«الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ... وَكَيْفَ نَحْيَاهُ؟»
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
«يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا علَيكُمْ...»
«صَاحِبْ الأَتْقِيَاءَ الذَّاكِرِينَ وَلَوْ كَانُوا فُقَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ»
«ضَرُورَةُ خُرُوجِ التَّائِبِ مِنَ الْبِيئَةِ الفَاسِدَةِ إِلَى البِيئَةِ الصَّالِحَةِ»
«تَهْيِئَةُ النَّفْسِ وَإِعْدَادُ العُدَّةِ لِلدُّخُولِ عَلَى رَمَضَانَ»
«الْإِخْلَاصُ وَثَمَرَاتُهُ»
«هَكَذَا يَكُونُ الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ»
«رَمَضَانُ كَيْفَ نَحْيَاهُ؟»
«تَطْهِيرُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ فِي رَمَضَانَ»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ اللهَ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- خَلَقَ النَّفْسَ الإنسانيةَ كَالرَّحَى الدائرةِ التي لا بُدَّ أَنْ يُلْقَى فيها شيءٌ، فَإِنْ أُلْقِيَ فيها حَبٌّ؛ طَحَنَتْهُ، وَإِنْ أُلْقِيَ فيها ترابٌ أو حَطَبٌ؛ طَحَنَتْهُ.
وإنَّ الخَوَاطِرَ التي تَدُورُ في النَّفْسِ الإنسانيةِ كَالَّذِي يُلْقَى في تِلك الرَّحَى الدائرةِ التي لا بُدَّ أَنْ تَطْحَنَ شيئًا، فإذا ما أَلْقَى الإنسانُ في تلك الرَّحَى الدائرةِ حَبًّا؛ أَخْرَجَتِ الرَّحَى دَقِيقًا نَفَعَهُ اللهُ –تبارك وتعالى- بِهِ، وَنَفَعَ الناسَ، وَإِنْ أَلْقَى فيها تِبْنًا أَوْ حَطَبًا؛ أَخْرَجَتْ له طِحْنًا، فذلك غِذَاؤُهُ.
وَسَيَنْظُرُ كُلٌّ عِنْدَمَا يريدُ أنْ يَتَحَصَّلَ على شيءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَى طَحِينِهِ؛ إِنْ كانَ دَقِيقًا، أو كان تِبْنًا، أَوْ كان تُرَابًا.
كُلٌّ بِكُلٍّ، واللهُ ربُّ العالمينَ كَتَبَ الْمَسْؤُولِيَّةَ الفَرْدِيَّةَ على الناسِ في كُلِّ حينٍ وحال.
«يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا علَيكُمْ...»
أخرج مسلمٌ في «صحيحِهِ» بِسَنَدِهِ عن أبي ذَرٍّ –رضوان الله عليه- قال: قال رسول الله –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «إنَّ اللهَ تَعَالَى قال: يَا عِبَادِي؛ إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّمًا بَيْنَكُمْ؛ فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ.
يَا عِبَادِي؛ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الغفورُ الرحيم؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي؛ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ؛ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ –وَلَمْ يَقُلْ: مِنْكُمْ؛ فَالْمُتَكَلِّمُ اللهُ-؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ في الْبَحْرِ –وَالْمِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ وَأُخْرِجَ منه؛ لا يُنْقِصُ البحرَ شيئًا، زيادةً على أنَّ الإِبْرَةَ التي هي الْمِخْيَطُ مَصْقُولَةٌ لَا يَعْلَقُ بها مِنَ الماء شيءٌ، وإنما هو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ؛ لِيُقَرِّبَ إلى أَفْهَامِنَا وَأَذْهَانِنَا المسألةَ-، يَا عِبَادِي؛ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا علَيكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
قَالَ سَعِيدٌ –رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-: «كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؛ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ جَلَالِ ما يَرْوِي مِنْ كَلَامِ اللهِ الَّذِي أَوْحَى به إلى نبيِّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثًا قُدُسِيًّا».
«إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، ولا يَظْلِمُ ربُّك أَحَدًا.
«فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللهَ» على توفيقِهِ لِطَاعَتِهِ، وَذِكْرِهِ، والإنابةِ إليه، والإخْبَاتِ لِجَلَالِ وَجْهِهِ، وَصَفِّ الأقدامِ في أَجْوَافِ الليالي بَيْنَ يَدَيْهِ.
«وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ» وَلَمْ يَقُلْ: شَرًّا؛ إِذِ الْمُتَكَلِّمُ اللهُ، «وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ –وَلَا يَكُونُ بِضِدِّ الخيرِ إِلَّا شَرًّا-؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ للعبيدِ.
«صَاحِبْ الأَتْقِيَاءَ الذَّاكِرِينَ وَلَوْ كَانُوا فُقَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ»
واللهُ رَبُّ العالمينَ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ الأمينَ بذلِكَ في كتابِهِ العظيمِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مسلمٌ في «صحيحه» بسندِهِ عن سعدِ بنِ مالكٍ –هو ابنُ أَبِي وَقَّاصٍ، سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضوان الله عليه- قال: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ- أَنَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ لَا أُسَمِّيهِمَا، فجاءت قريشٌ، فقالت: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا.
قال سعد –رضوان الله عليه- -وَهُوَ رَاوِي الحديثِ، وكان حاضرًا-: فَدَارَ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- مَا دَارَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بما شاء الله، فَأَنْزَلَ اللهُ –جلَّت قدرته-: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 52].
أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ رسولَه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- أنَّ كُلَّ نَفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وأنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ جَعَلَ مِحْنَةً في الحياةِ قائمةً إذا ما حَادَ المرءُ عن مَوَازِينِ الله؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ في هذه الحياةِ على ما جَاءَ بِهِ الدِّينُ العظيمُ لا تَرْتَبِطُ إلا بِهِ، ولا تَصْدُرُ إلا عَنْهُ، ولا تَدُورُ إلَّا عليه، وَأَمَّا قِيَمُ الْبَشَرِ؛ مِنَ الْجَاهِ، وَالتَّمَلُّكِ، وَالرِّفْعَةِ، وَالسُّؤْدُدِ، وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا يَحُوزُهُ الخَلْقُ تُرَابًا فَوْقَ التُّرَابِ؛ فَكُلُّ ذلك ليس مِنْ قِيَمِ الإسلامِ في شَيْءٍ.
وهؤلاء كانت قريشٌ تُسَمِّيهِمْ (الْجَلَابِيبْ)؛ لأنَّ رَائِحَةَ الْعَرَقِ كانت تَفُوحُ نَفَّاثَةً مِنْ خَلَلِ أَثْوَابِهِمُ الَّتِي لا يَمْلِكُونَ إِلَّا إِيَّاهَا؛ مِنْ شِدَّةِ الْعَوَزِ الذي كانوا يُعَانُونَهُ، وَمِنَ الْفَقْرِ الذي كان يَمَسُّهُمْ بِمِيسَمِهِ، وَيَكْوِيهِمْ بِنَارِهِ، وهم صابرون مُحْتَسِبُونَ، مجاهدون في سبيل الله –جلَّ وعلا-، بَاذِلُونَ لِلْأَرْوَاحِ وَالْمُهَجِ، وما دُونَ الرُّوحِ ليس بِغَالٍ، وإنما هو رَخِيصٌ.
وكان هؤلاء يُحِيطُونَ بالنبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-، وقد وَصَفَهُمُ اللهُ ربُّ العالمينَ بِإِدْمَانِ الذِّكْرِ له، وَبِعَدَمِ نِسْيَانِ الذِّكْرِ لِجَلَالِ وَجْهِهِ، مع ما شَهِدَ بِهِ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ؛ إِذْ يَبْتَغُونَ وَجْهَهُ، يَبْتَغُونَ ذَاتَهُ، يَبْتَغُونَ رِضْوَانَهُ، يَبْتَغُونَ جَنَّتَهُ، يَبْتَغُونَ لِقَاءَهُ في الفردوسِ الأعلى مِنَ الجنةِ، فيقولُ اللهُ –جلَّ وعلا- لنبيِّهِ الكريمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-:﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾، وما بَيْنَ ذلك، وما وَرَاءَ ذلك، يريدون وَجْهَهُ، لا يريدون شيئًا سِوَاهُ، فَشَهِدَ لَهُمُ اللهُ رَبُّ العالمينَ بالإخلاصِ.
ثُمَّ بَيَّنَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- أنَّ أولئكَ الذين حَرِصَ على أَنْ يَدْخُلُوا الدِّينَ؛ حتى يَرْتَفِعَ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ هذا الدِّينِ بِسَبَبِ دُخُولِهِمْ فيه؛ حتى يَنْفُذَ مِنْ تَحْتِ هذا الطَّرَفِ الْمَرْفُوعِ مَنْ شاء اللهُ رَبُّ العالمينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَمِنَ الْكُبَرَاءِ النَّاخِرِينَ على حَدٍّ سَوَاء، فَأَخْبَرَ اللهُ ربُّ العالمينَ نَبِيَّهُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- أنَّ المسألةَ لَيْسَتْ كما دَارَتْ في نَفْسِهِ، فيما أَخْبَرَ به ابنُ أَبِي وَقَّاصٍ –رضوان الله عليه-: «فَحَدَّثَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- نَفْسَهُ بما شاء الله»، فَهَمَّ بِأَنْ يَطْرُدَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المؤمنينَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْذِبَ إليه قُلُوبَ الْكُبَرَاءِ والسَّادَةِ، فَعَاتَبَهُ اللهُ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِهَذَا الْعِتَابِ الشديدِ: ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، وهو يُخَاطِبُ نَبِيَّهُ الأمينَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-.
والْمَسْؤُولِيَّةُ الْفَرْدِيَّةُ قَائِمَةٌ فيما بَيَّنَهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾، فَحِسَابُكَ على نَفْسِكَ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وهؤلاء الذين جَعَلَ اللهُ رَبُّ العالمينَ قلوبَهُمْ مَصْرُوفَةً إلى الدِّينِ، فَازِعَةً إلى اليقينِ؛ هؤلاء الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَتْبَاعِ محمدٍ المأمونِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- جاء فيهم وَصْفُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-، عندما مَرَّ رَجُلٌ مَهِيبٌ، حَسَنُ الشَّارَةِ، عَظِيمُ البِزَّةِ، فَخْمُ المركوبِ، فقال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-:«ما تقولون في هذا؟»
قالوا: هذا رَجُلٌ حَرِيٌّ جَدِيرٌ إذا تَكَلَّمَ أَنْ يُسْمَعَ، وإذا أَمَرَ أَنْ يُمْتَثَلَ أَمْرُهُ، وإذا خَطَبَ أَنْ يُزَوَّجَ، وَإِذَا شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، فَسَكَتَ، ثُمَّ مَرَّ آخَرُ رَثٌّ في هَيْئَتِهِ، مُسْتَضْعَفٌ في بِزَّتِهِ، ذَلِيلٌ للهِ رَبِّ العالمينَ في مَجْمُوعِ حَالِهِ، فقال الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-:«ما تقولون في هذا؟»
فقالوا: هذا رَجُلٌ جَدِيرٌ إذا تَكَلَّمَ أَلَّا يُسْمَعَ لَهُ، وإذا أَمَرَ أَنْ يُعْصَى، وإذا شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وإذا خَطَبَ أَلَّا يُزَوَّجَ.
مِقْيَاسُ الناسِ، وقانونُ الْخَلْقِ في الحياةِ فِي الصُّورَةِ الظاهرةِ، والهيئةِ الْمَنْظُورَةِ البَادِيَةِ، وليس مِنْ وَرَاءِ ذلك مِنْ حَقِيقَةِ الأمرِ مِنْ شَيْءٍ، فَأَخْبَرَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- بحقيقةِ الأمرِ، فقال: «هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْئِ الأرضِ مِنْ ذاك».
وانْظُرْ إلى قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-: «مِنْ مِلْئِ الأرضِ».
لو أَنَّ الأرضَ امْتَلَأَتْ بِأَشْبَاهِهِ وأمثالِهِ وَأَضْرَابِهِ، وَاحِدًا في قَفَا مَنْ أَمَامَهُ، حتى تَمْتَلِئَ الأرضُ، وقد مُدَّتْ، فَلَا بَحْرَ، وَلَا جَبَلَ، وَلَا سَهْلَ، وَلَا وَعْرَ، وَلَا نَجْدَ، وإنما هِيَ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ، فَمُلِئَتْ مِنْ أَمْثَالِ هذا وَأَضْرَابِهِ؛ لَكَانَ هذا الثاني الرَّثُّ في هيئَتِهِ، المُسْتَضْعَفُ في صُورَتِهِ خيرًا مِنْ مِلْئِ الأرضِ مِنْ ذَاكَ.
النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَأْمُرُهُ رَبُّهُ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28].
يَأْمُرُهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ بِأَنْ يَصْبِرَ نفسَهُ معهم فِي دُعَائِهِمْ لِرَبِّهِمْ –جَلَّ وَعَلَا-، ويَأْمُرُهُ هُنَالِكَ بِأَلَّا يَطْرُدَهُمْ، وهاهنا أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَاحِبَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ عظيمَ الصبرِ على مُصَاحَبَتِهِمْ، وهؤلاء هُمُ الْمُصَاحَبُونَ حَقًّا، وَمِنْهُ تَأْخُذُ أَنَّ خُلْطَةَ الْبَطَّالِينَ ينبغي أَلَّا تَكُون، وَأَنَّ على الْمَرْءِ أَنْ يَتَّبِعَ سبيلَ مَنْ أَنَابَ إلى اللهِ رَبِّ العالمينَ، وَأَنْ يَفِرَّ مِنْ كُلِّ غَافِلٍ سَاهٍ لَاهٍ عَنْ دَينِ اللهِ رَبِّ العالمينَ كَمَا يَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ؛ لأنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ جَعَلَ الطَّبْعَ سَرَّاقًا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ العالمينَ الإنسانَ لِلْإِنسانِ تَبَّاعًا.
فإذا خَالَطَ الإنسانُ مَنْ يَعُدُّ قِيَامَ سَاعَةٍ بالليلِ للهِ –جلَّ وعلا- مَغْنَمًا، وغَايَةَ المرادِ مِنَ الحياةِ؛ فإنه لَنْ يَتَطَلَّعَ إلى الْأَوْتَادِ الَّذِينَ يَصُفُّونَ الأَقْدَامَ فِي جَوْفِ اللَّيَالِي بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَهُمْ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَهُمْ نَصَبُوا أَقْدَامَهُمْ للهِ –جَلَّ وَعَلَا- في جَوْفِ الليلِ؛ تَبَتُّلًا وَإِنَابَةً، ورَغْبَةً وَرَهْبَةً، وَرَغَبًا وَرَهَبًا، وَأَوْبَةً للهِ وَعَوْدَةً، يَبْتَغُونَ مَرْضَاةَ اللهِ رَبِّ العالمينَ، لَنْ يَجُولَ في ذِهْنِ الإنسانِ شَيْءٌ مِنْ حَالِ هؤلاء إذا ما نَظَرَ إلى الْمَغْنَمِ الذي حَصَّلَهُ الْأَوَّلُونَ.
واللهُ رَبُّ العالمينَ قَدْ أَمَرَ نَبِيَّهُ يَحْيَى –عليه السلام-؛ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ الكتابَ بِقُوَّةٍ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ أَنْ نَأْخُذَ الأُمُورَ بِعَزْمٍ؛ لأنه يُحِبُّ مَعَالِيَ الأمورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا.
إنَّ اللهَ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قد جَعَلَ لِلْإِنسانِ في هَذِهِ الحياةِ مَوَاسِمَ لِلطَّاعَاتِ، وقد مَنَّ اللهُ رَبُّ العالمينَ على أُمَّةِ محمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- بِمَوْسِمٍ لِلطَّاعَةِ عَظِيمٍ، مَنَّ عَلَى الأُمَّةِ بِمَوْسِمٍ للطاعةِ عَظِيمٍ.
ولو أَنَّ الإنسانَ أُخْبِرَ عَنْ عَمَلِ رَجُلٍ مِنَ السَّاعِينَ فِي طَرِيقِ الآخِرَةِ إلى مَرْضَاةِ اللهِ –جلَّ وعلا-، فَزَادَ حَالُهُ على حَالِهِ، فَمَاتَ غَمًّا؛ لَكَانَ قَلِيلًا.
لو أنَّ إنسانًا أُخْبِرَ عن حَالِ آخَرَ مِمَّنْ يَسْعُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ العالمينَ في طريقِ الآخِرَةِ يَلْتَمِسُونَ مَرْضَاتَهُ؛ لو أنهم أُخْبِرُوا بذلك، فَمَاتُوا كَمَدًا، ونَفقوا حُزْنًا؛ لَكَانَ ذلك قليلًا في جَنْبِ اللهِ –جل وعلا-.
إنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ جَعَلَ الْحَيَاةَ مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ، ومِضْمارًا للسِّبَاقِ.
وَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- كان يَنْصَبُ وَيَتْعَبُ في العبادةِ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَقُومُ الليلَ حتى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، وَيَقُومُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- حتى تَتَشَقَّقَا، وَيَقُومُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- حتى تَنْتَفِخَا، فإذا ما عُوتِبَ في ذَلِكَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قال: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!!».
«ضَرُورَةُ خُرُوجِ التَّائِبِ مِنَ الْبِيئَةِ الفَاسِدَةِ إِلَى البِيئَةِ الصَّالِحَةِ»
إنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ جَعَلَ الطَّبْعَ سَرَّاقًا؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْبِيئَةِ الفاسدةِ إلى البِيئَةِ الصالحةِ، وَالرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- دَلَّ عَلَى ذَلِكَ في الحديثِ الصحيحِ، عَنْ ذلك الرَّجُلِ الَّذِي قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا –مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا-، ثم إنَّ نَفْسَهُ حَنَّتْ إِلَى التوبةِ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ على عَابِدٍ، فَسَأَلَهُ، فقال: قَتَلْتُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا؛ فَهَلْ لي مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ المِائَة، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَذَهَبَ إليهِ، فَقَالَ: قَتَلْتُ مِائَةَ نَفْسٍ؛ فَهَلْ لي مِنْ تَوْبَةٍ؟
فَقَالَ: وَمَنْ ذَا الذي يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! وَلَكِنْ إِنَّ أَرْضَكَ أَرْضُ سُوءٍ، فَارْتَحِلْ عَنْهَا إِلَى أَرْضِ كذا؛ فَإِنَّ فِيهَا قَوْمًا يَعْبُدُونَ اللهَ، فَاعْبُدِ اللهَ عَلَى مِلَّتِهِمْ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى الْبِيئَةِ الصَّالِحَةِ، مُغَادِرًا البِيئَةَ الفَاسِدَةَ، فَقُبِضَ في الطريقِ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ العَذَابِ، تَقُولُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: خَرَجَ إلى رَبِّهِ تَائِبًا، وتقولُ ملائكةُ العذابِ: لم يَصْنَعْ خَيْرًا قَطُّ، فَأْرَسَلَ اللهُ إليهم مَلَكًا على هَيْئَةِ رَجُلٍ؛ لِيَفْصِلَ في القَضِيَّةِ، فقال: قِيسُوا بَيْنَ الْمَوْضِعِ الذي مَاتَ فيه والأرضِ الصالحةِ التي ذَاهِبٌ هُوَ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ المَوْضِعِ الذي مَاتَ فِيهِ وَالأَرْضِ السَّيِّئَةِ التي تَحَوَّلَ عنها، فَقَاسُوا، فَوَجَدُوهُ أَقْرَبَ إلى الأرضِ الصالحةِ بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ ملائكةُ الرحمةِ.
في الحديثِ: أنه يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَوَّلَ الْمَرْءُ عَنْ أَصْحَابِ السُّوءِ، وعن خُلَطَاءِ السُّوءِ، وعَنِ الْمُخَالِطِينَ الفَالِتِينَ الْمُنْفَلِتِينَ لِسَانًا وَعَمَلًا وَحَالًا، وَأَنَّ على الإنسانِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عنِ المكانِ الذي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ رَبَّ العالمينَ فيه على النحوِ الصحيحِ.
وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-، فيه: أنَّ الإنسانَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ في الخروجِ مَعَ الشُّرُوعِ فيه لَوْ قُبِضَ؛ لَكَانَ مع الصالحينَ؛ لأنَّهُ نَوَى مُطَارَدَةَ الْهَوَى بِالخُرُوجِ وَالتَّحَوُّلِ عَنِ الأرضِ التي فَسَدَ أَهْلُهَا، وَأَنْ يَذْهَبَ مُيَمِّمًا آمًّا صَوْبَ وَجِهَةَ الْمَوْضِعِ الذي فِيهِ أَهْلُ الصَّلَاحِ.
«تَهْيِئَةُ النَّفْسِ وَإِعْدَادُ العُدَّةِ لِلدُّخُولِ عَلَى رَمَضَانَ»
وهذا الْمَوْسِمُ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ لا يَصْلُحُ فيه أبدًا أنْ يُخَالِطَ المرءُ البَطَّالِينَ، وإنما ينبغي على الإنسانِ أنْ يَبْتَعِدَ عن رُفَقَاءِ السُّوءِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- أَخْبَرَنَا كما في «صحيح مسلم»: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إلى الله فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ».
وقد غَفَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، وكان يُعَدُّ له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- في المجلسِ الواحدِ أَنْ يَقُولَ سبعينَ مَرَّةً...مائةَ مَرَّةٍ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرحيم».
فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ رَبَّ العالمينَ في كُلِّ حينٍ وحالٍ، وعلى كُلِّ صِفَةٍ، وإلى كُلِّ مَآلٍ يَصِيرُ إليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-، لا يُغَادِرُ مَقَامَ التوبةِ؛ لأنه مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ العالمين.
فَعَلَى الإنسانِ أَنْ يُهَيِّئَ نفسَه، وأنْ يُعِدَّ الْعُدَّةَ لِلدُّخُولِ على هذا الْمَوْسِمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطاعاتِ؛ فَإِنَّ الدُّخُولَ فيه ليس كالخُرُوجِ منه، كما أَخْبَرَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- في الحديثِ الصحيحِ الذي دَعَا فيه جبريلُ، وأَمَّنَ الأَمِينُ محمدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- على دُعَائِهِ.
يَقُولُ: «وَأَبْعَدَ اللهُ رَبُّ العالمينَ عَبْدًا انْسَلَخَ عنه رمضانُ فَلَمْ يُغْفَرْ له، قُلْ: آمِينْ، فَقَالَ الأَمِينُ: آمِين -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-».
فَدَعَا جبريلُ الأَمِينُ، وأَمَّنَ محمدٌ الأمينُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-.
وفي الروايةِ الأخرى: «وَرَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عنه رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ له، قُلْ: آمِينْ، فَقَالَ: آمِينْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-».
فَدَعَا بِالذُّلِّ والصَّغَارِ على كُلِّ مَنِ انْسَلَخَ عنه رمضانُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ رمضانَ مَغْفُورًا له، فليس دُخُولُ رمضانَ كالخُرُوجِ منه، وإنما يَدْخُلُ الناسُ عليه رَاغِبِينَ، وَيَخْرُجُونَ منه مُنْسَلِخِينَ رَاهِبِينَ.
أَمَّا مَنْ غَفَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ له؛ فَذَلِكَ، وَإِلَّا؛ فَكَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ في الحديثِ القُدُسِيِّ الصحيحِ: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا؛ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
إنَّ الرسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- أَخْبَرَ أَنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ جَعَلَ بابَ التوبةِ مَفْتُوحًا إلى أَنْ تَطْلُعَ منه الشمسُ، وهو إلى الغَرْبِ مَسِيرَةُ ما بَيْنَ عَضُدَيْهِ –عُضَادَتَيْهِ- سَبْعِينَ عَامًا، كما أَخْبَرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-.
فَالْبَدَارَ الْبَدَارَ، والعَجَلَةَ العَجَلَةَ بالتوبةِ وَإِلَيْهَا، وَإِلَّا؛ فَإِنَّ الموتَ يَأْتِي فَجْأَةً، كما أَخْبَرَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-.
إِنَّ الموتَ يَأْتِي بَغْتَةً، وإنَّ الْمَرْءَ لَعَلَّهُ لَا يُرَاجِعُ، وَلَعَلَّ الإنسانَ تَأْتِيهِ مَنِيَّتُهُ وهو عَلَى حَالةٍ مِنْ حَالَاتِ المعصيةِ، عَلَى حالةٍ لَا تَسُرُّ اللهَ رَبَّ العالمينَ، وَلَا تُفْرِحُ حَبِيبًا يَكُونُ عليه حَدِبًا وَبِهِ شَفِيقًا؛ لَعَلَّ الموتَ يَأْتِيهِ على تلك الحالِ، فَيَلْقَى اللهَ رَبَّ العالمينَ في أَسْوَأِ حَالٍ.
إنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- كان يَسْتَعِدُّ لِلدُّخُولِ على رَمَضَانَ.
فَعَنْ عَائِشَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا- قالت: «مَا رَأَيْتُ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَصُومُ فِي شَهْرٍ قَطُّ خَلَا رَمَضَانَ مَا كَانَ يَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، وَإِنْ كَانَ لَيَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا».
وفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ».
فَكَانَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَأْتِي إلى هذا الشهرِ، وهو الذي كان لا يَتْرُكُ الصيامَ، وإنما كان يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَصُومُ، يُمَرِّنُ الأُمَّةَ وَيُعَلِّمُهَا وَيُعَوِّدُهَا على هذا الإخلاصِ للهِ رَبِّ العالمين؛ لِأَنَّ هذا الصيامَ يُنْتِجُ التَّقْوَى، كما أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ في عِلَّةِ فَرْضِ هذا الشَّهْرِ على الأُمَّةِ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فَتُحَصِّلُونَ التَّقْوَى للهِ رَبِّ العالمينَ بهذِهِ الْمُرَاقَبَةِ للهِ –جَلَّ وعَلَا-؛ إِذْ هُوَ سِرٌّ بَيْنَ العبدِ وَرَبِّهِ.
وكان مِنْ سَلَفِنَا الصالحِ –رِضْوَانُ اللهِ عليهم- مَنْ يَصُومُ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ لَا تَعْلَمُ بِذَلِكَ امْرَأَتُهُ وَلَا أَهْلُهُ، كان يَعْمَلُ خَزَّازًا، يَخْرُجُ إلى السُّوقِ في الصَّبَاحِ وَمَعَهُ غَدَاؤُهُ، فإذا خَرَجَ خَارِجَ البيتِ؛ تَصَدَّقَ به على الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى السُّوقِ، فَيَظَلُّ إِلَى العَشِيِّ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ، يَظُنُّ أَهْلُ السُّوقِ أنه قد أَكَلَ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَيَظُنُّ أَهْلُهُ أَنَّهُ إنما أَكَلَ فِي السُّوقِ؛ لأنه كان يَأْخُذُ الصِّيَامَ مَأْخَذَ الْجِدِّ، يَصُومُ لِيَتَحَصَّلَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى التَّقْوَى للهِ رَبِّ العالمين، فَيَظَلُّ أربعينَ سَنَةً صَائِمًا إِلَّا ما مَنَعَ الشرعُ مِنْ صِيَامِهِ مِنَ الأيامِ، ويُحَصِّلُ الصِّيَامَ والتَّقْوَى، ويُحَصِّلُ الصَّدَقَةَ والسَّعْيَ إلى الخيرِ، والعمَلَ الصالحَ؛ كُلَّ ذلك حَصَّلَهُ فِي آنٍ واحدٍ –رحمةُ اللهِ عليه-، ولا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَهْلُهُ.
وَإِنْ كان أَحَدُهُمْ لَيَبْكِي بالليلِ وَرَأْسُهُ على وِسَادَتِهِ، حتى يَبُلَّ وِسَادَهُ، وَلَا تَعْلَمُ بذلك امْرَأَتُهُ؛ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ على أَنْ يَكُونَ لِرَبِّهِ مُعَامِلًا، وعَنِ الخَلْقِ مُتَوَارِيًا؛ لأنه حَصَّلَ التَّقْوَى حَقًّا وَصِدْقًا.
«الْإِخْلَاصُ وَثَمَرَاتُهُ»
إنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ جَعَلَ في هذا الصيامِ سِرًّا لَطِيفًا جِدًّا؛ إِذْ هو المعاملةُ الْحَقَّةُ بَيْنَ العبدِ وَرَبِّهِ، ولذلك فهو عبادةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، ليس فيها شيءٌ مِنْ سِوَى ذلك، وما هي في الْمُنْتَهَى إِلَّا كَفٌّ بِنِيَّةٍ، وامْتِنَاعٌ عَنْ تَلَذُّذٍ بِشَهْوَةِ وِقَاعٍ أَوْ شَهْوَةِ طَعَامٍ وشرابٍ، مع إِمْسَاكٍ لِلْجَوَارِحِ عنِ الوُلُوغِ فِيمَا يَسُوءُ، ثُمَّ إِقْبَالٌ على اللهِ رَبِّ العالمينَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ عَابِدٍ مُخْبِتٍ للهِ رَبِّ العالمين، ولِذَلِكَ كان هؤلاء الصالحونَ –رِضْوَانُ اللهِ عليهم أجمعينَ- إِذَا دَعَا الواحدُ منهم دَعْوَةً؛ لَبَّاهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ في الْحِينِ، وهذا وَاحِدٌ منهم -كما في الحديثِ الْمُتَّفَقِ على صِحَّتِهِ- يَدْعُو اللهَ رَبَّ العالمينَ دَعْوَةً عَجِيبَةً، فَيُؤْتِيهِ اللهُ رَبُّ العالمينَ آثَارَ الدعوةِ فِيمَنْ دَعَا عليها؛ حتى لَتَعْتَرِفَ بذلك، فَتَقُولُ: دَعْوَتُهُ، دَعْوَتُهُ -أَلَا رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-.
فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ –رَضِيَ اللهُ عنه- قال: خَاصَمَتْ أَرْوَى بِنْتُ أَوْسٍ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، وَسَعِيدٌ مِنَ العَشْرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بالجنةِ، فَخَاصَمَتْهُ عِنْدَ وَالِي المدينةِ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ في شَيْءٍ مِنْ أَرْضٍ ادَّعَتْ أنه اغْتَصَبَهَا، فَدَعَا مَرْوَانُ سَعِيدًا، فَلَمَّا كان عِنْدَهُ قال: إنَّ هذه تَدَّعِي أَنَّكَ قَدِ اغْتَصَبْتَ شيئًا مِنْ أَرْضِهَا.
فقال: أَنَا أَغْتَصِبُ شيئًا مِنْ أَرْضِهَا وقَدْ سَمِعْتُ مِنَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- ما سَمِعْتُ؟!
قال: وَمَا سَمِعْتَ؟
قال: سَمِعْتُ الرسولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنِ اغْتَصَبَ شيئًا مِنْ أَرْضٍ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
قال: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَها.
فَاكْتَفَى بِمَا رَوَى عَنِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بَيِّنَةً عليه؛ إِذْ ما الذي يَطْلُبُهُ الْمَرْءُ بَعْدَ هذه البَيِّنَةِ مِنْ مِثْلِ سعيدِ بْنِ زَيْدٍ –رِضْوَانُ اللهِ عليه-؟!
قال: أَنَا أَغْتَصِبُ شيئًا مِنْ أَرْضِهَا بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُ مِنَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- ما سَمِعْتُ؟!
قال: وما سَمِعْتَ؟
قال: سَمِعْتُهُ يَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنِ اغْتَصَبَ –مَنْ أَخَذَ- شيئًا مِنْ أَرْضٍ؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَها.
وَلَمْ يَكُفَّ سَعِيدٌ –رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-، وإنما أَحْرَجَتْهُ المسألةُ جِدًّا، فهو تَشْنِيعٌ بِرَجُلٍ مِنْ أصحابِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-، فَقَالَ: اللهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي أَرْضِهَا، اِجْعَلْ مَوْتَهَا في دَارِهَا؛ حتى تَكُونَ قَبْرًا لها.
وهو أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلْمَعْهُودِ عِنْدَ السابقينَ الأولينَ، إنهم لا يَدْفِنُونَ الْمَوْتَى في البُيُوتِ، وإنما يَجْعَلُونَهُمْ في الْجَبَّانَةِ، في الْمَقْبَرَةِ بِظَاهِرِ البَلَدِ حَيْثُمَا تَكُونُ، وَمَضَتِ السُّنُونُ، وَكَبِرَتْ حَتَّى عَمِيَتْ.
يَقُولُ رَاوِي الحديثِ: فَأَنَا رَأَيْتُهَا امْرَأَةً عَجُوزًا عَمْيَاءَ تَتَحَسَّسُ الجُدُرَ، ثُمَّ إِنَّهَا هَوَتْ في بِئْرٍ لها في دَارِهَا، فَلَمْ يُعْلَمْ بِمَوْتِهَا إِلَّا بَعْدَ حِينٍ، وكانت عِنْدَمَا أُصِيبَتْ بِدَعْوَةِ سعيدٍ فَسُلِبَتْ نَاظِرَيْهَا تَقُولُ: لَقَدْ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدٍ.
أَتَحْسَبُ أنَّ ذلك إنما يَأْتِي عَفْوًا؟!
إنهم قومٌ كَمَا قال فِيهِمْ اللهُ رَبُّ العالمينَ في حديثٍ قُدُسِيٍّ صحيحٍ، تَفَرَّدَ بِهِ البخاريُّ، يُسَمَّى بحديثِ الأولياء؛ بَيَّنَ فيه رَبُّنَا –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَنَا أنَّ الواحدَ مِنْ هؤلاء لو أَقْسَمَ على اللهِ رَبِّ العالمينَ لَأَبَرَّهُ، وأنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ مِنْ شِدَّةِ محبةِ العبدِ له يَكُونُ رِجْلَهُ التي يَمْشِي بها، وذِرَاعَهُ التي يَبْطِشُ بها، ويَكُونُ لِسَانَهُ الذي يَنْطِقُ به؛ لأنه يَمْتَثِلُ أمرَ اللهِ رَبِّ العالمينَ، ويَتَمَثَّلُ حالَهُ مع اللهِ في جميعِ آنَائِهِ.
وكذلك قال النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- في الحديثِ الصحيحِ، في بَيَانِ الإحسانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
أَلَا ما أَكْثَرَ الْحُجُبَ!!
«هَكَذَا يَكُونُ الْاسْتِعْدَادُ لِرَمَضَانَ»
إنَّ على الإنسانِ أنْ يَسْتَعِدَّ لِمَوْسِمِ الطاعةِ اسْتِعْدَادًا حَسَنًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَفِّفَ مِنْ أَعْبَائِهِ وأعمالِهِ الْمُتَرَاكِمَاتِ؛ حتى إذا ما دَخَلَ الشهرُ؛ وَجَدَهُ له مُتَفَرِّغًا نحوًا مِنَ التَّفَرُّغِ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا.
وأَمَّا ما يكونُ مِنْ عَزْمٍ على تلاوةٍ لِكِتَابِ اللهِ –جل وعلا-؛ إذْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ العالمينَ هذا الشهرَ مُكَرَّمًا؛ لِأَجْلِ إنزالِهِ القرآنَ فيه، وَجَعْلِهِ مَحَلًّا لإنزالِ القرآنِ فيه، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ العالمينَ فيه مِنَ الفَضَائِلِ ما فيه لِهَذَا الذي بَيَّنَهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185]، فإنما جَعَلَ اللهُ رَبُّ العالمينَ كَرَامَةَ رمضانَ بِسَبَبِ إنزالِ القرآنِ فيه، فهو شَهْرُهُ.
والنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- كان يَعْرِضُ القرآنَ على جبريلَ في رَمَضَانَ؛ حتى إذا كان العَامُ الذي قُبِضَ فيه عَرَضَ عَرْضَتَيْنِ.
فهذا الشهرُ تَكُونُ فيه التلاوةُ على نَحْوٍ مُسْتَطَاعٍ بِبَذْلِ الجُهْدِ وبَذْلِ الْمَجْهُودِ، مَعَ التَّفَرُّغِ لذلك بِصَفَاءِ الذِّهْنِ، والبُعْدِ عن كُلِّ ما يَشْغَلُ؛ إذ لَيْسَ الشَّأْنُ أنْ يُرَتِّلَ الإنسانُ آياتٍ لا يَتَدَبَّرُهَا بقلبِهِ، وَلَا يَعِيهَا بِعَقْلِهِ، ولا يَفْهَمُهَا بِفَهْمِهِ، وإنما هي مما يَتَحَرَّكُ به اللسانُ بَيْنَ الأَشْدَاقِ خَابِطًا، وإنْ كانتِ التلاوةُ في حَدِّ ذَاتِهَا مُثَابًا عليها؛ غَيْرَ أنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ إنما جَعَلَ القرآنَ لِيُتَدَبَّرَ، وجَعَلَ القرآنَ لِيُتَفَكَّرَ فيه، وجَعَلَ القرآنَ لِيُعْمَلَ به بَعْدَ أَنْ يُتَدَبَّرَ ويُتَفَكَّرَ فيه، وكان هذا هو شَأْنَ أصحابِ مُحمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-.
وينبغي على الإنسانِ أَنْ يَكُونَ نَاوِيًا نِيَّةَ الخيرِ؛ بِأَنْ يَكُونَ بَاذِلًا لِلَيْلِهِ لِرَبِّهِ على نحوٍ مَرْضِيٍّ؛ إِمَّا بالعبادةِ للهِ رَبِّ العالمينَ بِبَدَنٍ لا يَفْتُرُ وَلَا يَكِلُّ -للهِ رَبِّ العالمينَ- على قَدْرِ الوُسْعِ والطَّاقَةِ.
وعلى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بالحلال، مُعِدًّا ذلِكَ لِذَلِكَ الشهرِ، لا عَلَى نحوٍ مِنْ أنحاءِ الادِّخَارِ والتَّكْدِيسِ؛ فإنَّ امرأةً جارِيَةً بِيعَتْ مِنْ عِنْدِ قومٍ صالحينَ، فَلَمَّا تَحَصَّلَتْ في بيتِ أقوامٍ طالحينَ، ودَخَلَ عليهم رمضانُ؛ وَجَدَتْهُمْ يُعِدُّونَ أنواعَ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ اسْتِعْدَادًا لِدُخُولِ هذا الْمَوْسِمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطاعةِ، وهو عظيمٌ، فقالتْ: إنكم لَقَوْمُ سُوءٍ، رُدُّونِي، رُدُّونِي، وَأَجِيرُونِي مِنْ هَذَا السَّعِيرِ.
إنَّ هذا الشهرَ إنما يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَدَّ له بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وأنْ يَدْخُلَ الْمَرْءُ عليه نَاوِيًا أَنْ يَنْسَلِخَ هذا الشهرُ عنه وقَدْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ المغفرةَ، فإنْ أَصَابَ ذَلِكَ؛ فَذَلِكَ، وإِلَّا؛ فإنه يُثَابُ على قَدْرِ نِيَّتِهِ، واللهُ رَبُّ العالمينَ هو رَبُّ القُوَى والقُدَرِ، يُعْطِي العَطَاءَ الأَكبرَ، ويُجْزِلُ بما لا يُمْكِنُ أنْ يُقَاسَ أبدًا.
فَعَلَى الإنسانِ أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا لِمَا هو آتٍ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ لا يَدْرِي لعله لا يُعَاوِدُ، ولَعَلَّ الموتَ أنْ يَأْتِيَهُ فلا يُرَاجِع؛ فَعَلَى الإنسانِ أنْ يَكُونَ مُتَأَهِّبًا، وهذا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يقول: «لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ أنْ يَبِيتَ ليلةً إلا ووَصِيَّتُهُ مكتوبةٌ تحتَ رَأْسِهِ».
فيَقُولُ عبدُ اللهِ بْنُ عمرَ –رضوان الله عليهما-: «فَوَ اللهِ مَا بِتُّ ليلةً مُذْ عَلِمْتُ مِنَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- عِلْمَ ذلك الحديثِ إلا ووَصِيَّتِي مكتوبةٌ تحتَ رَأْسِي».
فكان يَسْتَعِدُّ لِلْغَدِ الآتِي على أنه لنْ يَأْتِيَ؛ كَحَالِ ذلك الرجلِ الصالحِ الذي قِيلَ له يَوْمًا وهو سائرٌ في الطريقِ: قِفْ أُكَلِّمَكَ.
قال: ولا كَلِمَة.
قال: فَنِصْفُ كَلِمَةٍ.
قال: ولا نِصْفُ كلمةٍ، وإنما أَمْسِكِ الشمسَ إنِ استطعتَ؛ حتى يكونَ الكلامُ خارِجَ إطارِ الزَّمَنِ، وحتى لا يَكُونَ مَحْسُوبًا عليه، وإنما يَأْتِي المرءُ يَوْمَ القيامةِ بأيَّامِهِ ولَيَالِيهِ كَالْخِزَانَاتِ، فَبَاحِثٌ عن شيءٍ فَلَا يَجِدُهُ، وباحثٌ عن شيءٍ بيقينٍ يَجِدُهُ، وعلى حَسَبِ ما قَدَّمَ الإنسانُ يَجِدُ.
فَعَلَى المرءِ أنْ يَبْدَأَ بهذا الأمرِ نِيَّةً خالصةً نَصُوحًا للهِ رَبِّ العالمينَ.
واعْلَمُوا -عبادَ اللهِ- أنَّ طهارةَ القلبِ هي أَصْلُ المسألةِ، وهو حَرْفُهَا الذي يَدُورُ عليه شَأْنُهَا.
طَهَارَةُ القلبِ مما يَعْلَقُ به مِنْ تلك الشَّائِبَاتِ التي تَكُونُ قاطعةً عنِ الوصولِ إلى مَرْضَاةِ رَبِّ الأرضِ والسماواتِ؛ فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ في تَطْهِيرِ قلبِهِ، وأَنْ يُفَتِّشَ فيه، وأنْ يَجْتَهِدَ في البَاقِي مِنْ هذه الأيامِ قَبْلَ دُخُولِ هذا الْمَوْسِمِ مِنْ مَوَاسِمِ الطاعاتِ.
على المرءِ أنْ يكونَ مجتهدًا في تَفْتِيشِ حَالِهِ، وفي التَّنْقِيبِ عن سَرِيرَتِهِ، وفي النَّظَرِ فيما بَيْنَ يديهِ، وعلى مُرَاجَعَةِ مَوَاقِفِهِ:
لِمَ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ؟
ولِمَ يَقُولُ ما يَقُولُ؟
ولِمَ يُصِرُّ على ما هو مُصِرٌّ عليه؟
ولِمَ يَتَوَجَّهُ هذه الوُجْهَةَ؟
لِمَ يُحِبُّ هذا؟ ولِمَ يُبْغِضُ هذا؟
ولِمَ يُقْبِلُ على هذا؟ ولِمَ يُدْبِرُ عن هذا؟
على الْمَرْءِ أنْ يَبْحَثَ في قَنَاعَاتِهِ، وأنْ يَتَأَمَّلَ فيها، وعليه أَنْ يَدْخُلَ على هذا الْمَوْسِمِ مُنَقَّىً مِنَ الشَّائِبَاتِ؛ حتى يَتَحَصَّلَ على فَضْلِ رَبِّ الأرضِ والسماواتِ بِاتِّبَاعِ أقوالِ سَيِّدِ الكائناتِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-؛ فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- كان يَحْتَفِلُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ ما لا يَحْتَفِلُ بِسِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ؛ لأنَّ له وظائفَ وَظَّفَهَا اللهُ رَبُّ العالمينَ؛ مِنْ ذِكْرٍ فيه؛ مِنْ تِلَاوةٍ في الليلِ في القيامِ، وفي آناءِ النهارِ وما بَيْنَ ذلك، ومِنْ ذِكْرٍ مُوَظَّفٍ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ في ليلةِ القَدْرِ، بَيَّنَهُ على لسانِ نَبِيِّنَا الأَمِينِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-، فيما وَضَّحَهُ لِعَائِشَةَ –رضوانُ اللهِ عليها-: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
فكان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَحْتَفِلُ بهذا الشهرِ ما لا يَحْتَفِلُ بِسِوَاهُ مِنَ الأزمانِ، وكان يَبْذُلُ فيه مِنَ الطاعاتِ –وبِخَاصَّةٍ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ منه- ما لَا يَبْذُلُهُ في بَقِيَّةِ لَيَالِي العَامِ، فكان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَخُصُّ العَشْرَ بالاعتكافِ؛ بُعْدًا عن الخَلْقِ؛ عن هذه الْمَبَاءَةِ، وما كان الأصحابُ إلا على الخيرِ –رضوان الله عليهم-؛ فَحَرِيٌّ بِمَنْ جاء بَعْدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ، ثم يَعُودُ إلى تلك الْمَطْهَرَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أنْ يُرَاجِعَ الحَالَ والْمَقَالَ والفَعَالَ، وأنْ يَتَأَمَّلَ بعضَ تَأَمُّلٍ فيما سَلَفَ؛ فإنَّ الذُّنوبَ قد نُسِيَتْ، نَسَاهَا المرءُ وأَحْصَاهَا اللهُ، وإنَّ اللهَ ربَّ العالمينَ اسْتَنْسَخَهَا لَدَيْهِ في كتابٍ عِنْدَهُ، ثم إنه يومَ القيامةِ تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، فَآخِذٌ بِيَمِينٍ مِنْ أَمَام، وآخِذٌ بِشِمَالٍ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وإلى النار فَسُحْقًا سُحْقًا.
فَعَلَى الْمَرْءِ أنْ يَجْتَهِدَ في الاحتفالِ لهذا الموسِمِ الجليلِ مِنْ مواسِمِ الطاعاتِ، وأنْ يكونَ فيه مُخْلِصَ النِّيَّةِ للهِ رَبِّ العالمينَ، آكِلًا مِنْ حَلَالٍ، فَلَا يَصُومُ النهارَ عن حلالِ اللهِ رَبِّ العالمين، ثم يُفْطِرُ بَعْدَ ذلك عِنْدَ العَشِيِّ على ما حَرَّمَ اللهُ رَبُّ العالمين، فهذا ما لا يَجُوزُ أبدًا، وإنما ينبغي أنْ يكونَ مُحَصِّلًا لِقُوتٍ مِنْ حلالٍ صِرْفٍ لا شُبْهَةَ فِيهِ؛ فإنه ما مِنْ لحمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلَّا والنارُ أَوْلَى به، وإنَّ الرَّجُلَ يُلْقِي في جَوْفِهِ باللُّقْمَةِ الحرامِ، ثم يَرْفَعُ يديْهِ في السفرِ وهو مَظِنَّةُ قَبُولِ الدعاءِ، يَرْفَعُ يديْهِ إلى اللهِ رَبِّ العالمينَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ ومِنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ، يقولُ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حرامٌ، ومَشْرَبُهُ حرامٌ، ومَلْبَسُهُ حرامٌ، وقد غُذِيَ بالحرامِ؛ فأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!!
فعَلَى الْمَرْءِ أنْ يكونَ مُهْتَمًّا بهذا الموسِمِ، بِتَحْصِيلِ الحَلَالِ لا بِكَثْرَتِهِ، وإنما بِكَيْفِيَّتِهِ ونَوْعِيَّتِهِ؛ وإِنْ كان قليلًا؛ فإنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- شَرَعَ لِلْأَصْحَابِ فيه –لِلْأُمَّةِ- الوِصَالَ، فَيُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أنْ يَطْوِيَ إلى السَّحَرِ الأَعْلَى؛ حتى يَكُونَ سَحُورُهُ إفطارَهُ، كما بَيَّنَ لنا ذلك نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فيما يَجُوزُ مِنْ أَمْرِ الوِصَالِ لِأَمْثَالِنَا.
وأمَّا هو؛ فليس كَهَيْأَتِنَا، يَبِيتُ عَنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ ويَسْقِيهِ.
وإِذن؛ فهذا الْمَوْسِمُ مِنْ مَوَاسِمِ الطاعةِ ينبغي أنْ نَسْتَعِدَّ له نَفْسِيًّا، وكذلك كان الشَّأْنُ في دِينِ اللهِ رَبِّ العالمينَ بَدْءًا؛ إذْ كان النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يَهْتَمُّ بِشَعْبَانَ صِيَامًا؛ حتى يَتَأَثَّرَ المرءُ في قَرَارَةِ ذَاتِهِ، ويكونَ مُسْتَعِدًّا للدخولِ على هذا الشهرِ بالصيامِ، فلا يُكْرِبُهُ الصيامُ إذا كان غيرَ مُعْتَادٍ عليه، وإنما هو دَاخِلٌ فيه على نَسَقِ عادَةٍ قد مَرَّتْ قَبْلُ، ثم إنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- يَجْعَلُ لَنَا القيامَ غيرَ عَزِيمَةٍ، ثم يَحُضُّ عليه مُرَغِّبًا في إتيانِهِ، وأنَّ مَنْ قامَ رَمَضَانَ إيمانًا واحْتِسَابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
فَعَلَى الْمَرْءِ أنْ يكونَ مُحَصِّلًا لِلْعَقِيدَةِ الصحيحةِ؛ حتى يَدْخُلَ على رمضانَ مُسْلِمًا خَالِصًا مِنْ كلِّ ما يَشُوبُ؛ مِنْ تلك الكُدُورَاتِ العَفِنَةِ التي لَحِقَتْ بحقيقةِ الإيمانِ فَدَنَّسَتْهَا، وشَوَّهَتْ صُورَتَها؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- يُبَيِّنُ هَاهُنَا بِخِصِّيصَةٍ مِنْ خَصَائِصِ الالتزامِ بَيْنَ القِيَامِ والصيامِ وقِيَامِ ليلةِ القَدْرِ، فَيَقُولُ: «إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»؛ فلا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ الإيمانِ باللهِ رَبًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- نَبِيًّا ورسولًا، وأنْ يُؤْمِنَ الْمَرْءُ باليومِ الآخِرِ؛ إذ يُقِيمُ اللهُ رَبُّ العالمينَ فيه الناسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُحَاسِبُهُمْ على الصغيرِ والكبيرِ، وعلى اليَسِيرِ مِنْ قِطْمِيرٍ وغَيْرِ قِطْمِيرٍ، حتى إذا ما اسْتَوْفَى اللهُ رَبُّ العالمينَ حسابَهُمْ ولا يُعْجِزُهُ شيءٌ؛ فَفَرِيقٌ في الجَنَّةِ، وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ.
فَعَلَى المرءِ أنْ يَكُونَ مُسْتَعِدًّا اسْتِعْدَادًا نَفْسِيًّا لِلدُّخُولِ على هذا الْمَوْسِمِ، وهذا شَأْنُ العباداتِ في دينِ الإسلامِ العظيمِ؛ فإنَّ اللهَ رَبَّ العالمينَ في الْمَوَاسِمِ الجَامِعَةِ -مِنَ الجُمُعَةِ والجَمَاعَاتِ- رَتَّبَ لَنَا تَرْتِيبَاتٍ كُلُّها تَجْعَلُ الْمَرْءَ على أَقْصَى ما يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الاستعدادِ النَّفْسِيِّ؛ لِيَدْخُلَ على العبادةِ وقد هُيِّئَ لها تَهْيِئَةً كاملةً مُسْتَوْفَاةً.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
«رَمَضَانُ كَيْفَ نَحْيَاهُ؟»
*مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
فَرَمَضَانُ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي خَصَّهُ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا- بِنُزُولِ القُرْآنِ فِيهِ؛ بَلْ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَكَذَلِكَ القُرْآنُ المَجِيدُ؛ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
*فَهَذَا الشَّهْرُ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِنُزُولِ الوَحْيِ المَعْصُومِ فِيهِ؛ هِدَايَةً لِلنَّاسِ، وَفُرْقَانًا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَنِبْرَاسًا يُنِيرُ دَيَاجِيرَ ظُلْمَةِ المَرْءِ فِي سَعْيِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الآلَامِ وَالأَحْزَانِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الهُمُومِ وَالغُمُومِ وَالأَنْكَادِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ المَخَاطِرِ وَالمَكَائِدِ –مِنْ مَكَائِدِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالكُفَّارِ وَالمُجْرِمِينَ، وَكُلِّ صَادٍّ عَنْ سَبِيلِ رَبِّ العَالَمِينَ-.
*فَهَذَا الشَّهْرُ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الآيَاتِ المُبْهِرَةَ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ دِينِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ، وَهُوَ الصِّيَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (8), وَمُسْلِمٌ: (16)].
*وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعَثَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ نَبِيَّهُ الخَاتَمَ مُحَمَّدًا ﷺ بِرِسَالَةِ الإِسْلَامِ العَظِيمِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالمُرْسَلِينَ ﷺ.
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالقِيَامِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِحْسَانِ الصِّيَامِ، وَمِن تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالجُودِ وَالعَطَاءِ وَالبِرِّ، بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنَ الخِصَالِ؛ إِذَا مَا فُعِلَتْ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ يَكُونُ الشَّهْرُ مُكَفِّرًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ». [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: (233)].
*وَالصَّوْمُ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ وَالصَّومُ وَالصَّدَقَةُ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (525), وَمُسْلِمٌ: (144)].
*وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَوِقَايَةٌ مِنَ النَّارِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : «الصَّوْمُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا العَبْدُ مِنَ النَّارِ». [أَخْرَجَهُ أَحْمَد فِي «الْمُسْنَدِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ: (14669)].
فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ: وِقَايَةٌ وَسَاتِرٌ وَحِجَابٌ بَيْنَ المَرْءِ وَالنَّارِ–أَعَاذَنَا اللهُ جَمِيعًا مِنْهَا-.
*وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، وَالمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لِلصَّائِمِينَ حِينَ يُفْطِرُونَ.
*وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرُ: قَالَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
*وَفِيهِ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ: كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ الرَّسُولِ ﷺ: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ؛ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (1898), وَمُسْلِمٌ: (1079)].
*وَفِيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ: مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا؛ فَقَدْ حُرِمَ.
*وَشَهْرُ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ: «وَلِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ». [حَدِيثٌ حَسَنٌ, أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (682), وَابْنُ مَاجَه: (1642)].
*وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِر». [حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ, أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «السُّنَنِ الْكُبْرَى»: (6392)].
شَهْرٌ بِهَذِهِ الخَصَائِصِ، بِهَذِهِ الفَضَائِلِ؛ كَيْفَ نَحْيَاهُ وَنُحْيِيهِ؟
إِنَّ العَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتَنِمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا، وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الأَوْقَاتِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ العَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغَيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟
إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:
1* الصِّيَامُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ :«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (38)، وَمُسْلِمٌ: (759].
الصِّيَامُ صِيَامٌ عَنِ الطَّعَامِ وَعَنِ الحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى: أَنْ يَصُومَ عَنِ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَأَلَّا يَجْعَلَ يَوْمَ صَوْمِهِ وَيَوْمَ فِطْرهِ سَوَاءً، وَأَلَّا يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعَ وَالعَطَشَ.
فَالصِّيَامُ أَكْبَرُ الأَعْمَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
2*القِيَامُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (2008), وَمُسْلِمٌ: (759)].
3*الصَّدَقَةُ: مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ، وَمِمَّا يتَأَكَّدُ فِيهِ: الصَّدَقَةُ وَالجُودُ بِالمَوْجُودِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (6), وَمُسْلِمٌ: (2308)].
*تَفْطِيرُ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَسَقْيُ المَاءِ:
رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا». [حَدِيثٌ صَحِيحٌ, أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (807), وَابْنُ مَاجَه: (1746)].
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (28), وَمُسْلِمٌ: (39)].
وَعَنْ عُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضْيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ». [حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ, أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ»: (5081)].
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (2466), وَمُسْلِمٌ: (2244)].
سَقْيُ المَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.
يَحْفِرُ الْمُسْلِمُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ المَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالعَطْشَانِ.
وَتَلَوُّثُ المِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا لِيَكُونَ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.
4* قِرَاءَةُ القُرْآنِ: مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ.
كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ.
[وَرَدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: (6), وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: (2308)].
وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ.
5*الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ: مِمَّا يُؤْتَى بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ العَامِ: الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
فَفِي الحَدِيثِ عَنْ أَنَسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». [حَدِيثٌ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ, أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (586)].
فَهَذَا فِي كُلِّ الأَيَّامِ؛ فَكَيْفَ فِي رَمَضَانَ؟!
6*الِاعْتِكَافُ: مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا». [أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ: (2044)].
وَالِاعْتِكَافُ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ كَثِيرًا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِهَا، وَآكَدُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ.
وَالاِعتْكِاَفُ هُوَ الخَلْوَةُ المَشْرُوعَةُ، يَفْعَلُهُ المَرْءُ فَيَخْلُو بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ؛ مِنْ أَهْلٍ وَصَاحِبٍ وَوَلَدٍ، وَيُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَالمُعْتَكِفُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَيَقْطَعُ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ.
7*العُمْرَةُ: العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي».
[أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (1782)، وَمُسْلِمٌ: (1256)].
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمِّ سِنَانٍ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً -أَوْ قَالَ-: حَجَّةً مَعِي».
العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ فِي الأَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ العَدْنَانِ ﷺ.
«تَطْهِيرُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ فِي رَمَضَانَ»
1*تَطْهِيرُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ:
وَقَدْ رَهَّب النَّبِيُّ ﷺ الصَّائِمَ مِنَ الغِيبَةِ وَالفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَالكَذِبِ.
فَعِنْدَ البُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (1903)].
وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا اغْتَابَ أَخَاهُ؛ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ لَحْمَهُ مَيْتًا، وَهُوَ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ؛ وَلَكِنْ هَكَذَا هُوَ فِي قُبْحِهِ، هَكَذَا هُوَ فِي شَنَاعَتِهِ.
«إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ؛ فَلَا يَرْفُثْ –وَالرَّفَثُ: هُوَ ذِكْرُ الجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِ الجِمَاعِ عِنْدَ النِّسَاءِ خَاصَّةً- فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ: (1904), وَمُسْلِمٌ: (1151).
«رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ, وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ». [حَدِيثٌ صَحِيحٌ, أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه: (1690)].
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ». [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ: (2564)].
وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَدْنَاهَا مِثْلُ إِتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا: اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ». [الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ, أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ»: (7/ رقم 7151)].
فَأَقلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا، وَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا الَّذِي أَقَلُّ دَرَجَةٍ مِنْهُ كَأَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا؛ أَكْبَرُ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا: عِرْضُ المُسْلِمِ.
وَعَنْ أَنَسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَمَّا عُرِجَ بِي؛ مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظَافِرُ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟».
قَالَ: «هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ».[حَدِيثٌ صَحِيحٌ, أخرجه أَبُو دَاود: (4878)].
النَّبِيُّ ﷺ يُحَذِّرُ مِنْ أكْلِ لُحُومِ النَّاسِ، وَمِنَ الوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِهِمْ، فَتَخْلِيَةُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَرِّبَ المَرْءُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَأَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ؛ لِأَنَّ المَرْءَ قَدْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ؛ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ؛ فَطُرِحَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. [وَرَدَ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: (2581)].
وَلَيْسَتِ الغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ هَذَا بُهْتَانٌ، وَأَمَّا الغِيبَةُ؛ فَأَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ. [وَرَدَ ذَلِكَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: (2589)].
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الغِيبَةِ وَالبُهْتَانِ، وَأَعْيُنَنَا وَسَمْعَنَا مِنَ الخِيَانَةِ، وَجَوَارِحَنَا مِنَ الظُّلْمِ.
إِنَّ هَذَا الدِّينَ العَظِيمَ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نَدْخُلَ عَلَى هَذَا الْمَوْسِمِ الجَلِيلِ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ وَقَدْ أَتْمَمْنَا الِاسْتِعْدَادَ لِلدُّخُولِ عَلَيْهِ؛ حَتَّى إِذَا مَا زَاوَلْنَاهُ؛ لَمْ نَجِدْ فِيهِ عَلَى النَّفْسِ مَشَقَّةً، وَإِنَّمَا أَتَتْ العِبَادَةُ بِالْمَحَبَّةِ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ العَارِفِينَ بِاللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعَدَّ لَهُ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَأَنْ يَدْخُلَ الْمَرْءُ عليه نَاوِيًا أَنْ يَنْسَلِخَ هَذَا الشَّهْرُ عَنْهُ وَقَدْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ المَغْفِرَةَ.
فَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ أَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ، فَإِذَا مَا بَلَّغَنَاهُ أَعَانَنَا عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا مَا قَدَّرَ اللهُ أَنْ يَنْسَلِخَ عَنَّا؛ جَعَلَنا مِنَ الْمَغْفُورِ لَهُمْ وَالْمَرْحُومِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
اللهُمَّ اغْفِرْ لنا وَارْحَمْنَا، وعَافِنَا واعْفُ عنا.
اللهُمَّ أَحْيِنَا مسلِمِينَ، وتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وأَلْحِقْنَا بالصالحينَ.
اللهُمَّ ثَبِّتْنَا على القولِ الثابِتِ يا رَبَّ العالمينَ، وثَبِّتْنَا بالقولِ الثابِتِ يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.
اللهُمَّ ثَبِّتْنَا على الدِّينِ، وأَذِقْنَا حَلَاوَةَ اليَقِينِ، يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هذا جَمْعًا مَرْحُومًا، واجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُومًا، ولا تَجْعَلْ فِينَا ولا حَوْلَنَا شَقِيًّا ولا مَطْرُودًا ولا مَحْرُومًا.
اللهُمَّ خُذْ بأيْدِينَا إليك، وأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عليك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، ويا ذَا القُوَّةِ الْمَتِين.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ على نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ-.
***