((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الثَّامِنُ: مَثَلُ الْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ))

((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الثَّامِنُ:  مَثَلُ الْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ))

((الدَّرْسُ الثَّامِنُ:

مَثَلُ الْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

((أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ يَضْرِبُ لِلنَّاسِ الْأَمْثَالَ، وَيُوَضِّحُ لِعِبَادِهِ فِي كِتَابِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي آيَاتِهِ وَيَتَدَبَّرُوهَا؛ فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِيهَا يَفْتَحُ لِلْعَبْدِ خَزَائِنَ الْعِلْمِ، وَيُبَيِّنُ لَهُ طُرُقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَيَحُثُّهُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَيَزْجُرُهُ عَنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، فَلَا أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي الْقُرْآنِ، وَالتَّدَبُّرِ لِمَعَانِيهِ)) لَوْ عَقَلَ.

وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِمَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، يَقْصِدُ بِهِ التَّعَزُّزَ وَالتَّقَوِّيَ وَالنَّفْعَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَقْصُودِهِ؛ فَإِنَّ مَثَلَهُ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 41-42].

وَصْفُ الْمُشْرِكِينَ -الَّذِينَ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ؛ لِيَكُونُوا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ يَحْمُونَهُمْ، وَيَنْصُرُونَهُمْ بِقُوًى غَيْبِيَّةٍ يَتَوَهَّمُونَهَا لَهُمْ؛ وَصْفُ هَؤُلَاءِ كَوَصْفِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي تُلْغِي وُجُودَهُ قَشَّةٌ ضَئِيلَةُ الْحَجْمِ، ضَعِيفَةُ الْقُوَّةِ.

فَهُمْ وَاهِمُونَ فِي اعْتِمَادِهِمْ عَلَى حِمَايَةِ أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ دُونِ اللهِ، وَالْقُوَى الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ هِيَ مِنْ صِنْفِ خُيُوطِ الْعَنْكَبُوتِ، وَإِنَّ أَضْعَفَ الْبُيُوتِ الَّتِي تَتَّخِذُهَا الْكَائِنَاتُ الْحَيَّةُ: هُوَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ.

لَوْ كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى أَنْ يَعْلَمُوا الْحَقِيقَةَ؛ لَعَلِمُوا أَنَّ اعْتِمَادَهُمْ عَلَى قُوَى أَوْلِيَائِهِمْ لِنُصْرَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ، أَوْ دَفْعِ الضُّرِّ عَنْهُمْ يُسَاوِي اعْتِمَادَهُمْ عَلَى قُوَّةٍ تُسَاوِي قُوَّةَ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ.

وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ؛ لَنَبَذُوا عَقَائِدَهُمُ الشِّرْكِيَّةَ نَبْذَ الْقُشُورِ إِلَى رُكَامِ الْقُمَامَاتِ.

إِنَّ اللهَ الْمُحِيطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَا يَعْبُدُونَ وَلَا يَسْأَلُونَ لِمَطَالِبِهِمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شَيْئًا مَا تُؤَهِّلُهُ صِفَاتُهُ لِجَلْبِ نَفْعٍ لَهُمْ، أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهُمْ، إِنَّمَا يَدْعُونَ أَوْهَامًا اصْطَنَعُوهَا افْتِرَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَجَعَلُوهَا شُرَكَاءَ للهِ، وَهُوَ ذُو الْقُوَّةِ الْغَالِبَةِ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، الَّذِي يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَوَاضِعِهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ وَأَكْمَلِهِ، وَيَخْتَارُ أَفْضَلَ الْمُخْتَارَاتِ وَأَتْقَنَهَا فِي الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ لِمَا يُعْطِي أَحْسَنَ النَّتَائِجِ.

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ السَّامِيَةُ فِي أُسْلُوبِهَا وَدَلَالَاتِهَا نُبَيِّنُهَا لِلنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ إِقْنَاعِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ لِلْحَقِّ، وَمَا يَعْقِلُ دَلَالَاتَهَا الْعَمِيقَةَ وَيَتَمَسَّكُ بِمَا تُرْشِدُ إِلَيْهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهَا، وَيَفْهَمُونَ الْغَايَةَ مِنْهَا.

أَمَّا الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ فِيهِمْ، وَيَضَعُونَ الْأَغْشِيَةَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَعُقُولِهِمْ؛ فَلَيْسُوا جَدِيرِينَ بِأَنْ يَعْقِلُوهَا، أَوْ يَفْهَمُوا الْغَايَةَ مِنْهَا، أَوْ يَعْمَلُوا بِهِدَايَاتِهَا إِذَا هُمْ فَهِمُوا مَعَانِيَهَا.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76].

((وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِبُطْلَانِ الشِّرْكِ؛ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وُلِدَ أَخْرَسَ، لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ، وَعَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا، وَهُوَ ثَقِيلٌ عَلَى مَنْ يَلِي أَمْرَهُ وَيَعُولُهُ، حَيْثُمَا يُرْسِلْهُ وَيُصَرِّفْهُ فِي طَلَبِ حَاجَةٍ، أَوْ كِفَايَةِ مُهِمٍّ؛ لَا يَأْتِ بِنُجْحٍ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَسُ عَاجِزٌ!

هَلْ يَسْتَوِي صَاحِبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَمَنْ هُوَ سَلِيمُ الْحَوَاسِّ، ذُو رُشْدٍ وَرَأْيٍ، يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عَلَى سِيرَةٍ صَالِحَةٍ وَدِينٍ قَوِيمٍ؟!! هَلْ يَسْتَوِي هَذَانِ الرَّجُلَانِ فِي مَفَاهِيمِكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ؟!!

فَكَيْفَ تُسَوُّونَ فِي الْإِلَهِيَّةِ بَيْنَ أَوْثَانِكُمُ الْجَامِدَةِ الَّتِي لَا يُرْجَى مِنْهَا خَيْرٌ، وَلَا يُخْشَى مِنْهَا ضُرٌّ، وَبَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خَالِقِ الْكَوْنِ، وَالْمُتَصَرِّفِ بِكُلِّ شَيْءٍ فِيهِ، وَالْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا؟!!)).

كُلُّ مَا فِي الْحَيَاةِ مِنْ نَشَاطٍ وَحَرَكَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ للهِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ؛ فَتَتَحَقَّقُ -حِينَئِذٍ- وَحْدَةُ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَهْدَأُ وَتَسْتَقِرُّ الرُّوحُ، وَيَطْمَئِنُّ الضَّمِيرُ، وَيَهْدَأُ الْجَنَانُ، وَتَسْتَقِيمُ عَلَى الصِّرَاطِ الْأَقْدَامُ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

عَبْدٌ وَاحِدٌ لِرَبٍّ وَاحِدٍ، لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، يُحَقِّقُ أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ، وَيَعْبُدُهُ مُخْلِصًا لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدِّينَ؛ أَهَذَا فِي اسْتِقْرَارِ قَلْبِهِ، وَقَرَارِ ضَمِيرِهِ، وَرَاحَةِ فُؤَادِهِ وَرُوحِهِ كَمَنْ فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ، هَذَا يَأْمُرُهُ وَهَذَا يَنْهَاهُ، وَهَذَا يُقِيمُهُ وَهَذَا يُقْعِدُهُ، وَهَذَا يُوقِظُهُ وَهَذَا يُنِيمُهُ؛ فَأَنَّى يَسْتَقِرُّ لِهَذَا قَلْبٌ عَلَى قَرَارٍ؟!!

هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا؟!!

سَيُجِيبُ كُلُّ مَنْ آتَاهُ اللهُ عَقْلًا: لَا يَسْتَوِيَانِ.

الْحَمْدُ للهِ.. لَقَدْ نَطَقْتُمْ أَنْتُمْ، وَأَجَبْتُمْ عَنِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْتُ لَكُمْ لِلْمُوَحِّدِ وَالْمُشْرِكِ.. هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا؟!

وَالْجَوَابُ هَاهُنَا مَحْذُوفٌ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، وَالتَّعْقِيبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

 ((وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ؛ فَكَأَنَّمَا سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَسْتَلِبُهُ جَوَارِحُ الطَّيْرِ، وَتَذْهَبُ بِهِ بِسُرْعَةٍ، وَتُقَطِّعُهُ وَتُمَزِّقُهُ بِمَخَالِبِهَا، أَوْ تَمِيلُ وَتَذْهَبُ بِهِ الرِّيحُ، فَتَقْذِفُهُ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ مُهْلِكٍ))، وَكَذَلِكَ الْمُشْرِكُ فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَحَيْرَتِهِ، يَهْوِي بِهِ شِرْكُهُ مِنْ أَوْجِ الْإِيمَانِ إِلَى مَهَاوِي الضَّلَالَةِ وَحَضِيضِ الْكُفْرِ، وَيَعِيشُ قَلِقًا، مُضْطَرِبَ النَّفْسِ، مُشَتَّتَ الْفِكْرِ.

هَذَا حَالُ الْمُشْرِكِ.

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ}، تَأَمَّلْ فِي مَثَلِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71].

 ((قُلْ -أَيُّهَا الدَّاعِي إِلَى اللهِ- لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا لِدَعْوَتِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ: أَنَعْبُدُ الْأَصْنَامَ الَّتِي لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ تَرَكَ عِبَادَتَهَا، وَنَرْجِعُ مُنْقَلِبِينَ عَلَى أَعْقَابِنَا مِنَ الِارْتِقَاءِ إِلَى الِانْتِكَاسِ فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ بَعْدَ وَقْتِ هِدَايَةِ اللهِ لَنَا؛ دَعْوَةً عَنْ طَرِيقِ رَسُولِهِ، وَتَوْفِيقًا بِتَحْبِيبِ الْإِيمَانِ لَنَا، وَشَرْحِ صُدُورِنَا لِلْإِسْلَامِ، وَتَطْبِيقِهِ فِي سُلُوكِنَا؛ كَالَّذِي اسْتَمَالَتْهُ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِزُخْرُفِ أَقْوَالِهَا، فَأَلْقَتْهُ فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ مِنَ الْأَرْضِ، تَائِهًا ضَالًّا، لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ!!

لِهَذَا الْمُتَحَيِّرِ أَصْحَابٌ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ كَانَ مَعَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَمِيلَهُ الشَّيَاطِينُ إِلَى مَسَالِكِهَا، يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى، يَقُولُونَ لَهُ نَاصِحِينَ مُرْشِدِينَ: ائْتِنَا، فَلَا يُجِيبُهُمْ!!

قَلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ مِنْ أُمَّتِهِ: إِنَّ طَرِيقَ اللهِ الَّذِي أَوْضَحَهُ لِعِبَادِهِ، وَدِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُمْ هُوَ وَحْدَهُ الْهُدَى وَالنُّورُ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُضَادٌّ لَهُ بَاطِلٌ.

وَقُلْ لَهُمْ -أَيْضًا-: أُمِرْنَا جَمِيعًا بِالتَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ نُسْلِمَ وَنُخْلِصَ الْعِبَادَةَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُهَيْمِنِ عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ بِصِفَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ، الشَّامِلَةِ لِلْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ؛ فَبِهَذَا الْإِسْلَامِ نُحَقِّقُ عُبُودِيَّتَنَا لِخَالِقِنَا وَمَالِكِنَا، وَمُمِدِّنَا دَوَامًا بِعَطَاءَاتِهِ)).

إِنَّ الشِّرْكَ يَقْضِي عَلَى مَنَازِعِ النَّفْسِ السَّامِيَةِ، وَيُحَطِّمُ مُثُلَهَا الْعُلْيَا.

إِنَّ الشِّرْكَ مُسَوِّغٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ.

إِنَّ الشِّرْكَ مَبْعَثٌ لِلْمَخَاوِفِ.

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} مِنَ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ {وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مَا أَعْجَبَ الْمُفَارَقَةَ!! {لَوْ كُنتُم تَعلَمُونَ} [الأنعام: 80-81]، كَيْفَ أَخَافُ آلِهَتَكُمُ الْبَاطِلَةَ الَّتِي لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ ((اللهَ)) الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؟!!

كَيْفَ أَخَافُ آلِهَتَكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَخَافُونَ الْإِلَهَ الْحَقَّ الَّذِي أَعْبُدُ؟!!

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82].

 ((وَخَاصَمَهُ قَوْمُهُ الْمُشْرِكُونَ -قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- فِي تَوْحِيدِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-، وَخَوَّفُوهَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ؛ فَقَالَ لَهُمْ: أَتُخَاصِمُونَنِي فِي تَوْحِيدِ اللهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَقَدْ وَفَّقَنِي رَبِّي إِلَيْهِ؟!! وَلَسْتُ أَخَافُ مِنْ أَصْنَامِكُمْ؛ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ ضَرًّا فَتَضُرَّنِي، وَلَا نَفْعًا فَتَنْفَعَنِي؛ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، فَمَا شَاءَ اللهُ كَانَ.

وَمَعَ عِلْمِ اللهِ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ؛ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ -يَا قَوْمِي- مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ وَالشِّرْكِ بِهِ؛ فَتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ؟!!

وَكَيْفَ يَقَعُ مِنِّي خَوْفٌ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْثَانٍ، وَلَا يَقَعُ مِنْكُمْ أَنْتُمْ خَوْفٌ لِشِرْكِكُمْ بِاللهِ حِينَ أَشْرَكْتُمْ مَعَهُ مَا خَلَقَهُ دُونَ بُرْهَانٍ؟!!

فَأَيُّ الْجَمْعَيْنِ -جَمْعِ الْمُوَحِّدِينَ، وَجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ- أَوْلَى بِالْأَمْنِ وَالسَّلَامَةِ؟!! إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَوْلَاهُمَا فَاتَّبِعُوهُ، وَأَوْلَاهُمَا دُونَ رَيْبٍ هُوَ جَمْعُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَحِّدِينَ.

الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْأَمْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ فِي رُبُوبِيَّتِهِ أَوْ إِلَهِيَّتِهِ)).

أُولَئِكَ الَّذِينَ هُمْ رَفِيعُو الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمُ الْأَمْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَخَاوِفِ عَذَابِ النَّارِ؛ لِتَسْلِيمِ اللهِ لَهُمْ، وَحِفْظِهِمْ وَرِعَايَتِهِمْ، وَالْعَفْوِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، وَزَحْزَحَتِهِمْ عَنِ النَّارِ، وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.

فَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الَّذِينَ يُؤْتِيهِمُ الْأَمْنَ وَالْهِدَايَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.. أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وَالظُّلْمُ هَاهُنَا: الشِّرْكُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وَلَمَّا قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: وَأَيُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟!!

فَذَهَبُوا إِلَى الظُّلْمِ الْأَصْغَرِ الَّذِي هُوَ دُونَ الشِّرْكِ.

قَالَ ﷺ: ((لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ -يُرِيدُ لُقْمَانَ-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}))؛ فَالظُّلْمُ هَاهُنَا: هُوَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ.

فَالَّذِينَ آمَنُوا، وَحَقَّقُوا التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ، وَلَمْ يَتَلَبَّسُوا بِشَيْءٍ مِنْ قَاذُورَاتِ الشِّرْكِ وَلَا نَجَاسَاتِهِ؛ أُولَئِكَ لَهُمْ أَمْنٌ كَامِلٌ وَهِدَايَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِذَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؛ نَقَصَ مِنْ أَمْنِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ عَلَى قَدْرِ مَا نَقَصُوا مِنْ تَحْقِيقِ تَوْحِيدِهِمْ.

الشِّرْكُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ دُنْيَا وَآخِرَةً.

نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، قَوْلًا وَعَمَلًا، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ-الجزء الأول

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان