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَ: ((مَا الْوَسِيلَةُ؟))؛ تَبَايَنَتِ الْآرَاءُ، وَتَدَخَّلَتِ الْأَهْوَاءُ!
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَكَرَ الْمَقْصِدَ وَالْغَايَةَ مَعَ الْوَسِيلَةِ وَالطَّرِيقَةِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. [النَّحْل: 97]
فَذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَايَةَ، وَأَرْدَفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالطَّرِيقَةِ وَالْوَسِيلَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا؛ أَنْ تَعِيشَ سَعِيدًا، وَأَنْ تَمُوتَ حَمِيدًا، وَأَنْ تُبْعَثَ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
طَرِيقُكَ إِلَى ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَإِذَا حَقَّقَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، وَأَتَوْا بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.. تَحَقَّقَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ وَالْجَزَاءِ الْحَسَنِ.
وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ حَيَاةُ الْعِزَّةِ، وَحَيَاةُ الْكَرَامَةِ، وَحَيَاةُ الشَّرَفِ، وَحَيَاةُ الِاطْمِئْنَانِ وَنَفْيِ الْقَلَقِ.
الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ حَيَاةُ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْإِيمَانِ فَوْقَ مُتَطَلَّبَاتِ الْأَرْضِ وَمُقْتَضَيَاتِ الطِّينِ.
الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ وَالْجَزَاءُ الْحَسَنُ، لَمَّا حَقَّقَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الرِّفْعَةَ وَالسِّيَادَةَ وَقِيَادَةَ الْعَالَمِ.
وَالْمِثَالُ الَّذِي يُضْرَبُ فِي هَذَا الْمَجَالِ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَوْمٍ أُمِّيِّينَ لَيْسَ لَهُمْ حَظٌّ وَلَا نَصِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ وَلَا مِنَ الْحَضَارَةِ، تُفْنِيهِمُ الْحُرُوبُ، يُشَنُّ أُوَارُ تِلْكَ الْحُرُوبِ بَيْنَهُمْ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَيَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا!
وَبَعَثَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ فَلَمَّا اتَّبَعُوا الرَّسُولَ ﷺ فَآمَنُوا وَعَمِلُوا صَالِحًا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا مِنَ الزَّمَانِ حَتَّى كَانُوا سَادَةَ الْعَالَمِ وَقَادَةَ الْأُمَمِ، وَدُكَّتْ أَمَامَ زَحْفِهِمْ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الْحُصُونُ، وَسُوِّيَتِ الْأَسْوَارُ، وَثُلَّتِ التِّيجَانُ، وَهُدِمَتِ الْعُرُوشُ.. لَمَّا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ؛ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَيُؤْتِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ يُؤْتِيهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، مَعَ مَا يَعِدُهُ بِهِ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ فِي جَنَّةِ الْإِقَامَةِ بِالْكَرَامَةِ.
وَلَمَّا تَرَكَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَضَعُفَ الْإِيمَانُ وَرَقَّ وَخَفِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَوْ كَادَ يَزُولُ؛ سُلِّطَتْ عَلَيْهِمُ الْأُمَمُ، وَوَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ، وَأَتَاهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ مَا يُوعَدُونَ جَزَاءَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَأْخُذُهُ بِقُوَّةٍ كَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُؤْخَذَ الدِّينُ.
الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سِرُّ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يَعِدُ بِهِ رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النُّور: 55]
فَوَعَدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ أَتَى بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَحَقَّقَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلُ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُ الدِّينَ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِذَا مَكَّنَ لِلصَّالِحِينَ مَكَّنُوا لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحَجّ: 40-41]
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَنْ يُحَقِّقَهُمَا الْمُسْلِمُونَ، فَإِذَا حَقَّقَ الْمُسْلِمُونَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَآمَنُوا وَعَمِلُوا صَالِحًا مَكَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، بَعْدَ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِيهَا كَمَا اسْتَخْلَفَ الصَّالِحِينَ مِنْ قَبْلُ، ثُمَّ يُمَكِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُؤَدِّي فِي النِّهَايَةِ إِلَى مَاذَا؟
إِلَى عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}؛ يُوَحِّدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ الْفِسْقُ حَقًّا، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لَا فَاسِقَ إِلَّا هُمْ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ يُفِيدُ الْقَصْرَ وَالْحَصْرَ: {فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ شَرَعَ لَنَا هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلَهُ، فَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ دِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ارْتَضَاهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ.
الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَكُلُّهُ مَحَاسِنُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ رَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ.
فَعَقِيدَتُهُ تَجْعَلُكَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ لِرَبِّكَ -جَلَّ وَعَلَا-، مُسْتَقِرَّ الضَّمِيرِ، مُوَحِّدًا سَيِّدَكَ الَّذِي خَلَقَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ يَرْزُقُكَ وَيَكْلَؤُكَ وَيَرْعَاكَ، تُوَحِّدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، تَعْبُدُهُ وَتُؤَدِّي الْعِبَادَةَ لِوَجْهِهِ طَالِبًا رِضَاهُ وَحْدَهُ .
هَذِهِ الْفِطْرَةُ هِيَ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ، هِيَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»؛ عَلَى هَذَا الدِّينِ، عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَطَرَكَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنْشَأَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، وَأَخْرَجَكَ إِلَى هَذَا الْوُجُودِ مُسْلِمًا.
وَمَا يَأْتِي بَعْدُ مِنَ انْحِرَافَاتٍ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَدْيَانِ وَمَا أَشْبَهَ.. فَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرِ، وَمِنْ فِعْلِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ .
«كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» ، سُبْحَانَ اللهِ! وَلَمْ يَقُلْ بِهِ: أَوْ يَجْعَلَانِهِ مُسْلِمًا! لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، أَنْشَأَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَفَطَرَهُ مُسْلِمًا
فَالْكُفْرُ وَالشِّرْكُ انْحِرَافٌ عَنِ الْفِطْرَةِ، وَإِذَا انْحَرَفَتِ الْفِطْرَةُ عَمَّا فَطَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَا جَانَبَ الْإِنْسَانُ الطَّرِيقَ الَّذِي هَدَاهُ اللهُ إِلَيْهِ هِدَايَةً قَدَرِيَّةً بِهِدَايَةِ الدَّلَالَةِ هِدَايَةً شَرْعِيَّةً، هِدَايَةً قَدَرِيَّةً لِمَنْ تَبِعَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ مَعَ شَرِيعَتِهَا، وَدَلَالَةً شَرْعِيَّةً لِمَنْ جَانَبَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ وَلَمْ يُوقِنْ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَدَاكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ وَأَقَامَكَ عَلَيْهَا، فَأَيُّ انْحِرَافٍ عَنْ سَبِيلِهَا يَجْعَلُ الْمَرْءَ فِي قَلَقٍ دَائِمٍ، وَفِي هَمٍّ مُقِيمٍ، وَحَالُهُ لَا يَسْتَقِيمُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَقِيمَ حَالُ الْمَرْءِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَدِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ حُنَفَاءَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَإِذَا وَافَقَتِ الْفِطْرَةُ الشَّرْعَ وَوَافَقَ الشَّرْعُ الْفِطْرَةَ فَهِيَ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَنْتَظِرُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَطَاءِ.
هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَيَحْيَا الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ مَعَ مَا يَنْتَظِرُهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ عِنْدَ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
عِيشُوا الْإِسْلَامَ إِذَا أَرَدْتُمُ الْمَرْدُودَ الْحَقَّ، عِيشُوهُ، عِيشُوا دِينَ اللهِ، أَمَّا أَنْ نَتَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ اللَّفْظِ كَلَامًا أَوْ عِنْدَ حُدُودِ الْكَلِمَةِ كِتَابَةً وَبَيَانًا.. فَمَا أَكْثَرَ الْكَلَامَ! وَمَا أَعْظَمَ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ يُهْدَرُ بِهَا فِي كُلِّ مَوْطِنٍ وَكَلَامٍ! وَلَكِنْ.. أَيَّ شَيْءٍ يُفِيدُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَتَحَوَّلْ إِلَى وَاقِعٍ مَنْظُورٍ فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!
((الْعَالَمُ الْيَوْمَ فِي حَاجَةٍ إِلَى دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ ))
إِنَّ الْبَشَرِيَّةَ كُلَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فِي حَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ مُلِحَّةٍ وَقَهْرِيَّةٍ قَدْ لَا تَدْرِي الْبَشَرِيَّةُ حَاجَتَهَا إِلَى ذَلِكَ!!
الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِزَّةِ.. دِينُ الرِّفْعَةِ.. دِينُ الْكَرَامَةِ.. كَمَا أَنَّهُ دِينُ الْعَدْلِ وَنَفْيِ الْجَوْرِ.
الْإِسْلَامُ دِينُ اللهِ، وَحَقِيقَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى إِلَيْهَا كَمَا جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ يَشْرُفُ المَرْءُ غَايَةَ الشَّرَفِ بِأَنْ يَكُونَ مُنْتَسِبًا إِلَيْهِ، وَمَا أَخَذَ ذَلِكَ بِمَلْكِهِ؛ وَإِنَّمَا الهَادِي هُوَ اللَّهُ، وَالمُوَفِّقُ هُوَ اللَّهُ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُفَهِّمَنَا دِينَنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا مَعْرِفَةَ حَقِيقَتِهِ، وَأَنْ يُمَسِّكَنَا بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنْ يَهْدِيَنَا وَالمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:الْإِسْلَامُ مَصْدَرُ السَّعَادَةِ وَالصَّلَاحِ لِلْعَالَمِ