((الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْيَقَظَةُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ))
((فَأَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ: الْيَقَظَةُ، وَهِيَ: انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رِقْدَةِ الْغَافِلِينَ، وَمَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ، وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا وَخَطَرَهَا، وَمَا أَشَدَّ إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ!
فَمَنْ أَحَسَّ بِهَا فَقَدْ أَحَسَّ -وَاللهِ- بِالْفَلَاحِ؛ وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْغَفْلَةِ، فَإِذَا انْتَبَهَ شَمَّرَ بِهِمَّتِهِ إِلَى السَّفَرِ إِلَى مَنَازِلِهِ الْأُولَى، وَأَوْطَانِهِ الَّتِي سُبِيَ مِنْها.
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا = مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى = نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
فَأَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلَةِ (الْعَزْمِ)، وَهُوَ الْعَقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الْمَسِيرِ، وَمُفَارَقَةُ كُلِّ قَاطِعٍ وَمُعَوِّقٍ، وَمُرَافَقَةُ كُلِّ مُعِينٍ وَمُوصِلٍ.
وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ يَكُونُ عَزْمُهُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ.
فَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْجَبَتْ لَهُ الْيَقَظَةُ (الْفِكْرَةَ)، وَالْفِكْرَةُ: تَحْدِيقُ الْقَلْبِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ مُجْمَلًا، وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى تَفْصِيلِهِ وَطَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ.
فَإِذَا صَحَّتْ فِكْرَتُهُ أَوْجَبَتْ لَهُ (الْبَصِيرَةَ)، وَهِيَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُبْصِرُ بِهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَمَا أَعَدَّ اللهُ فِي هَذِهِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَفِي هَذِهِ لِأَعْدَائِهِ.
فَأَبْصَرَ النَّاسَ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ، وَقَدْ نَزَلَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ فَأَحَاطَتْ بِهِمْ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ، وَنُصِبَ كُرْسِيُّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَقَدْ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ، وَوُضِعَ الْكِتَابُ، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ، وَقَدْ نُصِبَ الْمِيزَانُ، وَتَطَايَرَتِ الصُّحُفُ، وَاجْتَمَعَتِ الْخُصُومُ، وَتَعَلَّقَ كُلُّ غَرِيمٍ بِغَرِيمِهِ، وَلَاحَ الْحَوْضُ وَأَكْوَابُهُ عَنْ كَثَبٍ، وَكَثُرَ الْعِطَاشُ وَقَلَّ الْوَارِدُ، وَنُصِبَ الْجِسْرُ لِلْعُبُورِ، وَلُزَّ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقُسِمَتِ الْأَنْوَارُ دُونَ ظُلْمَتِهِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّارُ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَحْتَهُ، وَالْمُتَسَاقِطُونَ فِيهَا أَضْعَافُ أَضْعَافِ النَّاجِينَ.
فَيَنْفَتِحُ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ يَرَى بِهَا ذَلِكَ، وَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ يُرِيهِ الْآخِرَةَ وَدَوَامَهَا، وَالدُّنْيَا وَسُرْعَةَ انْقِضَائِهَا)).
((الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا))
((الْحَذَرُ لُغَةً: تَدُورُ مَادَّةُ (ح ذ ر) حَوْلَ مَعْنَى التَّحَرُّزِ وَالتَّيَقُّظِ.
يَقُولُ الْجَوْهَرِيُّ: ((الْحَذَرُ وَالْحِذْرُ: التَّحَرُّزُ، وَقَدْ حَذَرْتُ الشَّيْءَ أَحْذَرُهُ حَذَرًا، وَرَجُلٌ حَذِرٌ وَحَذُرٌ أَيْ: مُتَيَقِّظٌ مُتَحَرِّزٌ، وَالْجَمْعُ حَذِرُونَ وَحَذَارَى وَحَذُرُونَ)).
وَيَقُولُ صَاحِبُ اللِّسَانِ: ((الْحِذْرُ وَالْحَذَرُ: الْخِيفَةُ، حَذِرَهُ يَحْذَرُهُ حَذَرًا، وَالتَّحْذِيرُ: التَّخْوِيفُ، وَالْحَذَارُ: الْمُحَاذَرَةُ)).
وَجَعَلَ الْفَيُّومِيُّ الْحَذَرَ بِمَعْنَى الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّأَهُّبِ فَقَالَ: ((حَذَرَ حَذَرًا مِنْ بَابِ: تَعِبَ وَاحْتَذَرَ وَاحْتَرَزَ، كُلُّهَا بِمَعْنَى: اسْتَعَدَّ وَتَأَهَّبَ فَهُوَ حَاذِرٌ، وَحَذَرَ الشَّيْءَ إِذَا خَافَهُ، فَالشَّيْءُ مَحْذُورٌ أَيْ: مَخُوفٌ)).
وَمَنْ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: ٥٦] أَيْ: مُسْتَعِدُّونَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: ((الْحَاذِرُ: الْمُسْتَعِدُّ، وَالْحَذِرُ: الْمُتَيَقِّظُ، وَقَدْ حَذَّرَهُ الْأَمْرَ، وَأَنَا حَذِيرُكَ مِنْهُ أَيْ: مُحَذِّرُكَ مِنْهُ)).
وَقَالَ الْفَيْرُوزَ آبَادِيُّ: ((فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: ٧١] أَيْ: مَا فِيهِ الْحَذَرُ مِنَ السِّلَاحِ وَغَيْرِهِ)).
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ((يَأْمُرُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَالْعُدَدِ، وَتَكْثِيرِ الْعَدَدِ بِالنَّفِيرِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
وَالْحَذَرُ اصْطِلَاحًا: قَالَ الرَّاغِبُ: ((هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ مُخِيفٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ})).
وَقَالَ الْكَفَوِيُّ: ((الْحَذَرُ: هُوَ اجْتِنَابُ الشَّيْءِ خَوْفًا مِنْهُ)).
((وَقَدْ وَرَدَ الْحَذَرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، مِنْهَا:
الْأَوَّلُ: بِمَعْنَى: الْخَوْفِ وَالْخَطَرِ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: ٢٨] أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ.
الثَّانِي: بِمَعْنَى: الْإِبَاءِ وَالِامْتِنَاعِ: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: ٤١] أَيْ: امْتَنِعُوا.
الثَّالِثُ: بِمَعْنَى: كِتْمَانِ السِّرِّ: {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: ٦٤] أَيْ: مُظْهِرٌ مَا تَكْتُمُونَ)).
وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَافَ إِلَى ذَلِكَ مَعْنَى الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّأَهُّبِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: ٧١].
وَقَالَ الْفَيْرُوزَ آبَادِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ثُمَّ يَخْتَلِفُ الْحَذَرُ: تَارَةً مِنْ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ: {عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: ١٤]، وَتَارَةً حَذَّرَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْ مَكْرِ الْمُنَافِقِينَ: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقين: ٤]، وَتَارَةً حَذَّرَهُ ﷺ مِنْ فِتْنَةِ الْيَهُودِ: {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: ٤٩]، وَتَارَةً حَذَّرَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ فَضِيحَتِهِمْ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: ٦٤]، وَحَذَّرَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ مِنْ عَسْكَرِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: ٥٦]، وَحَذَّرَ الْمُسْلِمَ مِمَّنْ يُخَالِفُ الرَّحْمَن: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: ٦٣])) )).
((وَأَمَّا الْيَقَظَةُ لُغَةً: ((هِيَ الِاسْمُ أَوِ الْمَصْدَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَقِظَ فُلَانٌ يَيْقَظُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ي ق ظ) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ النَّوْمِ، وَالتَّنَبُّهِ لِلشَّيْءِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: يَقُظَ يَيْقَظُ يَقَاظَةً وَيَقَظًا، وَالْوَصْفُ مِنَ الْأَوَّلِ: رَجُلٌ يَقِظٌ وَيَقُظٌ وَهُوَ خِلَافُ النَّائِمِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: رَجُلٌ يَقْظَانُ، وَامْرَأَةٌ يَقْظَى، وَرِجَالٌ وَنِسْوَةٌ أَيْقَاظٌ)).
وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: ((وَرَجُلٌ يَقِظٌ وَيَقُظٌ: كِلَاهُمَا عَلَى النَّسَبِ؛ أَيْ: مُتَيَقِّظٌ حَذِرٌ، وَالْجَمْعُ: أَيْقَاظٌ.
وَتَيَقَّظَ فُلَانٌ لِلْأَمْرِ إِذَا تَنَبَّهَ لَهُ، وَقَدْ يَقَّظْتُهُ، وَيُقَالُ: يَقِظَ فُلَانٌ يَيْقَظُ يَقَظًا وَيَقَظَةً، فَهُوَ يَقْظَانُ)).
وَالْيَقَظَةُ اصْطِلَاحًا: قَالَ الْكَفَوِيُّ: ((التَّيَقُّظُ: كَمَالُ التَّنَبُّهِ وَالتَّحَرُّزِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي)) )).
((الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
لَمَّا كَانَ الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْحَيْطَةُ مَطَالِبَ إِيمَانِيَّةً، وَحَاجَاتٍ بَشَرِيَّةً ضَرُورِيَّةً لَا غِنَى لِلْمُؤْمِنِ عَنْهَا؛ أَوْلَاهَا الْقُرْآنُ اهْتِمَامًا خَاصًّا، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].
((الْخِطَابُ هُنَا مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا صَدَّرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْخِطَابَ بِـ(يَاءِ النِّدَاءِ) دَلَّ هَذَا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنَبِّهَ الْمُخَاطِبَ لَهُ، فَيُنَادَى حَتَّى يَنْتَبِهَ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِهِ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ مِنْ نَوَاقِصِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ نَوَاقِضِ الْإِيمَانِ حَسَبَ مَا أُمِرَ بِهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ وَاشْتُهِرَ: «إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَأَرْعِهَا سَمْعَك -يَعْنِي: اسْتَمِعْ لَهَا جَيِّدًا-؛ فَإِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، وَإِمَّا شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ».
وَصَدَقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، إِمَّا خَيْرٌ نُؤْمَرُ بِهِ، وَإِمَّا شَرٌّ نُنْهَى عَنْهُ، وَإِمَّا خَبَرٌ نُحَذَّرُ مِنْهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: ٣٤]، هَذِهِ مَا فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، لَكِنْ فِيهَا التَّحْذِيرُ مِنْ طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: ٧١]، الْحِذْرُ يَعْنِي: التَّخَوُّفَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَعْدَائِنَا الْكُفَّارِ.
{خُذُوا حِذْرَكُمْ} مِنْ أَعْدَائِكُمْ؛ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنَ الْكَافِرِينَ الْمُصَرِّحِينَ بِالْكُفْرِ، وَمِنَ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يُغْرُونَكُمْ فِي الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي دُونَ الْكُفْرِ، وَمِنْ كُلِّ أَحَدٍ يَصُدُّكُمْ عَنْ دِينِ اللهِ، {خُذُوا حِذْرَكُمْ}.
نَأْخُذُ الْحِذْرَ مِنْ غَزْوِ هَؤُلَاءِ لَنَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالسِّلَاحِ، أَوْ كَانَ بِالْفِكْرِ، أَوْ كَانَ بِالْخُلُقِ، وَمَعْلُومٌ -الْآنَ- أَنَّ أَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ يَغْزُونَ الْمُسْلِمِينَ بِكُلِّ سِلَاحٍ، وَيَنْظُرُونَ السِّلَاحَ الْمُنَاسِبَ لِلْأُمَّةِ فَيَغْزُونَهَا بِهِ، إِذَا كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ لِلْأُمَّةِ أَنْ يَغْزُوهَا بِالسِّلَاحِ فَعَلُوا وَقَاتَلُوا وَهَاجَمُوا، إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمُمْكِنِ نَظَرُوا هَلْ يَغْزُونَنَا بِالْأَفْكَارِ؛ يَأْتُونَ بِأَفْكَارٍ مُنْحَرِفَةٍ إِلْحَادِيَّةٍ، إِذَا أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فَعَلُوا، إِذَا لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ كَانَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الْوَعْيِ وَالتَّوْحِيدِ وَالِارْتِبَاطِ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالُوا: إِذَنْ؛ نَغْزُو بِطَرِيقٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ الْخُلُقُ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهَا كُلَّ مَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهَا مِنَ الْمَجَلَّاتِ وَالْإِذَاعَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
هَذَا الْغَزْوُ الْآنَ غَزْوٌ خُلُقِيٌّ، وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ غَزْوٌ فِكْرِيٌّ.
إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَكُونُ سِلَاحًا عَلَيْنَا)).
إِنَّ أَعْظَمَ مَا حَذَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ النَّاسَ الشِّرْكُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}: أَيْ؛ لَا يَعْفُو عَنْ عَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ يَعْبُدُ غَيْرَهُ.
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}: أَيْ؛ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ.
{لِمَنْ يَشَاءُ}: أَيْ؛ لِمَنْ يَشَاءُ الْمَغْفِرَةَ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ، حَسَبَ فَضْلِهِ وَحِكْمَتِهِ.
اللهُ -سُبْحَانَهُ- يُخْبِرُ خَبَرًا مُؤَكَّدًا، أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لِعَبْدٍ لَقِيَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِهِ؛ لِيُحَذِّرَنَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ لِمَنْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ؛ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا؛ لِئَلَّا نَقْـنَطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَقَالَ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -الْخَلِيلُ: هُوَ الَّذِي بَلَغَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْمَحَبَّةِ؛ وَالْمُرَادُ: إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: اجْعَلْنِي وَإِيَّاهُمْ فِي جَانِبٍ وَحَيِّزٍ بَعِيدٍ عَنْ ذَلِكَ.
وَالْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَهُوَ: مَا كَانَ مَنْحُوتًا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، أَوْ عَلَى صُورَةِ أَيِّ حَيَوَانٍ، وَالْوَثَنُ أَعَمُّ؛ فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى يُسَمَّى: وَثَنًا، وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)).
دَعَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَنْ يَجْعَلَهُ هُوَ وَبَنِيهِ فِي جَانِبٍ بَعِيدٍ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَأَنْ يُبَاعِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِهَا عَظِيمَةٌ وَلَا يَأْمَنُ الْوُقُوعَ فِيهَا.
الْآيَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ الْخَوْفِ مِنَ الشِّرْكِ.
فِي الْآيَتَيْنِ: أَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَاَلى أَخْبَرَ: أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَأَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ مِنَ الذُّنُوبِ إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْهُ الْعَبْدُ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ غَفَرَهُ بِلَا تَوْبَةٍ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَ بِهِ، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى خُطُورَةِ الشِّرْكِ -أَيْضًا-.
وَفِيهِمَا: الْخَوْفُ مِنَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَهُوَ إِمَامُ الْحُنَفَاءِ الَّذِي كَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ خَافَ الشِّرْكَ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!
وَفِيهِمَا: الرَّدُّ عَلَى الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا يَقَعُ الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ فَأَمِنُوا مِنْهُ، فَوَقَعُوا فِيهِ؛ وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمَنْ يَأْمَنُ الْبَلَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ؟!!)). رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَهَذَا يُوجِبُ لِلْقَلْبِ الْحَيِّ أَنْ يَخَافَ مِنَ الشِّرْكِ.
هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ قَوْلُ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: قِيلَ: الْمُرَادُ بِبَنِيهِ: بَنُوهُ لِصُلْبِهِ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مِنْ صُلْبِهِ سِوَى إِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ ذُرِّيَّتُهُ وَمَا تَوَالَدَ مِنْ صُلْبِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ، وَذَلِكَ لِلْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى دَعْوَتِهِ لِلنَّاسِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
وَلَكِنْ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ أَلَّا تُجَابَ دَعْوَتُهُ فِي بَعْضِهِمْ؛ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَعَا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَ أُمَّتِهِ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُجِبِ اللهُ دُعَاءَهُ.
وَأَيْضًا، يَمْنَعُ مِنَ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَلَيْسَ لِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَبْنَاءِ سِوَى إِسْمَاعِيلَ، وَإِسْحَاقَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ {وَاجْنُبْنِي}: أَيِ: اجْعَلْنِي فِي جَانِبٍ وَالْأَصْنَامَ فِي جَانِبٍ؛ وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا لَوْ قَالَ: امْنَعْنِي وَبَنِيَّ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي جَانِبٍ عَنْهَا كَانَ أَبْعَدَ.
وَقَالَ -تَعَالَى- فِي كَشْفِ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يَسْعَى جَاهِدًا لِصَرْفِ الْمُؤْمِنِ عَنْ إِيمَانِهِ، وَفِتْنَتِهِ عَنْ دِينِهِ، وَلَافِتًا لِوُجُوبِ أَخْذِ الْحَيْطَةِ وَالْحَذَرِ لِمُوَاجَهَةِ كَيْدِهِ: {يَا يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ -تَعَالَى- مُحَذِّرًا بَنِي آدَمَ مِنْ إِبْلِيسَ وَقَبِيلِهِ، وَمُبَيِّنًا لَهُمْ عَدَاوَتَهُ الْقَدِيمَةَ لِأَبِي الْبَشَرِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي سَعْيِهِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ، وَالتَّسَبُّبِ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ بَعْدَمَا كَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا هَذَا إِلَّا عَنْ عَدَاوَةٍ أَكِيدَةٍ؛ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الْكَهْفِ: 50].
فَاحْذَرُوا أَنْ تَفْتَتِنُوا بِوَسْوَسَتِهِ فَتُعَاقَبُوا، كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِمَا إِيَّاهُ بَعْدَمَا تَسَبَّبَ فِي نَزْعِ لِبَاسِهِمَا عَنْهُمَا لِيُرِيَهُمَا عَوْرَاتِهِمَا)).
وَقَالَ -تَعَالَى- مُحَذِّرًا عِبَادَهُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235].
((أَيْ: فَانْوُوا الْخَيْرَ، وَلَا تَنْوُوا الشَّرَّ؛ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ)).
وَقَالَ -تَعَالَى- دَاعِيًا عِبَادَهُ إِلَى الْيَقَظَةِ فِي كَافَّةِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْحَذَرِ مِنْ جِنَايَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْقَبِيحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ: {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِمَا فِي الصُّدُورِ؛ سَوَاءٌ أَخْفَاهُ الْعِبَادُ أَوْ أَبْدَوْهُ، كَمَا أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَمَعَ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ فَهُوَ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي لَا يَمْتَنِعُ عَنْ إِرَادَتِهِ مَوْجُودٌ.
وَلَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ مِنْ عَظَمَتِهِ وَسَعَةِ أَوْصَافِهِ مَا يُوجِبُ لِلْعِبَادِ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ؛ ذَكَرَ لَهُمْ -أَيْضًا- دَاعِيًا آخَرَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ وَتَقْوَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ، وَأَعْمَالَهُمْ حِينَئِذٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مُحْضَرَةٌ؛ فَحِينَئِذٍ يَغْتَبِطُ أَهْلُ الْخَيْرِ بِمَا قَدَّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَتَحَسَّرُ أَهْلُ الشَّرِّ إِذَا وَجَدُوا مَا عَمِلُوهُ مُحْضَرًا، وَيَوَدُّونَ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.
فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ أَنَّهُ سَاعٍ إِلَى رَبِّهِ، وَكَادِحٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُلَاقِيَ رَبَّهُ وَيُلَاقِيَ سَعْيَهُ؛ أَوْجَبَ لَهُ أَخْذَ الْحَذَرِ وَالتَّوَقِّيَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُوجِبُ الْفَضِيحَةَ وَالْعُقُوبَةَ، وَالِاسْتِعْدَادَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوجِبُ السَّعَادَةَ وَالْمَثُوبَةَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وَذَلِكَ بِمَا يُبْدِي لَكُمْ مِنْ أَوْصَافِ عَظَمَتِهِ، وَكَمَالِ عَدْلِهِ، وَشِدَّةِ نَكَالِهِ، وَمَعَ شِدَّةِ عِقَابِهِ فَإِنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَمِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ خَوَّفَ الْعِبَادَ وَزَجَرَهُمْ عَنِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْعُقُوبَاتِ: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}؛ فَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ سَهَّلَتْ لَهُمُ الطُّرُقَ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا الْخَيْرَاتِ، وَرَأْفَتُهُ وَرَحْمَتُهُ حَذَّرَتْهُمْ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْمَكْرُوهَاتِ.
فَنَسْأَلُهُ -تَعَالَى- أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْنَا إِحْسَانَهُ بِسُلُوكِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالسَّلَامَةِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلَى الْجَحِيمِ)).
وَقَالَ -تَعَالَى- مُبَيِّنًا مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي احْتِيَاطِهِ لِأَمْرِ دِينِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ يَقِظًا فِي الْبُعْدِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَنْهُ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
(({تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أَي: الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ وَبَيَّنَهَا بِنَفْسِهِ {فَلَا تَقْرَبُوهَا} أَيْ: لَا تَجَاوَزُوهَا وَتَعْتَدُوهَا)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92].
((طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَاحِدَةٌ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ كَذَلِكَ.
وَهَذَا الْأَمْرُ أَعَمُّ الْأَوَامِرِ؛ فَإِنَّهُ -كَمَا تَرَى- يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، وَقَوْلُهُ: {وَاحْذَرُوا} أَيْ: مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الشَّرَّ وَالْخُسْرَانَ الْمُبِينَ، {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} عَمَّا أُمِرْتُمْ بِهِ وَنُهِيتُمْ عَنْهُ {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ، فَإِنِ اهْتَدَيْتُمْ فَلِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْهَا، وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُكُمْ، وَالرَّسُولُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَمَا حُمِّلَ بِهِ)).
وَحَذَّرَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنْ مُخَالَفَةِ مَنْهَجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَوَعَّدَ مَنْ يُخَالِفُهُ بِعُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
(({فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أَيْ: عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ سَبِيلُهُ وَمِنْهَاجُهُ وَطَرِيقَتُهُ وَسُنَّتُهُ وَشَرِيعَتُهُ، فَتُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ قُبِلَ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ وَفَاعِلِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) وَغَيْرِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)).
فَلْيَحْذَرْ وَلْيَخْشَ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرَّسُولِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ؛ مِنْ كُفْرٍ، أَوْ نِفَاقٍ، أَوْ بِدْعَةٍ، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا؛ بِقَتْلٍ، أَوْ حَدٍّ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ)).
وَحَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْحَذَرِ مِنَ الْآخِرَةِ، وَالْخَوْفِ مِنْ عَذَابِهَا، وَأَثْنَى عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
((أَهَذَا الْكَافِرُ الْمُتَمَتِّعُ بِكُفْرِهِ خَيْرٌ، أَمْ مَنْ هُوَ عَابِدٌ لِرَبِّهِ طَائِعٌ لَهُ، يَقْضِي سَاعَاتِ اللَّيْلِ فِي الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ للهِ، يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَيَأْمُلُ رَحْمَةَ رَبِّهِ؟!
قُلْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ-: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ رَبَّهُمْ وَدِينَهُمُ الْحَقَّ، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟!
لَا يَسْتَوُونَ.
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ وَيَعْرِفُ الْفَرْقَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ)).
(({يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أَيْ: فِي حَالِ عِبَادَتِهِ خَائِفٌ رَاجٍ، وَلَا بُدَّ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَأَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ هُوَ الْغَالِبَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الِاحْتِضَارِ فَلْيَكُنِ الرَّجَاءُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ)).
وَقَالَ -تَعَالَى- مُنَبِّهًا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ضَرُورَةِ التَّيَقُّظِ لِخِدَاعِ الْمُنَافِقِينَ وَحَلَاوَةِ مَنْطِقِهِمْ، وَأَخْذِ الْحَذَرِ وَالْحَيْطَةِ مِنْ خُبْثِهِمْ وَمَكْرِهِمْ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [المُنافِقون: 4].
(({وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} مِنْ رِوَائِهَا وَنَضَارَتِهَا، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} أَيْ: مِنْ حُسْنِ مَنْطِقِهِمْ تَسْتَلِذُّ لِاسْتِمَاعِهِ، فَأَجْسَامُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ مُعْجِبَةٌ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْهُدَى الصَّالِحِ شَيْءٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا، وَلَا يُنَالُ مِنْهَا إِلَّا الضَّرَرُ الْمَحْضُ، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}؛ وَذَلِكَ لِجُبْنِهِمْ، وَفَزَعِهِمْ، وَضَعْفِ قُلُوبِهِمْ، وَرَيْبِهَا، يَخَافُونَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ.
فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعَدُوُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ الْبَارِزَ الْمُتَمَيِّزَ أَهْوَنُ مِنَ الْعَدُوِّ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِهِ، وَهُوَ مُخَادِعٌ مَاكِرٌ، يَزْعُمُ أَنَّهُ وَلِيٌّ، وَهُوَ الْعَدُوُّ الْمُبِينُ؛ {فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} أَيْ: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَتْ أَدِلَّتُهُ، وَاتَّضَحَتْ مَعَالِمُهُ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي لَا يُفِيدُهُمْ إِلَّا الْخَسَارَ وَالشَّقَاءَ!!)).
((هُمُ الْعَدُوُّ -يَا مُحَمَّدُ- فَاحْذَرْهُمْ؛ فَإِنَّ أَلْسِنَتَهُمْ إِذَا لَقُوكُمْ مَعَكُمْ، وَقُلُوبَهُمْ عَلَيْكُمْ مَعَ أَعْدَائِكُمْ؛ فَهُمْ عَيْنٌ لِأَعْدَائِكُمْ عَلَيْكُمْ)).
وَحَذَّرَنَا رَبُّنَا الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِنِعْمَتَيِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 14-15].
((هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِالْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ؛ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ، وَالْعَدُوُّ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ لَكَ الشَّرَّ، وَوَظِيفَتُكَ الْحَذَرُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، فَنَصَحَ -تَعَالَى- عِبَادَهُ أَنْ تُوجِبَ لَهُمْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ الِانْقِيَادَ لِمَطَالِبِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ الَّتِي فِيهَا مَحْذُورٌ شَرْعِيٌّ، وَرَغَّبَهُمْ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَقْدِيمِ مَرْضَاتِهِ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَحَابِّ الْغَالِيَةِ، وَأَنْ يُؤْثِرُوا الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الْمُنْقَضِيَةِ.
وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ عَلَى الْعَبْدِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ يُوهِمُ الْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ وَعِقَابَهُمْ؛ أَمَرَ -تَعَالَى- بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ، وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ وَالْعَفْوِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ، فَقَالَ: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
فَمَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ صَفَحَ صَفَحَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ غَفَرَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ عَامَلَ اللَّهَ فِيمَا يُحِبُّ، وَعَامَلَ عِبَادَهُ بِمَا يُحِبُّونَ وَيَنْفَعُهُمْ؛ نَالَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَمَحَبَّةَ عِبَادِهِ، وَاسْتَوْثَقَ لَهُ أَمْرُهُ)).
((يَقُولُ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ: إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَدُوُّ الزَّوْجِ وَالْوَالِدِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ يَلْتَهِي بِهِ عَنِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {فَاحْذَرُوهُمْ}: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي عَلَى دِينِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ} قَالَ: يَحْمِلُ الرَّجُلَ عَلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ أَوْ مَعْصِيَةِ رَبِّهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ مَعَ حُبِّهِ إِلَّا أَنْ يُطِيعَهُ، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ فِتْنَةٌ، أَيِ: اخْتِبَارٌ وَابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ لِخَلْقِهِ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ)).
وَحَذَّرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الِاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا الْفَانِيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
((يَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، {حَقٌّ} أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا مِرْيَةَ، وَلَا تَرَدُّدَ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَعْدُهُ حَقًّا؛ فَتَهَيَّئُوا لَهُ، وَبَادِرُوا أَوْقَاتَكُمُ الشَّرِيفَةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا يَقْطَعْكُمْ عَنْ ذَلِكَ قَاطِعٌ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بِلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَطَالِبِهَا النَّفْسِيَّةِ؛ فَتُلْهِيَكُمْ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ، {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ})).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
((هَذِهِ حَقِيقَةُ الدُّنْيَا وَحَقِيقَةُ الْآخِرَةِ، أَمَّا حَقِيقَةُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ؛ لَعِبٌ فِي الْأَبْدَانِ، وَلَهْوٌ فِي الْقُلُوبِ، فَالْقُلُوبُ لَهَا وَالِهَةٌ، وَالنُّفُوسُ لَهَا عَاشِقَةٌ، وَالْهُمُومُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا كَلَعِبِ الصِّبْيَانِ، وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَإِنَّهَا {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فِي ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، وَبَقَائِهَا وَدَوَامِهَا، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ؛ مِنْ نَعِيمِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَكَثْرَةِ السُّرُورِ وَالْأَفْرَاحِ، وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ أَوَامِرَ اللهِ، وَيَتْرُكُونَ نَوَاهِيَهُ وَزَوَاجِرَهُ {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَيْ: أَفَلَا يَكُونُ لَكُمْ عُقُولٌ، بِهَا تُدْرِكُونَ أَيَّ الدَّارَيْنِ أَحَقُّ بِالْإِيثَارِ!)).
وَأَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإِعْدَادِ الْعُدَّةِ لِجِهَادِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71].
((يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ التَّأَهُّبَ لَهُمْ بِإِعْدَادِ الْأَسْلِحَةِ وَالْعُدَدِ، وَتَكْثِيرِ الْعَدَدِ بِالنَّفِيرِ فِي سَبِيلِهِ.
{ثُبَاتٍ} أَيْ: جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ، وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ، وَسَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ.
{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} أَيْ: عُصَبًا، يَعْنِي: سَرَايَا مُتَفَرِّقِينَ {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} يَعْنِي: كُلُّكُمْ)).
((أَمَرَ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ حِذْرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْأَخْذَ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَيُسْتَدْفَعُ مَكْرُهُمْ وَقُوَّتُهُمْ؛ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ، وَتَعَلُّمِ الرَّمْيِ وَالرُّكُوبِ، وَتَعَلُّمِ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا بِهِ يُعْرَفُ مَدَاخِلُهُمْ وَمَخَارِجُهُمْ وَمَكْرُهُمْ، وَالنَّفِيرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَلِهَذَا قَالَ: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} أَيْ: مُتَفَرِّقِينَ بِأَنْ تَنْفِرَ سَرِيَّةٌ أَوْ جَيْشٌ، وَيُقِيمَ غَيْرُهُمْ {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}، وَكُلُّ هَذَا تَبَعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وَالنِّكَايَةِ، وَالرَّاحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ})).
وَمِنْ مَعَالِمِ أَهَمِّيَّةِ الْإِعْدَادِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَدَلَائِلِهِ: قَوْلُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وَأَعِدُّوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.
وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَزَّةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ، وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدَوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتُرْهِبُونَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْأَعْدَاءِ الظَّاهِرِينَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَظْهَرُ لَكُمْ عَدَاوَتُهُمُ الْآنَ، لَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُمْ.
وَإِعْدَادُ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ الْمَالِيِّ، فَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقِصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]، هَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْمَادِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَقْتَضِي أَخْذَ الْحَذَرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَبِكُلِّ طَرِيقٍ، فَجَمِيعُ الصِّنَاعَاتِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَلِيلَةِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالتَّحَصُّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ.
وَشَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَلَاةَ الْخَوْفِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَاحَةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَخَافُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ أَنْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا (101) وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 101-103].
((هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَصْلٌ فِي رُخْصَةِ الْقَصْرِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، يَقُولُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أَيْ: فِي السَّفَرِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّرَخُّصَ فِي أَيِّ سَفَرٍ كَانَ؛ وَلَوْ كَانَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَغَيْرُهُمْ، فَلَمْ يُجَوِّزُوا التَّرْخِيصَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ؛ تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ بِالْمَعْنَى وَالْمُنَاسَبَةِ؛ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ سُهُولَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِذَا سَافَرُوا أَنْ يَقْصُرُوا وَيُفْطِرُوا، وَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يُنَاسِبُ حَالُهُ التَّخْفِيفَ.
وَقَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} أَيْ: لَا حَرَجَ وَلَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ كَوْنَ الْقَصْرِ هُوَ الْأَفْضَلَ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ إِزَالَةٌ لِبَعْضِ الْوَهْمِ الْوَاقِعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ؛ بَلْ وَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ...} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَإِزَالَةُ الْوَهْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبُهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ التَّامَّةِ، وَلَا يُزِيلُ هَذَا عَنْ نُفُوسِ أَكْثَرِهِمْ إِلَّا بِذِكْرِ مَا يُنَافِيهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّوْسِعَةِ وَالتَّرْخِيصِ، وَالرَّحْمَةِ بِالْعِبَادِ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ.
أَتَى بِصِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} أَيْ: إِذَا صَلَّيْتَ بِهِمْ صَلَاةً تُقِيمُهَا، وَتُتِمُّ مَا يَجِبُ فِيهَا وَيَلْزَمُ؛ فَعَلِّمْهُمْ مَا يَنْبَغِي لَكَ وَلَهُمْ فِعْلُهُ.
ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} أَيْ: وَطَائِفَةٌ قَائِمَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي: {فَإِذَا سَجَدُوا} أَيِ: الَّذِينَ مَعَكَ، أَيْ: أَكْمَلُوا صَلَاتَهُمْ، وَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالسُّجُودِ لِيَدُلَّ عَلَى فَضْلِ السُّجُودِ، وَأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا؛ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهَا.
{فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} وَهُمُ الطَّائِفَةُ الَّذِينَ قَامُوا إِزَاءَ الْعَدُوِّ {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَبْقَى بَعْدَ انْصِرَافِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى مُنْتَظِرًا لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا حَضَرُوا صَلَّى بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ يَنْتَظِرُهُمْ حَتَّى يُكْمِلُوا صَلَاتَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ؛ فَإِنَّهَا صَحَّتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ كُلُّهَا جَائِزَةٌ.
وَتَدُلُّ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلَ أَنْ يُصَلُّوا بِإِمَامٍ وَاحِدٍ؛ وَلَوْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْإِخْلَالَ بِشَيْءٍ لَا يُخَلُّ بِهِ لَوْ صَلَّوْهَا بِعِدَّةِ أَئِمَّةٍ، وَذَلِكَ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَاتِّفَاقِهِمْ، وَعَدَمِ تَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَوْقَعَ هَيْبَةً فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ.
وَأَمَرَ -تَعَالَى- بِأَخْذِ السِّلَاحِ وَالْحَذَرِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَرَكَةٌ وَاشْتِغَالٌ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً؛ وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْحَرِيصِينَ غَايَةَ الْحِرْصِ عَلَى الْإِيقَاعِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَالْمَيْلِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْتِعَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَذَرَ مَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَطَرٍ أَنْ يَضَعَ سِلَاحَهُ؛ وَلَكِنْ مَعَ أَخْذِ الْحَذَرِ، فَقَالَ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}.
وَمِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ حِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْصَارَ دِينِهِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ حَيْثُمَا ثَقِفُوهُمْ، وَيَأْخُذُوهُمْ وَيَحْصُرُوهُمْ، وَيَقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَيَحْذَرُوهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَغْفُلُوا عَنْهُمْ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَنَالَ الْكُفَّارُ بَعْضَ مَطْلُوبِهِمْ فِيهِمْ.
فَلِلهِ أَعْظَمُ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَيَّدَهُمْ بِمَعُونَتِهِ وَتَعَالِيمِهِ الَّتِي لَوْ سَلَكُوهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَمْ تُهْزَمْ لَهُمْ رَايَةٌ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ.
وَفِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تُكْمِلُ جَمِيعَ صَلَاتِهَا قَبْلَ ذَهَابِهِمْ إِلَى مَوْضِعِ الْحَارِسِينَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَثْبُتُ مُنْتَظِرًا لِلطَّائِفَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلًا ذَكَرَ أَنَّ الطَّائِفَةَ تَقُومُ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ عَنْ مُصَاحَبَتِهِمْ لَهُ، ثُمَّ أَضَافَ الْفِعْلَ بَعْدُ إِلَيْهِمْ دُونَ الرَّسُولِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَدْ صَلَّوْا، وَأَنَّ جَمِيعَ صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ مَعَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً فِي رَكْعَتِهِمُ الْأُولَى، وَحُكْمًا فِي رَكْعَتِهِمُ الْأَخِيرَةِ، فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ انْتِظَارَ الْإِمَامِ إِيَّاهُمْ حَتَّى يُكْمِلُوا صَلَاتَهُمْ، ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِلْمُتَأَمِّلِ)).
وَلَقَدْ دَعَتِ السُّنَّةُ الْمُشَرَّفَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ نُصُوصِهَا الْمُسْلِمَ إِلَى الْأَخْذِ بِالْحَذَرِ وَالْحَيْطَةِ وَالتَّيَقُّظِ فِي شُؤُونِهِ كُلِّهَا، وَحَذَّرَتْهُ مِنَ الطَّيْشِ وَالْغَفْلَةِ وَقِصَرِ النَّظَرِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ)).
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَكَانَ أَكْثَرُ خُطْبَتِهِ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ عَنِ الدَّجَّالِ، وَحَذَّرَنَاهُ، فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ قَالَ: «إنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَإِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ، وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شِمَالًا؛ يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا؛ فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي؛ إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي، ثُمَّ يُثَنِّي فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَأُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ.
فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللهِ، وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ «الْكَهْفِ»، فَتَكُونَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتِ النَّارُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتَ لَكَ أَبَاكَ وَأُمَّكَ؛ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولَانِ: يَا بُنِيَّ! اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا، وَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ، حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الْآنَ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللهُ، وَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللهِ، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللهِ! مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ)).
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ..} إِلَى: {أُولُوا الْأَلْبابِ} [آل عمران: 7].
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ».
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ فَاحْذَرُوهُمْ».
وَعَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ؛ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ؛ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟)).
فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ! إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ؛ فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ».
فَقَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا)).
فَقَالَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ».
قَالُوا: ((وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟)).
قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ)).
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟)).
قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ؛ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ﷺ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ؛ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((الْمَثَلُ التَّطْبِيقِيُّ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْحَذَرِ))
عَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا)).
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: ((مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي)).
فَقَالَ عَازِبٌ: ((لَا، حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ)).
قَالَ: ((ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ، ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِيهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا، فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟
قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ، فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قُلْتُ: فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا؟
قَالَ: نَعَمْ.
فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا؛ ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالْأُخْرَى، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ((بَلَى)).
فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ: ((لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ الصَّلَاةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ آبَائِهِمْ بِظَعْنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ)).
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: ((تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ)).
ثُمَّ قَالَ: ((مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟)).
قَالَ أنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: ((أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ)).
قَالَ: ((فَارْكَبْ))، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ، وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ)).
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى مُصَلَّاهُ فرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟)).
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَحْسَسْنَاهُ)).
فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَبْشِرُوا؛ فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ)).
فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَلَّمَ فَقَالَ: ((إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا)).
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟)).
قَالَ: ((لَا؛ إِلَّا مُصَلِّيًا، أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً)).
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((قَدْ أَوْجَبْتَ؛ فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بُسَيْسَةَ عَيْنًا يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى بَعْضَ نِسَائِهِ، قَالَ: فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ: ((إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا)).
فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ أَنَّهُمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: ((لَا؛ إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا)).
فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُؤْذِنُهُ)).
فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)).
قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ حُمَامٍ الْأَنْصَارِيُّ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟!)).
قَالَ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((بَخٍ بَخٍ)).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِ: بَخٍ بَخٍ؟)).
قَالَ: ((لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا)).
قَالَ: ((فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا)).
فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: ((لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ؛ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ)).
قَالَ: ((فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- -يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ- قَالَا: ((خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَّةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِـ(ذِي الْحُلَيْفَةِ) قَلَّدَ النَّبِيُّ ﷺ الْهَدْيَ، وَأَشْعَرَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ.
وَسَارَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى إِذَا كَانَ بِـ(غَدِيرِ الْأَشْطَاطِ) قَرِيبًا مِنْ (عُسْفَانَ) أَتَاهُ عَيْنُهُ الْخُزَاعِيُّ فَقَالَ: ((إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيٍّ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ، وَجَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ، وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ)).
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشِيرُوا عَلَيَّ؛ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ عَلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ، وَإِنْ نَجَوْا يَكُونُوا عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ، أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ؛ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟)).
فَقَالُ أَبُو بَكْرٍ: ((اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ؛ وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَرُوحُوا إِذَنْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ،وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ، صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ؛ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ؛ انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا، قَالَ جَابِرٌ: كَمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُمْ هَؤُلَاءِ بِأُمَرَائِهِمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ كَثِيرٍ، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ فِي سَفَرٍ لَهُ: «مَنْ يَكْلَؤُنَا اللَّيْلَةَ؛ لَا نَرْقُدُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ؟».
قَالَ بِلَالٌ: ((أَنَا))، فَاسْتَقْبَلَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، فَضَرَبَ عَلَى آذَانِهِمْ حَتَّى أَيْقَظَهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، فَقَامُوا، فَقَالَ: «تَوَضَّؤُوا»، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّوْا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ صَلَّوُا الْفَجْرَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
((ثَمَرَاتُ الْحَذَرِ وَالْيَقَظَةِ))
إِنَّ الْحَذَرَ وَالْحَيْطَةَ وَالْيَقَظَةَ وَإِعْدَادَ الْأُهْبَةِ تُثْمِرُ ثَمَرَاتٍ عَاجِلَةً فِي الدُّنْيَا وَآجِلَةً فِي الْآخِرَةِ؛ فَـ((مِنْ فَوَائِدِ الْحَذَرِ:
*أَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى السَّلَامَةِ، وَتَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
*الْحَذَرُ صِفَةٌ إِيمَانِيَّةٌ تَقِي الْمُؤْمِنَ شَرَّ الْمَعَاصِي، وَمِنَ الشَّرِّ وَأَهْلِهِ، وَالشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَمِنَ النَّفْسِ وَهَوَاهَا.
*النَّبِيُّ ﷺ ضَرَبَ الْمَثَلَ الْأَعْلَى فِي تَحْذِيرِ أُمَّتِهِ؛ فَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ.
*عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحْذَرُوا، وَيَنْصَحَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؛ حَتَّى يَكُونُوا مُجْتَمَعًا سَلِيمًا مُعَافًى.
*الْحَذَرُ دَلِيلُ الْيَقَظَةِ وَالْإِدْرَاكِ عِنْدَ الْمُسْلِمِ.
*مِنْ فَوَائِدِ الْحَذَرِ: أَخْذُ الْأُهْبَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِمُوَاجَهَةِ الْأَعْدَاءِ.
*الْحَذَرُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ وَاجِبٌ إِيمَانِيٌّ)).
*((وَمِنْ فَوَائِدِ الْيَقَظَةِ: أَنَّهَا تَعْمُرُ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ بِحُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ.
*وَتُبَصِّرُ الْمُؤْمِنَ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ وَالنُّورِ.
*وَبِهَا يَلْتَزِمُ الْمُؤْمِنُ حُدُودَ اللهِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا.
*وَيَزْهَدُ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَيُحِبَّهُ النَّاسُ.
*وَبِالْيَقَظَةِ يَسْتَنِيرُ قَلْبُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ.
*وَبِهَا يَسِيرُ عَلَى هُدًى وَبَصِيرَةٍ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
*وَيَشْعُرُ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
((تَيَّقَظْ وَانْتَبِهْ!!))
تَيَّقْظْ! فَإِنَّ الْيَقَظَةَ هِيَ أَوَّلُ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ، فَإِنَّ الْغَافِلَ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَالتَّزَوُّدِ لِمَعَادَهِ؛ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ، بَلْ أَسْوَءُ حَالًا مِنْهُ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ وَعْدَ اللهِ وَوَعِيدَهُ، وَمَا يَتَقَاضَاهُ أَوَامِرُ الرَّبِّ -تَعَالَى- وَنَوَاهِيهِ وَأَحْكَامُهُ مِنَ الْحُقُوقُ.
لَكِنْ يَحْجُبُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِدْرَاكِ، وَيُقْعِدُهُ عَنْ الِاسْتِدْرَاكِ؛ سِنَةُ الْقَلْبِ، وَهِيَ غَفْلَتُهُ، الَّتِي رَقَدَ فِيهَا فَطَالَ رُقَادُهُ، وَرَكَدَ وَأَخْلَدَ إِلَى نَوَازِعِ الشَّهَوَاتِ، فَاشْتَدَّ إِخْلَادُهُ، وَانْغَمَسَ فِي غِمَارِ الشَّهَوَاتِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْعَادَاتُ وَمُخَالَطَةُ أَهْلِ الْبَطَالَاتِ، وَرَضِيَ بِالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ إِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ، فَهُوَ فِي رُقَادِهِ مَعَ النَّائِمِينَ، وَفِي سَكْرَتِهِ مَعَ الْمَخْمُورِينَ.
فَمَتَى انْكَشَفَ عَنْ قَلْبِهِ سِنَةُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ بِزَجْرَةٍ مِنْ زَوَاجِرِ الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، اسْتَجَابَ فِيهَا لِوَاعِظِ اللهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ هِمَّةٍ عَالِيَةٍ أَثَارَهَا مِعْوَلُ الْفِكْرِ فِي الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، فَضَرَبَ بِمِعْوَلِ فِكْرِهِ، وَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً أَضَاءَتْ لَهُ مِنْهَا قُصُورُ الْجَنَّةِ فَقَالَ:
أَلَا يَا نَفْسُ وَيْحَكِ سَاعِدِينِي = بِسَعْيٍ مِنْكِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي
لَعَلَّكِ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَفُوزِي = بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي تِلْكَ الْعَلَالِي
فَأَثَارَتْ تِلْكَ الْفِكْرَةُ نُورًا، رَأَى فِي ضَوْئِهِ مَا خُلِقَ لَهُ، وَمَا سَيَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ إِلَى دُخُولِ دَارِ الْقَرَارِ، وَرَأَى سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَمَ وَفَائِهَا لِبَنِيهَا، وَقَتْلَهَا لِعُشَّاقِهَا، وَفِعْلَهَا بِهِمْ أَنْوَاعَ الْمَثُلَاتِ.
فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سَاقِ عَزْمِهِ، قَائِلًا: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ، فَاسْتَقْبَلَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَدْرِكًا بِهَا مَا فَاتَ، مُحْيَيًا بِهَا مَا أَمَاتَ، مَسْتَقِيلًا بِهَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَثَرَاتِ، مُنْتَهِزًا فُرْصَةَ الْإِمْكَانِ الَّتِي إِنْ فَاتَتْ، فَاتَهُ جَمِيعُ الْخَيْرَاتِ.
ثُمَّ يَلْحَظُ فِي نُورِ تِلْكَ الْيَقَظَةِ وُفُورَ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، مِنْ حِينَ اسْتَقَرَّ فِي الرَّحِمِ إِلَى وَقْتِهِ، وَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، يَقَظَةً وَمَنَامًا، سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
فَلَوْ اجْتَهَدَ فِي إِحْصَاءِ أَنْوَاعِهَا لَمَا قَدَرَ، وَيَكْفِي أَنَّ أَدْنَاهَا نِعْمَةُ النَّفَسِ، وَللهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَرْبَعَةٌ وَعِشُرُونَ أَلْفِ نِعْمَة، بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ نَفَس، وَكُلُّ نَفَسٍ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَا يَعْلَمُ حَقَّهَا وَقَدْرَهَا إِلَّا الْمَصْدُورُ الَّذِي يُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِ الْهَوَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.
ثُمَّ يَرَى فِي ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ، أَنَّهُ آيِسٌ مِنْ حَصْرِهَا وَإِحْصَائِهَا، عَاجِزٌ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهَا، وَأَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَا، إِنْ طَالَبَهُ بِحُقُوقِهَا، اسْتَوَعَبَتْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ حَقُّ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا.
فَيَتَيَقَّنُ -حِينَئِذٍ- أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لَهُ فِي النَّجَاةِ إِلَّا بِعَفْوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، ثُمَّ يَرَى فِي ضَوْءِ تِلْكَ الْيَقَظَةِ أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْبِرِّ؛ لَاحْتَقَرَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنْبِ عَظَمَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
مَا يَبْلُغُ عَمْلُكَ، وَمَا يَكُونُ؟!!
فَائِدَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَيْكَ، وَعَائِدَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْكَ، وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْهُ وَعَنِ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَا يُمْكِنُ لِعَبْدٍ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، هَذَا لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُكَ مِنْكَ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَجُرَّدُ فَضْلِ اللهِ وَمِنَّتُهُ وَإِحْسَانُهُ، حَيْثَ يَسَّرَهَا لَكَ، وَأَعَانَكَ عَلَيْهَا، وَهَيَّأَهَا لَكَ، وَشَاءَهَا مِنْكَ.
وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِلْعَبْدِ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرَى الْعَبْدُ أَعْمَالَهُ مِنْهُ، بَلْ يَرَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ، مًمْتَنًّا بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ، وَأَنَّ هَذَا الْإِحْسَانَ مِنَ اللهِ، لَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الشَّرُّ وَأَسْبَابُهُ، وَمَا بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ، صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَفَضْلًا مِنْهُ سَاقَهُ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِسَبَبٍ، وَيَسْتَأْهِلَهُ بِوَسِيلَةٍ، فَيَرَى رَبَّهُ وَوَلِيَّهُ وَمَعْبُودَهُ أَهْلًا لِكُلِّ خَيْرٍ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِكُلِّ شَرٍّ، وَهَذَا أَسَاسُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُهَا وَيَجْعَلُهَا فِي دِيوَانِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ
المصدر: الْحَذَرُ وَالْيَقَظَةُ وَالْإِعْدَادُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ