((حُرْمَةُ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَإِشَاعَةِ الْفَوْضَى))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((مَعْنَى الْكَذِبِ وَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهِ))
فَقَدْ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
الْكَذِبُ: هُوَ أَنْ يُخْبِرَ الْإِنْسَانُ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ، فَيَقُولُ: حَصَلَ كَذَا، وَلَمْ يَحْصُلْ، أَوْ قَالَ فُلَانٌ: كَذَا، وَلَمْ يَقُلْ فُلَانٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَالْكَذِبُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ.
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ؛ مِنْهَا:
قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
أَيْ: لَا تَتْبَعْ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
وَإِذَا كَانَ هَذَا نَهْيًا عَمَّا لَمْ تُحِطْ بِهِ عِلْمًا، فَمَا بَالُكَ بِمَا أَحَطْتَ بِهِ عِلْمًا وَأَخْبَرْتَ بِخِلَافِهِ؟!!
يَكُونُ هَذَا أَشَدَّ وَأَعْظَمَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفجُورِ، وَإِنَّ الفجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ أَيْ: الْزَمُوا الصِّدْقَ.
وَالصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ.
وَالْخَبَرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَرْكَانِ:
1-أَمَّا بِاللِّسَانِ: فَهُوَ الْقَوْلُ.
2-وَأَمَّا بِالْأَرْكَانِ: فَهُوَ الْفِعْلُ.
وَلَكِنْ كَيْفَ يَكُونُ الْكَذِبُ بِالْفِعْلِ؟
إِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ؛ فَهَذَا قَدْ كَذَبَ بِفِعْلِهِ، فَالْمُنَافِقُ -مَثَلًا- كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيَتَصَدَّقُ، وَلَكِنَّهُ بَخِيلٌ، وَرُبَّمَا يَحُجُّ!!
فَمَنْ رَأَى أَفْعَالَهُ؛ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُنْبِئُ عَمَّا فِي الْبَاطِنِ؛ فَهِيَ كَذِبٌ.
وَلِهَذَا يُقَالُ: الصِّدْقُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَرْكَانِ، فَمَتَى طَابَقَ الْخَبَرُ الْوَاقِعَ فَهُوَ صِدْقٌ بِاللِّسَانِ، وَمَتَى طَابَقَتْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ مَا فِي الْقَلْبِ فَهِيَ صِدْقٌ بِالْأَفْعَالِ.
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -عِنْدَمَا أَمَرَ بِالصِّدْقِ- بَيَّنَ عَاقِبَتَهُ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ)).
الْبِرُّ: كَثْرَةُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: الْبَرُّ: أَيْ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فَالْبِرُّ يَعْنِي كَثْرَةَ الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الصِّدْقِ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ)): فَصَاحِبُ الْبِرِّ يَهْدِيهِ بِرُّهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ.
وَأَمَّا الْكَذِبُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ مِنْهُ، فَقَالَ: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبُ)).
((إِيَّاكُمْ)): لِلتَّحْذِيرِ؛ أَيْ: احْذَرُوا الْكَذِبَ.
وَالْكَذِبُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: مَا الْيَوْمُ؟ فَقُلْتَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْخَمِيسِ، أَوْ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ فَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ.
الْمُنَافِقُ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ كَافِرٌ، فَهُوَ كَاذِبٌ بِفِعْلِهِ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ)).
الْفُجُورُ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْسُقُ، وَيَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى إِلَى مَعْصِيَتِهِ.
وَأَعْظَمُ الْفُجُورِ الْكُفْرُ -عِيَاذًا بِاللهِ، وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّفِيعِ-، فَإِنَّ الْكَفَرَةَ فَجَرَةٌ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين: 7-11].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14].
فَالْكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ -نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْهَا-.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَإِنَّ الرَّجُلُ لَيَكْذِبُ)).
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)).
وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَأْتِي بِالْمَقَالَةِ كَاذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهَا كَذِبٌ، لَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ!!
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْوَعِيدُ عَلَى هَذَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَيْلٌ لِلَّذِي يُحْدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
وَهَذَا وَعِيدٌ عَلَى أَمْرٍ سَهْلٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، يَأْتِي بِالْكَذِبَةِ وَيُلْقِي بِالْكَلِمَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ، يَكْتُبُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
فَالْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الَّذِي مَرَّ -أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ-.
الْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، وَكُلُّهُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ.
وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ صَحِيحٌ))، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ.
((دَعْ مَا يَرِيبُكَ)) دَعْ: أَيْ اتْرُكْ.
((مَا يَرِيبُكَ)): بِفَتْحِ الْيَاءِ؛ أَيْ مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ.
((إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)): إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ)): الصِّدْقُ طُمْأَنِينَةٌ، لَا يَنْدَمُ صَاحِبُهُ أَبَدًا، وَلَا يَقُولُ: لَيْتَنِي وَلَيْتَنِي؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وَالصَّادِقُونَ يُنَجِّيهِمُ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِمْ.
وَتَجِدُ الصَّادِقَ دَائِمًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ أَوْ شَيْءٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَقَ، وَمَنْ صَدَقَ نَجَا.
أَمَّا الْكَذِبُ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ رِيبَةٌ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَوَّلَ مَنْ يَرْتَابُ فِي الْكَاذِبِ نَفْسَهُ، فَيَرْتَابُ الْكَاذِبُ هَلْ يُصَدِّقُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يُصَدِّقُونَهُ؟!!
وَلِهَذَا تَجِدُ الْكَاذِبَ إِذَا أَخْبَرَكَ بِالْخَبَرِ قَامَ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ صَدَقَ؛ لِئَلَّا يُرْتَابَ فِي خَبَرِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَحَلُّ رِيبَةٍ.
تَجِدُ الْمُنَافِقِينَ -مَثَلًا- يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا، وَلَكِنَّهُمْ فِي رِيبَةٍ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].
فَالْكَذِبُ لَا شَكَّ أَنَّهُ رِيبَةٌ وَقَلَقٌ لِلْإِنْسَانِ، وَيَرْتَابُ الْإِنْسَانُ هَلْ عَلِمَ النَّاسُ بِكَذِبِهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوا؟!!
فَلَا يَزَالُ فِي شَكٍّ وَاضْطِرَابٍ.
فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ الْكَذِبَ إِلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَطُمَأْنِينَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)).
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالصِّدْقِ مِنْ بِدَايَةِ الْبِعْثَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا عِنْدَ الْكَافِرِينَ، عِنْدَ الْمَدْعُوِّينَ، كَانَ وَاضِحًا لَا امْتِرَاءَ فِيهِ.
فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بَنْ حَرْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ-.
قَالَ هِرَقْلُ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ -يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ-؟
قَالَ أُبُو سُفْيَانَ -وَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- قَالَ: قُلْتُ: يَقُولُ ﷺ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ)).
وَحَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَوَّلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُنْذُ بِدَايَةِ الْبِعْثَةِ بِالصِّدْقِ.
عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، فَإِذَا صَدَقْتُمْ أَفْلَحْتُمْ وَنَجَحْتُمْ، وَإِنْ كَذَبْتُمْ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ جَزَاءَ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
((خُطُورَةُ الْكَذِبَةِ تَبْلُغُ الْآفَاقَ وَعَوَاقِبُهَا))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ ذَلِكَ الْجُزءُ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ, الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ ﷺ جَزَاءَ الرَّجُلِ يَكذِبُ الْكِذبَةَ فَتَطِيرُ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَسِيرُ كُلَّ مَسَارٍ.
وَيَظُنُّ الْمِسكِينُ أَنَّهُ بِمَنأَى مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَأَنَّ الْكَلِمَةَ لَا قِيمَةَ لهَا وَلَا وَزْنَ, وَهِيَ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ, فَقَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟))
قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ، قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا, فَقَالَ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟))
قُلْنَا: لَا.
قَالَ: ((لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْكَلُّوبُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ وَيُعَلَّقُ- يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُه بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ.. )).
ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الْمَرَائِي، وَجَاءَ التَّأوِيلُ.
قَالَ ﷺ: ((قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذِبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأيتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
((رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُه بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ)).
هَذَا جَزَاءُ الْكَذَّابِ، يُحَدِّثُ بِالْكَذِبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَعنِى: هَذَا هُوَ عَذَابُهُ فِي الْبَرزَخِ.
فَانْظُر إِلَى هَذَا الْعَذَابِ -هُدِيتَ-, كَيْفَ تَنَاوَلَ مِنَ الْكَذَّابِ آلَةَ كَذِبِه وَمَوْضِعَ إِفْكِهِ؟!! وَكَيْفَ يُشَقُّ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, ثُمَّ يُثَنَّى بِالْآخَرِ، فَيَلْتَئِمُ الْأَوَّلُ, فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ كَمَا صُنِعَ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!!
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : ((فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ, وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ, ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ, فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ, ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ في الْمَرَّةِ الْأُولَى..)).
وَفِي تَأوِيلِهَا: ((أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ, فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ)).
هَذَا جَزَاءُ مَنْ كَذَبَ الْكَذِبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَى, وَكِفَاءُ مَا صَنَعَ!!
فَمَنْ لَا يَقْدُرُ الْكَلِمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَهَا؟!!
وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْكَلِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنَهَا؟!!
«وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ هُمْ دَاخِلُونَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي هَذَا الْوَعِيدِ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، بَلْ جُلُّهُمْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ تَجِدَ رَجُلًا صَادِقًا يَتَعَامَلُ مَعَ شَبَكَةِ الْمَعْلُومَاتِ تَعَامُلًا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، لَا تَنْزَلِقُ قَدَمُهُ، وَلَا يَزِلُّ بَصَرُهُ وَلَا سَمْعُهُ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ» .
((الْكَذِبُ جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ))
«فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: ((الْكَذَّابُ لِصٌّ؛ لِأَنَّ اللِّصَّ يَسْرِقُ مَالَكَ، وَالْكَذَّابُ يَسْرِقُ عَقْلَكَ)).
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: ((الْخَرَسُ خَيْرٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَصِدْقُ اللِّسَانِ أَوَّلُ السَّعَادَةِ)).
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: ((الصَّادِقُ مَصُونٌ جَلِيلٌ، وَالْكَاذِبُ مُهَانٌ ذَلِيلٌ)).
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: ((لَا سَيْفَ كَالْحَقِّ، وَلَا عَوْنَ كَالصِّدْقِ)).
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا شَيْءٌ إِذَا فَكَّرْتَ فِيهِ بِأَذْهَبَ لِلْمُرُوءَةِ وَالْجَمَالِ
مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَأَبْعَدَ بِالْبَهَاءِ مِنَ الرِّجَالِ
وَالْكَذِبُ جِمَاعُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَصْلُ كُلِّ ذَمٍّ؛ لِسُوءِ عَوَاقِبِهِ، وَخُبْثِ نَتَائِجِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْتِجُ النَّمِيمَةَ، وَالنَّمِيمَةُ تُنْتِجُ الْبَغْضَاءَ، وَالْبَغْضَاءُ تَؤُولُ إِلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَيْسَ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَمْنٌ وَلَا رَاحَةٌ، وَلِذَلِكَ قِيلِ: ((مَنْ قَلَّ صِدْقُهُ قَلَّ صَدِيقُهُ))».
((الْكَذِبُ لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ ذِي الْمُرُوءَةِ!!))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصِّدْقَ عَزِيزٌ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصِّدْقَ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْوِيدٍ وَمَشَقَّةٍ.
وَأَمْسِكْ لِسَانَكَ عَنِ اللَّغْوِ؛ حَتَّى لَا يَجُرُّكَ اللَّغْوُ إِلَى هَذَا الْكَذِبِ الْمُسْتَقْبَحِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ ذِي الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّ الْكَذِبَ حَلَالٌ مَا فَعَلْتُهُ؛ لِتَمَامِ مُرُوءَتِهِ، وَكَمَالِ رُجُولَتِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ يُزْرِي بِهِ، وَيَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ، وَيُحَقِّرُ مِنْ شَأْنِهِ.
فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُطَهِّرَ أَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ، وَمِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ كُلِّهَا، وَأَنْ يُسْكِنَ قُلُوبَنَا الْيَقِينَ بِهِ، وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَالِانْصِبَابَ نَحْوَ رَحْمَتِهِ.
((ضَرُورَةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْحَقِّ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ: الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحَقِّ، وَالِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللهِ تَعَالَى.
فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وَأَخْرَجَ الْآجُرِّيُّ فِي ((الشَّرِيعَةِ))، وَاللَّالَكَائِيُّ فِي ((أُصُولِ الِاعْتِقَادِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَلَيْكُمْ جَمِيعًا بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ)) .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)).
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ أَبَدًا: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى)): ((وَهَذِهِ الثَّلَاثُ -يَعْنِي الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- تَجْمَعُ أُصُولَ الدِّينِ وَقَوَاعِدَهُ، وَتَجْمَعُ الْحُقُوقَ الَّتِي للهِ وَلِعِبَادِهِ، وَتَنْتَظِمُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَمْ يَقَعْ خَلَلٌ فِي دِينِ النَّاسِ وَدُنْيَاهُمْ إِلَّا بِسَبَبِ الْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ أَوْ بَعْضِهَا)).
قَالَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي -فَكَانَ مِنْ نُصْحِهِ ﷺ لِحُذَيْفَةَ-؛ أَنْ قَالَ لَهُ: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، أَنَّهُمَا قَالَا: ((يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ)) . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي ((زَوَائِدِ الْمُسْنَدِ))، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((تَحْقِيقِهِ عَلَى السُّنَّةِ)) لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ.
وَأَخْرَجَ الْآجُرِّيُّ وَاللَّالَكَائِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((وَمَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ)) .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانَ يُقَالُ: خَمْسٌ كَانَ عَلَيْهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ: لُزُومُ الْجَمَاعَةِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
وَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ فِي وَصِيَّةٍ لَهُ: ((لَا تُفَارِقِ الْجَمَاعَةَ)) . أَخْرَجَه الْخَلَّالُ فِي ((السُّنَّةِ)).
يَعْنِي: سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ؛ لَا الْجَمَاعَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ.
فَالْجَمَاعَةُ: السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؛ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَتِ الْجَمَاعَةُ مَا يُرِيدُهُ أُولَئِكَ الضُّلَّالُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يُؤَمِّرُونَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَيَنْعَزِلُونَ نَاحِيَةً عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنَّمَا الْجَمَاعَةُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَجْمُوعُ الْمُسْلِمِينَ وَسَوَادُهُمْ، فَمَنْ فَارَقَهُمْ، وَحَاوَلَ تَفْرِيقَهُمْ؛ فَإِنَّهُ أَتَى أَمْرًا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.
((السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ حُقُوقَ الْإِمَامِ حُقُوقٌ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ.
وَذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ فِي غَايَةٍ، وَمِنَ الْخُطُورَةِ فِي نِهَايَةٍ، فَالْقِيَامُ بِهَا حَتْمٌ؛ لَا يُسْمَحُ بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا، وَمَنْ قَصَّرَ؛ فَقَدْ رَتَّبَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ لَهُ عُقُوبَاتٍ زَاجِرَةً؛ مِنْهَا عُقُوبَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ فِي الْآخِرَةِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
وَهَذَا الْحَقُّ أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَوْدَعُوهُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ الَّتِي يُرَبُّونَ عَلَيْهَا النَّاسَ؛ صِغَارًا وَكِبَارًا، ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.
وَهُوَ حَقٌّ لَمْ يَتْرُكِ الشَّارِعُ اسْتِنْبَاطَهُ لِلنَّاسِ، بَلْ نَصَّ عَلَيْهِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ فِي سُنَّتِهِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى مَجَالٌ لِلْخِلَافِ فِيهِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
وَهُمُ الْوُلَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ غَيْرُهم أَيْضًا.
وَهَذَا الْأَمْرُ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الطَّاعَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْصِيَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ؛ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قَالَ الْإِمَامُ حَرْبٌ الْكِرْمَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْ جَمِيعِ السَّلَفِ: ((وَإِنْ أَمَرَكَ السُّلْطَانُ بِأَمْرٍ فِيهِ للهِ مَعْصِيَةٌ؛ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُطِيعَهُ الْبَتَّةَ، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهِ، وَلَا تَمْنَعَهُ حَقَّهُ)).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْأَنْصَارِ: ((إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً -أَيْ: اسْتِئْثَارًا بِالْمَالِ، وَالدُّنْيَا، وَالْمُلْكِ، وَالْإِمَارَةِ- إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً؛ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي، وَمَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟
قَالَ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((هَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا، وَوُجِدَ مَخْبَرُهُ مُتَكَرِّرًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقَّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ، وَلَا يُخْلَعُ؛ بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ، وَدَفْعِ شَرِّهِ، وَإِصْلَاحِهِ)).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا؛ فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَالْمُرَادُ بِـ ((خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا)): كِنَايَةٌ عَنْ مَعْصِيَةِ السُّلْطَانِ، وَمُحَارَبَتِهِ.
وَالْمُرَادُ بِـ ((الْخُرُوجِ)): السَّعْيُ فِي حَلِّ عَقْدِ الْبَيْعَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لِذَلِكَ الْحَاكِمِ؛ وَلَوْ بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكَنَّى عَنْهَا بِمِقْدَارِ الشِّبْرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي ذَلِكَ يَؤُولُ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
((مَفَاسِدُ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ))
إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى الْأُمَرَاءِ -عَنِ الطعن فيهم، عَنْ شَتْمِهِمْ، عَنْ إِهَانَتِهِمْ-؛ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعِظَمِ الْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ، وَالَّتِي لَا يُقَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مَعَ وُجُودِ سَبِّهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَّهُمْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ طَاعَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَى إِيغَارِ صُدُورِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يَفْتَحُ مَجَالًا لِلْفَوْضَى الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا بِالشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ.
كَمَا أَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ سَبُّهُمْ، وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ، وَقِتَالُهُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ؛ كَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى يَزِيدَ بِالمَدِينَةِ، وَكَابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْعِرَاقِ.
وَكَابْنِ الْمُهَلَّبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى ابْنِهِ بِخُرَاسَانَ، وَكَأَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِم بِخُرَاسَانَ أَيْضًا، وَكَالَّذِينَ خَرَجوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ)).
وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ ((الرَّبِيعِ الْمَاسُونِيِّ)) الَّذِي ضَرَبَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي مَقْتَلٍ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَهَا مِنْ هَذَا بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّحْذِيرُ مِنْ إِشَاعَةِ الْفَوْضَى))
فَقَدْ حَذَّرَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَمِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهتَانِ وَالنَّمِيمَةِ.
وَهَلِ الشَّائِعَةُ إِلَّا كَذَلِكَ؟!!
وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِحِفْظِ اللِّسَانِ، وَأَظْهَرَ خُطُورَةَ الْكَلِمَةِ، وَحَرَّمَ الْقَذْفَ وَالْإِفْكَ، وَتَوَعَّدَ مُحِبِّي رَوَاجِ الشَّائِعَاتِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19].
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ, {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
وَالشَّائِعَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12 ].
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».
لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُ الدَّلِيلَ الْبُرهَانِيَّ عَلَى أَيِّ خَبَرٍ يَسمَعُهُ, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَمُحَاسَبٌ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَجَلِيلٍ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
نَهَى الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُطْلِقُوا الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَيُلْغُوا عُقُولَهُمْ عِنْدَ كُلِّ كَلَامٍ وَشَائِعَةٍ، وَيُجَانِبُوا تَفْكِيرَهُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَائِعَةٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْسَاقُوا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ، نَهَاهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوا كُلَّ دَاعٍ مَارِقٍ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي عَوَاقِبِ الْإِشَاعَةِ, وَأَنْ يَعُودَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّاتٍ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
كُلُّ خَبَر يَنْشُرُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ أَوِ الْغَوْغَاءَ, أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ, أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنسَانٍ بَغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ, أَوْ يُنَبِّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ, لَا يَجُوزُ نَشْرُهُ، وَنَاشِرُهُ آثِمٌ, يَحْمِلُ إِثْمَ كُلِّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.
وَاللهُ تَعَالَى ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تُزَعْزِعُ أَمْنَ النَّاسِ, وَتُثِيرُ الْخَوْفَ وَتَدْعُو إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّ السُّوقَةَ وَعَامَّةَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ, وَلَا لِأُمُورِ السِّيَاسَةِ, وَلَيْسَ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَلُوكُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِسِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ.
السِّيَاسَةُ لَهَا نَاسُهَا, وَلَوْ أَنَّ السِّيَاسَةَ صَارَتْ تُلَاكُ بَيْنَ أَلْسُنِ عَامَّةِ النَّاسِ لَفَسَدَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ.
الْعَامَّةُ لَيْسُوا كَأُولِي الْأَمْرِ, وَأُولِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ, فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي السِّيَاسَةِ مِنَ الْمَجَالَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا أَفرَادُ الْمُجْتَمَعِ جَمِيعًا!!
مَنْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْعَامَّةُ مُشَارِكَةً لِوُلَاةِ الْأُمُور فِي سِياسَاتِهَا وَفِي رَأْيِهَا وَفِكْرِهَا؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا, وَخَرَجَ عَن هَدْيِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُذِيعًا, كُلَّمَا سَمِعَ عَنْ خَبَرٍ مِنْ خَوْفٍ أَوْ أَمْنٍ أَذَاعَهُ, بَلْ قَد يَكُونُ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَكْتُمَ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي حَصَلَ.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا بِحِفْظِ مَنْطِقِنَا وَبحِفْظِ أَلْسِنَتِنَا؛ لِأَنَّ إِذَاعَةَ الْأَخْبَارِ وَالشَّائِعَاتِ بَيْنَ صُفُوفِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْنِيهِمُ الْخَبَرُ أَوَّلًا, ثُمَّ يُشَارِكُونَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْخُبَرَاءِ -كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمِصْرِيِّ-!!
عِنْدَنَا تِسْعُونَ مِلْيُونًا مِنَ الْمُحَلِّلِينَ الِاسْتِرَاتِيجِيِّينَ, وَالسِّيَاسِيِّينَ, وَالْعَسْكَرِيِّينَ, وَالِاقْتِصَادِيِّينَ, وَالْأَمْنِيِّينَ, وَالِاجْتِمَاعِيِّينَ، كُلُّ مِصْرِيٍّ صَارَ مُحَلِّلًا -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-!!
أَمْسِكْ لِسَانَكَ..
اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ, خَفْ عَلَى بَلَدِكَ..
أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللهُ..
أَقْبِلُوا عَلَى شَأْنِكُمْ..
ابْذُلُوا الْمَجْهُودَ؛ لِرِفْعَةِ وَطَنِكُمْ، وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِ, إِنَّهُ يُغَرَّبُ!!
وَطَنُكُمْ يُغَرَّبُ!! يُقْصَدُ مَحْوُ هُوِيَّتِهِ الْإِسْلَامِيَّةِ, مَحْوُهَا تَمَامًا؛ لِكَيْ يَكُونَ مُجْتَمَعًا جَدِيدًا عَلَى نِظَامٍ جَدِيدٍ، يَتْبَعُ لِلنِّظَامِ الْعَالَمِيِّ الْجَدِيدِ!! أَلَا تَنْتَبِهُونَ؟!!
وَيْحَكُمْ أَلَا تُبْصِرُون؟!!
مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ وَلَا تُبْصِرُونَ؟!!
اتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
«حُرْمَةُ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ»
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].
«الْمُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ؛ بِالْكُفْرِ، وَالْقَتْلِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.
وَالمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ فِي أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَيَقْتُلُونَهُمْ، وَيُخِيفُونَهُمْ، فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّتِي هُمْ بِهَا، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.
فَأَخْبَرَ اللهُ أَنَّ جَزَاءَهُمْ وَنَكَالَهُمْ عِنْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ» .
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَتَرْوِيعَ الْآمِنِينَ وَالسَّابِلَةِ، وَإِخَافَةَ النَّاسِ، وَتَخْرِيبَ الْمُنْشَآتِ، وَتَفْجِيرَ الْأَبْرَاجِ الْكَهْرُبَائِيَّةِ وَالْأَكْشَاكِ، وَالِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْحِرَابَةِ؛ مِنْ الْإِفْسَادِ في الْأَرْضِ، مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعَارَ وَالشَّنَارَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا لَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ.
((اتَّقُوا اللهَ فِي مِصْرَ وَاحْذَرُوا الْفَوْضَى!!))
إِنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِمُ الْأُمُورُ عِنْدَ النَّوَازِلِ؛ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْأَثْبَاتِ الثِّقَاتِ -رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ، وَغُفْرَانُهُ وَتَسْدِيدُهُ لِلْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ-.
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تُرَدُّ إِلَيْهِمُ الْأُمُورُ عِنْدَ التَّنَازُعِ، فَيَرُدُّونَهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ الِاسْتِنْبَاطَ مِنَ الْكِتَابِ، وَيُحْسِنُونَ اسْتِنْطَاقَ الْأَحْكَامِ بِالْأَحْكَامِ عِنْدَ وُقُوعِ النَّوَازِلِ.
هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِمُ الْأُمُورُ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَأَنْ يُرْجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا يَسْتَقُونَهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَنَحْنُ إِنَّمَا نُدَنْدِنُ حَوْلَ هَذَا الْأَمْرِ مِرَارًا وَتَكْرَارًا؛ مِنْ أَجْلِ مَقْصِدٍ عَظِيمٍ، وَذَلِكَ أَنَّا رَأَيْنَا انْفِرَاجَةً عَظِيمَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَى دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى طَرِيقِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ.
ثُمَّ أَتَى مَا أَتَى مِنْ مِثْلِ مَا يَتَأَتَّى الْيَوْمَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ؛ حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ، وَضُيِّقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ.
فَالْخَشْيَةُ هَاهُنَا مِنْ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَا تَكَرَّرَ هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ الصِّدَامِ الْأَهْوَجِ الَّذِي لَا يَحْكُمُهُ وَلَا يَضْبِطُهُ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، مِنْ غَيْرِ عَوْدَةٍ إِلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ.
فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى مِنْ أَقْوَامٍ يَدْعُونَ إِلَى الْحَاكِمِيَّةِ وَلَا يُحَكِّمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
فَهَذَا كِتَابُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذِهِ سُنَّةُ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ، كِتَابُ اللهِ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
أَمَّا أَنْ تَتَصَدَّى لِمَا لَمْ تُخْلَقْ لَهُ، وَلَمْ تَتَأَهَّلْ لَهُ بِهِ، وَتَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتُفْتِيَ فِي النَّوَازِلِ!!
وَيَخْرُجُ أُولَئِكَ الْمَمْسُوخُونَ فِي تِلْكَ الْمُظَاهَرَاتِ، يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ، وَيَدْعُونَ مُلَوِّحِينَ بِالْعِصْيَانِ الْمَدَنِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي يُنْكِرُهَا دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُنْتَهَى.
أَلَا فَلْيَعْلَمِ الْقَوْمُ أَنَّهُ مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، وَالْفُرْصَةُ مَبْذُولَةٌ الْآنَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَرْفَعَ الْكَرْبَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا جَمِيعًا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
((اتَّقُوا اللهَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ!))
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّا نُحَذِّرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ-؛ فَإِنَّكُمْ أُمَنَاءُ عَلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ؛ فَلَا تُضَيِّعُوهَا!
وَكُلُّكُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- عَلَى ثُغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْإِسْلَامِ؛ فَحَذَارِ أَنْ يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ!
حَذَارِ -أَخِي- أَنْ يُؤْتَى الْإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكَ!
فَلَا تَتْبَعْ كُلَّ نَاعِقٍ!
وَلَا تَسْمَعْ لِكُلِّ ثَائِرٍ مُثِيرٍ هَائِجٍ!
وَحَذَارِ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ! اضْرِبْ بِكُلِّ أَمْرٍ عُرْضَ الْحَائِطِ، وَاجْعَلْهُ تَحْتَ مَوَاطئِ الْأَقْدَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكُلُّ مَنْ دَعَاكَ؛ يَدْعُوكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ؛ فَقُلْ: أَعْرِضُ كَلَامَكَ، وَاعْرِضْهُ لِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْ أَيْنَ؟
الْكِتَابُ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَالسُّنَّةُ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فُزْتُمْ وَسَعِدْتُمْ، وَنَجَحْتُمْ وَأَفْلَحْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبَلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؛ تُضَيِّعُونَهُ بِأَنْفُسِكُمْ، وَتُدَمِّرُونَ -عَلَى أَبْنَائِكُمْ وَحَفَدَتِكُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ- مُسْتَقْبَلَهُمْ؛ لِكَيْ يُسَامُوا الذُّلَّ، وَالْهَوَانَ، وَالْخَسْفَ، وَالطُّغْيَانَ.
فَاللَّهُمَّ يَا ذَا الْمَنِّ وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِ! يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاهْدِنَا وَاهْدِ الضَّالِّينَ فِي كُلِّ صُقْعٍ مِنْ أَصْقَاعِ الْأَرْضِ إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:حُرْمَةُ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَإِشَاعَةِ الْفَوْضَى