جَوْهَرُ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَتُهُ السَّمْحَةُ

جَوْهَرُ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَتُهُ السَّمْحَةُ

((جَوْهَرُ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَتُهُ السَّمْحَةُ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الإِسْلَامُ أَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ على العَبْدِ»

فَإنَّ أَعْظَمَ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا عَلَى عَبْدٍ قَطُّ هِيَ نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا الْأَمْرِ الْتِفَاتًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ إِلْفَ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ إِلْفَ النِّعْمَةِ يَجْعَلُهَا كَلَا نِعْمَةٍ؛ بَلْ يَجْعَلُهَا نِقْمَةً فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ، فَلَا يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ فَقْدِهَا!!

إِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْحَالِ، وَنَظَرَ إِلَى حَالِ دُوَلِ الْكُفْرِ فِي بُعْدِهِمْ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجُحُودِهِمْ لَهُ، وَمُحَارَبَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ عَلَيْهِمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَنَظَرَ فِي حَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَحْيَوْنَ بَيْنَ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ؛ وَجَدَ مَا يُعَانُونَ وَمَا يُلَاقُونَ مِنَ الْعَنَتِ، وَمِنَ المَشَقَّةِ؛ مِنْ أَجْلِ الْإِتْيَانِ بِفَرَائِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ عَلِمَ قَدْرَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ، هَذَا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَجْزَلَ لَهُ الْعَطِيَّةَ، وَأَضْعَفَ لَهُ الْمِنَّةَ لَمَّا جَعَلَهُ مُسْلِمًا.

فَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ.

إِنَّ اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَنْشَأَنَا فِي بِيئَةٍ مُسْلِمَةٍ، نَسْمَعُ فِيهَا آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تُتْلَى فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهَا الصِّغَارُ مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ مُتَعَلِّمِينَ قَبْلَ كِبَارِهِمْ.

وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ بِأَعْلَى الْأَصْوَاتِ فِي جَمِيعِ الْمَحَالِّ، وَفِي شَتَّى الْأَمَاكِنِ، وَفِي جَمِيعِ الرُّبُوعِ، فَيُرْفَعُ الْأَذَانُ، وَهُوَ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْغَلَبَةَ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الْبِيئَةِ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ.

وَالْعَبْدُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يَعِيبَ نُورًا وَلَوْ كَانَ ضَئِيلًا إِلَّا إِذَا أَتَى بِنُورٍ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.

فَهَذَا الَّذِي جَعَلَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ؛ مِنْ إِنْشَائِنَا فِي هَذِهِ الْبِيئَةِ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُسْمَعُ فِيهَا أَحَادِيثُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْأَذَانُ، وَيَتَحَرَّكُ فِيهَا الْإِنْسَانُ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ مَا عُقُوبَةٍ لَهُ عَلَى إِسْلَامِهِ وَلَا مُؤَاخَذَةٍ، يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ تُشْكَرَ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا إِنْ كُفِرَتْ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ حَذَّرَ مَنْ كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

 ((الْمَقَاصِدُ الْعُظْمَى لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ؛ فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعَلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ -ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا-، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ: قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

* ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْحَاصِلُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ مَقَاصِدَ التَّشْرِيعِ لَيْسَتْ سَوَاءً؛ حَتَّى فِي الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ -كَالْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ بَلْهَ الضَّرُورِيَّاتِ- لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَوَاءٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا لَا يَلْتَفِتُ الْخَلْقُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ نَمُوتَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُحْشَرَ عَلَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ!!

إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.

فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.

وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.

* مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ لُغَةً وَشَرْعًا:

«وَالْمَصْلَحَةُ فِي اللُّغَةِ: كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، مَصْلَحَةٌ: مَنْفَعَةٌ.

وَالْمَصْلَحَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، كَالْمَنْفَعَةِ بِمَعْنَى النَّفْعِ، أَوِ الْمَصْلَحَةُ هِيَ لِلْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَصَالِحِ.

قَالَ فِي ((اللِّسَانِ)) : ((وَالْمَصْلَحَةُ: الصَّلَاحُ، وَالْمَصْلَحَةُ: وَاحِدَةُ الْمَصَالِحِ)).

فَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ -سَوَاءٌ كَانَ بِالْجَلْبِ وَالتَّحْصِيلِ كَتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَاللَّذَائِذِ، أَوْ بِالدَّفْعِ وَالِاتِّقَاءِ كَاسْتِبْعَادِ الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ- فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى مَصْلَحَةً.

وَالْمُصْطَلَحُ فِيمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ بِمَا يَلِي: «الْمَنْفَعَةُ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِعِبَادِهِ؛ مِنْ حِفْظِ دِينِهِمْ، وَنُفُوسِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ -وَهِيَ الضَّرُورَاتُ الْخَمْسُ-، طِبْقَ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا)) .

وَالْمَصَالِحُ الْمُعْتَبَرَةُ: هِيَ الْمَصَالِحُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ:

* حِفْظُ الدِّينِ.

* وَحِفْظُ النَّفْسِ.

* وَحِفْظُ الْعَقْلِ.

* وَحِفْظُ النَّسْلِ.

* وَحِفْظُ الْمَالِ.

لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ بِهَا قِوَامُ الدُّنْيَا الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَلِيقُ بِهِ إِلَّا بِهَا.

فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ بِمَنْعِ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَبِمَنْعِ الضَّلَالِ، وَبِمَنْعِ إِثَارَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْمَفَاسِدِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّفْسِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ الْحَيَاةِ الْعَزِيزَةِ الْكَرِيمَةِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَعَلَى الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْعَقْلِ: هِيَ حِفْظُهُ مِنْ أَنْ تَنَالَهُ آفَةٌ تَجْعَلُ صَاحِبَهُ مَصْدَرَ شَرٍّ وَأَذًى لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ أَوْ عِبْئًا عَلَى مُجْتَمَعِهِ.

وَعَمَلُ الشَّارِعُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كُلِّ مَا يُنَمِّي الْعَقْلَ وَيَحْفَظُهُ مِنَ الْآفَاتِ.

وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَكُلِّ الْمُخَدِّرَاتِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَلِصِيَانَتِهِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْلِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بِحَيْثُ يَنْشَأُ قَوِيًّا فِي خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ، وَمَشَاعِرِهِ، وَمَوَاهِبِهِ، وَدِينِهِ، وَذَلِكَ بِتَنْظِيمِ الْعَلَاقَاتِ الْأُسْرِيَّةِ؛ لِيَتَرَبَّى الْأَوْلَادُ فِيهَا، وَيَنْعَمُوا بِالْحَيَاةِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِالْأُمُومَةِ الَّتِي تَتَغَذَّى مِنْهَا الْعَوَاطِفُ، وَتَكْتَمِلُ بِهَا الْمَدَارِجُ؛ فَيَنْشَأُ الْمُسْلِمُ سَوِيًّا لَا عِوَجَ فِيهِ.

وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْلِ وَحِيَاطَتِهِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْمَالِ تَكُونُ بِالسَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَتَنْمِيَةِ الْمَالِ مِنَ الطَّرِيقِ الْحَلَالِ الَّتِي تُتَبَادَلُ فِيهِ الْمَنَافِعُ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا جَوْرٍ.

وَمَا حَدُّ السَّرَقَةِ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالْغَصْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ، وَدَرْءِ الضَّرَرِ عَنْهُ.

فَالْمَصَالِحُ الَّتِي شَرَعَ الشَّارِعُ أَحْكَامًا لِتَحْقِيقِهَا، وَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا عِلَلًا لِمَا شَرَعَهُ تُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: ((الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ)) مِنَ الشَّارِعِ؛ مِثْلُ: حِفْظِ حَيَاةِ النَّاسِ، شَرَعَ الشَّارِعُ لَهُ إِيجَابَ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ الْعَامِدِ.

وَحِفْظُ مَالِهِمُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ حَدُّ السَّرِقَةِ.

وَحِفْظُ عِرْضِهِمُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الزِّنَا.

وَكُلٌّ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَالزِّنَا وَصْفٌ مُنَاسِبٌ، أَيْ: إِنَّ تَشْرِيعَ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَيْهِ يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنَ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ بَنَى الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الشَّارِعِ: إِمَّا مُنَاسِبٌ مُؤَثِّرٌ، وَإِمَّا مُنَاسِبٌ مُلَائِمٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ.

وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَا شَرَعَ حُكْمًا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إِمَّا جَلْبُ نَفْعٍ لَهُمْ، وَإِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

فَالْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ أَيِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هِيَ: جَلْبُ مَنْفَعَةٍ لِلنَّاسِ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

وَهَذَا الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ هُوَ الْغَايَةُ مِنْ تَشْرِيعِهِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ.

((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ))

إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ دِينُ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْدِلُوا مَعَ إِخْوَانِهِمْ وَغَيْرِ إِخْوَانِهِمْ, أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْعَدْلَ فِي جَمِيعِ حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى النَّاسِ.

فَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ أَجْمَعِ مَا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هِيَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

فَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى الْعَدْلَ فِيهَا بِالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَحْدَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْجَوْرِ, فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَامِلًا قَدْ يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ كُلُّهُ, لَكِنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْعَدْلَ وَمَعَهُ الْإِحْسَانَ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ رَغْبَةً فِيمَا حَثَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

يَأْمُرُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ، وَالْقَوَّامُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ؛ أَيْ: كُونُوا فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ قَائِمِينَ بِالْقِسْطِ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ.

فَالْقِسْطُ فِي حُقُوقِ اللهِ: أَلَّا يُسْتَعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، بَلْ تُصَرَّفُ فِي طَاعَتِهِ.

وَالْقِسْطُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ: أَنْ تُؤَدَّى جَمِيعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، وَأَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُمْ كَمَا تَطْلُبُ أَنْتَ حُقُوقَكَ، فَتُؤَدِّي النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالدِّيُونَ، وَتُعَامِلُ النَّاسَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْمُكَافَأَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْقِسْطِ: الْقِسْطُ فِي الْمَقَالَاتِ وَالْقَائِلِينَ، فَلَا يُحْكَمُ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ لِانْتِسَابِهِ أَوْ مَيْلِهِ لِأَحَدِهِمَا، بَلْ يَجْعَلُ وِجْهَتَهُ الْعَدْلَ بَيْنَهُمَا.

وَمِنَ الْقِسْطِ: أَدَاءُ الشَّهَادَةِ الَّتِي عِنْدَكَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، حَتَّى عَلَى الْأَحِبَّاءِ؛ بَلْ عَلَى النَّفْسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا أَيْ: فَلَا تُرَاعُوا الْغَنِيَّ لِغِنَاهُ، وَلَا الْفَقِيرَ -بِزَعْمِكُمْ- رَحْمَةً لَهُ، بَلِ اشْهَدُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَنْ كَانَ.

وَالْقِيَامُ بِالْقِسْطِ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ، وَأَدَلِّهَا عَلَى دِينِ الْقَائِمِ بِهِ، وَوَرَعِهِ وَمَقَامِهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ، وَأَرَادَ نَجَاتَهَا أَنْ يَهْتَمَّ لَهُ غَايَةَ الِاهْتِمَامِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ نُصْبَ عَيْنِهِ وَمَحَلَّ إِرَادَتِهِ، وَأَنْ يُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ مَانِعٍ وَعَائِقٍ يَعُوقُهُ عَنْ إِرَادَةِ الْقِسْطِ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ.

وَأَعْظَمُ عَائِقٍ لِذَلِكَ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِهَذَا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى إِزَالَةِ هَذَا الْمَانِعِ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا}؛ أَيْ: فَلَا تَتَّبِعُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمُ الْمُعَارِضَةِ لِلْحَقِّ؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَبِعْتُمُوهَا عَدَلْتُمْ عَنِ الصَّوَابِ، وَلَمْ تُوَفَّقُوا لِلْعَدْلِ؛ فَإِنَّ الْهَوَى إِمَّا أَنْ يُعْمِيَ بَصِيرَةَ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرَى الْحَقَّ بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ حَقًّا، وَإِمَّا أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَتْرُكَهُ؛ لِأَجْلِ هَوَاهُ، فَمَنْ سَلِمَ مِنْ هَوَى نَفْسِهِ وُفِّقَ لِلْحَقِّ، وَهُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيَامُ بِالْقِسْطِ نَهَى عَنْ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَهُوَ لَيُّ اللِّسَانِ عَنِ الْحَقِّ فِي الشَّهَادَاتِ وَغَيْرِهَا، وَتَحْرِيفُ النُّطْقِ عَنِ الصَّوَابِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.

وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَحْرِيفُ الشَّهَادَةِ وَعَدَمُ تَكْمِيلِهَا، أَوْ تَأْوِيلُ الشَّاهِدِ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، فَإِنَّ هَذَا مِنَ اللَّيِّ؛ لِأَنَّهُ الِانْحِرَافُ عَنِ الْحَقِّ.

{أَوْ تُعْرِضُوا} أَيْ: تَتْرُكُوا الْقِسْطَ الْمَنُوطَ بِكُمْ، كَتَرْكِ الشَّاهِدِ لِشَهَادَتِهِ، وَتَرْكِ الْحَاكِمِ لِحُكْمِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ.

{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}: أَيْ: مُحِيطًا بِمَا فَعَلْتُمْ، يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ خَفِيَّهَا وَجَلِيلَهَا.

وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِلَّذِي يَلْوِي أَوْ يُعْرِضُ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى لِلَّذِي يَحْكَمُ بِالْبَاطِلِ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جُرْمًا، لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ تَرَكَا الْحَقَّ، وَهَذَا تَرَكَ الْحَقَّ وَقَامَ بِالْبَاطِلِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].

أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ وَعَدَوَاتُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ عَلَيْكُمْ -حَيْثُ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ- عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ؛ طَلَبًا لِلِاشْتِفَاءِ مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ أَمْرَ اللهِ وَيَسْلُكَ طَرِيقَ الْعَدْلِ، وَلَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُلِمَ أَوِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ أَوْ يَخُونَ مَنْ خَانَهُ.

وَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ الظُّلْمَ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَتَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [ابراهيم: 42-43].

وَهَدَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظَّالِمِينَ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَشَيْءٌ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ، أَفَيَرْضَاهُ مِنْ غَيْرِهِ؟!!

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ الِاعْتِدَالِ وَالْوَسَطِيَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ))

فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ، وَالاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7].

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَهَذَا الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي وَصَّانَا اللهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ قَصْدُ السَّبِيلِ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ السُّبُلِ الجَائِرَةِ.

لَكِنَّ الجَوْرَ قَدْ يَكُونُ جَوْرًا عَظِيمًا عَنِ الصِّرَاطِ، وَقَدْ يَكُونُ يَسِيرًا، وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَاتِبُ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللهُ، وَهَذَا كَالطَّرِيقِ الحِسِّيِّ؛ فَإِنَّ السَّالِكَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْهُ وَيَجُورُ جَوْرًا فَاحِشًا، وَقَدْ يَجُورُ دُونَ ذَلِكَ.

فَالمِيزَانُ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ الاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ وَالجَوْرِ عَنْهُ: هُوَ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ.

وَالجَائِرُ عَنْهُ إِمَّا مُفَرِّطٌ ظَالِمٌ، أَوْ مُجْتَهِدٌ مُتَأَوِّلٌ، أَوْ مُقَلِّدٌ جَاهِلٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الاقْتِصَادُ وَالاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ الدِّينِ.

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَسَطٌ بَيْنَ النِّحَلِ، كَمَا أَنَّ أُمَّةَ الإِسْلَامِ وَسَطٌ بَيْنَ المِلَلِ، وَلَمْ يُصِبِ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغُلُوٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ مُتَوَرِّطٌ فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ مِنْهُمَا.

قَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الغُلُوُّ أَوِ التَّقْصِيرُ)) .

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ ... وَغَيْرُهُمْ.

وَالصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الخَيْرِيَّةِ، الَّتِي بَيْنَ طَرَفَي التَّفْرِيطِ وَالإِفْرَاطِ.

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].

قَالَ: ((ذَكَرَ فِي هَذِهِ الآيَةِ السَّبَبَ المُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ مُطْلَقًا بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الهِدَايَةِ، وَمِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ أَيْ: عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الوَسَطَ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ:

وَسَطًا فِي الأَنْبِيَاءِ: بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ كَالنَّصَارَى، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ، كَاليَهُودِ، بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.

وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ: لَا تَشْدِيدَاتِ اليَهُودِ وَآصَارَهُمْ، وَلَا تَهَاوُنَ النَّصَارَى.

وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالمَطَاعِمِ: لَا كَاليَهُودِ الَّذِين لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ المَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا، بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ ودَرَجَ.

بَلْ طَهَارَتُهُمْ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ مِنَ المَطَاعِمِ وَالمَشَارِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ.

فَلِهَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا، وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ العِلْمِ وَالحِلْمِ، وَالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهُمْ، فَلِهَذَا كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا}، كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ.

لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}؛ بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ وَحُكْمِهِمْ بِالقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ الأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ؛ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ بِالرَّدِّ، فَهُوَ مَرْدُودٌ)).

*وَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ نَهَى عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ:

((لَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].

وَالغُلُوُّ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا: كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَةً، أَوْ صَامَ الدَّهْرَ مَعَ أَيَّامِ النَّهْي.

وَغُلُوٌّ يُخَافُ مِنْهُ الانْقِطَاعُ وَالاسْتِحْسَارُ: كَقِيامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَسَرْدِ الصِّيَامِ الدَّهْرَ أَجْمَعَ بِدُونِ صَوْمِ أَيَّامِ النَّهْيِ)) .

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟

قَالَ: ((الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيُّ فِي ((الأَدَبِ المُفْرَدِ)).

وَالحَدِيثُ نَصٌّ فِي أَنَّ الإِسْلَامَ حَنِيفِيَّةٌ سَمْحَةٌ، وَالسَّمَاحَةُ تَتَنَافَى مَعَ الغُلُوِّ وَالتَّشَدُّدِ فِيهِ.

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ السُّنَّةِ هُمْ وَسَطٌ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ج، وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ)).

فَلَا تَشْدِيدَ وَلَا غُلُوَّ لَدَيْهِمْ، وَلَا تَرَخُّصَ وَلَا جَفَاءَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَأْتُونَ بِعِلَلٍ تُوهِنُ الانْقِيَادَ.

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ العَجِيبِ أَنَّهُ يَشَامُّ النَّفْسَ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَّ القُوَّتَيْنِ تَغْلِبُ عَلَيْهَا: أَقُوَّةُ الإِقْدَامِ، أَمْ قُوَّةُ الانْكِفَافِ وَالإِحْجَامِ وَالمَهَانَةِ، وَقَدْ وَقَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا أَقَلَّ القَلِيلِ فِي هَذَيْنِ الوَادِيَيْنِ: وَادِي التَّقْصِيرِ، وَوَادِي المُجَاوَزَةِ وَالتَّعَدِّي.

وَالقَلِيلُ مِنْهُمْ جِدًّا الثَّابِتُ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ الوَسَطُ)).

قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الفَرْقُ بَيْنَ الاقْتِصَادِ وَالتَّقْصِيرِ: أَنَّ الاقْتِصَادَ هُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ طَرَفَي الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، وَلَهُ طَرَفَانِ هُمَا ضِدَّانِ لَهُ، وَهُمَا تَقْصِيرٌ وَمُجَاوَزَةٌ.

فَالمُقْتَصِدُ قَدْ أَخَذَ بِالوَسَطِ، وَعَدَلَ عَنِ الطَّرَفَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [االأعراف:31].

وَالدِّينُ كُلُّهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ، بَلِ الإِسْلَامُ قَصْدٌ بَيْنَ المِلَلِ، وَالسُّنَّةُ قَصْدٌ بَيْنَ البِدَعِ، وَدِينُ اللهِ بَيْنَ الغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ.

وَكَذَلِكَ الاجْتِهَادُ: هُوَ بَذْلُ الجُهْدِ فِي مُوَافَقَةِ الأَمْرِ، وَالغُلُوُّ: مُجَاوَزَتُهُ وَتَعَدِّيهِ.

وَمَا أَمَرَ اللهُ بِأَمْرٍ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَزْغَتَانِ: فَإِمَّا إِلَى غُلُوٍّ وَمُجَاوَزَةٍ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَتَقْصِيرٍ - وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ كَانَ وَسَطًا عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ يَسِيرُ -.

وَالغُلُوُّ وَالمُجَاوَزَةُ، وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّقْصِيرُ، آفَتَانِ لَا يَخْلُصُ مِنْهُمَا فِي الاعْتِقَادِ، وَالقَصْدِ، وَالعَمَلِ، إِلَّا مَنْ مَشَى خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَتَرَكَ أَقْوَالَ النَّاسِ وَآرَاءَهُمْ، لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، لَا مَنْ تَرَكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ لِأَقْوَالِ النَّاسِ وَآرَائِهِمْ وَمَا ابْتَدَعُوهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ!!

وَهَذَانِ المَرَضَانِ الخَطِرَانِ قَدِ اسْتَوْلَيَا عَلَى أَكْثَرِ بَنِي آدَمَ؛ وَلِهَذَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِنْهُمَا أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَخَوَّفُوا مَنْ بُلِيَ بِأَحَدِهِمَا بِالهَلَاكِ.

وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الشَّخْصِ الوَاحِدِ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ الخَلْقِ يَكُونُ مُقَصِّرًا مُفَرِّطًا فِي بَعْضِ دِينِهِ، غَالِيًا مُتَجَاوِزًا فِي بَعْضِهِ، وَالمَهْدِيُّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ)).

قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77].

وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ  ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)).

فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّين)). وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ ... هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ ... هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالمُتَنَطِّعُونَ هُمْ: المُتَعَمِّقُونَ، الغَالُونَ، المُجَاوِزُونَ الحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ المُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ.

وَالحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ المُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْي عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى.

وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ المُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الوَدُودُ الرَّحِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.

وَالحَيَاةُ عَلَى هَذَا المِنْهَاجِ -مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ- سَمْحَةٌ سَهْلَةٌ، لَيْسَ فِيهَا تَعْقِيدٌ؛ لِأَنَّهَا تَسِيرُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الوَحْي المَعْصُومِ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ إِلَيْنَا الدِّينَ، وَأَمَرَنَا وَنَهَانَا سُبْحَانَهُ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَنَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].

فَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُصْلِحُنَا، وَشَرْطُ صَلَاحِنَا أَنْ نَكُونَ سَائِرِينَ خَلْفَ نَبِيِّنَا ﷺ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا؛ يَعْتَقِدُونَهَا وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، وَيَدْعُونَ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا أَهْلُ البِدْعَةِ، فَإِنَّ الحَيَاةَ مَعَهُمْ فِي جَحِيمٍ، بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَوَّلُوا الحَيَاةَ إِلَى جَحِيمٍ، لَمَّا مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا؛ سَالَتِ الدِّمَاءُ وَانْتُهِكَتِ الأَعْرَاضُ، وَخُرِّبَتِ البُيُوتُ، وَنُهِبَتِ الثَّرْوَاتُ، وَوَقَعَ مَا وَقَعَ فِي دِيَارِ الإِسْلَامِ، وَكَانَتْ قَبْلَهُمْ آمِنَةً.

فَلا  تُفَرِّطْ،  وَلا  تُفْرِطْ،   وَكُنْ   وَسَطًا     =    وَمِثْلَ   مَا    أَمَرَ    الرَّحْمَنُ    فَاسْتَقِمِ

سَدِّدْ،  وَقَارِبْ،  وَأَبْشِرْ  وَاسْتَعِنْ   بِغُدُوٍ     =   وَالرَّوَاحِ    وَأَدْلِجْ    قَاصِــدًا    وَدُمِ

فَمِثْلَ مَا    خَانَتِ    الْكَسْلانَ     هِمَّتُهُ   =     فَطَالَمَا     حُرِمَ      المُنْبَتُّ    بِالسَّأَمِ

وَمِنْ مَظَاهِرِ مُحَارَبَةِ الْإِسْلَامِ لِلْغُلُوِّ: مُحَارَبَتُهُ لِلْإِرْهَابِ بِكُلِّ صُوَرِهِ؛ فَقَدْ أَصْدَرَ الْمَجْمَعُ الْفِقْهِيُّ فِي إِحْدَى دَوْرَاتِهِ: إِنَّ التَّطَرُّفَ وَالْعُنْفَ وَالْإِرْهَابَ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هِيَ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ، لَهَا آثَارٌ فَاحِشَةٌ، وَفِيهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَظُلْمٌ لَهُ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصْدَرَيِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كِتَابَ اللهِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ الْعَظِيمِ ﷺ، فَلَنْ يَجِدَ فِيهِمَا شَيْئًا مِنْ مَعَانِي التَّطَرُّفِ وَالْعُنْفِ وَالْإِرْهَابِ الَّذِي يَعْنِي الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْآخَرِينَ دُونَ وَجْهِ حَقٍّ.

وَحِرْصًا مِنْ أَعْضَاءِ الْمَجْمَعِ عَلَى وَضْعِ تَعْرِيفٍ إِسْلَامِيٍّ لِلْإِرْهَابِ تَتَوَحَّدُ عَلَيْهِ رُؤَى الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاقِفُهُمْ، وَلِبَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَإِبْرَازِ خُطُورَةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ، يُقَدِّمُ الْمَجْمَعُ الْفِقْهِيُّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْعَالَمِ أَجْمَعَ تَعْرِيفًا لِلْإِرْهَابِ، وَمَوْقِفِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ:

الْإِرْهَابُ هُوَ: الْعُدْوَانُ الَّذِي يُمَارِسُهُ أَفْرَادٌ، أَوْ جَمَاعَاتٌ، أَوْ دُوَلٌ؛ بَغْيًا عَلَى الْإِنْسَانِ دِينِهِ وَدَمِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.

وَيَشْمَلُ صُنُوفَ التَّخْوِيفِ وَالْأَذَى وَالتَّهْدِيدِ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِصُوَرِ الْحِرَابَةِ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُنْفِ أَوِ التَّهْدِيدِ يَقَعُ تَنْفِيذًا لِمَشْرُوعٍ إِجْرَامِيٍّ فَرْدِيٍّ أَوْ جَمَاعِيٍّ وَيَهْدُفُ إِلَى إِلْقَاءِ الرُّعْبِ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ تَرْوِيعِهِمْ بِإِيذَائِهِمْ، أَوْ تَعْرِيضِ حَيَاتِهِمْ أَوْ حُرِّيَّتِهِمْ أَوْ أَمْنِهِمْ أَوْ أَحْوَالِهِمْ لِلْخَطَرِ.

وَمِنْ صُنُوفِهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْبِيئَةِ أَوْ بِأَحَدِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَمْلَاكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، أَوْ تَعْرِيضِ أَحَدِ الْمَوَارِدِ الْوَطَنِيَّةِ أَوِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلْخَطَرِ.

فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

اللهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَنَتَ وَالْحَرَجَ، وَنُصْرَةُ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَإِعْزَازُ شَرِيعَتِهِ لَا يَكُونُ بِبَثِّ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ، أَوِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ الْأَنْفُسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَوِ التَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِسْلَامُ؛ لِيَحْمِيَ لِلنَّاسِ ضَرُورَاتِهِمْ، وَيَعْمَلَ عَلَى حِفْظِهَا، وَيَنْشُرَ الْأَمْنَ وَالْعَدْلَ وَالسَّعَادَةَ بَيْنَ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.

 ((مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ))

إِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَإِثْبَاتِ التَّيْسِيرِ،  قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} [البقرة: 185].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78].

هُوَ اللهُ الَّذِي اخْتَارَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مِنْ دُونِ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، وَحَمَّلَكُمْ وَظِيفَةَ تَبْلِيغِ الدِّينِ الْخَاتَمِ لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ الَّذِي تَعَبَّدَكُمْ بِهِ ضِيقًا لَا مَخْرَجَ لَكُمْ مِمَّا ابْتُلِيتُمْ بِهِ، بَلْ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ، فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْكَفَّارَةَ فِي بَعْضٍ مَخْرَجًا، وَالْقِصَاصَ كَذَلِكَ.

وَشَرَعَ الْيُسْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

فَمَدَارُ شَرِيعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ وَرَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ فِي مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا هِيَ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ وَدَرْءُ مَفْسَدَةٍ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا كَلَّفَ الْإِنْسَانَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَجَعَلَ لَهُ فِيهِ تَيْسِيرًا وَرَفَعَ عَنْهُ فِيهِ الْحَرَجَ.

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ))

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

فَلَا عَجَبَ -إِذَنْ- أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.

وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللهم اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ؛ فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئِهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلَقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.

أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: ((قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.

قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟

قُلْتُ: بَلَى.

قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَّبَرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَهُوَ -مَعَ ذَلِكَ- يَسْأَلُ الْهِدَايَةَ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئِهَا، فَكَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ خُلُقُهُ إِلَى خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ دُونَ ذَلِكَ؟!!

وَكُلُّ إِنْسَانٍ -لَا مَحَالَةَ- يَجْهَلُ الْكَثِيرَ مِنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ حَتَّى تَرَكَ فَوَاحِشَ الْمَعَاصِي، فَرُبَّمَا ظَنَّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَذَّبَ نَفْسَهُ، وَصَفَّى أَخْلَاقَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمُجَاهَدَةِ، وَاسْتَنَامَ إِلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ!!

وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ كَحَاجَتِهِ إِلَى الْهَوَاءِ، بَلْ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْهَوَاءِ يَعْنِي مَوْتَ الْبَدَنِ، وَفَقْدَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَعْنِي مَوْتَ الْقَلْبِ، وَفِي مَوْتِ الْقَلْبِ فَقْدُ الدِّينِ، وَهَلَاكُ الْأَبَدِ.

وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُم أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُربِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيهِقُونَ)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ، قَدْ عَلِمنَا: الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيهِقُونَ؟

قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

وَذَمَّ الْإِسْلَامُ أَصْحَابَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ؛ فَلَمَّا كَانَ خَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، كَانَ شَرُّ النَّاسِ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي سُوءِ الْخُلُقِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا عَائِشَةُ إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ -أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كلَّ فاحشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَد، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).

وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.

وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُهُ.

*دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْفَوَاحِشِ:

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ، أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَهُوَ دِينُ الْعِفَّةِ وَدِينُ الْعَفَافِ، يَنْفِي الْفَاحِشَةَ وَيُحَارِبُهَا وَيَسُدُّ الْمَسَالِكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا.

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ عَنْ عِظَمِ فَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْخُلُقَ خُلُقَ الْإِسْلَامِ، وَخَلَّقَ النَّبِيَّ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَى.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاءَ حَاجِزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ.

وَالنَّبِيُّ فِي وَصْفِهِ فِي خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ: ((أَنَّهُ كَانَ أَحْيَا مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا )).

*نَهَى الْإِسْلَامُ عَنِ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ وَالْمُجْتَمَعِ:

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 31].

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ قَبِيحَةً، وَبِئْسَ الزِّنَا طَرِيقًا إِلَى تَحْقِيقِ شَهَوَاتِ الْفُرُوجِ.

وَالنَّهْيُ عَنِ اقْتِرَابِ الزِّنَا أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الِاقْتِرَابِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الَّتِي قَدْ تُفْضِي إِلَيْهِ كَالنَّظَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالتَّقبِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

*أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِالصِّدْقِ، وَنَهَى عَنِ الْكَذِبِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفجُورِ، وَإِنَّ الفجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ أَيْ: الْزَمُوا الصِّدْقَ.

وَأَمَّا الْكَذِبُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ مِنْهُ، فَقَالَ: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبُ)).

((إِيَّاكُمْ)): لِلتَّحْذِيرِ؛ أَيْ: احْذَرُوا الْكَذِبَ.

فَالْكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ -نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْهَا-.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ : ((وَإِنَّ الرَّجُلُ لَيَكْذِبُ)).

وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)).

وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.

وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ صَحِيحٌ))، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ.

((دَعْ مَا يَرِيبُكَ)) دَعْ: أَيْ اتْرُكْ.

((مَا يَرِيبُكَ)): بِفَتْحِ الْيَاءِ؛ أَيْ مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ.

((إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)): إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.

قَالَ النَّبِيُّ : ((فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ)): الصِّدْقُ طُمْأَنِينَةٌ، لَا يَنْدَمُ صَاحِبُهُ أَبَدًا، وَلَا يَقُولُ: لَيْتَنِي وَلَيْتَنِي؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وَالصَّادِقُونَ يُنَجِّيهِمُ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِمْ.

وَتَجِدُ الصَّادِقَ دَائِمًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ أَوْ شَيْءٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَقَ، وَمَنْ صَدَقَ نَجَا.

أَمَّا الْكَذِبُ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ أَنَّهُ رِيبَةٌ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَوَّلَ مَنْ يَرْتَابُ فِي الْكَاذِبِ نَفْسَهُ، فَيَرْتَابُ الْكَاذِبُ هَلْ يُصَدِّقُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يُصَدِّقُونَهُ؟!!

فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ الْكَذِبَ إِلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَطُمَأْنِينَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)).

*لَقَدْ حَثَّ دِينُ الْإِسْلَامِ عَلَى إِمْسَاكِ اللِّسَانِ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ، وَحَذَّرَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ جَمِيعِهَا:

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يُتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ.

مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا الْإِسْلَامُ، وَنَفَّرَ عَنْهَا، وَحَذَّرَ مِنْهَا: السَّبُّ وَاللَّعْنُ, وَالْبَذَاءُ, وَالْهُجَرُ مِنَ الْقَوْلِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَدَّى الْمَظْلُومُ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.

إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا وَنَهَى عَنْهَا دِينُ الْإِسْلَامِ: الْغِيبَةُ وَهِيَ: ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ, ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ, سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

فَهَكَذَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ, قالَ عَنِ الْغِيبَةِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).

قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟

قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ((وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ, وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى)).

وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

وَمِنْ أَسْمَى الْأَخْلَاقِ، وَأَجْمَلِ الصِّفَاتِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا دِينُنَا الْعَظِيمُ، وَرَغَّبَ فِيهَا، وَحَثَّ عَلَيْهَا: الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ.

عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».

وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

*وَأَمَّا الْوَفَاءُ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ عَلَى احْتِرَامِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَتَعْظِيمِ مَنْ أَتَى بِهَا.

وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، فَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))، فَلَمَّا رَأَوْا نُدْرَةَ هَذَا الْخُلُقِ وَعِزَّةَ وُجُودِهِ فِي النَّاسِ، وَيَظَلُّونَ الْأَمَدَ مُفْتَقِدِينَ إِلَيْهِ، بَاحِثِينَ عَنْهُ، فَنَادِرًا مَا يَلْقَوْنَهُ، وَقَلَّ مَا يَجِدُونَهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صَعْبُ الْمَنَالِ جِدًّا، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ الْبَشَرِ؛ ضَرَبُوا بِنُدْرَتِهِ الْمَثَلَ، فَقَالُوا: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))!!

فَجَعَلُوا لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ أَوْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ جَعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ بِالْوَفَاءِ الْمَفْقُودِ.

كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّرُ هَذَا الْخُلُقَ جِدًّا، فَلَمَّا جَاءَ سَيِّدُ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ؛ ارْتَكَزَ -بَعْدَ ارْتِكَازِهِ عَلَى مَوْرُوثِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ- عَلَى الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَرْعِيَّةِ.

الْوَفَاءُ: إِتْمَامُ الْعَهْدِ، وَإِكْمَالُ الشَّرْطِ.

وَضِدُّهُ: الْغَدْرُ، وَهُوَ خُلُقٌ خَبِيثٌ، حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا، وَدَعَا فِي الْمُقَابِلِ ﷺ -كَمَا دَعَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ- إِلَى الْأَخْذِ بِنَقِيضِهِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ.

وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِدْقِ اللِّسَانِ، وَصِدْقِ الْفِعْلِ جَمِيعًا، وَهَذَا هُوَ الْوَفَاءُ.

يَقُولُ رَبُّنَا: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، بِالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ؛ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].

*وَمِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».

وَشَتَّان مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ .

*وَحَثَّ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ عَلَى خُلُقِ الْمُرُوءَةِ؛ وَالْمُرُوءَةُ: هِيَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَالتَّفَضُّلُ للهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ هُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.

وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.

*وَمِنَ الْمُرُوءَةِ الْعَفْوُ وَالْحِلْمُ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».

فِي الصَّفْحِ وَالْعَفُوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.

*وَالْمُرُوءَةُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

((خَالِقْ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ، يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهُمْ حَسَنَةً.

((خَالِقْ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وخالِق الناسَ بخُلقٍ حَسَنٍ».

فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».

*وَأَمَرَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحَثَّ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ؛ مِنْهَا: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُمُ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ مِنْكَ، فَتُسْتَحَبُّ صِلَتُهُمْ بِمَا فَضُلَ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي آتَاكَ اللهُ إِيَّاهُ.

(1وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

فَبِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ وَالْأَصْحَابُ، فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.

وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.

 ((الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَمَلِ الْجَادِّ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ، وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.

فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.

وَلَمْ يُحَدِّدِ الْإِسْلَامُ الْعَمَلَ فِي شَهْرٍ دُونَ آخَرَ، بَلْ حَثَّ عَلَيْهِ فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ كُلِّهَا.

وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِي صَحَابَتِهِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَعْظَمُ قُدْوَةٍ، وَخَيْرُ أُسْوَةٍ، كَانَتْ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا جِدًّا وَاجْتِهَادًا، وَعَمَلًا وَحَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا.

*لَقَدْ حَثَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ، وَطَلَبِ الرِّزْقِ -رِزْقِ اللهِ- بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ:

قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ؛ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ، وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ.

وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُم؛ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

النَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا.

فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

 ((دِينُ التَّسَامُحِ وَشَرِيعَةُ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ))

*الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ؛ فَقَدْ قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَفْسِيرِهِ)) : قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133-134].

أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَيْفَ بِطُولِهَا، الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا، وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا.

ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ؛ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}؛ أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِم وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.

{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ-، هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.

{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ، الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.

وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ.

وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.

وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ، لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.

ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ، وَأَعْلَى، وَأَجَلَّ، وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ:

1*الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ.

2*وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.

*فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) -، فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

*وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ: فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.

وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.

فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ».

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

«أَيْ: بِرَحْمَةِ اللهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ؛ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ أَنْ ألَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا}؛ أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}؛ أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّئُ.

فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ، تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ.

وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللهُ لَهُ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!!

أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ ﷺ؛ مِنَ اللِّينِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللهِ لِدِينِ اللهِ.

ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.

{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}؛ أَيْ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ» .

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

«وَهَذِهِ الْآيَاتِ -يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ، وَمَا تَلَاهَا فِي صَدْرِ السُّورَةِ- إِنَّمَا نَزَلَتْ في قِصَّةِ ((بَدْرٍ)) فِي أَوَّلِ غَنِيمَةٍ كَبِيرَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَصَلَ بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نِزَاعٌ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْهَا, فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ}: كَيْفَ تُقْسَمُ، وَعَلَى مَنْ تُقْسَمُ؟

{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}: قُل لَهُمْ: الْأَنْفَالُ للهِ وَرَسُولِهِ، يَضَعَانِهَا حَيْثُ شَاءَا, فَلَا اعْتِرَاضَ لَكُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ عَلَيْكُمْ إِذَا حَكَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ؛ أَنْ تَرْضَوْا بِحُكْمِهِمَا, وَتُسَلِّمُوا الْأَمْرَ لَهُمَا، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ, وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ مِنَ التَّشَاحُنِ, وَالتَّقَاطُعِ, وَالتَّدَابُرِ؛ بِالتَّوَادُدِ, وَالتَّحَابِّ, وَالتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ, وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ -بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ- مِنَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ.

وَيَدْخُلُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ لَهُمْ, وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ -بِذَلِكَ- يَزُولُ كَثِيرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالتَّدَابُرِ.

وَالْأَمْرُ الْجَامِعُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ, فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَمَنْ نَقَصَتْ طَاعَتُهُ للهِ وَرَسُولِهِ؛ فَذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي  إِيمَانِهِ» .

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 85-86].

«أَيْ: مَا خَلَقْنَاهُمَا عَبَثًا وَبَاطِلًا, كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللهِ، بَلْ مَا خَلَقْنَاهُمَا {إِلَّا بِالْحَقِّ} الَّذِي مِنْهُ أَنْ تَكُونَا بِمَا فِيهِمَا دَالَّتَيْنِ عَلَى كَمَالِ خَالِقِهِمَا, وَاقْتِدَارِهِ, وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ, وَحِكْمَتِهِ, وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ, وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} لَا رَيْبَ فِيهَا, لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}: وَهُوَ الصَّفْحُ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ, بَلْ يُقَابِلُ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ, وَذَنْبَهُ بِالْغُفْرَانِ؛ لِتَنَالَ مِنْ رَبِّكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ, فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.

وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الصَّفْحُ الْجَمِيلُ؛ أَيْ: الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، دُونَ الصَّفْحِ الَّذِي لَيْسَ بِجَمِيلٍ, وَهُوَ: الصَّفْحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَا يُصْفَحُ حَيْثُ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُقُوبَةَ, كَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ, الَّذِينَ لَا يَنْفَعُ مَعَهُمْ إِلَّا الْعُقُوبَةُ» .

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

«وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ؛ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}؛ أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبوهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.

وَأَمَّا إِخْوَانُهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ -وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ-؛ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي صَدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفَسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا، فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، ويَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، ويُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ» .

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} [يوسف: 87-92].

«أَيْ: قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}؛ أَيْ: احْرِصُوا وَاجْتَهِدُوا عَلَى التَّفْتِيشِ عَنْهُمَا، {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فَيمَا رَجَاهُ.

وَأَمَّا الْإِيَاسُ فَيُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ فَضْلُ اللهِ وَإِحْسَانُهُ, وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ.

{إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}: فَإِنَّهُمْ -لِكُفْرِهِمْ- يَسْتَبْعِدُونَ رَحْمَتَهُ, وَرَحْمَتُهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُمْ, فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ.

وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ؛ يَكُونُ رَجَاؤُهُ لِرَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.

فَذَهَبُوا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}؛ أَيْ: قَدِ اضْطُرِرْنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مَدْفُوعَةٍ مَرْغُوبٍ عَنْهَا؛ لِقِلَّتِهَا, وَعَدَمِ وُقُوعِهَا الْمَوْقِعَ، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ الْعِوَضِ, وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِالزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاجِبِ، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} بِثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

فَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ, وَبَلَغَ أَشُدَّهُ, رَقَّ لَهُمْ يُوسُفُ رِقَّةً شَدِيدَةً, وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ, وَعَاتَبَهُمْ، فَقَالَ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}؟!!

أَمَّا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَظَاهِرٌ فِعْلُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَخُوهُ؛ فَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- قَوْلهُمْ: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}، أَوْ أَنَّ الْحَادِثَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ, هُمُ السَّبَبُ فِيهِ, وَهُمُ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لَهُ. 

{إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}: وَهَذَا نَوْعُ اعْتِذَارٍ لَهُمْ بِجَهْلِهِمْ, أَوْ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِينَ, مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ مِنْهُمْ.

فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ هُوَ يُوسُفُ، فَقَالُوا: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى, وَالتَّمْكِينِ فِي الدُّنْيَا, وَذَلِكَ بِسَبَبِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَـ {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}؛ أَيْ: يَتَّقِي فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ, وَيَصْبِرُ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ, وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}: فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ, وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.

{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}؛ أَيْ: فَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ, وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ, وَأَسَأْنَا إِلَيْكَ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ, وَحَرَصْنَا عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْكَ, وَالتَّبْعِيدِ لَكَ عَنْ أَبِيكَ, فَآثَرَكَ اللهُ تَعَالَى، وَمَكَّنَكَ مِمَّا تُرِيدُ، {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}: وَهَذَا غَايَةُ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِالْجُرْمِ الْحَاصِلِ مِنْهُمْ عَلَى يُوسُفَ.

فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -كَرَمًا وَجُودًا-: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}؛ أَيْ: لَا أُثَرِّبُ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَلُومُكُمْ، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

فَسَمَحَ لَهُمْ سَمَاحًا تَامًّا, مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ لَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الذَّنْبِ السَّابِقِ, وَدَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ, وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْخَلْقِ, وَخِيَارِ الْمُصْطَفَيْنِ» .

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].

«وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، الَّتِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِهَا، فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}؛ أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ؛ فَلَا تُقَابِلهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ، وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمْ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.

وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ؛ أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرْبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصَفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ.

قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}؛ أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلِمْنَا عَنْهُمْ، وَأَمْهَلْنَاهُمْ، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ» .

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].

«قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}؛ أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهُ.

وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.

ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ، لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ، كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.

فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا، فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللِّيْنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ؛ فَطيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُلْ لَهُ سَلَامَكَ.

فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!

فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ، لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.

{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ» .

«وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالذُّلِّ: أَنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ حَقِّكَ؛ جُودًا، وَكَرَمًا، وَإِحْسَانًا مَعَ قُدْرَتِكَ عَلَى الِانْتِقَامِ، فَتُؤثِرُ التَّرْكَ؛ رَغْبَةً فِي الْإِحْسَانِ وَمَكَارمِ الْأَخْلَاقِ، بِخِلَافِ الذُّلِّ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُ الِانْتِقَامَ؛ عَجْزًا، وَخَوْفًا، وَمَهَانَةَ نَفْسٍ، فَهَذَا مَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.

وَلَعَلَّ الْمُنْتَقِمَ بِالْحَقِّ أَحْسَنُ حَالٍ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].

فَمَدَحَهُمْ؛ لِقُوَّتِهِمْ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنُفُوسِهِمْ، وَتَقَاضِيهِمْ مِنْهَا ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَدَرُوا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ اسْتِيفَاءِ مَا لَهُمْ عَلَيْهِ، نَدَبَهُمْ إِلَى الْخُلُقِ الشَّرِيفِ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، فَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].

فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ:

* الْعَدْلُ وَأَبَاحَهُ.

* وَالفَضْلُ وَنَدَبَ إِلَيْهِ.

* وَالظُّلْمُ وَحَرَّمَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ مَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ وَالْعَفْوِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ؟

قَيلَ: لَمْ يَمْدَحْهُمْ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَالِانْتِقَامِ، وَإِنَّمَا مَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمْ، فَلَمَّا قَدَرُوا نَدَبَهُم إِلَى الْعَفْوِ.

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ((كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا، فَمَدَحَهُمْ عَلَى عَفْوٍ بَعْدَ قُدْرَةٍ، لَا عَلَى عَفْوِ ذِلَّةٍ وَعَجْزٍ وَمَهَانَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ الَّذِي مَدَحَ سُبْحَانَهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ  : ﴿فإن الله كان عفوا قديرا﴾ [النساء: 149]، وقال: ﴿والله غفور رحيم﴾ [البقرة: 218]».

وَعَنْ جَابِر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ؛ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.

قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ)).

فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةٍ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.

ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَه وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)) . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللهم اغْفِر لِقَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

إِنَّ الصَّفْحَ وَالتَّسَامُحَ، وَالصَّبْرَ وَالْوَفَاءَ وَالْبَذْلَ -كُلُّ أُولَئِكَ- خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ، وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ.

((الْإِسْلَامُ دِينُ الرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ))

لَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرٌ مِنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي تُحَذِّرُ مِنْ أَذِيِّةِ المُسْلِمِينَ، وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ، وَتَعْيِيرِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَتَبَّعُهُمْ؛ لِيُرِيقَ دِمَاءَهُمْ؟!

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ المِنْبَرَ؛ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ: لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ؛ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ».

قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى البَيْتِ، أَوْ إِلَى الكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ، وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ!! وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ».

وَهَذَا الحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ». أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.

وَفي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «المُسْلمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُ».

وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الإِشَارَةِ بِالسِّلَاحِ، أَوِ الحَدِيدِ إِلَى المُسْلِمِ، جَادًّا، أَوْ مَازِحًا، أَوْ مُمَثِّلًا، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوقِعُ فَاعِلَهُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ, وَأَنَّ ذَلِكَ مَلْعُونٌ إِذَا فَعَلَ, فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَمْدًا؟!!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو القَاسِمِ ﷺ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ».

فَهَذَا لَا يَجُوزُ، لَا عَلَى سَبِيلِ الجِدِّ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ المُزَاحِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مَلْعُونًا إِذَا أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِالحَدِيدَةِ؛ أي: بِالسِّلَاحِ، وَلَوْ كَانَ مَازِحًا, وَلَوْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ دُخُولِ المَسَاجِدِ، وَالأَسْوَاقِ، وَأَمَاكِنِ تَجَمُّعِ النَّاسِ بِالأَسْلِحَةِ؛ إِذَا كَانَ فِي حَمْلِهَا ضَرَرٌ عَلَى المُسْلِمِينَ.

عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ قَالَ: فَلْيَأْخُذْ، أَوْ: لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيءٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرِ بِنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ، وَمَعَهُ سِهَامٌ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي المَسْجِدِ، قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا؛ فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا؛ كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا».

بَلْ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ إِخَافَةِ المُسْلِمِينَ، وَعَنْ إِرْهَابِهِمْ؛ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، مَنْ أَخَافَهَا، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيْهِ ﷺ». أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالبُخَارِيُّ فِي «التَّارِيخِ الكَبِيرِ», وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَامَ رَجُلٌ مِنهُمْ؛ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ -مَعَ النَّائِمِ- فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».

تَأَمَّلْ فِي دِينِكَ، وَدَعْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الحَمْقَى الَّذِينَ يُشَوِّهُونَهُ، الَّذِينَ يُنَفِّرُونَ حَتَّى المُسْلِمِينَ مِنْ دِينِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَمَا أَكْثَرَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ صَارُوا يَنْظُرُونَ بِعَيْنِ الرِّيبَةِ إِلَى دِينِهِمُ الحَنِيفِ!

إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ دِينُ الرَّحْمَةِ.

إِنَّ هَذَا الدِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ الأَعْرَاقِ، وَلَا عَلَى حَسَبِ أَلْوَانِ بَشَرَاتِهِمْ.

لَا يُفَرِّقُ الإسْلَامُ العَظِيمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ مَوَاطِنِهِمْ، وَإِنَّمَا الإِكْرَامُ وَالتَّكْرِيمُ عَلَى حَسَبِ التَّقْوَى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحُجُرات: 13]، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا.

فَدِينُ الإِسْلَامِ العَظِيمِ يُقدِّمُ مَنْ تَمَلَّكَ المُؤَهِّلَاتِ وَالمُقَوِّمَاتِ الَّتِي تُقَدِّمُهُ, لَا يَنْظُرُ إِلَى لَوْنٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى بَلَدٍ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى قَوْمِيَّةٍ.

*رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ وَعَدْلُهُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:

لَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْإِنْسَانَ مُطْلَقًا وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَلتَفْضِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِبَنِي آدَمَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ؛ لِهَدَايَتِهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ, فَمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَحَمَلَ الْأَمَانَةَ؛ نَالَ هَذَا الشَّرَفَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهِ, وَمَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ، وَاعْتَنَقَ طَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ خَسِرَ  هَذِهِ الْكَرَامَةَ، وَنَزَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ الْحَضِيضِ فِي الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ, كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].

وَالْإِسْلَامُ حَفِظَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حُقُوقَهُمْ مَا دَامُوا لَمْ يُنَاصِبُوا الْمُسْلِمِينَ الْعِدَاءَ, وَلَمْ يَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى؛ فَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ, كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

بَلْ أَمَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-:

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) ؛ أَيْ: النَّاسَ عُمُومًا.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا, وَأَبَاحَ لَنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَصِلَ مَنْ يَصِلُنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

فَالْإِسْلَامُ مَا جَاءَ لِقَتْلِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ, وَأَمَّا الْقِتَالُ فَهُوَ عِلَاجٌ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ, لَكِنَّ الْأَصْلَ؛ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن.

ثُمَّ إِنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ  يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْعَدْلِ وَدِينُ الرَّحْمَةِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ.

قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فَالْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ, وَقَتْلَ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ رَأَيٌ فِي الْقِتَالِ, وَيُحَرِّمُ قَتْلَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ شَرُّهُمْ وَكُفْرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ, وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ.

وَلِهَذَا نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ قَتْلِهِمْ, ثُمَّ إِذَا وَقَعَ الْأَسِيرُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الانسان: 8-9].

فَإِذَا رَأَى الْأَسِيرُ هَذَا التَّعَامُلَ الطَّيِّبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبَّمَا شَرَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ, وَذَهَبَتْ عَنْهُ الْعُنْجُهِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ قَدْ صَدَّتْهُ عَنِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ -بِسَبَبِ ذَلِكَ وَرَحمَةِ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ- فِي دِينِ اللهِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا أَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمِنَ الْبِلَادِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ أَقْوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ)).

يَأسِرُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ, وَلَكِنْ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ, فَأَحْسَنَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَادُوا التَّعَامُلَ مَعَهُمْ, وَأَخَذُوا يَرْفُقُونَ بِهِمْ؛ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، وَإِدْخَالِهُمُ الْجَنَّةَ.

وَالْإِسْلَامُ يُجِيزُ الصُّلْحَ مَعَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

لَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَكَّرُوا وَتَرَوَّوْا وَدَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَاقْتِنَاعٍ.

وَصَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْيَهُودَ عِنْدَ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ, وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَفَوْا بِالْعَهْدِ لَوَفَى لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ, وَلَكِنَّهُمْ خَانُوا الْعَهْدَ فَأَوْقَعَ اللهُ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ.

وَإِذَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ إِمَّا بِالْعَهْدِ وَإِمَّا بِالْأَمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ التَّعَدِّيَ عَلَى مَالِ الْمُعَاهَدِ أَوْ عَلَى حَيَاتِهِ, فَيَكُونُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَمَنْ تَعَدَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, ((وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

كَافِرٌ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُعَاهَدٌ، فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ, مَعَ أَنَّهُ قَتَلَ كَافِرًا!!

لَكِنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

وَيَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].

فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ بِمُوجَبِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

 ((رِسَالَةُ الْمُسْلِمِينَ: دَعْوَةُ الْعَالَمِ

إِلَى التَّوْحِيدِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَتَبَ كُتُبَهُ، وَطَيَّرَ رَسَائِلَهُ إِلَى الْمُلُوكِ فِي الْأَرْضِ: ادْخُلُوا فِي دِينِ اللهِ، لَا تَحُولُوا دُونَ النُّورِ وَأْقَوامِكُمْ وَشُعُوبِكُمْ، كُفُّوا عَنِ التَّضْلِيلِ، وَانْزِعُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ.

آمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، وَنَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.

هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ السَّوَاءُ، فَسَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو بِهَا الْمُلُوكَ، وَيُرْسِلُ بِهَا الْكُتُبَ، وَيَخُطُّ بِهَا الرَّسَائِلَ، وَيَدْعُو بِهَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ.

وَهِيَ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبِيدٌ، هُوَ الَّذِي يُشَرِّعُ لَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ فِيهِمْ، لَا يَسْتَغِلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِنَّمَا الْحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ، وَصَفْوَةُ النَّبِيِّينَ، لَمْ يُحِلَّ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- الظُّلْمَ بِحَالٍ أَبَدًا -حَاشَا وَكَلَّا-، لَمْ  يُبِحْهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِأَحَدٍ، كَيْفَ وَقَدْ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!!

((إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا))  .

النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِدِينِ السَّلَامِ!

بِدِينِ الرَّحْمَةِ!

بِالدِّينِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُؤَلِّفُ وَيُجَمِّعُ، وَلَا يُنَفِّرُ وَلَا يُفَرِّقُ!!

هُوَ دِينُ الْحَقِّ، دِينُ اللهِ!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  فَضَائِلُ الْعَشْرِ وَمَفْهُومُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ
  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  تَضَرُّعٌ وَمُنَاجَاةٌ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ.. مَاذَا قَدَّمَتْ لِدِينِهَا وَدُنْيَاهَا وَوَطَنِهَا
  عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ​((الدَّرْسُ الْعَاشِرُ: الْحَثُّ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَثَمَرَاتُهُ))
  مِنْ مَوَاقِفِ الشَّرَفِ وَالنُّبْلِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُشَرَّفَةِ
  أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ
  فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان