الْمَفْهُومُ الْأَوْسَعُ لِلصَّدَقَةِ

الْمَفْهُومُ الْأَوْسَعُ لِلصَّدَقَةِ

((الْمَفْهُومُ الْأَوْسَعُ لِلصَّدَقَةِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَقَةِ))

فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَتُشْرَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِإِطْلَاقِ الْحَثِّ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِلتَّرْغِيبِ فِيهَا، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18].

 

((إِنَّ الْمُتَصَدِّقِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، وَأَنْفَقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ نَفَقَاتٍ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُهُمُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى- يُضَاعَفُ لَهُمْ ثَوَابُ ذَلِكَ، وَلَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ ثَوَابُ جَزِيلٌ، وَهُوَ الْجَنَّةُ)).

 (({إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ}: بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ: الَّذِينَ أَكْثَرُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالنَّفَقَاتِ المَرْضِيَّةِ، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بِأَنْ قَدَّمُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي طُرُقِ الْخَيْرَاتِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ {يُضَاعَفُ لَهُمْ}: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}: وَهُوَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِمَّا لَا تَعْلَمُهُ النُّفُوسُ)).

إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ، أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ، وَجَعَلَهَا مِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، وَوَعَدَ الْمُتَصَدِّقِينَ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].

((أَمَرَ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَبِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ؛ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ وَاسْتَخْلَفَهُمْ عَلَيْهَا؛ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ رَغَّبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ بِذِكْرِ مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ، فَقَالَ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا} أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أَعْظَمُهُ وَأَجَلُّهُ رِضَا رَبِّهِمْ، وَالْفَوْزُ بِدَارِ كَرَامَتِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261-262].

((هَذَا حَثٌّ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ فِي إِنْفَاقِ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ طَرِيقُهُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا إِنْفَاقُهُ فِي تَرْقِيَةِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَفِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَفِي تَجَهُّزِ الْمُجَاهِدِينَ وَتَجْهِيزِهِمْ، وَفِي جَمِيعِ الْمَشَارِيعِ الْخَيْرِيَّةِ النَّافِعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَلِي ذَلِكَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْأَمْرَانِ، فَيَكُونُ فِي النَّفَقَةِ دَفْعُ الْحَاجَاتِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْخَيْرِ وَالطَّاعَاتِ، فَهَذِهِ النَّفَقَاتُ مُضَاعَفَةٌ، هَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ بِسَبْعِ مِائَةٍ إِلَى أَضْعَافٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الْمُنْفِقِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ التَّامِّ، وَفِي ثَمَرَاتِ نَفَقَتِهِ وَنَفْعِهَا؛ فَإِنَّ بَعْضَ طُرُقِ الْخَيْرَاتِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِيهَا مَنَافِعُ مُتَسَلْسِلَةٌ، وَمَصَالِحُ مُتَنَوِّعَةٌ؛ فَكَانَ الْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

ثُمَّ -أَيْضًا- ذَكَرَ ثَوَابًا آخَرَ لِلْمُنْفِقِينَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِهِ نَفَقَةً صَادِرَةً مُسْتَوْفِيَةً لِشُرُوطِهَا، مُنْتَفِيَةً مَوَانِعَهَا، فَلَا يُتْبِعُونَ الْمُنْفَقَ عَلَيْهِ مَنًّا مِنْهُمْ عَلَيْهِ، وَتَعْدَادًا لِلنِّعَمِ، وَأَذِيَّةً لَهُ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ، وَبِحَسَبِ نَفَقَاتِهِمْ وَنَفْعِهَا، وَبِفَضْلِهِ الَّذِي لَا تَنَالُهُ وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ صَدَقَاتُهُمْ.

{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}: فَنَفَى عَنْهُمُ الْمَكْرُوهَ الْمَاضِيَ بِنَفْيِ الْحُزْنِ، وَالْمُسْتَقْبَلَ بِنَفْيِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ؛ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمُ الْمَحْبُوبُ، وَانْدَفَعَ عَنْهُمُ الْمَكْرُوهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].

وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ، وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَالْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَدُلُّ ظَاهِرُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ ذَوُو حَاجَةٍ، وَالْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَالطَّالِبِينَ الْمُسْتَطْعِمِينَ، وَأَعْطَى الْمَالَ فِي مُعَاوَنَةِ الْمُكَاتَبِينَ؛ حَتَّى يَفُكُّوا رِقَابَهُمْ، أَوْ فِي فَكِّ الْأَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِفِدَائِهِمْ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ؛ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ)). وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ)).

((فَضَائِلُ الصَّدَقَةِ وَثَمَرَاتُهَا))

لَقَدْ شُرِعَتِ الصَّدَقَةُ طُهْرَةً لِلنَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَدَفْعًا لِلشُّحِّ وَالْبُخْلِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103].

((قَالَ -تَعَالَى- لِرَسُولِهِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُ آمِرًا لَهُ بِمَا يُطَهِّرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُتَمِّمُ إِيمَانَهُمْ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}: وَهِيَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أَيْ: تُطَهِّرُهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.

{وَتُزَكِّيهِمْ} أَيْ: تُنَمِّيهِمْ، وَتُزِيدُ فِي أَخْلَاقِهِمُ الْحَسَنَةِ وَأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَتُزِيدُ فِي ثَوَابِهِمُ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَتُنَمِّي أَمْوَالَهُمْ)).

وَالصَّدَقَةُ تُلِينُ الْقَلْبَ وَتُذْهِبُ قَسْوَتَهُ؛ فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ: ((إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ، وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَضَائِلُ الصَّدَقَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهَلْ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ؟!!

نَعَمْ، إِنَّ الْأَمْرَ لَكَذَلِكَ..

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَسُمِّيَتْ صَدَقَةً؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ لِتَصْدِيقِ صَاحِبِهَا، وَصِحَّةِ إِيمَانِهِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ)).

وَتَذَكَّرْ -أَيُّهَا الْمُتَصَدِّقُ- أَنَّ أَوَّلَ مُسْتَفِيدٍ مِنْ صَدَقَتِكَ هُوَ أَنْتَ، قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

وَهَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي كَوْنِ الْمُتَصَدِّقِ يَبْحَثُ عَنِ الْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَنْ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ إِلَى ثَوَابِ الصَّدَقَةِ أَحْوَجَ مِنَ الْفَقِيرِ إِلَى صَدَقَتِهِ؛ فَقَدْ أَبْطَلَ صَدَقَتَهُ، وَضُرِبَ بِهَا وَجْهُهُ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ دَقِيقِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ الَّتِي لَا يَكَادُ يُفْطَنُ لَهَا: أَنَّهُ يُغْلِقُ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ إِلَيْهِ مَنْ يَطْرُقُ عَلَيْهِ الْبَابَ يَسْأَلُهُ شَيْئًا مِنَ الْقُوتِ؛ لِيُعَرِّفَهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ)).

وَوُجُودُ مَنْ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمَسَاكِينِ مَنٌّ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَفُرْصَةٌ يَنْبَغِي أَلَّا تُفَوَّتَ، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى اغْتِنَامِ الْفُرَصِ، وَحَذَّرَ مِنْ تَفْوِيتِهَا، فَقَالَ ﷺ: ((تَصَدَّقُوا؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا!!)). رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَاحْذَرْ -أَيُّهَا الْمُتَصَدِّقُ- أَنْ تَسْتَكْثِرَ مَا أَعْطَيْتَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، فَالْمِنَّةُ للهِ وَحْدَهُ؛ حَيْثُ حَرَّكَ قَلْبَكَ لِلْبَذْلِ.

مِنْ فَضَائِلِ الصَّدَقَةِ: مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ! مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي.

قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟

يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي.

قَالَ: يَا رَبِّ! وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟

يَا ابْنَ آدَمَ! اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي.

قَالَ: يَا رَبِّ! كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!!

قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي)).

وَمِنْ فَضَائِلِ الصَّدَقَةِ: أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ تُكَمِّلُ زَكَاةَ الْفَرِيضَةِ، وَتَجْبُرُ نَقْصَهَا؛ لِحَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكَمِّلُونَ بِهِ فَرِيضَتَهُ؟ ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا وَتُكَفِّرُهَا؛ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَفِيهِ: ((وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

الصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ: أَنْ يَأْتِيَ مِنْ أَجْلِهِمْ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنَ الْقَوْلِ أَوِ الْعَمَلِ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ كَبِيرَةً، فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي وَلَدِهِ فَرْطُ مَحَبَّتِهِمْ، وَشُغُلُهُ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ، أَوِ التَّوَغُّلُ فِي الِاكْتِسَابِ مِنْ أَجْلِهِمْ مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ)).

وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمْرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتَاهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بِيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالصَّدَقَةُ تُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ وَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ؛ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَعْطَتْ تَمْرَةً وَاحِدَةً، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَطْعَمَتْهَا ثَلَاثَ تَمْرَاتٍ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: ((وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مُرَادَهَا بِقَوْلِهَا فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ: ((فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ)) أَيْ: أَخُصُّهَا بِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهَا فِي أَوَّلِ الْحَالِ سِوَى وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَتْهَا، ثُمَّ وَجَدَتْ ثِنْتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ تَعَدُّدُ الْقِصَّةِ)).

وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ حَرِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ قَالَ: يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: ((إِنَّ ظِلَّ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَدَقَتُهُ)).

قَالَ مُحِقِّقُو الْمُسْنَدِ: ((حَدِيثٌ صَحِيحٌ)).

قَالَ يَزِيدُ -وَهُوَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ-: ((وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَنْ عُقْبَةَ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ؛ وَلَوْ كَعْكَةً، أَوْ بَصَلَةً، أَوْ كَذَا)).

وَقَدْ كَانَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَتَخَيَّرُ الْعُبَّادَ وَهُمْ سُجُودٌ، فَيَأْتِيهِمْ بِالصُّرَّةِ فِيهَا الدَّنَانِيرُ وَفِيهَا الدَّرَاهِمُ، فَيَضَعُهَا عِنْدَ نِعَالِهِمْ؛ بِحَيْثُ يُحِسُّونَ بِهَا وَلَا يَشْعُرُونَ بِمَكَانِهِ هُوَ.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَحَدِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمَا أَسْعَدَ الْمُتَصَدِّقَ فِي يَوْمٍ تَدْنُو فِيهِ الشَّمْسُ قَدْرَ مِيلٍ مِنْ رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ؛ حَيْثُ يَكُونُ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ.

فَصَدَقَةُ السِّرِّ مِنْ أَسْبَابِ إِظْلَالِ اللهِ -تَعَالَى- لِعَبْدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَمِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ؛ لِحَدِيثِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟!!)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ: أَنَّ الضُّعَفَاءَ أَشَدُّ إِخْلَاصًا فِي الدُّعَاءِ، وَأَكْثَرُ خُشُوعًا فِي الْعِبَادَةِ؛ لِخَلَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِزُخْرُفِ الدُّنْيَا)).

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ ﷺ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ، وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَى الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: ((لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

الصَّدَقَةُ تُعَوِّدُ الْمُسْلِمَ عَلَى صِفَتَيِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَعَلَى الرَّحْمَةِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

وَالصَّدَقَةُ تَحْفَظُ النَّفْسَ عَنِ الشُّحِّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

وَالصَّدَقَةُ بِالْمَالِ مَعَ حُبِّهِ سَبَبٌ فِي سَلَامَةِ الْمَرْءِ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ، قَالَ -تَعَالَى- وَاصِفًا حَالَ الْأَبْرَارِ وَمَا لَهُمْ حِينَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 8-11].

وَلِلصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شَرْحِ الصَّدْرِ وَرَاحَةِ الْقَلْبِ؛ فَالْكَرِيمُ الْمُحْسِنُ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ هَمًّا.

وَلِهَذَا فَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي ذِرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ، وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَانْضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا خَصَّهُ اللهُ بِهِ مِنْ شَرْحِ صَدْرِهِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَخَصَائِصِهَا، وَتَوَابِعِهَا، وَشَرْحِ صَدْرِهِ حِسًّا، وَإِخْرَاجِ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُ.

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالصَّدَقَةُ تَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَتُفْرِحُ النَّفْسَ، وَتَدْفَعُ عَنِ الْعَبْدِ مِنَ الْبَلَايَا وَالْأَسْقَامِ شَيْئًا كَثِيرًا؛ فَكَمْ جَلَبَتْ مِنْ نِعْمَةٍ دِينِيَّةٍ وَدُنْيَوِيَّةٍ، وَكَمْ دَفَعَتْ مِنْ نِقَمٍ وَمَكَارِهَ وَأَسْقَامٍ، وَكَمْ خَفَّفَتِ الْآلَامَ، وَكَمْ أَزَالَتْ مِنْ عَدَاوَاتٍ، وَجَلَبَتْ مِنْ مَوَدَّةٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَكَمْ تَسَبَّبَتْ لِأَدْعِيَةٍ مُسْتَجَابَاتٍ مِنْ قُلُوبٍ صَادِقَاتٍ، وَهِيَ -أَيْضًا- تُنَمِّي الْمَالَ الْمُخْرَجَ مِنْهُ؛ فَإِنَّهَا تَقِيهِ الْآفَاتِ، وَتُحِلُّ فِيهِ الْبَرَكَةَ الْإِلَهِيَّةَ)).

لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الْعَطَاءِ بِطِيبِ نَفْسٍ، وَيُخْرِجُ الْمَالَ مِنْ قَلْبِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ يَدِهِ.

بِالصَّدَقَةِ تَنْدَفِعُ الْآفَاتُ، وَتَحُلُّ الْبَرَكَاتُ؛ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِنَّ لِلصَّدَقَةِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي دَفْعِ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ؛ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاجِرٍ أَوْ مِنْ ظَالِمٍ؛ بَلْ مِنْ كَافِرٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَدْفَعُ بِهَا عَنْهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوهُ)).

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- -أَيْضًا-: ((فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللهِ -تَعَالَى- وَاسْتُدْفِعَتْ نِقَمُهُ -تَعَالَى- بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكُلُّ طَبِيبٍ لَا يُدَاوِي الْعَلِيلَ بِتَفَقُّدِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ، وَتَقْوِيَةِ رُوحِهِ وَقُوَاهُ بِالصَّدَقَةِ، وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ، بَلْ هُوَ مُتَطَبِّبٌ قَاصِرٌ)).

وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الصَّدَقَةِ فِي انْشِرَاحِ النُّفُوسِ، وَلَوْ طَبَّقَ  أُولَئِكَ الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنَ الضَّائِقَاتِ النَّفْسِيَّةِ، فَبَادَرُوا إِلَى الصَّدَقَاتِ؛ لَزَالَ عَنْهُمْ -بِإِذْنِ اللهِ- مَا يَشْتَكُونَ)).

وَالصَّدَقَةُ تَجْلِبُ الْبَرَكَةَ وَالزِّيَادَةَ وَالْخَلَفَ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)).

وَقَالَ: ((يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)).

وَقَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟!! فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)).

وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: ((يَمِينُ اللهِ مَلْأَى)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّدَقَةِ، وَفَضْلِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَفَضْلِ أَكْلِ الْإِنْسَانِ مِنْ كَسْبِهِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ.. أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ يُبَارِكَ اللهُ لَهُ فِي مَالِهِ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ -وَالْحَرَّةُ: أَرْضٌ مُلَبَّسَةٌ بِحِجَارَةٍ سَوْدَاءَ-، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ -وَالشَّرْجَةُ: هِيَ مَسَايِلُ الْمَاءِ فِي الْحِرَارِ- قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ! مَا اسْمُكَ؟

قَالَ: فُلَانٌ، لِلاِسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ.

فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ! لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟

قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ؛ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟!!

قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا؛ فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ)).

وَفِي لَفْظٍ: ((وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ، وَالسَّائِلِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالصَّدَقَةُ تُلْحِقُ الْمُسْلِمَ بِالْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ: لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَكَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ يُحِبُّ أَنْ يُبْذَلَ لَهُ الْمَالُ الَّذِي يَسُدُّ بِهِ حَاجَتَهُ؛ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَحْصُلَ لِأَخِيهِ الْمُحْتَاجِ مِثْلُ ذَلِكَ؛ فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَامِلَ الْإِيمَانِ.

وَالصَّدَقَةُ يَحْصُلُ بِهَا قَضَاءُ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ، وَالسَّتْرُ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الْمَكْرُوبِينِ، وَالسَّتْرِ عَلَى الْمُعْسِرِينَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَفِيهِ: ((وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَسْبَابِ رَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((لَا يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بِالصَّدَقَةِ تُحَطُّ السَّيِّئَاتُ، وَتُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103].

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تُطَهِّرُهُمْ}: إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ التَّخْلِيَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تُزَكِّيهِم}: إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ التَّحْلِيَةِ بِالْفَضَائِلِ وَالْحَسَنَاتِ.

قَالَ الْبَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({تُزَكِّيهِم}: تَرْفَعُهُمْ مِنْ مَنَازِلِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى مَنَازِلِ الْمُخْلِصِينَ)).

وَبِالصَّدَقَةِ يَنْدَفِعُ عَذَابُ اللهِ -تَعَالَى- إِذَا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُهُ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَا يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا)).

وَبِالصَّدَقَةِ نَجَاةُ الْأُمَّةِ مِنَ الْهَلَاكِ؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَالصَّدَقَةُ -إِذَنْ- حِصْنٌ حَصِينٌ، وَسَدٌّ مَنِيعٌ، وَحِمًى مَتِينٌ لِلْمُجْتَمَعِ مِنْ جَرَائِمِ السَّطْوِ وَالْإِجْرَامِ، وَقَدْ رَبَطَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيْنَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّهْلُكَةِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وَالشَّحِيحُ الْمُمْسِكُ مُعَاقَبٌ بِإِتْلَافِ مَالِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)). رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

فَالشَّحِيحُ الْمُمْسِكُ مُعَاقَبٌ بِإِتْلَافِ مَالِهِ: ((اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)).

وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الَّذِينَ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُمْ: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} [القلم: 17-24].

فَهُمْ عَزَمُوا وَتَوَاطَئُوا عَلَى حِرْمَانِ الْفُقَرَاءِ؛ فَعَاجَلَتْهُمُ الْعُقُوبَةُ فِي الصَّبَاحِ.

وَالْحِرْصُ وَالشُّحُّ مِنْ أَسْبَابِ سَلْبِ النِّعَمِ، وَإِحْلَالِ النِّقَمِ، وَتَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، بَدَا اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ)).

قَالَ الْحَافِظُ: ((قَوْلُهُ: ((بَدَا للهِ)) -بِتَخْفِيفِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ- أَيْ: سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ، فَأَرَادَ إِظْهَارَهُ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَافِيًا -سُبْحَانَهُ-، فَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: (( ((بَدَا للهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ)) أَيْ: قَضَى بِذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى الْبَدَاءِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ سَابِقٌ، وَالْبَدَاءُ: اسْتِصْوَابُ شَيْءٍ عُلِمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يُعْلَمْ، وَذَلِكَ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مُحَالٌ)).

((فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي الَّذِي قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ.

قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، وَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْإِبِلُ -أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ -شَكَّ إِسْحَاقُ-؛ إِلَّا أَنَّ الْأَبْرَصَ أَوِ الْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ.

قَالَ: فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ.

فَقَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الْأَقْرَعَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا الَّذِي قَذَرَنِي النَّاسُ.

قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْبَقَرُ، فَأُعْطِيَ بَقَرَةً حَامِلًا.

قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيهَا.

قَالَ: فَأَتَى الْأَعْمَى.

فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ.

قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.

قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟

قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِيَ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا.

قَالَ: فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.

ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ.

فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟!!

فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ.

فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا؛ فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا.

فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا؛ فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.

وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.

فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي؛ فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِيَ عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَبِالصَّدَقَةِ يَسْتَجِنُّ الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، وَيَتَّقِي سَخَطَ الْجَبَّارِ؛ فَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ: أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا؟

فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى.

ثُمَّ لَيَقُولَنَّ: أَلَمْ أُرْسِلْ إلَيْكَ رَسُولًا؟

فَلَيَقُولَنَّ: بَلَى.

فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إلَّا النَّارَ، ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ، فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا؛ فَإِنَّ الْقَلِيلَ بِالْقَلِيلِ يَكْثُرُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ)).

قَالُوا: كَيْفَ؟!!

قَالَ: ((كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وَالصَّدَقَةُ سَبَبٌ فِي نَجَاةِ الْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَفَكَاكِهِ مِنْهُ، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا خَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ النِّسَاءَ يَوْمَ الْعِيدِ قَالَ لَهُنَّ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَالصَّدَقَةُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ عَوْنِ اللهِ لِلْعَبْدِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَيْسِيرِهَا لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ} [الليل: 5-10].

فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ؛ خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الصَّوَارِفُ عَنِ الطَّاعَاتِ، فَمَنْ أَرَادَ تَيْسِيرَ الْعِبَادَةِ فَعَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَإِنَّ أَعْظَمَ الْعَوْنِ عَوْنُ اللهِ عَبْدَهُ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَأَمَّلْتُ أَنْفَعَ الدُّعَاءِ، فَإِذَا هُوَ سُؤَالُ اللهِ الْعَوْنَ عَلَى مَرْضَاتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4])).

وَالصَّدَقَةُ سَبَبٌ فِي اسْتِمَالَةِ قُلُوبِ النَّاسِ، وَمَحَبَّتِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ، وَتِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا} [مريم: 96].

فَابْذُلِ الْمَالِ فِي سُبُلِ الْخَيْرِ، وَكُنْ سَخِيًّا بِهِ؛ فَالسَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، وَمِنْ خَلْقِهِ، وَمِنْ أَهْلِهِ، وَقَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ، وَبَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ خَلْقِهِ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ.

قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((جُودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إِلَى عُبَّادِهِ، وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ)).

وَقِيلَ: ((مَنْ عَظُمَتْ مَرَافِقُهُ عَظَّمَهُ مُرَافِقُهُ)).

وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ   =    وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ

تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي             =    أَرَى كُلَّ عَيْبٍ فَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ

وَالصَّدَقَةُ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115].

وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُرَبِّيهِ اللهُ -تَعَالَى- وَيُضَاعِفُهُ لِصَاحِبِهِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].

وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ؛ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ)). وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: ((لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ..)). الْحَدِيثَ.

((بِعَدْلِ تَمْرَةٍ)) أي: بِقِيمَتِهَا.

((فَلُوَّهُ)) أَيْ: مُهْرَهُ.

((فَصِيلَهُ)): الْفَصِيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا فُصِلَ عَنْ رَضَاعِ أُمِّهِ.

الْمُتَصَدِّقُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ -تَعَالَى- يَفُوزُ بِثَنَاءِ اللهِ عَلَيْهِ، وَمَا وَعَدَ بِهِ الْمُتَصَدِّقِينَ مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَيَفُوزُ بِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحَزَنِ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].

وَالْمُتَصَدِّقُ يَحْصُلُ عَلَى مُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ عَلَى حَسَبِ إِخْلَاصِهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وَلِحَدِيثَ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ، فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالصَّدَقَةُ تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَالْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، يَرْحَمُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَيَعْطِفُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَيُحْسِنُ الْغَنِيُّ إِلَى الْمُعْسِرِ، فَيَشْعُرُ صَاحِبُ الْمَالِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].

وَبَذْلُ الْمَالِ خَيْرٌ لِلْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَ زَائِدًا عَنْ كِفَايَتِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ -وَهُوَ مَا زَادَ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ- خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تُنْجِي مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ؛ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ)).

وَلِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

((الْمَفْهُومُ الْأَوْسَعُ لِلصَّدَقَةِ))

إِنَّ مَفْهُومَ الصَّدَقَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاسِعٌ وَمُتَنَوِّعٌ، فَيَشْمَلُ الصَّدَقَةَ بِالْمَالِ وَبِغَيْرِهِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ».

قِيلَ: أَرَأيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟

قَالَ: «يَعْتَمِلُ بِيَدِهِ؛ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ».

قَالَ: قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟

قَالَ: «يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الخَيْرِ».

قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ: «يُمْسِكُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ».

حَتَّى إِذَا مَا أَمْسَكَ الْإِنْسَانُ عَنِ الشَّرِّ؛ فَقَدْ أَتَى بِالصَّدَقَةِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُعِينَ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ.

وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَعْتَمِلَ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ ذَاتَهُ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى خَلْقِ اللهِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الشَّرِّ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَمَنْ أَمْسَكَ عَنِ الشَّرِّ فَقَدْ تَصَدَّقَ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ.

وَيَقُولُ ﷺ: ((عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ: التَّكْبِيرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَعْزِلُ الشَّوْكَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ، وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ، فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ أَجْرَهُ فَمَاتَ؛ أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟ فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟! فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟! فَأَنْتَ كُنْتَ تَرْزُقُهُ؟! فَكَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ، وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ،  وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.  

((التَّدَاوِي مِنَ الْأَمْرَاضِ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ))

عِبَادَ اللهِ! فِي ظِلِّ مَا يَشْهَدُهُ عَالَمُنَا الْمُعَاصِرُ مِنَ انْتِشَارِ الْعَدِيدِ مِنَ الْأَوْبِئَةِ يَتَأَكَّدُ لَدَيْنَا أَهَمِّيَّةُ دَوَامِ طَلَبِ الْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْأَخْذِ بِأَسْبَابِ ذَلِكَ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ يَعْنِي: كَانَ يُرَدِّدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ فَهَذَا أَوَانُ أَذْكَارِ الصَّبَاحِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ فَهَذَا أَوَانُ أَذْكَارِ الْمَسَاءِ- كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي)). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي فَضْلِ الْعَافِيَةِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَهَا نَبِيُّنَا ﷺ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَفِي أَذْكَارِ الْمَسَاءِ -فِي أَذْكَارِ طَرَفَيِ النَّهَارِ-، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ إِلَّا هَذَا؛ لَكَفَى وَشَفَى.

وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ حَدِيثُ الْقُنُوتِ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ)).

وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا -عُلَمَاءُ السُّنَّةِ رَحِمَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--: أَنَّ الْقُنُوتَ يَكُونُ فِي الْوَتْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، وَفِيهِ دُعَاءُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ)).

لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي فَضْلِ الْعَافِيَةِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ رَبَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامٍ -فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-؛ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ مِنْ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي)).

((اللهم اسْتُرْ عَوْرَاتِي)) أَيْ: عُيُوبِي وَخَلَلِي وَتَقْصِيرِي.

((عَوْرَاتِي)): جَمْعُ عَوْرَةٍ؛ وَهِيَ كُلُّ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ.

الرَّوْعَةُ: الْفَزْعَةُ وَكُلُّ مَا يُخِيفُ.

((أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي)) يَعْنِي: الْخَسْفَ.

بَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ بِسُؤَالِ اللهِ الْعَافِيَةَ، وَالْعَافِيَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ، وَمَنْ أُوتِيَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أُوتِي الْخَيْرَ كُلَّهُ.

 عَلَيْنَا أَنْ نُدْرِكَ أَنَّ الصِّحَّةَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَتَطَلَّبُ مِنَّا شُكْرَهَا بِشَتَّى السُّبُلِ، وَالَّتِي تُعَدُّ الصَّدَقَةُ مِنْ أَهَمِّهَا؛ حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ لِلصَّدَقَةِ تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي دَفْعِ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ؛ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ فَاجِرٍ أَوْ مِنْ ظَالِمٍ؛ بَلْ مِنْ كَافِرٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَدْفَعُ بِهَا عَنْهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبَلَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَّبُوهُ)).

صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تُنْجِي مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

((وَكَمَا أَنَّهَا -يَعْنِي: الصَّدَقَةَ- تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَهِيَ تُطْفِئُ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ.

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقَالَ: ((أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ بِطُرُقِهِ.

وَفِي تَمْثِيلِ النَّبِيِّ ﷺ ذَلِكَ بِمَنْ قُدِّمَ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِمَالِهِ كِفَايَةٌ -يَعْنِي: فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ: ((وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْتَدِيَ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ))-؛ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ تَفْدِي الْعَبْدَ مِنْ عَذَابِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ تَقْتَضِي هَلَاكَهُ، فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ تَفْدِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَتَفُكُّهُ مِنْهُ.

وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا خَطَبَ النِّسَاءَ يَوْمَ الْعِيدِ: ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثَيْنِ، وَهَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ، وَهُوَ صَحِيحٌ.

النَّبِيُّ ﷺ حَثَّهُنَّ وَرَغَّبَهُنَّ عَلَى مَا يَفْدِينَ بِهِ أَنْفُسَهُنَّ مِنَ النَّارِ)).

((الصَّدَقَةُ حِصْنٌ حَصِينٌ لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ))

لَقَدْ شَرَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الصَّدَقَةَ لِغَايَاتٍ نَبِيلَةٍ وَحِكَمٍ جَلِيلَةٍ تَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ، وَتَتَآلَفُ بِهَا الْقُلُوبُ، وَتُقْضَى بِهَا الْحَوَائِجُ، وَيُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى النَّوَائِبِ، وَهِيَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ، يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.

الصَّدَقَةُ تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَالْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، يَرْحَمُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَيَعْطِفُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَيُحْسِنُ الْغَنِيُّ إِلَى الْمُعْسِرِ، فَيَشْعُرُ صَاحِبُ الْمَالِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].

الصَّدَقَةُ حِصْنٌ حَصِينٌ، وَسَدٌّ مَنِيعٌ، وَحِمًى مَتِينٌ لِلْمُجْتَمَعِ مِنْ جَرَائِمِ السَّطْوِ وَالْإِجْرَامِ، وَقَدْ رَبَطَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيْنَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّهْلُكَةِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ الْأَمْوَالِ فِي الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ كُلُّ طُرُقِ الْخَيْرِ؛ مِنْ صَدَقَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ، أَوْ قَرِيبٍ، أَوْ إِنْفَاقٍ عَلَى مَنْ تَجِبُ مُؤْنَتُهُ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ وَأَوَّلُ مَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الْإِنْفَاقُ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ جِهَادٌ بِالْمَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ كَالْجِهَادِ بِالْبَدَنِ، وَفِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ: الْإِعَانَةُ عَلَى تَقْوِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى تَوْهِيَةِ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَعَلَى إِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ وَإِعْزَازِهِ.

فَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى سَاقِ النَّفَقَةِ؛ فَالنَّفَقَةُ لَهُ كَالرُّوحِ، لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا، وَفِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِبْطَالٌ لِلْجِهَادِ، وَتَسْلِيطٌ لِلْأَعْدَاءِ، وَشِدَّةُ تَكَالُبِهِمْ؛ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} كَالتَّعْلِيلِ لِذَلِكَ.

وَالْإِلْقَاءُ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: تَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ إِذَا كَانَ تَرْكُهُ مُوجِبًا أَوْ مُقَارِبًا لِهَلَاكِ الْبَدَنِ أَوِ الرُّوحِ، وَفِعْلِ مَا هُوَ سَبَبٌ مُوصِلٌ إِلَى تَلَفِ النَّفْسِ أَوِ الرُّوحِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ النَّفَقَةِ فِيهِ الْمُوجِبِ لِتَسَلُّطِ الْأَعْدَاءِ، وَمِنْ ذَلِكَ: تَغْرِيرُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ فِي مُقَاتَلَةٍ، أَوْ سَفَرٍ مَخُوفٍ، أَوْ مَحَلِّ مَسْبَعَةٍ أَوْ حَيَّاتٍ، أَوْ يَصْعَدُ شَجَرًا أَوْ بُنْيَانًا خَطَرًا، أَوْ يَدْخُلُ تَحْتَ شَيْءٍ فِيهِ خَطَرٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

وَمِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ: الْإِقَامَةُ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنَ التَّوْبَةِ، وَمِنْهَا: تَرْكُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي فِي تَرْكِهَا هَلَاكٌ لِلرُّوحِ وَالدِّينِ.

وَلَمَّا كَانَتِ النَّفَقَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ؛ أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ عُمُومًا، فَقَالَ: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ -كَمَا تَقَدَّمَ-، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِحْسَانُ بِالْجَاهِ بِالشَّفَاعَاتِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِحْسَانُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ مِنْ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ، وَإِزَالَةِ شِدَّاتِهِمْ، وَعِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَتَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ، وَإِرْشَادِ ضَالِّهِمْ، وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِحْسَانِ أَيْضًا الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَهُوَ كَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).

فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، وَكَانَ اللَّهُ مَعَهُ؛ يُسَدِّدُهُ، وَيُرْشِدُهُ، وَيُعِينُهُ عَلَى كُلِّ أُمُورِهِ)).

 إِنَّ دَفْعَ الْمَرَضِ وَعِلَاجَ الْفُقَرَاءِ وَإِعَانَةَ الْمَرْضَى مِنْ أَوْلَى الْأَوْلَوِيَّاتِ فِي الصَّدَقَاتِ؛ خَاصَّةً فِي أَيَّامِ النَّوَازِلِ: لَمَّا مَرِضَتْ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ زَوْجَهَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَبْقَى عِنْدَهَا لِيُمَرِّضَهَا، وَتَخَلَّفَ عَنْ مَعْرَكَةِ بَدْرٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى فَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ لِإِسْعَادِ الْبَشَرِيَّةِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَبَثِّ رُوحِ التَّكَافُلِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، فَيَتَحَمَّلُ كُلُّ مُسْلِمٍ مَسْؤُولِيَّتَهُ الدِّينِيَّةَ وَالْوَطَنِيَّةَ، فَيُعْطِي مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نُصْحٍ، أَوْ جُهْدٍ بِمَا يُسْهِمُ فِي دَفْعِ الْفَقْرِ، وَالْقَضَاءِ -بَعْدَ إِذْنِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ- عَلَى الْوَبَاءِ؛ إِرْضَاءً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخِدْمَةً لِلدِّينِ وَالْوَطَنِ؛ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].

((الَّذِينَ يُخْرِجُونَ أَمْوَالَهُمْ مَرْضَاةً للهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، مُسِرِّينَ وَمُعْلِنِينَ؛ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا.

ذَلِكَ التَّشْرِيعُ الْإِلَهِيُّ الْحَكِيمُ هُوَ مِنْهَاجُ الْإِسْلَامِ فِي الْإِنْفَاقِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ فِي كَرَامَةٍ وَعِزَّةٍ، وَتَطْهِيرِ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ، وَتَحْقِيقِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ دُونَ قَهْرٍ أَوْ إِكْرَاهٍ)).

((هَذَا مَدْحٌ مِنْهُ -تَعَالَى- لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ سِرٍّ وَجَهَارٍ؛ حَتَّى إِنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَهْلِ تَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ عَادَهُ مَرِيضًا عَامَ الْفَتْحِ -وَفِي رِوَايَةٍ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ-: ((وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً؛ حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ)).

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً)). أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ((هُمُ الَّذِينَ يَعْلِفُونَ الْخَيْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، ثُمَّ قَالَ: ((وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمَكْحُولٍ)).

{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَاتِ {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ})).

الصَّدَقَةُ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى فَضْلِهَا وَعَظِيمِ قَدْرِهَا فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَقِيَنَا شُحَّ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُبَارَكًا مُوَسَّعًا فِيهِ، لَا حُرْمَةَ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ، وَالْجَوَادُ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: الْمَفْهُومُ الْأَوْسَعُ لِلصَّدَقَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  بِنَاءُ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْقَوِيَّةِ وَحِمَايَتُهَا
  رمضان .. كيف نحياه؟
  جناية التكفيريين على الدين
  الْهِجْرَةُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِفَاظُ عَلَى الْأَنْفُسِ
  تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ
  كَيْفَ نَسْتَمْطِرُ الرَّحَمَاتِ الرَّبَّانِيَّةَ؟
  الحج كأنك تراه
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ
  حُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان