((عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((اللهُ هُوَ الْعَفُوُّ الْكَرِيمُ))
فَمِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- صِفَةُ الْعَفْوِ؛ فَهُوَ الْعَفُوُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَفْوِهِ، يَعْفُو عَنِ الْمُذْنِبِينَ فَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَيَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ فَيُزِيلُهَا وَيُزِيلُ آثَارَهَا عَنْهُمْ.
فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذَا وَصْفُهُ الْمُسْتَقِرُّ اللَّازِمُ الذَّاتِيُّ، وَمُعَامَلَتُهُ لِعِبَادِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَلَوْلَا عَفْوُهُ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَهُوَ الْعَفُوُّ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الْوَرَى = لَوْلَاهُ غَارَ الْأَرْضَ بِالسُّكَّانِ
وَمِنْ كَمَالِ عَفْوِهِ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذَا تَابُوا إِلَيْهِ صَفَحَ عَنْهُمْ، وَمَحَا عَنْهُمْ أَخْطَاءَهُمْ وَزَلَّاتِهِمْ وَعَافَاهُمْ.
رَبِّ اعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ = فَلَأَنْتَ أَوْلَى مَنْ عَفَا
أَيْ: تَجَاوَزْ وَاصْفَحْ -كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ قَدِيمًا-.
اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعَاقِبَ، لَكِنَّهُ يَعْفُو -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الْقُدْرَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 49]؛ فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ وَيَعْفُو، وَلَكِنَّهُ يَعْفُو مَعَ الْعَجْزِ لَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَتَمَامُ الْعَفْوِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ تَمَامُ الْعَفْوِ فِي تَمَامِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ -تَعَالَى- الْعَفُوُّ الْقَدِيرُ.
الْعَفْوُ هُوَ الصَّفْحُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَتَرْكُ مُجَاوَزَةِ الْأَمْرِ حَتَّى يَتِمَّ تَمَامُهُ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِ الْعَذَابِ فِيمَنْ تَجَاوَزَ.
فَالْعَفُوُّ الَّذِي أَزَالَ عَنِ النُّفُوسِ ظُلْمَةَ الزَّلَّاتِ بِرَحْمَتِهِ، وَعَنِ الْقُلُوبِ وَحْشَةَ الْغَفْلَاتِ بِكَرَامَتِهِ.
وَالْعَفْوُ فِي حَقِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَارَةٌ عَنْ إِزَالَةِ آثَارِ الذُّنُوبِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّ الْغُفْرَانَ يُشْعِرُ بِالسَّتْرِ، وَأَمَّا الْعَفْوُ فَيُشْعِرُ بِالْمَحْوِ، وَالْمَحْوُ أَبْلَغُ مِنَ السَّتْرِ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي)).
ذَكَرَ هَذَا عَقِبَ قَوْلِهِ: ((يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)).
فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ -تَعَالَى- بِهِمْ مِنْ غُفْرَانِ زَلَّاتِهِمْ، وَإِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ، وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ؛ لَيْسَ لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ مِنْهُمْ، وَلَا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ يَتَوَقَّعُهَا مِنْهُمْ، كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَنْفَعُ غَيْرَهُ لِيُكَافِئَهُ بِنَفْعٍ مِثْلِهِ، أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا.
وَيَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: «يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ», يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَمِينُهُ مَلْأَى، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ» .
((سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ))
إِذَا آمَنَ الْإِنْسَانُ إِيمَانًا صَحِيحًا بِصِفَةِ الْعَفْوِ سَأَلَ اللهَ الْعَفْوَ؛ فَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَامَ الْأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ: ((سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ -اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ-؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَأَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُومُ حَيْثَ قَامَ رَسُولُ اللهِ، وَيَبْكِي كَمَا بَكَى!!
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
ثُمَّ أَتَاهُ الْغَدَاةَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ! أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟
قَالَ: ((قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْتَكْثِرَ الدُّعَاءَ بِالْعَفْوِ؛ لِأَنَّ الْعُمْدَةَ الْكُبْرَى فِي نَيْلِ السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ هِيَ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَعَفْوُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ.
هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِيهَا مَا يَبْعَثُ رَغَبَاتِ الرَّاغِبِينَ إِلَى إِدَامَةِ الطَّلَبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ اخْتَارَ لِأَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ.. وَهِيَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: ((عَائِشَةُ)).
قَالَ: قُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟
قَالَ: ((أَبُوهَا)) .
فَاخْتَارَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ -وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ- أَحَبَّ الدُّعَاءِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَشْرَفِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْ سُؤَالًا مُحَدَّدًا، لَيْلَةُ الْقَدْرِ إِنْ عُلِمَتْ، وَفِيهَا الدُّعَاءُ يُسْتَجَابُ، وَفِيهَا تَتَحَقَّقُ الرَّغَائِبُ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، فَقَالَتْ: لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ فَمَا أَقُولُ؟
فَاخْتَارَ لَهَا الرَّسُولُ ﷺ: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَدَلَّهَا عَلَيْهِ.. لَوْ كَانَ يَعْلَمُ مَا هُوَ فَوْقَ هَذَا لَدَلَّهَا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ دَلَّهَا عَلَى أَفْضَلِ مَا هُوَ أَفْضَلُ؛ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
فَهَذَا يَحْفِزُكَ وَيَؤُزُّكَ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ طَلَبِ الْعَفْوِ مِنَ الْعَفُوِّ الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ لِلْعَفْوِ أَهْلٌ.
فَمَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ فَقَدْ أَفْلَحَ وَفَازَ، وَرَبِحَ أَعْظَمَ الرِّبْحِ، وَأُوتِيَ الْخَيْرَ بِحَذَافِيرِهِ.
الْعَفْوُ يُرْجَى مِنْ بَنِي آدَمَ = فَكَيْفَ لَا يُرْجَى مِنَ الرَّبِّ
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً = فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ = فَمَنِ الَّذِي يَرْجُو وَيَدْعُو الْمُجْرِمُ
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا = وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُذْنِبُ
اللَّهُمَّ أَتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ، وَأَتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَةَ الْإِيمَانِ، وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا بِنِعْمَةِ الْإِحْسَانِ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ.
((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْحَلِيمُ الْوَدُودُ))
عِبَادَ اللهِ! مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُسْنَى: الْحَلِيمُ؛ وَالْحَلِيمُ ذُو الصَّفْحِ وَالْأَنَاةِ، الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ غَضَبٌ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ جَهْلُ جَاهِلٍ وَلَا عِصْيَانُ عَاصٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الصَّافِحُ مَعَ الْعَجْزِ اسْمَ الْحَلِيمِ، إِنَّمَا الْحَلِيمُ هُوَ الصَّفُوحُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَذُو الْأَنَاةِ الَّذِي لَا يَعْجَلُ بِالْعُقُوبَةِ.
الْحَلِيمُ الَّذِي يُدِرُّ عَلَى خَلْقِهِ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ مَعَ مَعَاصِيهِمْ وَكَثْرَةِ زَلَّاتِهِمْ، فَيَحْلُمُ عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَاصِينَ بِعِصْيَانِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِ الْعُقُوبَةِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَعْتِبُهُمْ كَيْ يَتُوبُوا، وَيُمْهِلُهُمْ كَيْ يُنِيبُوا.
وَهُوَ الَّذِي لَهُ الْحِلْمُ الْكَامِلُ الَّذِي وَسِعَ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَيْثُ أَمْهَلَهُمْ وَلَمْ يُعَاجِلْهُمْ بِالْعُقُوبَةِ لِيَتُوبُوا، وَلَوْ شَاءَ لَأَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَوْرَ صُدُورِهَا مِنْهُمْ؛ فَإِنَّ الذُّنُوبَ تَقْتَضِي تَرَتُّبَ آثَارِهَا عَلَيْهَا مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَلَكِنَّ حِلْمَهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الَّذِي اقْتَضَى إِمْهَالَهُمْ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45].
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61].
وَالْوَدُودُ: اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوُدِّ، وَفِيهِ وَجْهَانِ:
بِمَعْنَى الْمَوْدُودِ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ؛ لِمَا يَتَعَرَّفُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَكَثْرَةِ عَوَائِدِهِ لَدَيْهِمْ؛ فَهَذَا وَجْهٌ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَدُودُ بِمَعْنَى الْوَادِّ؛ أَيْ أَنَّهُ يَوَدُّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، بِمَعْنَى أَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ وَيَتَقَبَّلَ أَعْمَالَهُمْ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُوَدِّدُهُمْ إِلَى خَلْقِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} [مريم: 96]؛ يَعْنِي مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
قَالَ رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].
فَالْوَدُودُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوُدِّ بِمَعْنَى خَالِصِ الْمَحَبَّةِ، فَالْوَدُودُ هُوَ الْمُحِبُّ الْمَحْبُوبُ؛ بِمَعْنَى وَادٍّ، فَهُوَ مَوْدُودٌ، فَهُوَ الْوَادُّ لِأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْمَحْبُوبُ لَهُمْ، بَلْ لَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ.
فَهَذَانِ مَعْنَيَانِ لِهَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ مِنْ أَسْمَاءِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُسْنَى.
وَهُوَ الْوَدُودُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّهُ = أَحْبَابُهُ وَالْفَضْلُ لِلْمَنَّانِ
هَذَا الَّذِي جَعَلَ الْمَحَبَّةَ فِي قُلُو = بِهِمُ وَجَازَاهُمْ بِحُبٍّ ثَانِ
هَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ حَقًّا لَا مُعَا = وَضَةً وَلَا لِتَوَقُّعِ الشُّكْرَانِ
لَكِنْ يُحِبُّ شَكُورَهُمْ وَشُكُورَهُمْ = لَا لِاحْتِيَاجٍ مِنْهُ لِلشُّكْرَانِ
وَهُوَ الشَّكُورُ فَلَنْ يُضَيِّعَ سَعْيَهُمْ = لَكِنْ يُضَاعِفُهُ بِلَا حُسْبَانِ
مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ = هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الشَّانِ
كَلَّا وَلَا عَمَلٌ لَدَيْهِ ضَائِعٌ = إِنْ كَانَ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِحْسَانِ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا = فَبِفَضْلِهِ وَالْحَمْدُ لِلْمَنَّانِ
((إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ))
((يَا مَنْ عَزَمَ السَّفَرَ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ, قَدْ رُفِعَ لَكَ عَلَمٌ فَشَمِّرْ إِلَيْهِ فَقَدْ أَمْكَنَ التَّشْمِيرُ، وَاجْعَلْ سَيْرَكَ بَيْنَ مُطَالَعَةِ مِنَّتِهِ وَمُشَاهَدَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ وَالتَّقْصِيرِ، فَمَا أَبْقَى مَشْهَدُ النِّعْمَةِ وَالذَّنْبِ لِلْعَارِفِ مِنْ حَسَنَةٍ يَقُولُ: هَذِهِ مُنْجِيَتِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، مَا الْمُعَوَّلُ إِلَّا عَلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَكُلُّ أَحَدٍ إِلَيْهِمَا فَقِيرٌ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ, وَأَبُوءُ بِذَنْبِي, فَاغْفِرْ لِي, أَنَا الْمُذْنِبُ الْمِسْكِينُ وَأَنْتَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ.
مَا تُسَاوِي أَعْمَالُكَ لَوْ سَلِمَتْ مِمَّا يُبْطِلُهَا أَدْنَى نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مُرْتَهَنٌ بِشُكْرِهَا مِنْ حِينَ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْكَ؛ فَهَلْ رَعَيْتَهَا -بِاللهِ- حَقَّ رِعَايَتِهَا وَهِيَ فِي تَصْرِيفِكَ وَطَوْعُ يَدَيْكَ؟!!
فَتَعَلَّقْ بِحَبْلِ الرَّجَاءِ، وَادْخُلْ مِنْ بَابِ التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
نَهَجَ لِلْعَبْدِ طَرِيقَ النَّجَاةِ وَفَتَحَ لَهُ أَبْوَابَهَا، وَعَرَّفَهُ طُرُقَ تَحْصِيلِ السَّعَادَةِ وَأَعْطَاهُ أَسْبَابَهَا، وَحَذَّرَهُ مِنْ وَبَالِ مَعْصِيَتِهِ، وَأَشْهَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ شُؤْمَهَا وَعِقَابَهَا، وَقَالَ: إِنْ أَطَعْتَ فَبِفَضْلِي وَأَنَا أَشْكُرُ، وَإِنْ عَصَيْتُ فَبِقَضَائِي وَأَنَا أَغْفِرُ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
وَأَزَاحَ عَنِ الْعَبْدِ الْعِلَلَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَشْكُرَ لَهُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ، وَيَغْفِرَ لَهُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
أَعْطَاهُ مَا يَشْكُرُ عَلَيْهِ, ثُمَّ شَكَرَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَوَعَدَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ لِنَفْسِهِ أَنْ يُحْسِنَ جَزَاءَهُ وَيُقَرِّبَهُ لَدَيْهِ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ إِذَا تَابَ مِنْهَا وَلَا يَفْضَحَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
وَثِقَتْ بِعَفْوِهِ هَفَوَاتُ الْمُذْنِبِينَ فَوَسِعَتْهَا، وَعَكَفَتْ بِكَرَمِهِ آمَالُ الْمُحْسِنِينَ فَمَا قَطَعَ طَمَعَهَا، وَخَرَّقَتِ السَّبْعَ الطِّبَاقَ دَعَوَاتُ التَّائِبِينَ وَالسَّائِلِينَ فَسَمِعَهَا، وَوَسِعَ الْخَلَائِقَ عَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِزْقُهُ, فَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
يَجُودُ عَلَى عَبِيدِهِ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَيُعْطِي سَائِلَهُ وَمُؤَمِّلَهُ فَوْقَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مِنْهُمُ الْآمَالُ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ عَدَدَ الْأَمْوَاجِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ وَالرِّمَالِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، وَأَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَائِدِ التَّائِبِ مِنَ الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ إِذَا وَجَدَهَا، وَأَشْكَرُ لِلْقَلِيلِ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ, فَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْخَيْرِ شَكَرَهَا وَحَمِدَهَا؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ بِأَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِحِلْمِهِ وَآلَائِهِ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ مَعَاصِيهِمْ بِأَنْ جَادَ عَلَيْهِمْ بِآلَائِهِ، وَوَعَدَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَحْسَنَ طَاعَتَهُ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ يَوْمَ لِقَائِهِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
السَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي طَاعَتِهِ، وَالْأَرْبَاحُ كُلُّهَا فِي مُعَامَلَتِهِ، وَالْمِحَنُ وَالْبَلَايَا كُلُّهَا فِي مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ؛ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ شُكْرِهِ وَتَوْبَتِهِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَضَمَّنَ الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ إِنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
يُطَاعُ فَيُشْكَرُ؛ وَطَاعَتُهُ مِنْ تَوْفِيقِهِ وَفَضْلِهِ، وَيُعْصَى فَيَحْلُمُ؛ وَمَعْصِيَةُ الْعَبْدِ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ، وَيَتُوبُ إِلَيْهِ فَاعِلُ الْقَبِيحِ فَيَغْفِرُ لَهُ, حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مِنْ أَهْلِهِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
الْحَسَنَةُ عِنْدَهُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا أَوْ يُضَاعِفُهَا بِلَا عَدَدٍ وَلَا حُسْبَانٍ، وَالسَّيِّئَةُ عِنْدَهُ بِوَاحِدَةٍ وَمَصِيرُهَا إِلَى الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لَدَيْهِ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
بَابُهُ الْكَرِيمُ مُنَاخُ الْآمَالِ وَمَحَطُّ الْأَوْزَارِ، وَسَمَاءُ عَطَايَاهُ لَا تُقْلِعُ عَنِ الْغَيْثِ بَلْ هِيَ مِدْرَارٌ، وَيَمِينُهُ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
لَا يَلْقَى وَصَايَاهُ إِلَّا الصَّابِرُونُ، وَلَا يَفُوزُ بِعَطَايَاهُ إِلَّا الشَّاكِرُونَ، وَلَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ إِلَّا الْهَالِكُونَ، وَلَا يَشْقَى بِعَذَابِهِ إِلَّا الْمُتَمَرِّدُونَ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
فَإِيَّاكَ أَيُّهَا الْمُتَمَرِّدُ أَنْ يَأْخُذَكَ عَلَى غِرَّةٍ فَإِنَّهُ غَيُورٌ، وَإِذَا أَقَمْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَهُوَ يَمُدُّكَ بِنِعْمَتِهِ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُهْمِلْكَ لَكِنَّهُ صَبُورٌ، وَبُشْرَاكَ أَيُّهَا التَّائِبُ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؛ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
مَنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ شَكُورٌ تَنَوَّعَ فِي مُعَامَلَتِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ تَعَلَّقَ بِأَذْيَالِ مَغْفِرَتِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَتِهِ؛ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.
مَنْ تَعَلَّقَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَخَذَتْهُ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَارَ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصَلَ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَحَبَّهُ أَحَبَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَكَانَتْ آثَرَ شَيْءٍ لَدَيْهِ.
حَيَاةُ الْقُلُوبِ فِي مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَكَمَالُ الْجَوَارِحِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ, وَالْقِيَامِ بِخِدْمَتِهِ، وَكَمَالُ الْأَلْسِنَةِ بِذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِ مَدْحِهِ، فَأَهْلُ شُكْرِهِ أَهْلُ زِيَادَتِهِ، وَأَهْلُ ذِكْرِهِ أَهْلُ مُجَالَسَتِهِ، وَأَهْلُ طَاعَتِهِ أَهْلُ كَرَامَتِهِ، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِهِ لَا يُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، إِنْ تَابُوا فَهُوَ حَبِيبُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَهُوَ طَبِيبُهُمْ، يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْوَاعِ الْمَصَائِبِ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمُ الْخَطَايَا وَيُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَائِبِ؛ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)) .
((اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
((إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي رَحْمَتِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِصُنُوفِ النِّعَمِ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلًا، فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ كُلَّ حَيٍّ، وَعَمَّ إِحْسَانُهُ الْبَرَايَا، وَوَصَلَ جُودُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ؛ فَلَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِحْسَانِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ.
وَأَخْبَرَنَا -سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ فَكَانَ صَاحِبَ الرَّحْمَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الْوَاسِعَةِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58].
فَلَا مَخْلُوقَ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَغَمَرَهُ فَضْلُهُ -تَعَالَى- وَإِحْسَانُهُ)) .
وَسَمَّى -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ (( ((الرَّحْمَنَ))، وَهَذَا الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعُمُومِ إِحْسَانِهِ، وَجَزِيلِ بِرِّهِ، وَوَاسِعِ فَضْلِهِ)) .
((وَ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ سُبْحَانَهُ.
وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌّ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْحُومِ، فَـ((الرَّحْمَنُ)) لِلْوَصْفِ، وَ((الرَّحِيمُ)) لِلْفِعْلِ.
فَـ((الرَّحْمَنُ)): دَالٌّ عَلَى أَنَّ الرَّحْمَةَ صِفَتُهُ، وَ((الرَّحِيمُ)): دَالٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وَلَمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنٌ بِهِمْ؛ فَعُلِمَ أَنَّ ((الرَّحْمَنَ)): هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالرَّحْمَةِ، وَ((الرَّحِيمَ)): هُوَ الرَّاحِمُ بِرَحْمَتِهِ)) ؛ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ، عَظِيمُهَا، بَلِيغُهَا وَوَاسِعُهَا.
وَرَحْمَةُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ.
فَأَمَّا الْعَامَّةُ: فَهِيَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ الْخَلْقِ مَرْحُومُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَلَوْلَا رَحْمَةُ اللهِ مَا أَكَلُوا وَمَا شَرِبُوا وَمَا اكْتَسَوْا وَمَا سَكَنُوا، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ؛ فَهَيَّأَ لَهُمْ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ مِنَ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ.
وَأَمَّا رَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ: فَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَمِرُّ رَحْمَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَفِي الدُّنْيَا رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَبْدَانُهُمْ، وَفِي الْآخِرَةِ رَحِمَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِحُصُولِ مَا تَقُومُ بِهِ أَدْيَانُهُمْ.
((وَرَحْمَتُهُ -سُبْحَانَهُ- مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ؛ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَضَبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَلَا يَكُونُ غَضْبَانَ دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ يَقُولُ رُسُلُهُ وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي ((حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ)) -وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -: ((قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ)).
كَذَا يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَطْلُبُ الْخَلْقُ مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِبَدْءِ الْحِسَابِ؛ فَيَقُولُ كُلٌّ: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).
فَالْغَضَبُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَصِفَةُ الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، صِفَاتُ الْفِعْلِ هِيَ الَّتِي إِذَا شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَتَى بِهَا، وَإِذَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَهَذِهِ صِفَاتُ الْفِعْلِ؛ وَمِنْهَا الْغَضَبُ، وَمِنْهَا الضَّحِكُ، وَمِنْهَا الرِّضَا، وَمِنْهَا النُّزُولُ، وَمِنْهَا الِاسْتِوَاءُ؛ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَكُلُّ صِفَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشِيئَةِ فَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا صِفَاتُ الذَّاتِ: فَهِيَ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا اتِّصَافُ الذَّاتِ بِهَا وَلَا تَنْفَكُّ هِيَ عَنِ الذَّاتِ.. صِفَاتُ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَالٍ، فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلذَّاتِ، وَمِنْهَا صِفَةُ الرَّحْمَةِ، فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْغَضَبِ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ؛ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ، فَإِذَا وُجِدَ سَبَبُهَا وَغَضِبَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، لَا يَكُونُ غَضْبَانَ دَائِمًا غَضَبًا لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ؛ بَلْ ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)).
رَحْمَةُ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَغَضَبُهُ لَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَلَمْ يَكْتُبْ عَلَى نَفْسِهِ الْغَضَبَ، وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَلَمْ يَسَعْ كُلَّ شَيْءٍ غَضَبًا وَانْتِقَامًا)) ، -سُبْحَانَهُ- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ اللَّيِّقُ بِشَأْنِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكُنَّا جَمِيعًا خَاسِرِينَ هَالِكِينَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَمِنْ سَخَطِهِ وَمِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَرْجُو رَحْمَتَهُ وَكَرَمَهُ وَفَضْلَهُ وَلُطْفَهُ.
فَسُبْحَانَ رَبِّي الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي عَمَّتْ رَحْمَتُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَوَسِعَتْ جَمِيعَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ الْآنَاتِ وَاللَّحَظَاتِ، وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ، لَا يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحْمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءُ الْمَحْرُومُونَ، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الْخَلَائِقَ رَحْمَةً = وَكِفَايَةً ذُو الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- -وَهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ-: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].
وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ، وَهُوَ خَبَرٌ مِنْهُ لِعِبَادِهِ، وَهُوَ صَادِقُ الْمَقَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَخَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَرَحْمَتُهُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ؛ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ رَاحِمٍ، أَرْحَمُ بِنَا مِنْ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا وَأَوْلَادِنَا وَأَنْفُسِنَا.
((فَكُلُّ رَاحِمٍ لِلْعَبْدِ؛ فَاللهُ أَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ، إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، لَوْ جُمِعَتْ رَحَمَاتُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ لَكَانَتْ رَحْمَةُ اللهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ، وَمَا تَبْلُغُ هَذِهِ الرَّحْمَاتُ مِنْ رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ رَجُلٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ؛ فَجَعَلَ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ؛ رَحْمَةً بِهِ وَحَنَانًا وَبِرًّا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرْحَمُهُ؟)).
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: ((فَاللهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ بِهِ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
أَرْحَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْخَلْقِ بِالْخَلْقِ الْأُمُّ بِوَلَدِهَا؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ الْأُمِّ وَلَدَهَا لَا يُسَاوِيهَا شَيْءٌ مِنْ رَحْمَةِ النَّاسِ أَبَدًا، حَتَّى الْأَبُ لَا يَرْحَمُ أَوْلَادَهُ مِثْلَ أُمِّهِمْ فِي الْغَالِبِ.
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَحْلِبُ تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟)).
قُلْنَا: لَا -وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ-.
فَقَالَ: ((اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)) . وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).
وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَهُوَ أَرْحَمُ بِالْعَبْدِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الرَّفِيقَةِ بِهِ فِي حَمْلِهِ وَرَضَاعِهِ وَفِصَالِهِ.
كُلُّ الرَّاحِمِينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ رَحَمَاتُهُمْ كُلِّهُمْ؛ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَ رَحْمَةِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ -وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) - قَالَ ﷺ: ((جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)) )) .
هَذِهِ هِيَ الرَّحْمَةُ الَّتِي هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ.
وَأَمَّا الرَّحْمَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْقَسِمُ، فَالرَّحْمَةُ صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، حَيْثُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الرَّحْمَةِ بِالْمَشِيئَةِ وَإِعْمَالُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِمَنْ يَرْحَمُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهَذِهِ صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ.
هُنَاكَ صِفَاتٌ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ بِاعْتِبَارٍ وَصِفَةَ فِعْلٍ بِاعْتِبَارٍ:
صِفَةُ الْخَلْقِ: صِفَةُ ذَاتٍ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِالذَّاتِ، فَذَاتُ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ وَلَا مَخْلُوقَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ وَلَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ الْعَظِيمَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَبَرْئِهِمْ وَتَعَلُّقِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ بِخَلْقِهِمْ؛ فَهِيَ -حِينَئِذٍ- تَكُونُ صِفْةَ فِعْلٍ.
كَذَلِكَ صِفْةُ الْكَلَامِ: فَذَاتُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَوْصُوفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرٍ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَهِيَ صِفَةُ فِعْلٍ لِتَعَلُّقِ الصِّفَةِ بِالْمَشِيئَةِ.
هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي مَعَنَا: فِيهِ انْقِسَامُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ إِلَى مِائَةِ جُزْءٍ، جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ فِي مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ.
صِفَةُ الْفِعْلِ: هِيَ الَّتِي تَقْبَلُ هَذِهِ الْقِسْمَةَ.
وَأَمَّا صِفَةُ الذَّاتِ: فَهِيَ مَوْصُوفٌ بِهَا الذَّاتُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الذَّاتِ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا الذَّاتُ.
لَا يُمْكِنُ لِلْوَاصِفِينَ أَنْ يُعَبِّرُوا عَنْ جُزْءٍ يَسِيرٍ جِدًّا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي بَثَّهَا وَنَشَرَهَا عَلَى الْعِبَادِ، وَأَنْتَ لَوْ تَأَمَّلْتَ الْعَالَمَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ؛ لَرَأَيْتَهُ مُمْتَلِئًا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الْوَاحِدَةِ كَامْتِلَاءِ الْبَحْرِ بِمَائِهِ وَالْجَوِّ بِهَوَائِهِ.
وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا: أَنَّ الدَّابَّةَ تَرْفَعُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ، وَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ -تَعَالَى- مِنَ الرَّحْمَةِ الْوَاحِدَةِ عَطَايَا كَرِيمَةً عَزِيزَةً؛ فَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ ابْتِدَاءً بِأَجْزَلِ الْمَوَاهِبِ وَأَفْضَلِ الْعَطَايَا؛ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ، وَكَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَقِوَامِ الْبِنْيَةِ، وَإِعْدَادِ الْآلَةِ، وَإِتْمَامِ الْإِرَادَةِ، وَتَعْدِيلِ الْقَامَةِ، وَتَمَامِ الْأَدَاةِ.
وَمَا مَتَّعَكَ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ، وَفَضَّلَكَ بِهِ مِنْ حَيَاةِ الْأَرْوَاحِ، وَمَا أَكْرَمَكَ بِهِ مِنْ قَبُولِ الْعِلْمِ، وَهَدَاكَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ -سُبْحَانَهُ- الَّتِي هِيَ أَسْنَى جَوَائِزِهِ، وَمَنَّ عَلَيْكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ -وَهُمَا أَجَلُّ النِّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ- وَالْكَوْنِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَمَنَّ عَلَيْكَ بِمَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، إِلَى سَائِرِ مَا لَدَيْكَ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
فَمَرْجُوٌّ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ مَنْ بَدَا بِالْإِحْسَانِ فَعَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، وَيَجْعَلُ لَكَ مِنْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ رَحْمَةً الْحَظَّ الْوَافِرَ.
أَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَلَّا يُخَيِّبَ آمَالَنَا مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ بِفَضْلِهِ، إِنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّاحِمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
((وَبِرَحْمَتِهِ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه: 5]؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ، قَدْ وَسِعَهَا، وَالرَّحْمَةُ مُحِيطَةٌ بِالْخَلْقِ وَاسِعَةٌ لَهُمْ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
فَاسْتَوَى عَلَى أَوْسَعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَوْسَعِ الصِّفَاتِ؛ فَلِذَلِكَ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، اسْتَوَى -تَعَالَى- عَلَى عَرْشِهِ، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ- وَهُوَ الرَّحْمَنُ: {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه: 5].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
فَكَمَا أَنَّ الْعَرْشَ مُحِيطٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَرَحْمَتُهُ -تَعَالَى- مُحِيطَةٌ بِالْخَلْقِ وَاسِعَةٌ لَهُمْ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}؛ فَاسْتَوَى عَلَى أَوْسَعِ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَوْسَعِ الصِّفَاتِ، فَلِذَلِكَ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِهَذَا الِاسْمِ: ((الرَّحْمَنِ)) الَّذِي اشْتَقَّهُ مِنْ صِفَتِهِ وَتَسَمَّى بِهِ دُونَ خَلْقِهِ؛ كَتَبَ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى نَفْسِهِ يَوْمَ اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ حِينَ قَضَى الْخَلْقَ.. كَتَبَ كِتابًا؛ فَهُوَ عِنْدَهُ وَضَعَهُ عَلَى عَرْشِهِ: أَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ.
وَكَانَ هَذَا الْكِتَابُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ كَالْعَهْدِ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ، وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُمْ، وَالْمَغْفِرَةِ وَالتَّجَاوُزِ، وَالسَّتْرِ وَالْإِمْهَالِ، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ؛ فَكَانَ قِيَامُ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ بِمَضْمُونِ هَذَا الْكِتَابِ، الَّذِي لَوْلَاهُ لَكَانَ لِلْخَلْقِ شَأْنٌ آخَرُ)) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي)).
وَفِي كَوْنِهِ عِنْدَهُ -سُبْحَانَهُ- زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَفْخِيمٍ، فَبِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ ﷺ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، وَعَلَّمَنَا مِنَ الْجَهَالَةِ، وَهَدَانَا مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبَصَّرَنَا مِنَ الْعَمَى، وَأَرْشَدَنَا مِنَ الْغَيِّ، فَشَرْعُهُ وَأَمْرُهُ نَزَلَ بِالرَّحْمَةِ وَاشْتَمَلَ عَلَى الرَّحْمَةِ، وَأَوْصَلَ إِلَى الرَّحْمَةِ الْأَبَدِيَّةِ وَالسَّعَادَةِ السَّرْمَدِيَّةِ.
فَبِنِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ: بِإِرْسَالِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْزَالِ كُتُبِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْرِيفِهِمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ؛ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّهَا وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا، بَلْ لَا نِسْبَةَ لِرَحْمَتِهِمْ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْغَيْثِ وَالنَّبَاتِ إِلَى رَحْمَتِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالشَّرَائِعِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَيْنَ هَذِهِ مِنْ تِلْكَ؟!
وَبِرَحْمَتِهِ عَرَّفَنَا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، فَعَرَفْنَا أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، عَرَّفَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ مَا عَرَفْنَا بِهِ رَبَّنَا وَمَوْلَانَا.
وَبِرَحْمَتِهِ عَلَّمَنَا مَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ، وَأَرْشَدَنَا لِمَصَالِحِ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَبِرَحْمَتِهِ -تَعَالَى- أَدَرَّ عَلَيْنَا النِّعَمَ وَصَرَفَ عَنَّا النِّقَمَ، وَبِرَحْمَتِهِ وُجِدَتِ الْمَخْلُوقَاتُ، وَبِرَحْمَتِهِ حَصَلَتْ لَهَا أَنْوَاعُ الْكَمَالَاتِ، وَبِرَحْمَتِهِ أَطْلَعَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَبَسَطَ الْأَرْضَ، وَجَعَلَهَا مِهَادًا وَفِرَاشًا، وَكِفَاتًا لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَبِرَحْمَتِهِ سَخَّرَ لَنَا الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْأَنْعَامَ؛ وَذَلَّلَهَا مُنْقَادَةً لِلرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالْأَكْلِ وَالدَّرِّ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ مَا قَالَهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]؛ أَيْ: رَحْمَةُ اللهِ بِخَلْقِهِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْغَفْلَةِ عَنْ شُكْرِ نِعَمِهِ وَالْقُصُورِ عَنْ إِحْصَائِهَا وَالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِأَدْنَاهَا، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِدَامَتُهَا عَلَيْنَا وَإِدْرَارُهَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَعِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ نَتَنَفَّسُهُ وَحَرَكَةٍ نَتَحَرَّكُهَا؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
وَمَا أَحْسَنَ مَا خَتَمَ بِهِ هَذَا الِامْتِنَانَ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى إِنْسَانٍ؛ بِالْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ غُفْرَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18]، فَمَا أَحْسَنَ مَا خَتَمَ بِهِ هَذَا الِامْتِنَانَ، الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ عَلَى إِنْسَانٍ؛ بِالْإِشَارَةِ إِلَى عَظِيمِ غُفْرَانِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَمَا أَوْقَعَ هَذَا التَّذْيِيلَ الْجَلِيلَ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، بَعْدَ امْتِنَانِهِ بِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، مَا أَوْقَعَ هَذَا التَّذْيِيلَ الْجَلِيلَ وَأَحَبَّهُ إِلَى قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِأَسْرَارِ التَّنْزِيلِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ مَا قَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} [الأنعام: 133].
فَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْ خَلْقِهِ؛ فَهُوَ ذُو رَحْمَةٍ بِهِمْ، لَا يَكُونُ غِنَاهُ عَنْهُمْ مَانِعًا مِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ الرَّبَّانِيَّ وَأَبْلَغَهُ، وَمَا أَقْوَى الِاقْتِرَانَ بَيْنَ الْغِنَى وَالرَّحْمَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ}، فَإِنَّ الرَّحْمَةَ لَهُمْ مَعَ الْغِنَى عَنْهُمْ هِيَ غَايَةُ التَّفَضُّلِ وَالتَّطَوُّلِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ مَا قَالَهُ لِرَسُولِهِ ﷺ: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49-50].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ لَطَائِفُ؛ مِنْهَا: أَنَّهُ أَكَّدَ ذِكْرَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ، أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ (أَنِّي)، وَثَانِيهَا (أَنَا)، وَثَالِثُهَا (التَّعْرِيفُ) فِي (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَغْلِيبِ جَانِبِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَمْ يَقُلْ فِي ذِكْرِ الْعَذَابِ: إِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ! وَلَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ بَلْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}.
وَأَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِرَحْمَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِغُفْرَانِهِ، فَقَدْ أَتَى بِهِ وَاصِفًا بِهِ نَفْسَهُ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ فِي ذِكْرِهِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: (أَنِّي)، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَنَا)، وَكَذَلِكَ بِـ(التَّعْرِيفِ) فِي قَوْلِهِ: (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)؛ {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، فَالْغُفْرَانُ صِفَتُهُ، وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ صِفَتُهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَمَّا الْعَذَابُ فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ، وَلَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَلَمْ يَقُلْ: إِنِّي أَنَا الْمُعَذِّبُ! وَإِنَّمَا قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ وَلَمْ يَصِفْ نَفْسَهُ بِذَلِكَ: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ}.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ خَلَقَ لِلذَّكَرِ مِنَ الْحَيَوَانِ أُنْثَى مِنْ جِنْسِهِ، وَأَلْقَى بَيْنَهُمَا الْمَحَبَّةَ وَالرَّحْمَةَ لِيَقَعَ بَيْنَهُمَا التَّوَاصُلُ الَّذِي بِهِ دَوَامُ التَّنَاسُلِ، وَانْتِفَاعُ الزَّوْجَيْنِ، وَتَمَتُّعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَحْوَجَ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ لِتَتِمَّ بَيْنَهُمْ مَصَالِحُهُمْ، وَلَوْ أَغْنَى بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهُمْ وَفَسَدَ نِظَامُهُمْ.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ بِهِمْ أَنْ جَعَلَ فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَالْعَزِيزَ وَالذَّلِيلَ، وَالْعَاجِزَ وَالْقَادِرَ، وَالرَّاعِيَ وَالْمَرْعِيَّ، ثُمَّ أَفْقَرَ الْجَمِيعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَمَّ الْجَمِيعَ بِرَحْمَتِهِ.
((لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الْعَفُوِّ الْكَرِيمِ!))
عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مُلَازِمٌ لِلْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَبِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ، وَيُخْشَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ خُلُقَيْنِ رَذِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ حَتَّى يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَجَارَى بِهِ الرَّجَاءُ حَتَّى يَأْمَنَ مَكْرَ اللهِ وَعُقُوبَتَهُ, فَمَتَى بَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا فَقَدْ ضَيَّعَ وَاجِبَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَوَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ.
وَلِلْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ سَبَبَانِ مَحْذُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْرِفَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَجَرَّأَ عَلَى الْمَحَارِمِ فَيُصِرُّ عَلَيْهَا، وَيُصَمِّمَ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ الرَّحْمَةَ.
فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ هَذَا وَصْفًا وَخُلُقًا لَازِمًا, وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَتَى وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؛ لَمْ يُرْجَ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ وَإِقْلَاعٍ قَوِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْوَى خَوْفُ الْعَبْدِ بِمَا جَنَتْ يَدَاهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَيَضْعُفَ عِلْمُهُ بِمَا لِلهِ مِنْ وَاسِعِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ وَلَوْ تَابَ وَأَنَابَ، وَتَضْعُفَ إِرَادَتُهُ فَيَيْأَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحَاذِيرِ الضَّارَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَعْفِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَعَجْزِهَا وَمَهَانَتِهَا.
فَلَوْ عَرَفَ هَذَا رَبَّهُ وَلَمْ يَخْلُدْ إِلَى الْكَسَلِ؛ لَعَلِمَ أَنَّ أَدْنَى سَعْيٍ يُوصِلُهُ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
وَلِلْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ -أَيْضًا- سَبَبَانِ مُهْلِكَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِعْرَاضُ الْعَبْدِ عَنِ الدِّينِ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَتَهَاوُنُهُ بِذَلِكَ، فَلَا يَزَالُ مُعْرِضًا غَافِلًا مُقَصِّرًا عَنِ الْوَاجِبَاتِ، مُنْهَمِكًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، حَتَّى يَضْمَحِلَّ خَوْفُ اللهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُ عَلَى خَوْفِ اللهِ وَخَوْفِ عِقَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا جَاهِلًا، مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ، مَغْرُورًا بِعَمَلِهِ، فَلَا يَزَالُ بِهِ جَهْلُهُ حَتَّى يُدِلَّ بِعَمَلِهِ وَيَزُولَ الْخَوْفُ عَنْهُ، وَيَرَى أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةَ؛ فَيَصِيرَ آمِنًا مِنْ مَكْرِ اللهِ مُتَّكِلًا عَلَى نَفْسِهِ الضَّعِيفَةِ الْمَهِينَةِ، وَمِنْ هُنَا يُخْذَلُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْفِيقِ؛ إِذْ هُوَ الَّذِي جَنَى عَلَى نَفْسِهِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمِنَ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ، وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ.. هَذِهِ الْأُمُورُ مُنَافِيَةٌ لِتَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِ الْإِثْمِ)) .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْيَأْسُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ، وَالْيَأْسُ ضِدُّ الرَّجَاءِ)).
وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ: هُوَ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ)).
الْيَأْسُ: انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((هُوَ انْتِفَاءُ الطَّمَعِ)).
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يَتَحَصَّلُ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِهِ))؛ فَهَذَا هُوَ الْيَأْسُ.
((وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَأْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقُنُوطُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْيَأْسِ عَنِ الْقُنُوطِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوطَ ثَمَرَةُ الْيَأْسِ.
الثَّانِي: الْيَأْسُ: الْعِلْمُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمُوا؟!)).
وَقَدْ عَدَّ ابْنُ حَجَرٍ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ -تَعَالَى- مِنَ الْكَبَائِرِ؛ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَشِّرَةِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ((عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ)) .
فَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَمِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
الْقُنُوطُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ قَنَطَ يَقْنُطُ؛ إِذَا يَئِسَ يَأْسًا شَدِيدًا.
((قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55]؛ أَيْ: الْيَائِسِينَ مِنَ الْوَلَدِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ يَئِسَ مِنَ الْوَلَدِ لِفَرْطِ الْكِبَرِ)) .
((لَا تَقْنَطُوا مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِكُمُ الْمِحَنُ!))
الْقُنُوطُ: أَشَدُّ الْيَأْسِ، يُقَالُ: قَنِطَ يِقْنَطُ قُنُوطًا وَقَنَاطَةً, وَهُوَ انْقِطَاعُ الْأَمَلِ، وَفَقْدُ الرَّجَاءِ، وَانْتِفَاءُ الطَّمَعِ, وَهَذِهِ الْحَالُ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَانَتْ مَعْصِيَةً كَبِيرَةً وَاعْتِقَادًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهَا تَنِمُّ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتُشِيرُ إِلَى نِسْبَةِ الْعَجْزِ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَهَذَا ضَلَالٌ مُبِينٌ, لِذَلِكَ نَهَى عَنْهُ الدِّينُ، وَأَخْبَرَ الْقُرْآنُ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَرَوْحُ اللهِ هُنَا: رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ مِنْهَا مَوْقِفَ الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِالْإِنْسَانِ الْمِحَنُ وَتَكَالَبَتْ عَلَيْهِ الرَّزَايَا؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْفَرَجِ، وَتَفْرِيجِ الْكَرْبِ، وَتَبْدِيدِ الْخُطُوبِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ مَدْعَاةٌ لِنِسْبَةِ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ إِلَى اللهِ تَعَالَى, وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كُفْرٌ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ.
وَلَقَدْ نَهَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ هَذَا الْيَأْسِ وَذَلِكَ الْقُنُوطِ مَهْمَا كَانَتِ الْحَالُ الَّتِي وَصَلَ إِلَيْهَا الْعَبْدُ وَاسْتَقَرَّتْ فِيهَا الشِّدَّةُ.
قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَحْوَالًا لِعِبَادِهِ بَلَغَ فِيهَا بَعْضُهُمْ مَبْلَغَ الْحَرَجِ، وَكَادُوا فِيهَا أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لِلْيَأْسِ، فَجَاءَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَرَجُ، وَأَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِتَبْدِيدِ الشَّدَائِدِ وَإِزَالَةِ الْكُرَبِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
بَعْدَ هَذَا الزِّلْزَالِ الَّذِي مَلَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَعْدَ تِلْكَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الَّتِي رَكِبَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ جَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
فَأَمَامَ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَسَرَّبَ إِلَى النُّفُوسِ الْيَأْسُ وَلَا أَنْ يَسْتَحْكِمَ فِيهَا الْقُنُوطُ مَا دَامَتْ قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَقْوَى مِنْ كُلِّ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ، وَمَا دَامَ سُلْطَانُهُ فَوْقَ كُلِّ هَذَا الْوُجُودِ؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
((يُخْبِرُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْمَشَقَّةِ, لَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِامْتِحَانِ كَمَا فَعَلَ بِمَنْ قَبْلَهُمْ؛ فَهِيَ سُنَّتُهُ الْجَارِيَةُ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَغَيَّرُ؛ أَنَّ مَنْ قَامَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَلَمْ يُبَالِ بِالْمَكَارِهِ الْوَاقِفَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ فَهُوَ الصَّادِقُ الَّذِي قَدْ نَالَ مِنَ السَّعَادَةِ كَمَالَهَا، وَمِنَ السِّيَادَةِ آلَتَهَا.
وَمَنْ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ؛ بِأَنْ صَدَّتْهُ الْمَكَارِهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَثَنَتْهُ الْمِحَنُ عَنْ مَقْصِدِهِ؛ فَهُوَ الْكَاذِبُ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى حَتَّى تُصَدِّقَهُ الْأَعْمَالُ أَوْ تُكَذِّبَهُ.
فَقَدْ جَرَى عَلَى الْأُمَمِ الْأَقْدَمِينَ مَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُمْ: {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ}؛ أَيِ: الْفَقْرُ وَالْأَمْرَاضُ فِي أَبْدَانِهِمْ، {وَزُلْزِلُوا} بِأَنْوَاعِ الْمَخَاوِفِ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ، وَالنَّفْيِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَحِبَّةِ، وَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِمُ الْحَالُ وَآلُ بِهِمُ الزِّلْزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَبْطَئُوا نَصْرَ اللهِ مَعَ يَقِينِهِمْ بِهِ، وَلَكِنْ لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَضِيقِهِ قَالَ: {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}، فَلَمَّا كَانَ الْفَرَجُ عِنْدَ الشِّدَّةِ -وَكُلَّمَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ- قَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
فَهَكَذَا كُلُّ مَنْ قَامَ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يُمْتَحَنُ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ وَصَعُبَتْ، إِذَا صَبَرَ وَثَابَرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْقَلَبَتِ الْمِحْنَةُ فِي حَقِّهِ مِنْحَةً، وَالْمَشَقَّاتُ رَاحَاتٍ، وَأَعْقَبَهُ ذَلِكَ الِانْتِصَارُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَشِفَاءُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الدَّاءِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3].
فَعِنْدَ الِامْتِحَانِ يُكْرَمُ الْمَرْءُ أَوْ يُهَانُ)) .
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْحَالَ الَّتِي أَدْرَكَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ حَاصَرَهُمُ الْأَحْزَابُ فِي الْمَدِينَةِ، وَهُمْ عِنْدَ الْخَنْدَقِ الَّذِي حَفَرُوهُ لِلدِّفَاعِ عَنْ وُجُودِهِمْ وَحِمَايَةِ بَلَدِهِمْ مِنْ تَأَلُّبِ الْأَعْدَاءِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ لَوَامِعَ الْبِشْرِ وَمَسَالِكَ النَّصْرِ الَّذِي آتَاهُمُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10-11].
قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي تَبْدِيدِ هَذِهِ الْمَخَاوِفِ وَكَسْرِ عَصَا هَذِهِ الْجُمُوعِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].
وَقَالَ -أَيْضًا- فِي هَذَا الشَّأْنِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].
فَالزَّلْزَلَةُ وَالِاضْطِرَابُ وَالْخَوْفُ وَبُلُوغُ الرُّعْبِ وَالشِّدَّةِ قُلُوبَ الْعِبَادِ جَائِزٌ عَلَى الْعِبَادِ, أَمَّا الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَمِنْ إِدْرَاكِ عِبَادِهِ بِالْفَرَجِ فَحَرَامٌ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ حَالِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعِبَادُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ خَالِقُهُمْ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْقَادِرُ الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103].
((تُوبُوا وَأَنِيبُوا وَأَسْلِمُوا إِلَى رَبِّكُمْ!))
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَمَرَ عِبَادَهَ بِأَلَّا يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ, عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَمِّلُوا فِي رَوْحِ اللهِ، وَأَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا مِنْ وَسِيعِ رَحْمَتِهِ.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
((يُخْبِرُ اللهُ عِبَادَهُ الْمُسْرِفِينَ بِسَعَةِ كَرَمِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْإِنَابَةِ قَبْلَ أَلَّا يُمْكِنَهُمْ ذَلِكَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مُخْبِرًا لِلْعِبَادِ عَنْ رَبِّهِمْ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} بِاتِّبَاعِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالسَّعْيِ فِي مَسَاخِطِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}: لَا تَيْأَسُوا مِنْهَا فَتُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَتَقُولُوا: قَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُنَا وَتَرَاكَمَتْ عُيُوبُنَا، فَلَيْسَ لَهَا طَرِيقٌ يُزِيلُهَا وَلَا سَبِيلٌ يَصْرِفُهَا، فَتَبْقُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُصِرِّينَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُتَزَوِّدِينَ مَا يُغْضِبُ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَنَ، وَلَكِنِ اعْرِفُوا رَبَّكُمْ بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا مِنَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالرِّبَا وَالظُّلْمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ.
{إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}؛ أَيْ: وَصْفُهُ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ وَصْفَانِ لَازِمَانِ ذَاتِيَّانِ لَا تَنْفَكُّ ذَاتُهُ عَنْهُمَا أَبَدًا، وَلَمْ تَزَلْ آثَارُهُمَا سَارِيَةً فِي الْوُجُودِ، مَالِئَةً لِلْمَوْجُودِ، تَسُحُّ يَدَاهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيُوَالِي النِّعَمَ عَلَى الْعِبَادِ وَالْفَوَاضِلَ فِي السِّرِّ وَالْجَهَارِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ، وَالرَّحْمَةُ سَبَقَتِ الْغَضَبَ وَغَلَبَتْهُ.
وَلَكِنْ لِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَيْلِهِمَا أَسْبَابٌ؛ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا الْعَبْدُ فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، أَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا -بَلْ لَا سَبَبَ لَهَا غَيْرُهُ- الْإِنَابَةُ إِلَى اللهِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّعَبُّدِ، فَهَلُمَّ إِلَى هَذَا السَّبَبِ الْأَجَلِّ وَالطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ!
وَلِهَذَا أَمَرَ -تَعَالَى- بِالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} بِقُلُوبِكُمْ، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} بِجَوَارِحِكُمْ، إِذَا أُفْرِدَتِ الْإِنَابَةُ دَخَلَتْ فِيهَا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا -كَمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- كَانَ الْمَعْنَى كَمَا مَرَّ.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} دَلِيلٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَنَّهُ مِنْ دُونِ إِخْلَاصٍ لَا تُفِيدُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ شَيْئًا، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ} مَجِيئًا لَا يُدْفَعُ، {ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر: 54]، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا هِيَ الْإِنَابَةُ وَالْإِسْلَامُ؟ وَمَا جُزْئِيَّاتُهَا وَأَعْمَالُهَا؟
فَأَجَابَ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} [الزمر: 55]، مِمَّا أَمَرَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ؛ كَمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ، وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالنُّصْحِ لِعِبَادِهِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَتَرْكِ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، فَالْمُتَتَبِّعُ لِأَوَامِرِ رَبِّهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَحْوِهَا هُوَ الْمُنِيبُ الْمُسْلِمُ، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].
وَكُلُّ هَذَا حَثٌّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ)) .
وَإِذَنْ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَعُودَ إِلَى الْأَصْلِ؛ أَنْ نَتُوبَ.
وَالتَّوْبَةُ أَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ رَجْعَةٌ وَعَوْدَةٌ:
*وَشَرْطُهَا الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ التَّوْبَةُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَأَنِينُ التَّائِبِينَ.. أَنِينُ الْمُخْطِئِينَ.. أَنِينُ الْمُجْتَرِحِينَ لِلسَّيِّئَاتِ وَالذُّنُوبِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ زَجَلِ الْمُسَبِّحِينَ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا أَعْيُنًا بَاكِيَةً مِنْ جَلالِ خَشْيَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
*الْإِخْلاصُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالْإِقْلاعُ الْفَوْرِيُّ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْذُّنُوبِ الْمُلَوِّثَاتِ.
*الْإِقْلاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالنَّدَمُ، وَالْعَزْمُ بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّ لا يَعُودَ الْمَرْءُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((النَّدَمُ تَوْبَةٌ)) .
*وَأَنْ تَقَعَ التَّوْبَةُ فِي وَقْتِهَا الْمَضْرُوبِ.
فَأَمَّا عَلَى الْمُسْتَوَى الْإِنْسَانِيِّ فَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ.
وَأَنْت هَاهُنَا لَمْ تَبْلُغْ رُوحُكَ حُلْقُومَهَا، وَلَمْ تَصِلْ بَعْدُ إِلَى ذِرْوَتِها، فَبَابُ التَّوْبَةِ مَا زَالَ مَفْتُوحًا.
وَأَمَّا فِي عُمُومِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ؛ فَحَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَقَبْلَ ذَلِكَ الْبَابُ مَفْتُوْحٌ، وَالْأَمْرُ مِنَ الرَّبِّ نَازِلٌ بِخَيْرٍ، وَلَا يَنْزِلَ مِنْهُ إِلَّا الْخَيْرُ.
((حُكْمُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ))
((قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ)).
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُنُوطِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].
وَقَالَ: ((عَدُّ سُوءِ الظَّنِّ وَالْقُنُوطِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُنُوطَ أَبْلَغُ مِنَ الْيَأْسِ، لِلتَّرَقِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَئِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إِسْلَامِهِ؛ فَالْيَأْسُ فِي حَقِّهِ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ، ثُمَّ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُشَدِّدُ عِقَابَهُ لَهُ كَالْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا)) )) .
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ؛ فَقَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ, وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ, وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)).
أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا شَبِيبَ بْنَ بِشْرٍ؛ فَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ((ثِقَةٌ))، وَلَيَّنَهُ أَبُو حَاتِمٍ, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- )) .
قَوْلُهُ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ)): هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الشِّرْكُ بِاللهِ هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَتَنَقُّصٌ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَسُوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وَلَقَدْ صَدَقَ وَنَصَحَ -رَحِمَهُ اللهُ-.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وَلِهَذَا لَا يَغْفِرُهُ اللهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: ((وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ))؛ أَيْ: قَطْعُ الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ مِنَ اللهِ فِيمَا يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، وَذَلِكَ إِسَاءَةُ ظَنٍّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَهْلٌ بِهِ وَبِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: ((وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ))؛ أَيْ: مِنَ اسْتِدْرَاجِهِ لِلْعَبْدِ وَسَلْبِهِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ-، وَذَلِكَ جَهْلٌ بِاللهِ وَبِقُدْرَتِهِ، وَثِقَةٌ بِالنَّفْسِ وَعُجْبٌ بِهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَصْرَ الْكَبَائِرِ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ؛ بَلِ الْكَبَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَضَابِطُهَا مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: ((كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللهُ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ)) .
وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((أَوْ نَفْيِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ فَعَلَ كَذَا))؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ)).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ)) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)) . رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرِيُّ فِي ((جَامِعِ الْبَيَانِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )) .
إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَا الْخَوْفُ إِلَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, مَعَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ مِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَازِلِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقَلْبِ, وَالْخَوْفُ مِنَ اللهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وَمَدَحَ أَهْلَ الْخَوْفِ فِي كِتَابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57-61].
فِي ((الْمُسْنَدِ)) وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟!!
قَالَ: ((لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَلَّا يُقْبَلُ مِنْهُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَالْخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ؛ بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَلِهَذَا يَزُولُ بِزَوَالِ الْمَخُوفِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
الْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالْمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ؛ وَلِهَذَا تَتَضَاعَفُ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ فِيهَا خَوْفٌ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَمَقَامُهَا أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْخَوْفِ وَمَقَامِهِ.
وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: ((الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ)).
فَاعْلَمْ -أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ- أَنَّ الْخَوْفَ وَاجِبٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَخَافَ مِنَ اللهِ، وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، إِنْ لَمْ تَأْتِ بِهَذَا الْخَوْفِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عُوقِبْتَ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تَأْتِ بِوَاجِبٍ أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ وَفَرَّطْتَ فِي حَقٍّ أَحَقَّهُ اللهُ عَلَيْكَ.
وَاعْلَمْ -أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ- أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَمِنْ عَظَائِمِ الْإِثْمِ، فَإِنْ تَوَرَّطْتَ فِي ذَلِكَ تَوَرَّطْتَ فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَعَظِيمَةٍ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
((اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ مِنْ عِبَادِهِ))
إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22])) . قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْأَلْبَانِيُّ كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، يَجْزِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا كَثِيرًا.
وَشَرَطَ اللهُ فِي الْعَفْوِ الْإِصْلَاحَ فِيهِ؛ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْجَانِي لَا يَلِيقُ بِالْعَفْوِ عَنْهُ، وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ تَقْتَضِي عُقُوبَتَهُ؛ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يَكُونُ الْعَفْوُ مَأْمُورًا بِهِ.
إِذَا لَمْ يُثْمِرِ الْعَفْوُ إِصْلَاحًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}؛ فَكَانَ عَفْوُهُ مَدْعَاةً لِلْإِصْلَاحِ، أَمَّا إِذَا عَفَوْنَا فَلَمْ يَزْدَدِ الْقَوْمُ إِلَّا طُغْيَانًا فَهَذَا عَفْوٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، إِنَّمَا الْعَفْوُ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا أَنْتَجَ فَأَثْمَرَ إِصْلَاحًا.
وَفِي جَعْلِ أَجْرِ الْعَافِي عَلَى اللهِ مَا يُهَيِّجُ عَلَى الْعَفْوِ، وَأَنْ يُعَامِلَ الْعَبْدُ الْخَلْقَ بِمَا يُحِبُ أَنْ يُعَامِلَهُ اللهُ بِهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ فَلْيَعْفُ عَنْهُمْ، وَكَمَا يُحِبُّ أَنْ يُسَامِحَهُ اللهُ فَلْيُسَامِحْهُمْ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
مَنْ وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمِنَّةِ الْمُثْلَى، وَعَلَى رَاحَةِ الضَّمِيرِ، وَعَلَى كَثْرَةِ مَا يَجْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَى مَا يُرْجَى لَهُ مِنْ جَزَاءِ رَبِّهِ لَهُ وَمُعَامَلَتِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ يُرْجَى أَنْ يُكَمِّلَ اللهُ لَهُ النَّاقِصَ وَيَعْفُوَ عَمَّا مَزَجَ فِيهِ الْعَبْدُ أَغْرَاضَهُ وَشَهَوَاتِهِ النَّفْسِيَّةَ مَعَ دَوَاعِي الْإِخْلَاصِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الْعَفْوُ عَنِ الْمُجْرِمِ الْمُفْسِدِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي الْعَفْوُ عَنْهُ مِمَّا يَزِيدُهُ فِي عُتُوِّهِ وَتَمَرُّدِهِ، فَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَلَعَلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنَ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ}، فَشَرَطَ اللهُ أَنْ يَكُونَ الْعَفْوُ فِيهِ صَلَاحٌ، فَأَمَّا الْعَفْوُ الَّذِي لَا صَلَاحَ فِيهِ بَلْ فِيهِ ضِدُّهُ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ -يَعْنِي الْخَادِمَ- فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
فِي الصَّفْحِ وَالْعَفُوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
((خَالِقِ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهِمْ حَسَنَةً.
((خَالِقِ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
*الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ؛ فَقَدْ قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَفْسِيرِهِ)) : قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 133-134].
أَمَرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَإِدْرَاكِ جَنَّتِهِ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَكَيْفَ بِطُولِهَا، الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْمُتَّقِينَ، فَهُمْ أَهْلُهَا، وَأَعْمَالُ التَّقْوَى هِيَ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهَا.
ثُمَّ وَصَفَ الْمُتَّقِينَ وَأَعْمَالَهُمْ؛ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}؛ أَيْ: فِي حَالِ عُسْرِهِم وَيُسْرِهِمْ، إِنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِنَ النَّفَقَةِ، وَإِنْ أَعْسَرُوا لَمْ يَحْتَقِرُوا مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ قَلَّ.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}؛ أَيْ: إِذَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُمْ -وَهُوَ امْتِلَاءُ قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَنَقِ الْمُوجِبِ لِلِانْتِقَامِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ-، هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ يَكْظِمُونَ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْغَيْظِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِمْ.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}: يَدْخُلُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَالْعَفْوُ أَبْلَغُ مِنَ الْكَظْمِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ مَعَ السَّمَاحَةِ عَنِ الْمُسِيءِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَحَلَّى بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ تَاجَرَ مَعَ اللهِ، وَعَفَا عَنْ عِبَادِ اللهِ؛ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ، وَكَرَاهَةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ، وَلِيَعْفُوَ اللهُ عَنْهُ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُ عَلَى رَبِّهِ الْكَرِيمِ، لَا عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَحْسَنَ، وَأَعْلَى، وَأَجَلَّ؛ وَهِيَ الْإِحْسَانُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ:
- 1- الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ.
- 2- وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.
*فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ)) -؛ فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
*وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ: فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.
وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ».
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
«أَيْ: بِرَحْمَةِ اللهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ؛ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ أَنْ ألَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.
{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا}؛ أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ، {غَلِيظَ الْقَلْبِ}؛ أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّئُ.
فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ.
وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللهُ لَهُ مَا يَقُولُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!!
أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُمْ بِهِ ﷺ؛ مِنَ اللِّينِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللهِ لِدِينِ اللهِ.
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللهِ؛ فَيَجْمَعَ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}؛ أَيْ: فِي الْأُمُورِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ» .
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
«وَهَذِهِ الْآيَاتُ -يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ وَمَا تَلَاهَا فِي صَدْرِ السُّورَةِ- إِنَّمَا نَزَلَتْ في قِصَّةِ ((بَدْرٍ)) فِي أَوَّلِ غَنِيمَةٍ كَبِيرَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَصَلَ بَيْنَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا نِزَاعٌ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْهَا, فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ}؛ كَيْفَ تُقْسَمُ، وَعَلَى مَنْ تُقْسَمُ؟
{قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}؛ قُل لَهُمْ: الْأَنْفَالُ لِلهِ وَرَسُولِهِ، يَضَعَانِهَا حَيْثُ شَاءَا, فَلَا اعْتِرَاضَ لَكُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ عَلَيْكُمْ إِذَا حَكَمَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَنْ تَرْضَوْا بِحُكْمِهِمَا, وَتُسَلِّمُوا الْأَمْرَ لَهُمَا، وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ}؛ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ, وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.
{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}: أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُمْ مِنَ التَّشَاحُنِ, وَالتَّقَاطُعِ, وَالتَّدَابُرِ؛ بِالتَّوَادُدِ, وَالتَّحَابِّ, وَالتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ, وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ -بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ- مِنَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ وَالتَّنَازُعِ.
وَيَدْخُلُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ: تَحْسِينُ الْخُلُقِ لَهُمْ, وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيئِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ -بِذَلِكَ- يَزُولُ كَثِيرٌ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالتَّدَابُرِ.
وَالْأَمْرُ الْجَامِعُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ, فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَمَنْ نَقَصَتْ طَاعَتُهُ لِلهِ وَرَسُولِهِ؛ فَذَلِكَ لِنَقْصٍ فِي إِيمَانِهِ» .
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر: 85-86].
«أَيْ: مَا خَلَقْنَاهُمَا عَبَثًا وَبَاطِلًا كَمَا يَظُنُّ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللهِ، بَلْ مَا خَلَقْنَاهُمَا {إِلَّا بِالْحَقِّ} الَّذِي مِنْهُ أَنْ تَكُونَا بِمَا فِيهِمَا دَالَّتَيْنِ عَلَى كَمَالِ خَالِقِهِمَا, وَاقْتِدَارِهِ, وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ, وَحِكْمَتِهِ, وَعِلْمِهِ الْمُحِيطِ, وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
{وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} لَا رَيْبَ فِيهَا, لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}: وَهُوَ الصَّفْحُ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ, بَلْ يُقَابِلُ إِسَاءَةَ الْمُسِيءِ بِالْإِحْسَانِ, وَذَنْبَهُ بِالْغُفْرَانِ؛ لِتَنَالَ مِنْ رَبِّكَ جَزِيلَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ, فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ.
وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الصَّفْحُ الْجَمِيلُ؛ أَيِ الْحَسَنُ الَّذِي قَدْ سَلِمَ مِنَ الْحِقْدِ وَالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، دُونَ الصَّفْحِ الَّذِي لَيْسَ بِجَمِيلٍ, وَهُوَ: الصَّفْحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَلَا يُصْفَحُ حَيْثُ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُقُوبَةَ, كَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ, الَّذِينَ لَا يَنْفَعُ مَعَهُمْ إِلَّا الْعُقُوبَةُ» .
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
«وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَذِكْرٍ وَعِلْمٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ}؛ أَيْ: يَسْعَى بَيْنَ الْعِبَادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَدَوَاءُ هَذَا أَلَّا يُطِيعُوهُ فِي الْأَقْوَالِ غَيْرِ الْحَسَنَةِ الَّتِي يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا، وَأَنْ يَلِينُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ لِيَنْقَمِعَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ عَدُوُّهُمُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَارِبوهُ، فَإِنَّهُ يَدْعُوهُمْ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
وَأَمَّا إِخْوَانُهُمُ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُمْ.. وَإِنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَسَعَى فِي الْعَدَاوَةِ؛ فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ السَّعْيُ فِي صَدِّ عَدُوِّهِمْ، وَأَنْ يَقْمَعُوا أَنْفُسَهُمُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ الَّتِي يَدْخُلُ الشَّيْطَانُ مِنْ قِبَلِهَا، فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، ويَسْتَقِيمُ أَمْرُهُمْ، ويُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِمْ» .
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} [يوسف: 87-92].
«أَيْ: قَالَ يَعْقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِبَنِيهِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}؛ أَيِ: احْرِصُوا وَاجْتَهِدُوا عَلَى التَّفْتِيشِ عَنْهُمَا، {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ}؛ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ لِلْعَبْدِ السَّعْيَ وَالِاجْتِهَادَ فَيمَا رَجَاهُ، وَأَمَّا الْإِيَاسُ فَيُوجِبُ لَهُ التَّثَاقُلَ وَالتَّبَاطُؤَ، وَأَوْلَى مَا رَجَا الْعِبَادُ فَضْلُ اللهِ وَإِحْسَانُهُ, وَرَحْمَتُهُ وَرَوْحُهُ.
{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}: فَإِنَّهُمْ -لِكُفْرِهِمْ- يَسْتَبْعِدُونَ رَحْمَتَهُ, وَرَحْمَتُهُ بَعِيدَةٌ مِنْهُمْ, فَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْكَافِرِينَ.
وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ؛ يَكُونُ رَجَاؤُهُ لِرَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
فَذَهَبُوا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ قَالُوا مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}؛ أَيْ: قَدِ اضْطُرِرْنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا، وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مَدْفُوعَةٍ مَرْغُوبٍ عَنْهَا؛ لِقِلَّتِهَا, وَعَدَمِ وُقُوعِهَا الْمَوْقِعَ، {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} مَعَ عَدَمِ وَفَاءِ الْعِوَضِ, وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِالزِّيَادَةِ عَنِ الْوَاجِبِ، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} بِثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ, وَبَلَغَ أَشُدَّهُ, رَقَّ لَهُمْ يُوسُفُ رِقَّةً شَدِيدَةً, وَعَرَّفَهُمْ بِنَفْسِهِ, وَعَاتَبَهُمْ؛ فَقَالَ: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}؟!!
أَمَّا يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ فَظَاهِرٌ فِعْلُهُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَخُوهُ؛ فَلَعَلَّهُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- قَوْلُهُمْ: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}، أَوْ أَنَّ الْحَادِثَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ هُمُ السَّبَبُ فِيهِ, وَهُمُ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لَهُ.
{إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}: وَهَذَا نَوْعُ اعْتِذَارٍ لَهُمْ بِجَهْلِهِمْ, أَوْ تَوْبِيخٌ لَهُمْ؛ إِذْ فَعَلُوا فِعْلَ الْجَاهِلِينَ, مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَلِيقُ مِنْهُمْ.
فَعَرَفُوا أَنَّ الَّذِي خَاطَبَهُمْ هُوَ يُوسُفُ، فَقَالُوا: {أَئِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى, وَالتَّمْكِينِ فِي الدُّنْيَا, وَذَلِكَ بِسَبَبِ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، فَـ{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}؛ أَيْ: يَتَّقِ فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ, وَيَصْبِرْ عَلَى الْآلَامِ وَالْمَصَائِبِ, وَعَلَى الْأَوَامِرِ بِامْتِثَالِهَا، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْإِحْسَانِ, وَاللهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا}؛ أَيْ: فَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ, وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ, وَأَسَأْنَا إِلَيْكَ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ, وَحَرَصْنَا عَلَى إِيصَالِ الْأَذَى إِلَيْكَ, وَالتَّبْعِيدِ لَكَ عَنْ أَبِيكَ, فَآثَرَكَ اللهُ تَعَالَى، وَمَكَّنَكَ مِمَّا تُرِيدُ، {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}؛ وَهَذَا غَايَةُ الِاعْتِرَافِ مِنْهُمْ بِالْجُرْمِ الْحَاصِلِ مِنْهُمْ عَلَى يُوسُفَ.
فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -كَرَمًا وَجُودًا-: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}؛ أَيْ: لَا أُثَرِّبُ عَلَيْكُمْ، وَلَا أَلُومُكُمْ، {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
فَسَمَحَ لَهُمْ سَمَاحًا تَامًّا, مِنْ غَيْرِ تَعْيِيرٍ لَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الذَّنْبِ السَّابِقِ, وَدَعَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ, وَهَذَا نِهَايَةُ الْإِحْسَانِ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى إِلَّا مِنْ خَوَاصِّ الْخَلْقِ, وَخِيَارِ الْمُصْطَفَيْنَ» .
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96].
«وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِهَا؛ فَقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}؛ أَيْ: إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ أَعْدَاؤُكَ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَلَا تُقَابِلْهُمْ بِالْإِسَاءَةِ، مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ، وَلَكِنِ ادْفَعْ إِسَاءَتَهُمْ إِلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ مِنْكَ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ عَلَى الْمُسِيءِ.
وَمِنْ مَصَالِحِ ذَلِكَ أَنَّهُ تَخِفُّ الْإِسَاءَةُ عَنْكَ فِي الْحَالِ وَفِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُ أَدْعَى لِجَلْبِ الْمُسِيءِ إِلَى الْحَقِّ، وَأَقْرْبُ إِلَى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ الْعَافِي بِصِفَةِ الْإِحْسَانِ، وَيَقْهَرُ بِذَلِكَ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِنَ الرَّبِّ.
قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذَا الْخُلُقِ الْجَمِيلِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}؛ أَيْ: بِمَا يَقُولُونَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ، قَدْ أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَدْ حَلُمْنَا عَنْهُمْ، وَأَمْهَلْنَاهُمْ، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ لَنَا، وَتَكْذِيبُهُمْ لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّدُ- يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُمْ بِالْإِحْسَانِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبْدِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ مِنَ الْبَشَرِ» .
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34-35].
«قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}؛ أَيْ: لَا يَسْتَوِي فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَالطَّاعَاتِ لِأَجْلِ رِضَا رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُسْخِطُهُ وَلَا تُرْضِيهِ.
وَلَا يَسْتَوِي الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا الْإِسَاءَةُ إِلَيْهِمْ، لَا فِي ذَاتِهَا، وَلَا فِي وَصْفِهَا، وَلَا فِي جَزَائِهَا: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْسَانٍ خَاصٍّ، لَهُ مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أَيْ: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الْخَلْقِ -خُصُوصًا مَنْ لَهُ حَقٌّ كَبِيرٌ عَلَيْكَ؛ كَالْأَقَارِبِ، وَالْأَصْحَابِ، وَنَحْوِهِمْ- إِسَاءَةً بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيكَ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا فَلَا تُقَابِلْهُ، بَلِ اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ، وَإِنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطَيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُلْ لَهُ سَلَامَكَ.
فَإِذَا قَابَلْتَ الْإِسَاءَةَ بِالْإِحْسَانِ؛ حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}؛ أَيْ: كَأَنَّهُ قَرِيبٌ شَفِيقٌ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا}؛ أَيْ: وَمَا يُوَفَّقُ لِهَذِهِ الْخَصْلَةِ الْحَمِيدَةِ {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} نُفُوسَهُمْ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى مُقَابَلَةِ الْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ، وَعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالْإِحْسَانِ؟!!
فَإِذَا صَبَّرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِلْمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ، لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَلَا يَزِيدُ الْعَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَنْ تَوَاضَعَ لِلهِ رَفَعَهُ، وَهَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَفَعَلَ ذَلِكَ مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}؛ لِكَوْنِهَا مِنْ خِصَالِ خَوَاصِّ الْخَلْقِ، الَّتِي يَنَالُ بِهَا الْعَبْدُ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ» .
«وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالذُّلِّ: أَنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ حَقِّكَ؛ جُودًا، وَكَرَمًا، وَإِحْسَانًا.. مَعَ قُدْرَتِكَ عَلَى الِانْتِقَامِ، فَتُؤثِرُ التَّرْكَ؛ رَغْبَةً فِي الْإِحْسَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، بِخِلَافِ الذُّلِّ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُ الِانْتِقَامَ عَجْزًا وَخَوْفًا، وَمَهَانَةَ نَفْسٍ، فَهَذَا مَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَلَعَلَّ الْمُنْتَقِمَ بِالْحَقِّ أَحْسَنُ حَالًا مِنْهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
فَمَدَحَهُمْ لِقُوَّتِهِمْ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنُفُوسِهِمْ، وَتَقَاضِيهِمْ مِنْهَا ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَدَرُوا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ اسْتِيفَاءِ مَا لَهُمْ عَلَيْهِ، نَدَبَهُمْ إِلَى الْخُلُقِ الشَّرِيفِ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ؛ فَقَالَ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].
فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ:
* الْعَدْلَ، وَأَبَاحَهُ.
* وَالفَضْلَ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ.
* وَالظُّلْمَ، وَحَرَّمَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ مَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ وَالْعَفْوِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ؟
قَيلَ: لَمْ يَمْدَحْهُمْ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَالِانْتِقَامِ؛ وَإِنَّمَا مَدَحَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمْ، فَلَمَّا قَدَرُوا نَدَبَهُمْ إِلَى الْعَفْوِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ((كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا، فَمَدَحَهُمْ عَلَى عَفْوٍ بَعْدَ قُدْرَةٍ، لَا عَلَى عَفْوِ ذِلَّةٍ وَعَجْزٍ وَمَهَانَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ الَّذِي مَدَحَ -سُبْحَانَهُ- بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149]، وَقَالَ: ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]».
((النَّبِيُّ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ))
لَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ -أَيْ: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ -وَالْعِضَاهُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ- فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ؛ فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.
قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ)).
فَهَا هُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةٍ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ.
ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَهُ وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)) . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
((نَمَاذِجُ مِنْ عَفْوِ وَصَفْحِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ))
وَهَذِهِ نَمَاذِجُ مُضِيئَةٌ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ مِنْ سِيَرِ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ؛ فَقَدْ شَتَمَ رَجُلٌ عُمَرَ بْنَ ذَرٍّ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «يَا هَذَا! إِنِّي قَدْ أَمَتُّ مُشَاتَمَةَ الرِّجَالِ صَغِيرًا، فَلَنْ أُحْيِيَهَا كَبِيرًا، وَأَنَا لَا أُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللهَ فِيَّ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ أُطِيعَ اللهَ فِيهِ».
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا شَتَمَكَ!
فَقَالَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ.
فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى صَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَالرَّجُلُ الَّذِي نَقَلَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَا ذَهَبَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْمُعَاقَبَةِ، فَلَمَّا صَارَ عِنْدَهُ أَقْبَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ فَقَالَ: «يَا أَخِي! إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللهُ لَكَ».
وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَغِيبُ عَنْهُ أَسْبَابُ انْفِعَالِهِ حَالَ انْفِعَالِهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَهُوَ فِيهِ رَأْسٌ.. عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ؛ يُسْأَلُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ سُؤَالًا، وَوَرَدَتِ الْمَسْأَلَةُ، فَأَخْطَأَ حِينَ الْجَوَابِ، وَغَلِطَ فِي الْإِجَابَةِ، فَكَانَ مَاذَا؟!!
لَا شَيْءَ، وَمَنِ الَّذِي لَا يَغْلَطُ؟! خَطِئَ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ لَا يُدْرِكُ فِيهَا صَوَابًا، وَلَا يَفْتَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى الْإِجَابَةِ فِيهَا بَابًا، فَكَانَ مَاذَا؟!!
لَا شَيْءَ.
فَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ غَلَطُهُ نَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «إِذَنْ؛ أَعُودُ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَا صَاغِرٌ، وَلَأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ».
«مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ»
لَقَد تَذَاكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ آثَارَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ أَجْوَادِ الْعَرَبِ، أَدْرَكَ الْعَصْرَيْنِ الْأُمَوِيَّ وَالْعَبَّاسِيَّ، وَوَلَّاهُ الْمَنْصُورُ إِمَارَةَ (سِجِسْتَانَ)، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ قُتِلَ بِهَا غِيلَةً سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ (151هـ)، وَثَبَتْ عَلَيْهِ خَوَارِجُ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَتَلُوهُ.
تَذَاكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ آثَارَ مَعْنٍ وَأَخْبَارَ كَرَمِهِ، مُعْجَبِينَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التُّؤَدَةِ وَوَفْرَةِ الْحِلْمِ وَلِينِ الْجَانِبِ، وَغَالَوْا فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ وَأَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُغْضِبَهُ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَوَعَدُوهُ مِائَةَ بَعِيرٍ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ.
فَعَمَدَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى بَعِيرٍ فَسَلَخَهُ وَارْتَدَى بِإِهَابِهِ -وَالْإِهَابُ: الْجِلْدُ مَا لَمْ يُدْبَغْ-، وَاحْتَذَى بِبَعْضِهِ -وَاحْتَذَى؛ أَيِ: انْتَعَلَ بِبَعْضِهِ-، جَاعِلًا بَاطِنَهُ ظَاهِرًا، وَدَخَلَ عَلَى مَعْنٍ بِصُورَتِهِ تِلْكَ، وَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
أَتَذْكُرُ إِذْ لِحَافُكَ جِلْدُ شَاةٍ = وَإِذْ نَعْلَاكَ مِنْ جِلْدِ البَعِيرِ
قَالَ مَعْنٌ: أَذْكُرُهُ وَلَا أَنْسَاهُ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَسُبْحَانَ الَّذِي أَعْطَاكَ مُلْكًا = وَعَلَّمَكَ الجُلُوسَ عَلَى السَّرِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: إِنَّ اللَّهَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: فَلَسْتُ مُسَلِّمًا إِنْ عِشْتُ دَهْرًا = عَلَى مَعْنٍ بِتَسْلِيمِ الْأَمِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: السَّلَامُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ ضَيْرٌ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: سَأَرْحَلُ عَنْ بِلَادٍ أَنْتَ فِيهَا = وَلَوْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى الفَقِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: إِنْ جَاوَرْتَنَا فَمَرْحَبًا بِالْإِقَامَةِ، وَإِنْ جَاوَزْتَنَا فَمَصْحُوبًا بِالسَّلَامَةِ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَجُدْ لِي يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ بِمَالٍ = فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْمَسِيرِ
-قَالَ: يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ، بِدَلًا مِنِ: ابْنِ زَائِدَةَ! احْتِقَارًا لَهُ-!!
فَجُدْ لِي يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ بِمَالٍ = فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى المَسِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطُوهُ أَلْفَ دِينَارٍ تُخَفِّفُ عَنْهُ مَشَاقَّ الأَسْفَارِ.
فَأَخَذَهَا وَقَالَ: قَلِيلٌ مَا أَتَيْتَ بِهِ وَإِنِّي = لَأَطْمَعُ مِنْكَ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ
فَثَنِّ فَقَدْ آتَاكَ الْمُلْكَ عَفْوًا = بِلَا عَقْلٍ وَلَا رَأْيٍ مُنِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطُوهُ أَلْفًا ثَانِيَةً؛ كَيْ يَكُونَ عَنَّا رَاضِيًا.
فَتَقَدَّمَ الأَعْرَابِيُّ إِلَيْهِ, وَقَبَّلَ الأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ:
سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُبْقِيكَ دَهْرًا = فَمَا لَكَ فِي الْبَرِيَّةِ مِنْ نَظِيرِ
فَمِنْكَ الْجُودُ وَالْإِفْضَالُ حَقًّا = وَفَيْضُ يَدَيْكَ كَالْبَحْرِ الْغَزِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطَيْنَاهُ عَلَى هَجْوِنَا أَلْفَيْنِ، فَلْيُعْطَ أَرْبَعَةً عَلَى مَدْحِنَا.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: بِأَبِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَنَفْسِي؛ فَأَنْتَ نَسِيجُ وَحْدَكَ فِي الْحِلْمِ، وَنَادِرَةُ دَهْرِكَ فِي الجُودِ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِي صِفَاتِكَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، فَلَمَّا بَلَوْتُكَ صَغَّرَ الْخُبْرُ الْخَبَرَ، وَأَذْهَبَ ضَعْفَ الشَّكِّ قُوَّةُ الْيَقِينِ، وَمَا بَعَثَنِي عَلَى مَا فَعَلْتُ إِلَّا مِائَةُ بَعِيرٍ جُعِلَتْ لِي عَلَى إِغْضَابِكَ.
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكَ، وَوَصَلَهُ بِمِائَتَيْ بَعِيرٍ؛ نِصْفُهَا لِلرِّهَانِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَهُ.
فَانْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ دَاعِيًا لَهُ، شَاكِرًا لِهِبَاتِهِ، مُعْجَبًا بِأَنَاتِهِ.
وَقَدْ خَرَجَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّهِ لِلصَّيْدِ، فَاعْتَرَضَهُمْ قَطِيعٌ مِنْ ظِبَاءٍ؛ فَتَفَرَّقُوا فِي طَلَبِهِ، وَانْفَرَدَ مَعْنٌ خَلْفَ ظَبْيٍ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَرَأَى شَيْخًا مُقْبِلًا مِنَ البَرِّيَّةِ عَلَى حِمَارٍ، فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ؟ وَإِلَى أَيْنَ؟
قَاَل: أَتَيْتُ مِنْ أَرْضٍ لهَا عِشْرُونَ سَنَةً مُجْدِبَةً، وَقَدْ أَخْصَبَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَزَرَعْتُهَا مَقْثَأَةً -وَالْمَقْثَأَةُ: مَوْضِعُ الْقِثَّاءِ-، فَأَخْرَجَتِ الْقِثَّاءَ فِي غَيْرِ أَوَانٍ، فَجَمَعْتُ مِنْهَا مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، وَقَصَدْتُ بِهِ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ؛ لِكَرَمِهِ الْمَشْكُورِ، وَفَضْلِهِ الْمَشْهُورِ، وَمَعْرُوفِهِ الْمَأْثُورِ، وَإِحْسَانِهِ الْمَوْفُورِ.
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: وَكَمْ أَمَّلْتَ مِنْهُ؟
قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَال: خَمْسَمِائَةٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَالَ: مِائَةً.
فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قَالَ: لَا أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ.
قَالَ لَهُ مَعْنٌ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَالَ الأَعْرَابِيُّ -وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ-: أُدْخِلُ قَوَائِمَ حِمَارِي فِي عَيْنِهِ، وَأَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي خَائِبًا.
فَضَحِكَ مَعْنٌ، وَسَاقَ جَوَادَهُ حَتَّى لَحِقَ بِأَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَقَالَ لِحَاجِبِهِ: إِذَا أَتَاكَ شَيْخٌ عَلَى حِمَارٍ بِقِثَّاءٍ فَادْخُلْ بِهِ عَلَيَّ، فَأَتَى الرَّجُلُ بَعْدَ سَاعَةٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَعْرِفْهُ؛ لِهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَثْرَةِ حَشَمِهِ وَخَدَمِهِ، وَهُوَ مُتَصَدِّرٌ فِي دَسْتِهِ -وَالدَّسْتُ: صَدْرُ الْبَيْتِ-، وَالْخَدَمُ قِيَامٌ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَتَى بِكَ يَا أَخَا الْعَرَبِ؟
قَالَ: أَمَّلْتُ فَضْلَ الْأَمِيرِ، وَأَتَيْتُهُ بِقِثَّاءٍ فِي غَيْرِ أَوَانٍ.
فَقَالَ: كَمْ أَمَّلْتَ فِينَا؟
قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ: كَثِيرٌ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ شُؤْمًا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ.
قَالَ: كَثِيرٌ.
فَمَا زَالَ بِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: خَمْسِينَ دِينَارًا.
فَقَالَ لَهُ: كَثِيرٌ.
فَقَالَ: لَا أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ.
فَضَحِكَ مَعْنٌ، فَعَلِمَ الأَعْرَابِيُّ أَنَّهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي؛ إِنْ لَمْ تُجِبْ إِلَى الثَّلَاثِينَ فَالْحِمَارُ مَرْبُوطٌ بِالْبَابِ!
وَهَاهُوَ ذَا مَعْنٌ جَالِسٌ، فَضَحِكَ مَعْنٌ حَتَّى اسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ دَعَا بِوَكِيلِهِ فَقَالَ: أَعْطِهِ أَلْفًا، وَخَمْسَمِائَةٍ، وَثَلَاثَمِائَةٍ، وَمِائَةً، وَخَمْسِينَ، وَثَلَاثِينَ.. وَدَعِ الْحِمَارَ مَكَانَهُ!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَوْ كَانَ ابْنَ زَائِدَةَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ نَاقِصَةَ، قَالَ:
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى = حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
وَتَقُومُ الْمَعْرَكَةُ!!
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِنْفَاذِ الْعِقَابِ، وَلَكِنْ هَذَا هُوَ الْحِلْمُ؛ لِأَنَّ مَعْنًا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْفَاذِ الْعِقَابِ لَوْ أَرَادَ؛ بَلْ عَلَى إِنْفَاذِ أَشَدِّ عِقَابٍ.
إِنَّ الصَّفْحَ، وَالتَّسَامُحَ، وَالصَّبْرَ، وَالْوَفَاءَ، وَالْبَذْلَ.. كُلُّ أُولَئِكَ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ، وَشِيَاتٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ.
((رِضَا اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجَلُّ الْغَايَاتِ))
عِبَادَ اللهِ! مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَةُ الرِّضَا، فَهُوَ يَرْضَى لَا كَأَحَدٍ مِنَ الْوَرَى، وَهُوَ -جَلَّ وَعَلَا- مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الرِّضَا عَلَى مَنْ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ مُقْتَضَى الرِّضَا؛ فَيَرْضَى عَنِ الْعَمَلِ، وَيَرْضَى عَنِ الْعَامِلِ.
يَرْضَى عَنِ الْعَمَلِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
وَيَرْضَى عَنِ الْعَامِلِ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100].
عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ الْأَسْلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- رَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَ))؛ قَالَهَا ثَلَاثًا.
إِذَا رَضِيَ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ الْعَبْدِ؛ قَبِلَ الْيَسِيرَ مِنْ عَمَلِهِ وَنَمَّاهُ، وَغَفَرَ الْكَثِيرَ مِنْ زَلَلِـهِ وَمَحَاهُ.
وَالرِّضَا مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ، وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْكَرَامَةِ، وَأَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا صِفَةُ اللهِ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الرِّضَا وَالْجَنَّةِ كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ صِفَاتِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَلْقِهِ.
فَهَذَا الرِّضَا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ الرِّضَا صِفَةُ اللهِ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَخَلْقُ اللهِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].
فَأَيْسَرُ يَسِيرٍ مِنْ رِضْوَانِهِ -وَلَا يُقَالُ لَهُ يَسِيرٌ- أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَسَاكِنِ الطَّيِّبَةِ وَمَا حَوَتْهُ مِنَ النَّعِيمِ.
قَلِيلٌ مِنْكَ يُقْنِعُنِي، وَلَكِنْ = قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ
فَلَا شَيْءَ مِنَ النِّعَمِ -وَإِنْ جَلَّتْ وَعَظُمَتْ- يُمَاثِلُ رِضْوَانَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَلِهَذَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : ((إِنَّ اللهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُونَ: لَبَيَّكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟
فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبُّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ!
فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ!
فَيَقُولُونَ: يَا رَبُّ! وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟!!
فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)).
فَرِضْوَانُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّعِيمِ وَإِنْ عَظُمَ.
أَوَمَا عَلِمْتَ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ = حَقًّا يُكَلِّمُ حِزْبَهُ بِجِنَانِ
فَيَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ هَلْ أَنْتُمُ = رَاضُونَ قَالُوا نَحْنُ ذُو رِضْوَانِ
أَمْ كَيْفَ لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا = مَا لَمْ يَنَلْهُ قَطُّ مِنْ إِنْسَانِ
هَلْ ثَمَّ شَيْءٌ غَيْرَ ذَا فَيَكُونُ أَفْـ = ـضْلَ مِنْهُ نَسْأَلُهُ مِنَ الْمَنَّانِ
فَيَقُولُ أَفْضَلُ مِنْهُ رِضْوَانِي فَلَا = يَغْشَاكُمُ سَخَطٌ مِنَ الرَّحْمَنِ
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ وَالْجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَالنَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ