((رَكَائِزُ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ))
فَالْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
وَقَدْ قَرَنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْنَ بِالْعِبَادَةِ؛ وَذَلِكَ لِعَظِيمِ قِيمَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وَالِابْتِدَاءُ بِطَلَبِ نِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ وَالْخَيْرَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ شَيْءٌ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إِلَّا بِهِ.
وَقَدْ سُئِلَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ: الْأَمْنُ أَفْضَلُ أَمِ الصِّحَّةُ؟
فَقَالَ: «الْأَمْنُ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ شَاةً لَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ بَعْدَ زَمَانٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تُقْبِلُ عَلَى الرَّعْيِ وَالْأَكْلِ، وَأَمَّا إِذَا رُبِطَتْ فِي مَوْضِعٍ وَرُبِطَ بِالْقُرْبِ مِنْهَا ذِئْبٌ، فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنِ الْعَلَفِ، وَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا إِلَى أَنْ تَمُوتَ.
وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَوْفِ أَشَدُّ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ مِنْ أَلَمِ الْجَسَدِ».
وَقَدْ أَجَابَ اللهُ -تَعَالَى- دَعْوْةَ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ آمِنًا, وَجَعَلَ مَكَّةَ بَلَدًا آمِنًا تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنْهُ -تَعَالَى- وَتَفَضُّلًا.
وَقَرَنَ اللهُ -تَعَالَى- الْأَمْنَ بِالرِّزْقِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126].
وَامْتَنَّ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ حَرَمِهِ الْآمِنِ بِالْأَمْنِ، فَقَالَ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] أَيْ: أَجَهِلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قِيمَةَ النِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، وَلَمْ يُدْرِكُوا وَيُشَاهِدُوا أَنَّا جَعَلْنَا بَلَدَهُمْ مَكَّةَ حَرَمًا آمِنًا، يَأْمَنُونَ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِمْ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ حَوْلَ مَكَّةَ يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَغَاورُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ، يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ مَالَ غَيْرِهِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا آمِنُونَ، لَا يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ غَيْرِهِمْ، فَذَكَّرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِلتَّوْبِيخِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْجُحُودِ وَالْكُفْرِ لِنِعَمِ اللهِ -تَعَالَى-.
أَيْ: أَفَبَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ يُؤْمِنُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَبِنِعْمَةِ اللهِ الَّتِي تَسْتَدْعِي اسْتِجَابَتَهُمْ لِلْحَقِّ يَكْفُرُونَ؟!!.
وَكَانَ أَمْنُ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ مَدَحَهُ اللهُ -تَعَالَى- مَدْحًا عَظِيمًا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
فَجَعَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- مَرْجِعًا لِلنَّاسِ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَلَاذًا وَحِصْنًا لَهُمْ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ، فَهُوَ مَوْضِعُ أَمْنِهِمْ وَاطْمِئْنَانِهِمْ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
للهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى عِبَادِهِ نِعَمٌ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى، وَيَمْتَنُّ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنْهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ دَلِيلٌ عَلَى مَكَانَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وَعَلَى مَا لَهَا مِنْ أَهَمِّيَّةٍ فِي حَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ، وَذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ فِي الْعَدِيدِ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْطِنٍ، فَامْتَنَّ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ؛ حَيْثُ ذَكَّرَهُمْ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الصَّعْبِ الَّذِي يَحْتَاجُوا فِيهِ لِلرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْأَمْنِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ} [آل عمران: 154].
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَقُولُ -تَعَالَى- مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْأَمَنَةِ؛ وَهُوَ النُّعَاسُ الَّذِي غَشِيَهُمْ وَهُمْ مَسْتَلْئِمُونَ السِّلَاحَ فِي حَالِ هَمِّهِمْ وَغَمِّهِمْ، وَالنُّعَاسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمَانِ)).
وَقَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ} الَّذِي أَصَابَكُمْ {أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ}؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا رَحْمَةٌ بِهِمْ وَإِحْسَانٌ، وَتَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ، وَزِيَادَةُ طُمَأْنِينَةٍ؛ لِأَنَّ الْخَائِفَ لَا يَأْتِيهِ النُّعَاسُ، لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَوْفِ، فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ عَنِ الْقَلْبِ أَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَرْءَ النُّعَاسُ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهَا بِالنُّعَاسِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا إِقَامَةُ دِينِ اللهِ، وَرِضَا اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَصْلَحَةُ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ)).
وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
أَيِ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ -تَعَالَى-، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْعَذَابِ، وَالْمَشَقَّةِ وَالشَّقَاءِ، وَلَهُمُ الْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ وَظُلْمٍ مُطْلَقًا؛ لَا بِشِرْكٍ وَلَا بِمَعَاصٍ؛ حَصَلَ لَهُمُ الْأَمْنُ الْعَامُّ وَالْهِدَايَةُ التَّامَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ وَحْدَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ؛ حَصَلَ لَهُمْ أَصْلُ الْهِدَايَةِ وَأَصْلُ الْأَمْنِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ كَمَالُهُمَا، فَهَذَا مَنْطُوقُ الْآيَةِ وَمَفْهُومُهَا أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْأَمْرَانِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ هِدَايَةٌ وَلَا أَمْنٌ، بَلْ حَظُّهُمُ الضَّلَالُ وَالشَّقَاءُ.
وَلَقَدْ ذَكَّرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْأُمَمَ بِمَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ عَلَى أَهْلِ الْحِجْرِ وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ، فَمَعَ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةِ الْمَسْكَنِ وَالْأَمْنِ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 80-82].
فَمَعْنَى الْآيَاتِ: وَكَانُوا مِنْ كَثْرَةِ إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِمْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ؛ آمِنِينَ مِنَ الْمَخَاوِفِ مُطْمَئِنِّينَ فِي دِيَارِهِمْ، فَلَوْ شَكَرُوا النِّعْمَةَ، وَصَدَّقُوا نَبِيَّهُمْ صَالِحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لَأَدَرَّ اللهُ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، وَلَأَكْرَمَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الثَّوَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَفِي قِصَّةِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُبَيِّنُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- كَيْفَ مَنَّ عَلَى مُوسَى بِالْأَمْنِ، وَأَذْهَبَ عَنْهُ الْخَوْفَ لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَ عَصَاهُ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا آيَةٌ وَمُعْجِزَةٌ، وَلِيَسْتَعَدَّ لِتَحَدِّي سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- مُخَاطِبًا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} [القصص: 31].
فَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يُقْبِلَ وَلَا يَكُونَ خَائِفًا فَقَالَ لَهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَخَفْ}.
وَلَكِنْ قَدْ يُقْبِلُ وَهُوَ غَيْرُ خَائِفٍ؛ أَيْ: يُقْبِلُ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ حُصُولِ الْوِقَايَةِ وَالْأَمْنِ لَهُ، فَبَشَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}، حِينَهَا ذَهَبَ الْخَوْفُ وَالْمَحْذُورُ وَأَقْبَلَ وَقَدِ ازْدَادَ إِيمَانُهُ.
وَامْتَنَّ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى قَوْمِ سَبَأٍ أَوْ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ وَأَهْلِهَا بِعَدِيدٍ مِنَ النِّعَمِ؛ مِنْهَا أَمْنُ الطَّرِيقِ.. أَمْنُ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْقُرَى وَالْأَمَاكِنِ، مَعَ وُضُوحِ الطَّرِيقِ بِرُؤْيَةِ الْقُرَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ} [سبأ: 18].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُشَرَّفَةِ يَذْكُرُ -تَعَالَى- مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْعَيْشِ الْهَنِيِّ الرَّغِيدِ، وَالْبِلَادِ الرَّخِيَّةِ، وَالْأَمَاكِنِ الْآمِنَةِ، وَالْقُرَى الْمُتَوَاصِلَةِ الْمُتَقَارِبَةِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُرًى ظَاهِرَةً} أَيْ: بَيِّنَةً وَاضِحَةً يَعْرِفُهَا الْمُسَافِرُونَ، يَقِيلُونَ فِي وَاحِدَةٍ وَيَبِيتُونَ فِي أُخْرَى.
وَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ}؛ يُرِيدُ أَنَّ الْأَمْنَ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا.
فَتَأَمَّلْ نِعْمَةَ الْأَمْنِ كَيْفَ يَمْتَنُّ اللهُ بِهَا عَلَى الْخَلْقِ مُنْذُ الْقِدَمِ؛ حَيْثُ تُسَافِرُ أَنْتَ وَأَهْلُكَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، بِخَلَافِ إِذَا مَا ذَهَبَ الْأَمْنُ وَوَقَعَتِ الْفَوْضَى، وَاخْتَلَّتِ الْأُمُورُ، وَتَجَمَّعَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يَدْعُونَ الدَّعْوَةَ وَنُصْرَةَ الدِّينِ فِي أَمَاكِنَ يَرْصُدُونَ فِيهَا عَامَّةَ النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْحَافِلَاتِ، لَا يُمَيِّزُونَ الطِّفْلَ مِنَ الْبَالِغِ، وَلَا الذَّكَرَ مِنَ الْأُنْثَى؛ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ مَطَالِبِهِمْ وَمَطَامِعِهِمْ فَمَا ذَنْبُ الْأَبْرِيَاءِ؟!!
لَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَشْكُرِ النِّعْمَةَ؛ سَلَبَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ، وَإِذَا كَفَرَ الْإِنْسَانُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَيْهِ أَزَالَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ، وَلَا يَسْتَبْقِ النِّعَمَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِالنِّعَمِ شَيْءٌ كَشُكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى نِعَمِهِ، وَتَصْرِيفِ تِلْكَ النِّعَمِ فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ أَذَاقَهُ اللهُ -تَعَالَى- لِبَاسَ الْخَوْفِ، وَأَذَاقَهُ لِبَاسَ الْجُوعِ، وَسَلَبَ عَنْهُ النِّعْمَةَ، فَيَنْدَمُ وَلَاتَ حِينَ مَنْدَمِ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَالْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا)).
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْحَدِيثَ الشَّرِيفَ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَازَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ؛ فَكَأَنَّهُ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا.
أَوَّلًا: الْأَمْنُ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ وَالدَّارِ.
ثَانِيًا: الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ فِي الْجَسَدِ.
ثَالِثًا: تَوَفُّرُ قُوتِ الْيَوْمِ.
فَبَدَأَ النَّبِيُّ ﷺ بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا لَذَّةَ وَلَا تَمَتُّعَ بِنِعْمَةِ الْعَافِيَةِ وَلَا بِنِعْمَةِ الطَّعَامِ إِلَّا بِوُجُودِ نِعْمَةِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ.
فَقَوْلُهُ ﷺ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ)) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ((آمِنًا)) غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ عَدُوٍّ ((فِي سِرْبِهِ)) أَيْ: فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ السِّرْبُ: الْجَمَاعَةُ، وَالْمَعْنَى: فِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَقِيلَ -بِفَتْحِ السِّينِ- أَيْ: فِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ، وَقِيلَ -بِفَتْحَتَيْنِ- أَيْ: فِي بَيْتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: ((يُقَالُ: فُلَانٌ آمِنٌ فِي سِرْبِهِ -بِالْكَسْرِ- أَيْ: فِي نَفْسِهِ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ عِظَمَ قَدْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ، وَهِيَ أَنْ يُصْبِحَ الْمَرْءُ آمِنًا فِي نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَفِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مَا ذَكَرَ بَعْدُ ﷺ مِنْ عَافِيَةِ الْجَسَدِ، وَمِنْ نِعْمَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَمَنْ آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ فَكَأَنَّمَا مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا.
((رَكَائِزُ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ))
عِبَادَ اللهِ! مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّ الْأَمْنَ عَمَلٌ مُجْتَمَعِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ أَبْنَاءِ الْوَطَنِ؛ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ لِأَيٍّ مِنْهُمْ أَنْ يُوَفِّرَ الْأَمْنَ لِنَفْسِهِ وَأُسْرَتِهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَمْنِ الْمُجْتَمَعِ، فَالنَّاسُ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ وَدُوَلِهِمْ أَشْبَهُ بِرُكَّابِ السَّفِينَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْجُوَ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ؛ فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-, عَنِ النَّبِيِّ ﷺ, قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؟! فَإِنْ يَتَرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
((مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا)) الْقَائِمُ فِيهَا؛ يَعْنِي: الَّذِي اسْتَقَامَ عَلَى دِينِ اللهِ فَقَامَ بِالْوَاجِبِ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ, وَالْوَاقِعُ فِيهَا؛ أَيْ: فِي حُدُودِ اللهِ, أَيْ: الْفَاعِلُ لِلْمُحَرَّمِ أَوِ التَّارِكُ لِلْوَاجِبِ.
((كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ))؛ يَعْنِي: ضَرَبُوا سَهْمًا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْقُرْعَةِ أَيُّهُمْ يَكُونُ الْأَعْلَى.
((فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا الْمَاءَ))؛ يَعْنِي: إِذَا طَلَبُوا الْمَاءَ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ.
((مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ))؛ يَعْنِي: الَّذِينَ فِي أَعْلَى السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ فَوْقَ.
((فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا))؛ يَعْنِي: لَوْ نَخْرِقُ خَرْقًا فِي مَكَانِنَا نَسْتَقِي مِنْهُ؛ حَتَّى لَا نُؤْذِيَ مَنْ فَوْقَنَا، هَكَذَا قَدَّرُوا وَأَرَادُوا.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا))؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا خَرَقُوا خَرْقًا فِي أَسْفَلِ السَّفِينَةِ؛ دَخَلَ الْمَاءُ، ثُمَّ أَغْرَقَ السَّفِينَةَ.
((وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ))؛ وَمَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ؛ ((نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا))؛ يَعْنِي: نَجَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ.
وَهَذَا الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ هُوَ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَهَا مَغْزًى عَظِيمٌ، وَمَعْنًى عَالٍ, فَالنَّاسُ فِي دِينِ اللهِ كَالَّذِينَ فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ النَّهْرِ, فَهُمْ تَتَقَاذَفُهُمُ الْأَمْوَاجُ, وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ -إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ- فِي الْأَسْفَلِ, وَبَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى؛ حَتَّى تَتَوَازَنَ حُمُولَةُ السَّفِينَةِ, وَحَتَّى لَا يُضَيِّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَفِيهِ: أَنَّ هَذِهِ السَّفِينَةَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؛ إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُخَرِّبَهَا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُمْسِكُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ؛ لِيَنْجُوا جَمِيعًا, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا هَلَكُوا جَمِيعًا.
هَكَذَا دِينُ اللهِ؛ إِذَا أَخَذَ الْعُقَلَاءُ وَأَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَلَى الْجُهَّالِ وَالسُّفَهَاءِ نَجَوْا جَمِيعًا, وَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا, كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
وَنَحْنُ جَمِيعًا فِي سَفِينَةِ الْوَطَنِ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ مَعَاوِلَهُمْ وَفُؤُوسَهُمْ؛ لِيَخْرِقُوا السَّفِينَةَ لِيُغْرِقُوهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِدُوا أَحَدًا يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ!!
إِنَّ لِلْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ رَكَائِزَ وَمُقَوِّمَاتٍ يَنْبَغِي أَنْ تُعْرَفَ، وَأَنْ يُسْعَى لِتَحْقِيقِهَا.
((أَعْظَمُ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
إِنَّ أَعْظَمَ مُقَوِّمَاتِ وَرَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: نَشْرُ التَّوْحِيدِ، وَتَعْلِيمُهُ، وَتَعَلُّمُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ وَتَحْقِيقُهُ؛ فَقَدْ نَبَّهَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى أَنَّهُ لَا تُسْتَجْلَبُ النِّعَمُ إِلَّا بِتَوْحِيدِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالْإِقْبَالِ عَلَى دِينِهِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ إِنَّمَا هُوَ بِتَحْقِيقِ تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ الْمُجْتَبَى الْأَمِينِ ﷺ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُحَاجَّةَ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ، وَمَا خَوَّفُوهُ بِهِ مِنْ أَذَى الْآلِهَةِ الَّتِي بِهَا كَفَرَ وَعَنْهَا انْصَرَفَ وَإِيَّاهَا عَاذَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُتَعَجِّبًا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَهُ خَوْفٌ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَخَافُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ مَنْ كَانَ بِاللَّهِ مُشْرِكًا، وَهُمْ خَوَّفُوهُ بِالْآلِهَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مُجَادِلًا مُحَاجًّا، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا يَخَافُ تِلْكَ الْآلِهَةَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَخَافُوا مِنْ رَبِّ تِلْكَ الْآلِهَةِ وَخَالِقِهَا، وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.
ثُمَّ عَجَّبَ مِمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ فَقَالَ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82].
لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَوَّفُوهُ بِآلِهَتِهِمْ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ أَذَاهَا؛ إِذْ بِهَا كَفَرَ، وَإِيَّاهَا حَادَ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا عَائِبًا وَعَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا عَابِدًا، وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.. عَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ شَأْنِهِمْ؛ إِذْ خَوَّفُوهُ بِمَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَهُوَ يَعْبُدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَهُوَ رَبُّهُمْ وَرَبُّ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، فَقَالَ: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنْ هُوَ يُذَكِّرُهُمْ وَيَعِظُهُمْ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْنَ الْحَقِيقِيَّ وَأَنَّ السَّلَامَةَ مِنَ الشُّرُورِ إِنَّمَا تَكُونُ بِتَحْقِيقِ تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.
لَهُمُ الْأَمْنُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ مُهْتَدُونَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِذَا مَا تَخَلَّصُوا مِنَ الظُّلْمِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ فَلَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ دُنْيَا وَآخِرَةً؛ فَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَمْ يَظْلِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا دُونَهُ، وَلَمْ يَظْلِمُوا الْخَلْقَ؛ فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ إِذَا تَبَرَّءُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ بِهَا فَإِنَّ لَهُمُ الْأَمْنُ الْمُطْلَقُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا وَعَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}.
وَلَمَّا نَزَلَتْ فَزِعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- قَالَ: ((لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟)).
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مَعْنَى الْآيَةِ وَشَرَحَهَا، فَاسْتَقَرَّتْ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهَا، {إِنَّ الشِّرْكَ لِظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
وَأَظْلَمُ الظُّلْمِ أَنْ يُشْرِكَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْرَهُ فِي أَمْرٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ أَوْ بِالْعِبَادَةِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَهْجِسُ فِي الضَّمِيرِ وَمَا يَدُورُ فِي الْخَاطِرِ، فَأَظْلَمُ الظُّلْمِ أَنْ يُشْرِكَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهُوَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْمَلِيكُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، هُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَنْ دُونَهُ مِنْ مَعْبُودٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ الَّتِي أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، فَمَنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَهُ الْأَمْنُ؛ لَهُ الْأَمْنُ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُ الْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْإِنْسَانُ إِذَا مَا تَخَلَّى عَنْ هَذَا كُلِّهِ كَفَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا أَهَمَّهُ مِنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ وَمِنْ أُمُورِ آخِرَتِهِ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
فَإِذَا جَاءَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْكَامِلَةِ فَلَهُ كِفَايَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِذَا أَتَى بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
وَالْعَبْدُ هَاهُنَا لَيْسَ هُوَ الْعَبْدُ عَلَى سَبِيلِ الِاضْطِرَادِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمَعْنَى، لَا يَخْلُصُ مِنْ أَسْرِ الْقُدْرَةِ، وَلَكِنْ خَاضِعٌ هُوَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَذَلِيلٌ، حَتَّى الشَّيْطَانُ فَهُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الْمَعْنَي؛ بِمَعْنَي أَنَّهُ مُعَبَّدٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حَوْلًا وَلَا حِيلَةً، وَإِنَّمَا هُوَ فِي قَبْضَةِ الْقُدْرَةِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْهَا بِحَالٍ.
وَإِنَّمَا الْعَبْدُ الْعَابِدُ الَّذِي يَعْبُدُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ بِكَمَالِ الْمَحَبَّةِ فِي كَمَالِ الْمَذَلَّةِ فَهَذَا مَا يُرِيدُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
إِذَا حَقَّقَ الْمُجْتَمَعُ حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَتَمَسَّكَ بِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَمَّنَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَعْدَائِهِ مِنْ دَاخِلٍ وَمِنْ خَارِجٍ، وَأَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ بِنِعْمَةِ الْأَمَانِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِمِنَّةِ الِاطْمِئْنَانِ، وَآتَاهُ الرِّزْقَ رَغَدًا يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.
فَلَا تَصِحُّ مُجْتَمَعَاتُ الْبَشَرِ إِلَّا بِعِبَادَةِ ذِي الْقُوَى وَالْقُدَرِ، وَإِلَّا بِاتِّبَاعِ خَيْرِ الْبَشَرِ ﷺ، فَطَوْقُ الْأَمَانِ لِكُلِّ مُجْتَمَعٍ أَنْ يَكُونَ مُوَحِّدًا مُتَّبِعًا، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ فِي أَمْنٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَفِي كِفَايَةٍ، بَلْ فِي رَغَدٍ يَأْتِيهِ الرِّزْقُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَصَرَفَ اللهُ عَنْهُ عَادِيَاتِ الْأُمُورِ، وَكَفَّ عَنْهُ جَمِيعَ الشُّرُورِ، وَجَعَلَ أَهْلَهُ فِي مَحَبَّةٍ وَصِدْقٍ وَوِئَامٍ، وَنَعَّمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا يُفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعْمَةِ السَّلَامِ.
وَإِنْ جَحَدُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ بَدَّلَ اللهُ حَالَهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فَإِنْ فَاءُوا إِلَيْهِ كَشَفَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، وَرَفَعَ الْخِزْيَ عَنْ دِيَارِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ لَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ فَفِي الْآخِرَةِ مَا يَنْتَظِرُهُمْ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
هَذَا هُوَ الْمَحَكُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ الْمُجْتَمَعَاتُ إِنْ أَرَادَتِ الْفَلَاحَ وَالنَّجَاحَ.
وَالْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ الَّذِي آمَنَ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا وَرَسُولًا هُوَ أَوْلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ اللهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَمَنْ عَكَفَ عَلَى كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ السَّعَادَةَ فِي هَذَا وَحْدَهُ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا؛ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَهُنَّ خَاطَبَهُنَّ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ عَابِدٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ رَبِّهِ سَاجِدٌ لَهُ {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
النَّجْمُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ هُوَ النَّجْمُ السَّمَاوِيُّ، فَهُوَ سَاجِدٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُجُودَهُ، {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، كَالطَّيْرِ صَافَّاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاوَاتِ مُسَبِّحَةً بِحَمْدِ رَبِّهَا وَحْدَهُ، عَابِدَةً لَهُ مُطِيعَةً لَهُ، لَا تَخْرُجُ عَمَّا جَعَلَهَا لَهُ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ إِلَّا وَهُوَ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ اللهِ {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
فَمِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ أَنَّهُ لَا يُسْمِعُكُمْ تَسْبِيحَ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَمَا تُزَاوِلُونَ وَمَا تُعَالِجُونَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِكُمْ مَا سَاغَ لَكُمْ طَعَامٌ، وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِفِرَاشٍ، وَلَا طَابَتْ لَكُمْ حَيَاةٌ، فَأَخْفَى ذَلِكَ عَنْكُمْ {وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
فَكُلُّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ؛ مِنْ جَمَادٍ، وَحَيَوَانٍ، وَنَبَاتٍ، وَمِنْ حَشَرَاتٍ، وَطُيُورٍ، وَأَسْمَاكٍ فِي الْبِحَارِ وَالْمُحِيطَاتُ سَابِحَاتٌ.. مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُنَّ قَدْ رَفَضْنَ مَا عَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِنَّ، وَإِنَّمَا أَشْفَقْنَ مِنْ أَمَانَةِ التَّكْلِيفِ، فَهُنَّ مُسَخَّرَاتٌ، وَلَمْ يُرِدْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَبْنِيًّا عَلَى عَقْلٍ يَأْخُذُ وَيُعْطِي، وَعَلَى إِرَادَةٍ تُقْبِلُ وَتُدَبِّرُ، وَإِنَّمَا هُنَّ مُسَخَّرَاتٌ، فَرَضِينَ بِالتَّسْخِيرِ لِلْعَلِىِّ الْكَبِيرِ.
وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ حَمَلَهَا بِظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]؛ بِظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ، وَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي الْكَوْنِ مِنْ إِسَاءَةٍ، وَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَنْبٍ فَهُوَ بِسَبَبِ الظُّلْمِ أَوْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ أَوْ بِسَبَبِهِمَا مَعًا، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.
فَكُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ عَابِدٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا الرَّسُولُ ﷺ: ((أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ دَاعٍ لِمُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ، حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ، مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ إِلَّا وَهُوَ دَاعٍ لِمُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)) كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ قِصَّةَ نَبِيٍّ أَحْرَقَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى النَّمْلِ لِأَنَّ نَمْلَةً قَرَصَتْهُ فَعَاتَبَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((أَمِنْ أَجْلِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَحَرَقْتَ أُمَّةً كَانَتْ تُسَبِّحُ اللهَ؟!!)).
فَكُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ عَابِدٌ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى النِّظَامِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَانْتَظَمَتِ الْحَيَاةُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهَا إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ.. إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الثَّقَلَيْنِ لَمَّا تَحَمَّلَا أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ بِـ((افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ)) وَبِالْمَشِيئَةِ تَحْتَ مَشِيئَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- فَوَقَعَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَهُوَ مَرْبُوبٌ مُسَخَّرٌ وَهُوَ مَاضٍ عَلَى قَانُونِهِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
قَرِيَةُ النَّمْلِ فِي الْقُصُورِ كَقَرْيَةِ النَّمْلِ فِي أَكْنَافِ الْقُبُورِ هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ، وَنِظَامُ الْمَعِيشَةِ هُوَ هُوَ فِي خَلَايَا النَّحْلِ فِي قُنَنِ الْجِبَالِ وَفِي الْمَسَارِبِ فِي الْأَرْضِ فِي أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ؛ الْقَانُونُ وَاحِدٌ، وَكُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مُلْتَزِمَةٌ بِمَا جَعَلَ اللهُ لَهَا مِنْ قَانُونٍ، وَهِيَ السُّنَّةُ الْكَوْنِيَّةُ فِيهَا لَا تَتَخَلَّفُ، وَالْإِنْسَانُ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حَالُهُ إِلَّا بِمَنْهَجِ رَبِّهِ، وَلَا يَدْرِي مَنْهَجَ رَبِّهِ إِلَّا بِوَحْيٍ إِلَى رُسُلِهِ، وَآخِرُهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.
اخْتَلَفَتْ صُوَرُ الْحَيَاةِ.. وَالنَّمْلُ هُوَ النَّمْلُ سَارِحٌ فِي مُلْكِ اللهِ عَلَى قَانُونِهِ بِغَرِيزَتِهِ الَّتِي فَطَرَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ وَفَطَرَهُ عَلَيْهَا، وَالطُّيُورُ صَافَّاتٌ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، وَالْوُحُوشُ فِي غَابَاتِهَا وَمَسَارِبِهَا، وَالْأَسْمَاكُ فِي أَمْوَاهِهَا وَبِحَارِهَا، كُلُّ شَيْءٍ مَاضٍ عَلَى قَانُونِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صُوَرُ الْحَيَاةِ، الطُّيُورُ عَلَى الْأَفْنَانِ فِي الْقُصُورِ هِيَ بِعَيْنِهَا بِقَانُونِهَا عَلَى الْأَغْصَانِ فِي أَكْنَافِ الْقُبُورِ، لَا تَخْتَلِفُ فِي غَرِيزَتِهَا وَفِيمَا سَخَّرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ اخْتِلَافَ صُوَرِ الْحَيَاةِ وَتَرَقِّيهَا دَاعٍ إِلَى مُخَالَفَةِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَغِشْيَانِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَكَذَبَ؛ إِنَّمَا الْمَنْهَجُ الْمَنْهَجُ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَخَلَّفُ، وَالَّذِي شَرَعَهُ هُوَ الَّذِى عَلِمَ الْإَنْسَانَ وَمَا يَكُونُ مِنْهُ وَمَا يَفْتَحُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ تَقَدُّمٍ مَادِّيٍّ وَاسْتِحْوَاذٍ تِقْنِيٍّ حَتَّى يَتَمَلَّكَ مَا يَتَمَلَّكُ مِنْ مَقَادَاتِ أَزِمَّةِ الْقُوَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالْإَنْسَانُ هُوَ الْإَنْسَانُ، وَمَنْهَجُ اللهِ هُوَ هُوَ مِنْ غَيْرِ مَا تَخَلُّفٍ وَلَا اخْتِلَافٍ، فَحُجَّةٌ دَاحِضَةٌ وَشُبْهَةٌ فَائِلَةٌ.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِينِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَيْثُمَا كَانَ، وَهَذَا الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ إِنَّمَا أَنْزَلَهُ رَبُّنَا، وَاللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَعْلَمُ بِمَا خَلَقَ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَهُ صِفَةُ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ انْكِشَافٌ لِلرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ، فَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، وَمَا تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ أُمُورُهُ، وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أَمْرُهُ، فَجَعَلَ الْوَحْيَ مُتَنَاسِقًا مُتَلَائِمًا مُتَلَاحِمًا، فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ اهْتَدَى، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ ضَلَّ وَغَوَى، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
*رِسَالَةُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ: الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ:
إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ، وَبِهِ أَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ، أَوَّلُهُمْ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ أَرْسَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى قَوْمِهِ لَمَّا غَلَوْا فِي الصَّالِحِينَ؛ فَاتَّخَذُوا وَدًّا وَسُوَاعًا وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، أَرْبَابًا تُعْبَدُ؛ فَحَذَّرَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي عَبَدُوهَا إِنَّمَا اتَّخَذُوهَا عَلَى صُوَرِ صالِحِينَ، كَانُوا يُذَكِّرُونَ قَوْمَ نُوحٍ؛ فَلَمَّا هَلَكُوا صَوَّرُوا صُوَرَهُمْ؛ فَجَعَلُوهَا فِي مَجَالِسِ التَّذْكِيرِ، وَلَمْ تُعْبَدْ؛ فَلَمَّا تَقَادَمَ الْعَهْدُ، وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ؛ عُبِدَتْ.
وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ هُوَ كَسَّرَ صُوَرَ أُولَئِكَ الصالِحِينَ، وَهُوَ حَطَّمَ تِلْكَ الْأَصْنَامَ، أَرْسَلَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِلَى قَوْمٍ يَعْبُدُونَ وَيَحُجُّونَ، وَيَتَنَسَّكُونَ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا مَعَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- آلِهَةً، وَهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِخَلْقٍ وَلَا بِمُلْكٍ وَلَا تَدْبِيرٍ، وَلَكِنِ اتَّخَذُوهَا لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللهِ تَقْرِيبًا، وَلِتَكُونَ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ، فَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
قَاتَلَهُمْ لِكَيْ يَكُونَ أَمْرُهُمْ كُلُّهُ إِلَى اللهِ؛ اسْتِغَاثَتُهُمْ بِاللَّهِ، وَنَذْرُهُمْ لِلَّهِ، وَدُعَاؤُهُمْ كُلُّهُ لِلَّهِ؛ فَلَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ إِلَّا لِلَّهِ.
التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، أَوْ هُوَ إِفْرَادُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ؛ تَوْحِيدُهُ فِي أَفْعَالِهِ بِأَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ، وَهُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَهُوَ مُدَبِّرُ الْأَمْرِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ خِلَافٌ، وَلَمْ يُرْسِلْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ لِأَجْلِ دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَلَى مَدَارِ تَارِيخِ الْإِنْسَانِ إِنَّهُ يَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ يَرْزُقُ أَحَدًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا يُدَبِّرُ أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ.
بَلِ الْكُلُّ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مَالِكُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، لَا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أَحَدٌ سِوَاهُ.
حَتَّى إِبْلِيسُ هُوَ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَهُوَ مَالِكُ الْمُلْكِ، وَهُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَإِنَّمَا كَانَ كُفْرُهُ كُفْرَ إِبَاءٍ وَاسْتِكْبَارٍ؛ إِذْ تَأَبَّى عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَعَصى أَمْرَهُ؛ فَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
حَتَّى فِرْعَوْنُ وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ رَبُّهُمُ الْأَعْلَى، وَمَا عَلِمَ لَهُمْ مِنْ إِلَهٍ سِوَاهُ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجْحَدُ وُجُودَ اللهِ.
وَإِذَا جَحَدَ وُجُودَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَحَدٌ فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
فَكَانَ يُقِرُّ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَلَيْسَ بِخَالِقٍ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَمَالِكُ الْمُلْكِ، وَمُدَبِّرُ الْأَمْرِ.
فَلَمَّا حَاجَّهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ سَلَّمَ وَلَمْ يُعَارِضْ، وَأَلْزَمَهُ مُوسَى الْحُجَّةَ {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}.
فَلَمْ يُعَقِّبْ، {لَقَدْ عَلِمْتَ} مَا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا جَاءَتْنِي هَذِهِ الْمُعْجِزَاتُ إِلَّا مِنْ لَدُنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ {بَصَائِرَ} لِلنَّاسِ وَهُدًى؛ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ فِرْعَوْنُ.
فَتَوْحِيدُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَفْعَالِهِ هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِذَا ذُكِرَ فِي تَضَاعِيفِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَفِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّقْرِيرِ؛ فَإِذَا مَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُلْزِمُهُمُ الْحُجَّةَ بِأَنْ يَصْرِفُوا الْعِبَادَةَ كُلَّهَا لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ؛ لِلَّذِي خَلَقَ، وَالَّذِي هُوَ مُدَبِّرُ الْأَمْرِ، وَالَّذِي هُوَ يَمْلِكُ الْمُلْكَ، وَلَا يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادا وأنتم تعلمون} حَقَّ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ، وَلَا كُفُوَ لَهُ، {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّهُ لَا نِدَّ لَهُ.
فَهُمْ يُقِرُّونَ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجْحَدُونَهُ، وَمَنْ جَحَدَهُ جَحَدَهُ بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا.
فَلَمْ يُرْسِلِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الرُّسُلَ لِأَجْلِ أَنْ يُقَرِّرُوا لِأَقْوَامِهِمْ وُجُودَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ هَذَا مَرْكُوزٌ فِي الْفِطَرِ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَإِنَّمَا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ.
التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، إِفْرَادُ اللهِ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ.
وَأَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِ فَلَا خِلَافَ.
وَأَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِ الْعَبْدِ؛ فَفِي هَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ.
أَنْ تَصرِفَ الْعِبَادَةَ كُلَّهَا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ؛ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَإِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَإِلَى خَلْعِ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَوَقَعَتِ الْخُصومَةُ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشْرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى، ثُمَّ دَخَلَ الشِّرْكُ عَلَى الْخَلْقِ بَعْدُ)).
الْخَمْسَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي سُورَةِ نُوحٍ هُمْ كَانُوا قَوْمًا صالِحِينَ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُذَكِّرُونَهُمْ بِالْهُدَى وَالْخَيْرِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ؛ فَمَاتُوا؛ فَلَمَّا مَاتُوا افْتَقَدُوهُمْ؛ فَصَوَّرُوا صُوَرَهُمْ وَنَصَبُوهَا فِي مَجَالِسِهِمْ، وَلَمْ يَعْبُدْهُمُ الْجِيلُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْحَقِيقَةَ، وَكَانَ لَهَا مَشَاهِدًا، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ ظَنُّوا مُغَالِينَ فِي تِلْكَ الْأَصنَامِ الَّتِي اتَّخَذَهَا آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ.. فَظَنُّوا أَنَّهَا تُعْبَدُ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قَدْ يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْبُدُ اللهَ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ عِبَادَةٌ، وَلَمْ يُوَحِّدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ذَكَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُنْكِرُوا عِبَادَةَ اللهِ وَلَا أَنَّهُ مَعْبُودٌ، وَإِنَّمَا عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ قَائِلُهُمْ لِرَسُولِهِمْ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف: 70]، فَكَانُوا يَعْبُدُونَ اللهَ وَيَعْبُدُونَ مَعَهُ سِوَاهُ!!
وَالَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَانُوا يَحُجُّونَ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ حَوْلَ الْبَيْتِ، يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ؛ فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ : ((قَدٍ قَدٍ)).
وَرُوِيَتْ بِالتَّسْكِينِ -أَيْضًا-: ((قَدْ قَدْ))؛ يَعْنِي يَكْفِيكُمْ هَذَا؛ فَتَوَقَّفُوا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ تَوَقَّفُوا عِنْدَهُ لَكَانُوا مُوَحِّدِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الشَّرِيكِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْكُفْرِ بِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَكْفِي الْإِثْبَاتُ وَحْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ النَّفْيِ مَعَ الْإِثْبَاتِ.
وَهَذَا حَقِيقَةُ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ.
فَالْمُرْسَلُونَ أَجْمَعُونَ جَاءُوا بِالنَّفْيِ وَالْإَثْبَاتِ؛ فَمَنْ جَاءَ بِالْإِثْبَاتِ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ مُوَحِّدًا، لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالنَّفْيِ -أَيْضًا-.
فَكَانُوا يَقُولُونَ فِي طَوَافِهِمْ وَتَلْبِيَتِهِمْ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ)).
لَمْ يُثْبِتُوا لِلشَّرِيكِ فِعْلًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ -كَمَا يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ-، وَإِنَّمَا هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ مَرْبُوبُونَ مُسَخَّرُونَ مَخْلُوقُونَ لَا يَفْعَلُونَ شَيْئًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا اتَّخَذُوهُمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ إِلَى اللهِ زُلْفَى؛ يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ؛ فَهَذَا شِرْكُهُمْ.
أَمَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمُ اتَّخَذَ صنَمًا، أَوْ عَبَدَ شَجَرًا، أَوْ وَلِيًّا، أَوْ نَبِيًّا، أَوْ مَلَكًا عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ يَخْلُقُ وَيُوجِدُ، وَيُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ؛ فَلَا.
بَلْ هُمْ مُقِرُّونَ أَنَّ اللهَ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ أَصنَامَهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصنَامَ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا اتُّخِذَتْ هَكَذَا بِزَعْمِهِمْ لِتُقَرِّبُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ وَلِتَكُونَ شُفَعَاءَ وَوَسَائِطَ عِنْدَهُ، لَا أَكْثَرَ .
أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ؛ لِكَيْ يُفْرِدَ النَّاسُ رَبَّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
جَاءَ نُوحٌ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى خَلْعِ تِلْكَ الْأَصنَامِ؛ لِكَيْ يَكُونَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَلِتَكُونَ الِاسْتِغَاثَةُ كُلُّهَا لِلَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِاللَّهِ، وَالرَّجَاءُ فِي اللهِ، وَالْخَوْفُ مِنَ اللهِ، دَعَاهُمْ لِكَيْ يُوَحِّدُوا اللهَ.
وَجَاءَ رَكْبُ الْمُرْسَلِينَ كُلُّهُمْ يَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، وَكُلُّهُمْ جَاءَ يَقُولُ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
يَقُولُ لَهُمْ نُوحٌ: {أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَ} [هود: 2] بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ.
لَا بُدَّ أَنْ تَخْلَعُوا جَمِيعَ الْأَنْدَادِ، وَأَنْ تَكْفُرُوا بِجَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ، وَأَنْ تَعْبُدُوا رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ صحَّ دِينُهُ، وَاسْتَقَامَ يَقِينُهُ، وَمَنْ تَوَقَّفَ عِنْدَ حُدُودِ أَنَّهُ يُثْبِتَ الصَّانِعَ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ هُوَ مَالِكُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ثُمَّ لَمْ يَعْبُدْ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهَذَا لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ، لَيْسَ بِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا لَهَبٍ لَمْ يُنْكِرَا وُجُودَ اللهِ، وَلَمْ يُنْكِرَا أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ مَالِكُهُمَا، وَأَنَّهُ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، مَا وَقَعَتْ خُصومَةٌ فِي هَذَا، إِنَّمَا وَقَعَتِ الْخُصومَةُ فِي أَّنَهُمْ يَصرِفُونَ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وِلِأَصنَامِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَأْتُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَيُنَدِّدُونَ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ مِنْهَاجٌ: ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ)).
فَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَنْتَ مَالِكُهُ وَمَا مَلَكَ، وَأَنْتَ الَّذِي اتَّخَذْتَهُ، ((إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ))؛ فَأَنْتَ خَالِقُهُ، وَأَنْتَ مَالِكُهُ، وَأَنْتَ مُوجِدُهُ، وَأَنْتَ بَارِيهِ.
فَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقَتَلَهُمْ، وَسَبَا نِسَاءَهُمْ وَذُرِّيَاتِهِمْ، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُ أَمْوَالَهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ وُجُودَ اللهِ، وَلَا مُلْكَهُ، وَلَا تَدْبِيرَهُ وَتَصرِيفَهُ، وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَعَبَدُوا مَعَ اللهِ غَيْرَهُ.
فَاتَّخَذُوهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ؛ كَمَنْ يَقُولُ لَكَ: أَمَا إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ الْوَلِيَّ أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ حَتَّى لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَأَنَا مَا عَبَدْتُهُ، وَإِنَّمَا لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأَنَا إِنَّمَا أَقْصِدُهُ لِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ؛ فَلَا أَعْبُدُهُ وَأَنَا لَا أُنْكِرُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَلَا أَجْحَدُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَوْلِيَاءَ وَأَنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَتَّخِذُهُ وَنَتَّخِذُهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ وَاسِطَةً بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ!!
أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيُّونَ؟!!
كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ نَفْسَهُ، لَمْ يَنْقُصُوا مِنْهُ شَيْئًا، كَانُوا يَقُولُونَ: أَمَا -وَاللَّهِ- إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّهَا حِجَارَةٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَصنَامَ مَخْلُوقَةٌ مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ، وَلَكِنْ هِيَ تُقَرِّبُنَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهِيَ شُفَعَاءُ لَنَا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!
فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؟!!
وَهُنَالِكَ فَرْقٌ كَبِيرٌ: كَانَ الْأَوَّلُونَ إِذَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ خَطْبٌ، وَنَزَلَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ؛ أَخْلَصُوا، وَوَحَّدُوا.
وَأَمَّا الْآخِرُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا وَقَعَتْ بِهِمْ شِدَّةٌ، فَإِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ أَوْ يُوغِلُونَ فِي الشِّرْكِ إِيغَالًا؛ فَإِذَا نَزَلَتْ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمْ شِدَّةٌ أَوْ حَلَّ بِهِ خَطْبٌ أَوْ مُلِمَّةٌ؛ اسْتَغَاثَ بِالْمَقْبُورِ، أَوِ اسْتَغَاثَ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا؛ إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ مُسَخَّرٌ؛ فَاسْتَغَاثَهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا.
وَمَنْ دَعَا النَّبِيَّ فَقَدْ كَفَرَ؛ مَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَغِثْنِي! مَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اشْفِ مَرِيضِي، مَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَغْنِنِي مِنْ فَقْرِي! مَنْ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! انْصرْنِي عَلَى عَدُوِّي؛ فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ لَا تُصرَفُ إِلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُبْعَثْ إِلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى أَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ، وَهُوَ الْمَالِكُ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ؛ فَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؛ أَيْ شِرْكٌ، وَهِيَ عَامَّةٌ، فَيَشْمَلُ كُلَّ كُفْرٍ وَشِرْكٍ يَكُونُ؛ مِنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَعِبَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَوْلِيَاءِ، وَالْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ، وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَمَا أَشْبَهَ.
أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَنْبِيَاءَ لِكَيْ يُعْبَدَ؛ لِيَدُلُّوا النَّاسَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِبَادَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِذِ التَّوْحِيدُ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ، بِإِفْرَادِهِ -سُبْحَانَهُ- بِأَفْعَالِهِ هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَإِفْرَادُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَفْعَالِ الْعَبْدِ عِبَادَةً لِلرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَفِي إِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصفَاتِ الْمُثْلَى مِنْ غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.
هَذَا دِينُ اللهِ، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ، وَجَاءُوا كُلُّهُمْ بِحَقِيقَةِ هَذَا الدِّينِ وَهِيَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ مَعْنَاهَا، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدُ عَمَّا يَنْقُضُهَا وَيُخَالِفُهَا.
وَأَوَّلُ شُرُوطِهَا الَّتِي لَا يَنْفَعُ قَائِلُهَا قَوْلُهُ إِيَّاهَا إِلَّا إِذَا حَقَّقَهَا: الْعِلْمُ بِمَعْنَاهَا عِلْمًا يُنَافِي الْجَهْلَ.
وَالنَّاسُ يَلْفِظُونَهَا، وَيَتَصوَّرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ النُّطْقُ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى مَعْنًى، وَهَذَا عَجِيبٌ، فَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِخْلَاص وَالْيَقِينَ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَلَا يَجْهَلُهُ جُهَّالُ الْكَافِرِينَ؟!!
لِأَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَلِذَلِكَ قَالُوا مُتَعَجِّبِينَ {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَٰهًا وَٰحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]؛ فَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَنَّهُ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ؛ فَاسْتَنْكَرُوا، وَقَالُوا {أجعل الآله إلها واحدا}؛ لَا يُعْبَدُ إِلَّا هُوَ؛ هُمْ يَعْبُدُونَهُ، وَلَمْ يُنْكِرُوا أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ٱللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف: 70].
فَهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا أَّنُهُ مَوْجُودٌ، وَلَا أَنَّهُ يُعْبَدُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ؛ فَهَذَا هُوَ حَرْفُ الْمَسْأَلَةِ الَّذِي عَلَيْهِ تَدُورُ: ((أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ)).
فَـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ، وَهَذَا أَوَّلُ شُرُوطِهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْإِلَهَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْمَأْلُوهِ، لَا بِمَعْنَى الْآلِهِ؛ فَهُوَ الْمَعْبُودُ، لَا مَأْلُوهَ بِحَقٍّ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ؛ فَلَا يُصرَفُ شَيْءٌ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِسِوَى اللهِ.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مَنْ جَاءَ بِهَا وَكَانَ عَدُوًّا صارَ وَلِيًّا، وَمَنْ أَنْكَرَهَا وَكَانَ قَرِيبًا صارَ بَعِيدًا.
هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهَا مَعْقِدُ الْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ.
هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ.
هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَا تَنْفَعُ قَائِلَهَا حَتَّى يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا؛ فَهَذَا شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا بِأَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْغِضًا لِمَنْ أَنْكَرَهَا، مُعَادِيًا لَهُ وَمُعَادِيًا لِأَعْدَائِهَا.
فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْمَحَبَّةِ لَهَا؛ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا.
هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنْزَلَ لِأَجْلِهَا الْكُتُبَ، بَلْ خَلَقَ لِأَجْلِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ؛ وَلِأَجْلِهَا وَقَعَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ؛ وَلِأَجْلِهَا سِيقَ النَّاسُ لَمَّا أَنْكَرُوهَا فِي السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَكَانُوا أَعِزَّةً قَاهِرِينَ؛ فَأَذَلَّهُمُ الشِّرْكُ حَتَّى عَادُوا عَبِيدًا مُسْتَخْدَمِينَ.
لِأَجْلِهَا أَبَاحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دِمَاءَ مَنْ أَنْكَرَهَا وَمَالَهُمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، وَأَبْدَانَهُمْ، وَدِيَارَهُمْ، وَأَرْضَهُمْ مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَنْطِقَ بِهَا عَمُّهُ وَهُوَ يُحْتَضَرُ، وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ؛ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ ذَهَبَ إِلَيْهِ؛ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ : ((يَا عَمُّ! قُلْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)).
فَأَقْبَلَا عَلَيْهِ يَقُولَانِ: ((أَتَدَعُ دِينَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ؟)).
فَأَعَادَ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَأَعَادَا، وَأَعَادَ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَأَعَادَا؛ فَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ: هُوَ عَلَى دِينِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ.
فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ : ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ)). فَنَهَاهُ رَبُّهُ))؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ الْمُسْلِمُ لِلْمُشْرِكِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ أَصحَابِ الْجَحِيمِ.
الْخِلَافُ فِيهَا يُمَزِّقُ الصِّلَاتِ، وَالْمُؤَالَفَةُ وَالْمُوَالَاةُ عَلَيْهَا تُقَرِّبُ الْبَعِيدَ فَتَجْعَلُهُ قَرِيبًا حَبِيبًا وَلِيًّا.
وَأَمَّا الصِّلَاتُ، وَأَمَّا لُحْمَةُ النَّسَبِ، وَأَمَّا قَرَابَةُ الْعَصبِ، وَأَمَّا أَشْبَهُ مِنْ مُوَاضَعَاتِ الْخَلْقِ؛ فَعِنْدَ الْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ تُفْصَلُ الْعُرَى وَتَتَبَدَّدُ الصِّلَاتِ؛ فَحَوْلَهَا مُوَالَاةٌ وَمُعَادَاةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص : ((يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ غَبَرَةٌ وَقَتَرَةٌ؛ فَيَقُولُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصنِي؛ دَعَوْتُكَ إِلَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَكَذَّبْتَ وَجَحَدْتَ وَأَنْكَرْتَ، وَعَادَيْتَ، وَاسْتَكْبَرْتَ؛ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصنِي؟)).
فَيَقُولُ: ((فَأَنَا الْيَوْمَ لَا أَعْصيكَ)).
وَإِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- دَعَا رَبَّهُ فَأَجَابَهُ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
فَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَلَّا تُخْزِيَنِي)).
وَأَيُّ خِزْيٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ خِزْيِ أَبِي الْأَبْعَدِ، الْأَبْعَدِ عَنْ رَحْمَتِكَ الْيَوْمَ.
فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ))، وَلَوْ كَانَ أَبَاكَ وَأَنْتَ الْخَلِيلُ.
وَالْحَدِيثُ بَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ بَابًا: ((وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا))، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي حَقِّ أَبِيهِ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، قَالَ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَكَانَ قَدْ وَعَدَهُ بِرَفْعِ الْخِزْيِ عَنْهُ يَوْمَ الْبَعْثِ؛ فَاسْتَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ وَهُوَ غَيْرُ مُخْلِفٍ وَعْدَهُ؛ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- : ((إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ)).
وَهَذَا كَافِرٌ مُشْرِكٌ، وَلَا يُجَاوِرُنِي فِيهَا إِلَّا كُلُّ طَاهِرٍ طَيِّبٍ مُوَحِّدٍ؛ فَيُقَالُ لَهُ: ((يَا إِبْرَاهِيمُ! انْظُرْ تَحْتَ رِجْلَيْكَ.
فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ –وَالذِّيخُ: هُوَ ذَكَرُ الضَّبُعِ، مُلْتَطِخٌ مُلَوَّثٌ بِالنِّفَايَاتِ وَالنَّتَنِ وَالدِّمَاءِ-.
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَيَأْخُذُ إِبْرَاهِيمُ بِأَنْفِهِ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ)).
فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ((يَا إِبْرَاهِيمَ! هَذَا أَبُوكَ)).
فَيَقُولُ: ((لَا يَا رَبِّ)).
فَيَأْمُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ حَتَّى يُلْقَى فِي النَّارِ)).
{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}؛ فَلَا يُخْزِيهِ يَوْمَ الْبَعْثِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَإِنَّمَا مُسِخَ ضَبُعًا؛ لِأَنَّ الضُّبُعَ مِنْ أَحْمَقِ الْحَيَوَانِ، وَآزَرُ كَانَ مِنْ أَحْمَقِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ وَلَدُهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَالْحَقِّ رَكِبَ رَأْسَهُ، وَعَانَدَ وَكَفَرَ؛ فَوَقَعَتِ الْمُشَاكَلَةُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَسْخًا)).
وَأَيْضًا؛ لِأَنَّ الضَّبُعَ وَسَطٌ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَالْأَسَدِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى؛ فَمَسَخَهُ بَيْنَ بَيْنَ.
{وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}.
فَانْظُرْ مَاذَا صنَعَ الشِّرْكُ بِأَهْلِهِ فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَالِدٌ وَلَا وَلَدٍ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الْعَمَلُ الصالِحُ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
فَلَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ، وَالْكُلُّ يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، مِنْ آدَمَ إِلَى آخِرِ الْبَشَرِ خَلَا مُحَمَّدًا ﷺ يَقُولُ: ((أُمَّتِي أُمَّتِي)) ﷺ.
دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ تَضَمَّنَتْهُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَهْمًا لِمَعْنَاهَا، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَاهَا، وَتَحْقِيقًا لِشُرُوطِهَا، وَمُجَانَبَةً لِنَوَاقِضِهَا، وَتَحْقِيقًا لَهَا فِي الْحَيَاةِ.
وَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْمَعْرَكَةُ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا، وَفِي خِلَافِ الْمُشْرِكِينَ حَوْلَهَا.
وَأَمَّا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) إِنَّمَا هِيَ إِثْبَاتُ وُجُودِ الصانِعِ الْحَكِيمِ الْمُدَبِّرِ الْكَرِيمِ إِلَى آخِرِ مَا يَقُولُونَ، ثُمَّ يَصرِفُ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَلَيْسَ هَذَا بِدِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَا هُوَ بِدِينِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا هُوَ بِمَوْطِنِ النِّزَاعِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَقَوْمِهِ، بَلْ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَقْوَامِهِمْ؛ فَكُلُّهُمْ جَاءُوا لِكَيْ يَكُونَ الدُّعَاءُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَالِاسْتِغَاثَةُ بِاللَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ، وَالْمَحَبَّةُ لِلَّهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
وَهَذَا مَعْنَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ؛ {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}، هَذَا هُوَ النَّفْيُ، {وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصامَ لَهَا}.
نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ؛ فَلَابُدَّ مِنَ الْكُفْرِ بِكُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ.
وَالنَّاسُ يَقُولُونَ إِنَّنَا إِذَا اسْتَغَثْنَا بِالْمَخْلُوقِينَ فَإِنَّنَا لَا نَعْبُدُهُمْ مِنْ دُونِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!
فَيُقَالُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الِاسْتِغَاثَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَاسْتِغَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ؟!!
يَقُولُونَ: نَحْنُ لَا نَذْبَحُ لَهُمْ، وَلَيْسَ الذَّبْحُ بِعِبَادَةٍ لَهُمْ.
وَهَذَا تَدْلِيسٌ فِي تَدْلِيسٍ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي لَا تُذْبَحُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا تُنْذَرُ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا تُقَدَّمُ قُرْبَانًا وَطَاعَةً إِلَّا لِلَّهِ يَشْتَرُونَهَا بِنِيَّةِ أَنَّهَا لِفُلَانٍ أَوْ فُلَانَةَ، وَتُرَبَّى سَائِبَةً لَا تُمَسُّ؛ إِذْ هِيَ مِنْ سَوَائِبِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانَةٍ، وَتُسَاقُ إِلَى مَنْحَرِهَا عَلَى اسْمِ فُلَانٍ وَفُلَانَةَ، ثُمَّ يَقَعُ التَّدْلِيسُ بِاللِّسَانِ لَفْظًا، فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: مَا ذَبَحْتُهَا لِأَجْلِهِ، وَإِنَّمَا ذَبَحْتُ بِاسْمِ اللهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ!
وَهَذَا كُلُّهُ زُورٌ وَضَلَالٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَةِ الْمُسَمَّى شَيْئًا؛ فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا سَمَّى الْخَمْرَ مَاءً؛ مَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْخَمْرَ عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَمَا صارَتْ بِالتَّسْمِيَةِ مَاءً، وَإِنَّمَا هِيَ خَمْرٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ إِنْ شَرِبَهَا حُدَّ، وَإِنْ قَالَ بِحِلِّهَا كَفَرَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَإِنْ سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا.
وَجُنْدُ إِبْلِيسَ يَتْبَعُونَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ؛ بِتَزْيِينِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُسْتَمْلَحَاتِ، وَبِتَزْيِينِ الضَّلَالِ وَالْفُجُورِ بِتَسْمِيَتِهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وَهَذَا مِنْ سَبِيلِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ سُنَّتِهِ وَمِنْ دِينِهِ وَمِلَّتِهِ.
أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ لِأَبِيكَ: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}؛ فَسَمَّى الشَّجَرَةَ الْمُحَرَّمَةَ شَجَرَةَ الْخُلْدِ تَزْيِينًا لَهَا، وَتَحْلِيَةً لَهَا أَمَامَ طَبْعِهِ؛ لِيَجْتَرِئَ عَلَى مَا حَرَّمَ رَبُّهُ، فَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا؛ فَلَمَّا وَقَعَ آدَمُ عَلَيْهَا آكِلًا إِيَّاهَا جَاءَهُ مَا جَاءَهُ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَلَمْ تُغَيِّرْ مِنْ حَقِيقَةِ الشَّجَرَةِ شَيْئًا؛ فَإِمَامُ الَّذِينَ يُزَيِّنُونَ الْبَاطِلَ لِلْخَلْقِ بِتَسْمِيَتِهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُسْتَمْلَحَةِ إِنَّمَا هُوَ إِبْلِيسُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمْ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ صحِيحٍ مِنْ غَيْرِ مَا طَرِيقٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ : ((سَيَأْتِي أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يُسَمُّونَ الْخَمْرَ بِغَيْرِ اسْمِهَا)).
فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ؛ فَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَهَذَا مِنْ عَلَائِمِ نُبُوَّتِهِ، وَمِنْ دَلَائِلِ صدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ ﷺ .
فَلَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ حَقِيقَةِ الدِّينِ؛ وَالَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَهُ يَقَعُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ مِنْ أُمُورِ الْإِرْجَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْتَرِئُونَ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِدَعْوَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَاخِلَةٍ فِي الْإِيمَانِ.
النَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِدِينِ الْحَقِّ؛ فَبَشَّرَ وَأَنْذَرَ، وَرَغَّبَ وَرَهَّبَ ﷺ، وَأَنْزَلَ الْأُمُورَ مَنَازِلَهَا.
الْإِنْسَانُ إِذَا قَالَ كَلِمَةً لَيْسَتْ مِمَّا يَسْتَقِيمُ مَعَ الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِمَّا يُضَادُّهُ؛ كَفَرَ بِكَلِمَةٍ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ وَاقِعًا، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ، وَقَدْ أَخَبْرَ عَنْهُ رَبُّنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فَقَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ؛ فَكَفَرُوا وَصارُوا كَافِرِينَ مُشْرِكِينَ.
النَّاسُ يَسُّبُونَ رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ!!
النَّاسُ يَسُبُّونَ النَّبِيَّ وَيَتَهَكَّمُونَ بِهِ ﷺ!!
النَّاسُ يَسُبُّونَ دِينَ اللهِ!!
وَمَنْ سَبَّ الدِّينَ كَفَرَ؛ هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ.
مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ: مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ كَفَرَ.
مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ: مَنْ دَعَا غَيْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالْمَقْبُورِينَ -وَلَوْ دَعَا النَّبِيَّ الْأَمِينَ- فَقَدْ كَفَرَ.
مَنِ اسْتَغَاثَ بِغَيْرِ اللهِ مِنْ حَيٍّ حَاضِرٍ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ صَارَ مُرْتَدًّا.
النَّاسُ لَا يَعْلَمُونَ؛ فَيَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ!!
دِينُ اللهِ تَعَلَّمُوهُ، وَاصْرِفُوا فِيهِ الْأَعْمَارَ، وَأَفْنُوا فِيهِ الْأَوْقَاتَ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ كَبِيرٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا لَا يُغْفَرُ لَهُ شِرْكُهُ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
تَعَلَّمُوا نَوَاقِضَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِنَوَاقِضِهَا، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ؛ أَلَا سَاءَ مَا يَصنَعُونَ.
إِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
لِلتَّوْحِيدِ فَضَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ مِنْهَا: الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ:
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
{آمَنُوا}: أَيْ أَخْلَصُوا العبادة للهِ؛ صَدَقُوا بِقُلُوبِهِمْ، ونَطَقُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَعَمِلُوا بِجَوَارِحِهِمْ.
وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ: تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا}: أَيْ لَمْ يَخْلِطُوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}: الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ الشِّرْكُ؛ وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ؛ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ}
وَالْأَمْنُ: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ، وَزَوَالُ الْخَوْفِ.
{وَهُمْ مُهْتَدُونَ}: مُوَفَّقُونَ لِلسَّيْرِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ثَابِتُونَ عَلَيْهِ.
{وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فِي الدُّنْيَا إِلَى شَرْعِ اللهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ؛ فَالِاهْتِدَاءُ بِالْعِلْمِ هِدَايَةُ إِرْشَادٍ، وَالِاهْتِدَاءُ بِالْعَمَلِ: هِدَايَةُ تَوْفِيقٍ.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجِنَّةِ.
فَبَيَّنَ ثَوَابَ الْمُوَحِّدِ، وَأَخْبَرَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَخْلِطُوا تَوْحِيدَهُمْ بِظُلْمٍ -أَيْ بِشِرْكٍ- أَنَّهُمْ هُمُ الْآمِنُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْمُهْتَدُونَ إِلَى صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}:
الظُّلْمُ أَنْوَاعٌ:
الظُّلْمُ: هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:
*ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِالشِّرْكِ: وَهُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ، وَسُمِّيَ الشِّرْكُ ظُلْمًا وَالْمُشْرِكُ ظَالِمًا؛ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَصَرَفَهَا لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
*الثَّانِي: ظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ بِالْمَعَاصِي؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 110].
*الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ: ظُلْمُ الْعَبْدِ غَيْرَهُ فِي نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ عِرْضٍ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا)) .
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}:.
الظُّلْمُ هَاهُنَا: الشِّرْكُ.
وَيَتَفَاوَتُ حُصُولُ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ عَلَى حَسَبِ الْإِتْيَانِ بِالتَّوْحِيدِ عَلَى وَجْهِهِ الْمَطْلُوبِ، فَمَنْ سَلِمَ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الثَّلَاثَةِ؛ كَانَ لَهُ الْأَمْنُ التَّامُّ، وَالِاهْتِدَاءُ التَّامُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ومَنْ سَلِمَ مِنَ الظُّلْمِ الْأَكْبَرِ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ؛ حَصَلَ لَهُ مِنْ نَقْصِ الْأَمْنِ وَالِاهْتِدَاءِ عَلَى قَدْرِ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ، وَظُلْمِهِ لِعِبَادِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الظُّلْمِ الْأَكْبَرِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَمْنٌ وَلَا اهْتِدَاءٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي نَفْيِ الشِّرْكِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي نَفْيِ ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ بِالْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى تَمَامًا مِنْ ظُلْمِ عِبَادِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ هَذَا الدِّيوَانَ لَا يَتْرُكُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ شَيْئًا، لَابُدَّ فِيهِ مِنَ الْقَصَاصِ.
وَالْقَصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَيَأْخُذُ صَاحِبُ الْحَقِّ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُ الظَّالِمِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ، ثُمَّ طُرِحَ عَلَى الظَّالِمِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
{الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}؛ فَالْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ عَلَى قَدْرِ الْبَرَاءَةِ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُطَهَّرَةِ.
وَشَبِيهٌ بِهَا قَوْلُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
الْجَوَابُ: بَلَى كَافٍ، وَهَذِهِ الْكِفَايَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى قَدْرِ تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ أَتَى بِعُبُودِيَّةٍ حَقَّةٍ فَلَهُ كِفَايَةٌ خَالِصَةٌ، وَيَنْقُصُ مِنْ كِفَايَتِهِ عَلَى قَدْرِ نَقْصِهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
فَعَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ، فَعُبُودِيَّةٌ كَامِلَةٌ لَهَا كِفَايَةٌ كَامِلَةٌ، وَعُبُودِيَّةٌ نَاقِصَةٌ لَهَا كِفَايَةٌ عَلَى حَسَبِهَا.
وَأَمَّا ثَمَرَاتُ التَّوْحِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَالْفَوْزُ بِرِضَا اللهِ سُبْحَانَهُ، وَالْأَمْنُ النَّفْسِيُّ، وَالشُّعُورُ بِالطُّمَأْنِينَةِ، وَالْحَيَاةُ السَّعِيدَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْقَلَقِ وَالشَّقَاءِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ مِنْ هَذِهِ الْحِيَاضِ النَّيِّرَةِ، وَالرَّوْضَاتِ الْمُونِقَةِ يُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمْنًا نَفْسِيًّا، وَسَوَاءً عَقْلِيًّا، وَشُعُورًا بِالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاسْتِقْرَارِ؛ يَحْسُدُهُمْ عَلَيْهِمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ.
كَمَا قَالَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي عَلَيَّ أَوْقَاتٌ -يَعْنِي مِنْ قُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ، وَلَجْئِهِ إِلَيْهِ، وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا يَجِدُ كِفَاءَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ وجَسَدِهِ- يَقُولُ: إِنَّهُ لَتَأَتِي عَلَيَّ أَوْقَاتٌ أَقُولُ: لَوْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ مَا نَحْنُ فِيهِ، إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ)) .
فَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا حُقِّقَ هَذَا الْأَمْرُ؛ {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
فَالْأَمْنُ وَالِاهْتِدَاءُ عَلَى قَدْرِ تَحْقِيقِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ.
عِبَادَ اللهِ! التَّوْحِيدُ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ الْهُدَى الْكَامِلُ وَالْأَمْنُ التَّامُّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُسْتَجْلَبُ بِهَا الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الْأَوْطَانِ -بَلْ هُوَ أَعْظَمُهَا- تَوْحِيدُ اللهِ، وَنَبْذُ الشِّرْكِ بِهِ وَالْبَرَاءَةُ وَالْخُلُوصُ مِنْهُ.
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: تَقْوِيَةُ الْجَانِبِ الْإِيمَانِيِّ))
مِنَ الرَّكَائِزِ الْمُهِمَّةِ لِتَحْقِيقِ الْأَمْنِ الدَّاخِلِيِّ لِلْأَفْرَادِ وَالْأَمْنِ الْعَامِّ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ: تَقْوِيَةُ الْجَانِبِ الْإِيمَانِيِّ عِنْدَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- جَعَلَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الْحَقِّ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ وَالسَّلَامَةَ وَالِاطْمِئْنَانَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَهُمْ أَهْلُ الْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّسْلِيمِ التَّامِّ لِمَا شَرَعَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُمْ أَهْلُ الرِّضَا بِأَقْدَارِهِ -سُبْحَانَهُ-، فَهُمْ أَهْلُ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاطْمِئْنَانِ، وَالسَّعَادَةِ وَالرَّاحَةِ وَالسُّكُونِ وَالسَّلَامِ، وَهُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ وَالْحَزَنِ وَالْهَمِّ، وَعَنِ الْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ وَالِاْضِطْرَابِ وَالشَّقَاءِ وَالْعَذَابِ، أَمْرُهُمْ كُلُّهُ خَيْرٌ وَبَرَكَةٌ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68].
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35].
وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
مِنْ أَسْبَابِ اسْتِجْلَابِ الْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ؛ فَقَدْ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنْ يُبَدِّلَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.
قَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
((وَعَدَ اللهُ بِالنَّصْرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ بِأَنْ يُورِثَهُمْ أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ، وَيَجْعَلَهُمْ خُلَفَاءَ فِيهَا مِثْلَمَا فَعَلَ مَعَ أَسْلَافِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ لَهُمْ -وَهُوَ الْإِسْلَامُ- دِينًا عَزِيزًا مَكِينًا، وَأَنْ يُبَدِّلَ حَالَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ إِلَى الْأَمْنِ، إِذَا عَبَدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ، وَلَمْ يُشْرِكُوا مَعَهُ شَيْئًا، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِخْلَافِ وَالْأَمْنِ وَالتَّمْكِينِ وَالسَّلْطَنَةِ التَّامَّةِ، وَجَحَدَ نِعَمَ اللهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ)).
وَتَرْسِيخُ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ يَكُونُ بِتَعْلِيمِهِمْ مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَأَرْكَانَهُ، وَأُصُولَهُ، وَأَسْبَابَ زِيَادَتِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.
لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا.
((إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ كَمَالُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ دَرَجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهُوَ السَّبَبُ وَالطَّرِيقُ لِكُلِّ خَيْرٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، وَلَا يَحْصُلُ وَلَا يَقْوَى وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ مَا مِنْهُ يُسْتَمَدُّ، وَإِلَى يَنْبُوعِهِ وَأَسْبَابِهِ وَطُرُقِهِ.
وَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ سَبَبًا وَطَرِيقًا يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ الْمَطَالِبِ وَأَهَمُّهَا وَأَعَمُّهَا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ مَوَادَّ كَبِيرَةً تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه، كَمَا كَانَ لَهُ أَسْبَابٌ تُضْعِفُهُ وَتُوَهِّيهِ.
وَمَوَادُّهُ الَّتِي تَجْلِبُهُ وَتُقَوِّيه أَمْرَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ:
*أَمَّا الْمُجْمَلُ فَهُوَ:
التَّدَبُّرُ لِآيَاتِ اللهِ الْمَتْلُوَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّأَمُّلُ لِآيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالْحِرْصُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ الْعَبْدُ، وَالْعَمَلُ بِالْحَقِّ؛ فَجَمِيعُ الْأَسْبَابِ مَرْجِعُهَا إِلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.
*وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْإِيمَانُ يَحْصُلُ وَيَقْوَى بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ:
1*مِنْهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: مَعْرِفَةُ أَسْمَاءِ اللهِ الْحُسْنَى الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحِرْصُ عَلَى فَهْمِ مَعَانِيهَا، وَالتَّعَبُّدُ للهِ فِيهَا.
فَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ للهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعِينَ اسْمًا -مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا- مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ أَيْ: مِنْ حَفِظَهَا، وَفَهِمَ مَعَانِيهَا، وَاعْتَقَدَهَا، وَتَعَبَّدَ للهِ بِهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ يَنْبُوعٍ وَمَادَّةٍ لِحُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى هِيَ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ يَرْجِعُ إِلَيْهَا.
وَمَعْرِفَتُهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعَ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةَ: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ هِيَ رُوحُ الْإِيمَانِ وَرَوْحُهُ، وَأَصْلُهُ وَغَايَتُهُ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ ازْدَادَ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ.
فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْذُلَ مَقْدُورَهُ وَمُسْتَطَاعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ سَالِمَةً مِنْ دَاءِ التَّعْطِيلِ وَمِنْ دَاءِ التَّمْثِيلِ اللَّذَيْنِ ابْتُلِيَ بِهِمَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ؛ بَلْ تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُتْلَقَّاةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ النَّافِعَةُ الَّتِي لَا يَزَالُ صَاحِبُهَا فِي زِيَادَةٍ فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَطُمْأْنِينَةٍ فِي أَحْوَالِهِ.
2*وَمِنْهَا -مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ-: تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
فَإِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
3*وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْإِيمَانِ وَأَعْمَالِهِ:كُلُّهَا مِنْ مُحَصِّلَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ.
فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، ازْدَاَدَ إِيمَانُهُ وَيَقِينُهُ، وَقَدْ يَصِلُ فِي عِلْمِهِ وَإِيمَانِهِ إِلَى مَرْتَبَةِ الْيَقِينِ.
4*وَمِنْ طُرُقِ مُوُجِبَاتِ الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: مَعْرِفَةُ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَعْرِفَةُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالْأَوْصَافِ الْكَامِلَةِ.
فَهُوَ ﷺ أَكْبَرُ دَاعٍ لِلْإِيمَانِ فِي أَوْصَافِهِ الْحَمِيدَةِ، وَشَمَائِلِهِ الْجَمِيلَةِ، وَأَقْوَالِهِ الصَّادِقَةِ النَّافِعَةِ، وَأَفْعَالِهِ الرَّشِيدَةِ، فَهُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالْقُدْوَةُ الْأَكْمَلُ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
5*وَمِنْ أَسْبَابِ الْإِيمَانِ وَدَوَاعِيهِ: التَّفَكُّرُ فِي الْكَوْنِ، فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعٍ قَوِيٌّ لِلْإِيمَانِ؛ لِمَا فِي هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ عَظَمَةِ الْخَلْقِ الدَّالِّ عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا وَعَظَمَتِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْانِتَظَامِ، وَالْإِحْكَامِ الَّذِي يُحَيِّرُ الْأَلْبَابَ، الدَّالِّ عَلَى سَعَةِ عِلْمِ اللهِ، وَشُمُولِ حِكْمَتِهِ، وَمَا فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَنَافِعِ وَالنِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، الدَّالَّةِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ، وَجُودِهِ وَبِرِّهِ.
وَكَذَلِكَ التَّفَكُّرُ فِي كَثْرَةِ نِعَمِ اللهِ وَآلَائِهِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا مَخْلُوقٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ.
6*وَمِنْ أَسْبَابِ دَوَاعِي الْإِيمَانِ: الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَمِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ.
7*وَمِنَ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ مَحَاسِنِ الدِّينِ.
فَإِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ كُلَّهُ مَحَاسِنُ، عَقَائِدُهُ أَصَحُّ الْعَقَائِدِ وَأَصْدَقُهَا وَأَنْفَعُهَا، وَأَخْلَاقُهُ أَحْمَدُ الْأَخْلَاقِ وَأَجْمَلُهَا، وَأَعْمَالُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلُهَا، وَبِهَذَا النَّظَرِ الْجَلِيلِ يُزَيِّنِ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَيُحَبِّبُهُ إِلَيْهِ.
8*وَمِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ: الِاجْتِهَادُ فِي التَّحَقُّقِ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ، فِي عِبَادَةِ اللهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ، فَيَجْتَهِدُ أَنْ يَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْوَى عَلَى هَذَا اسْتَحْضَرَ أَنَّ اللهَ يُشَاهِدُهُ وَيَرَاهُ.
9-وَمِنْهَا –أَيْ: مِنْ مَصَادِرِ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ-: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون: 1-8].
فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّمَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تُثْمِرُ الْإِيمَانَ وَتُنَمِّيهِ، كَمَا أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْإِيمَانِ، وَدَاخِلَةٌ فِي تَفْسِيرِهِ.
10*وَمِنْ دَوَاعِي الْإِيمَانِ وَأَسْبَابِهِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَإِلَى دِينِهِ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى أَصْلِ الدِّينِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْتِزَامِ شَرَائِعِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
11*وَمِنْ أَهَمِّ مَوَادِّ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَاتِهِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مُقَاوِمَاتِ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
فَمَتَى حَفِظَ الْعَبْدُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي فِتَنِ الشُّبُهَاتِ وَفِتَنِ الشَّهَوَاتِ تَمَّ إِيمَانُهُ، وَقَوِيَ يَقِينُهُ)).
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ بَشَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَجَعَلَ الْبُشْرَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَهُمُ الْبُشْرَى مِنَ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ مِنَ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّلَامِ، وَالسَّعَادَةِ وَنُورِ الْإِيمَانِ، وَالْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ الْعَزِيزَةِ السَّعِيدَةِ، وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ، وَالْخَيْرِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَفِي الْأُخْرَى لَهُمُ الْبُشْرَى مُنْذُ خُرُوجِ أَرْوَاحِهِمُ الزَّكِيَّةِ مِنْ أَجْسَامِهِمُ الطَّاهِرَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ تُبَشِّرُهُمْ بِرَحْمَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَفِي قُبُورِهِمُ الَّتِي هِيَ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا جَنَّةَ النَّعِيمِ بِأَمَانٍ وَسَلَامٍ، هُنَالِكَ لَهُمُ الْبُشْرَى الْأَخِيرَةُ، أَلَا وَهِيَ: الْخُلُودُ فِي الْجَنَّاتِ، وَرُؤْيَةُ رَبِّهِمْ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64].
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: ذِكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
إِنَّ مِنَ السُّبُلِ الْعَظِيمَةِ لِلْوُصُولِ إِلَى الْأَمْنِ النَّفْسِيِّ: ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.. ذِكْرُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُذْهِبُ عَنِ الْقَلْبِ مَخَاوِفَهُ كُلَّهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَيْ حَقِيقٌ بِهَا وَحَرِيٌّ أَلَّا تَطْمَئِنَّ لِشَيْءٍ سِوَى ذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَلَذَّ لِلْقُلُوبِ، وَلَا أَشْهَى وَلَا أَحْلَى مِنْ مَحَبَّةِ خَالِقِهَا، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهَا بِاللهِ، وَمَحَبَّتِهَا لَهُ؛ يَكُونُ ذِكْرُهَا لَهُ، ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذِكْرَ اللهِ ذِكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ اللهِ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ اللهِ: أَنَّهَا حِينَ تَعْرِفُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامَهُ تَطْمَئِنُّ لَهَا؛ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ، فَبِذَلِكَ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، فَإِنَّهَا لَا تَطْمَئِنُّ إِلَّا بِالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ، وَذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ مَضْمُونٌ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ؛ فَلَا تَطْمَئِنُّ بِهَا، بَلْ لَا تَزَالُ قَلِقَةً مِنْ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَضَادِّ الْأَحْكَامِ)).
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ:
شُكْرُ اللهِ عَلَى نِعْمَةِ الْأَمْنِ))
مِنْ أَسْبَابِ اسْتِجْلَابِ الْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ: شُكْرُ اللهِ عَلَى نِعْمَتِهِ؛ فَالنِّعْمُةُ صَيْدٌ، وَالشُّكْرُ قَيْدٌ، وَقَدْ بَيَّنَ -جَلَّ وَعَلَا- عَاقِبَةَ سَبَأٍ إِذْ كَفَرُوا النِّعْمَةَ، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: ١٧-١٩].
فَلَمَّا جَحَدُوا النِّعْمَةَ وَكَفَرُوا بِهَا نَزَعَهَا اللهُ مِنْهُمْ، وَأَبْدَلَهُمْ مِنْ بَعْدِ أَمْنِهِمْ خَوْفًا، وَشَتَّتَهُمْ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، وَبَدَّدَ جَمْعَهُمْ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: ٢٨-٢٩].
وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ((أَنَّهُ رَأَى أَبَا الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمَ فَتَحَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قُبْرُصَ قَدْ انْتَحَى نَاحِيَةً يَبْكِى، فَقَالَ لَهُ: ((أَتَبْكِي فِي يَوْمٍ نَصَرَ اللهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ، وَأَعَزَّ الْمُسْلِمِينَ)).
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ! بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ ظَاهِرَةٌ لَهَا الْمُلْكُ إِذْ عَصَتِ اللهَ -تَعَالَى- فَأَصَارَهَا اللهُ إِلَى مَا تَرَى)).
وَكَانُوا قَدْ فُرِّقَ بَيْنَ الْأُمُّهَاتِ وَأَبْنَائِهِنَّ، وَجُمِعَتِ الْأَسْلَابُ، فَجُعِلَتْ نَاحِيَةً، وَجَاءَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ لِأُمَّةٍ عَصَتْ رَبَّهَا، وَبدَّلَتْ أَمْرَهُ، فَسَامَهَا الْخَسْفَ وَالْمَذَلَّةَ مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهَا فِي الْآخِرَةِ.
النَّاسُ يَكُونُونَ فِي النِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ إِلْفِ عَادَتِهِمْ لَهَا لَا يُحِسُّونَ بِهَا، لَا يُحِسُّ الْمَرْءُ بِنِعْمَةِ الْأَمَانِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا، إِذْ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ لَا يَخْشَى إِلَّا اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَتَخْرُجُ الظَّعِينَةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ لِتَأْتِيَ بِبَعْضِ الضَّرُورَاتِ ثُمَّ تَعُودُ سَالِمَةً مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، وَيأْمَنُ النَّاسُ عَلَى مُمْتَلَكَاتِهِمْ وَدُورِهِمْ وَثَرْوَاتِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، فَلَا يَشْكُرُونَ اللهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا الْخَوْفُ نَازِلٌ، وَإِذَا الْفَزَعُ حَاصِلٌ، وَإِذَا الرُّعْبُ قَائِمٌ، وَإِذَا النَّاسُ مَحْبُوسُونَ فِي جُلُودِهِمْ، وَلَا يَرْفَعُ الْكَرْبَ إِلَّا اللهُ.
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ))
مِنْ أَسْبَابِ تَوَفُّرِ الْأَمْنِ: اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ، وَنَبْذُ الْفُرْقَةِ، وَنَصْبُ الْإِمَامِ الَّذِي يَقُودُ الْأُمَّةَ إِلَى مَصَالِحِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ مِنْ أَيْنَ هَذَا؟
مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَشْرَعُوا فِي تَجْهِيزِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ حَتَّى بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةً مِنْ بَعْدِهِ، فَاجْتَمَعَ الْأَنْصَارُ وَالْمُهَاجِرُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَالرَّسُولُ مُسَجًّا فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَتَشَاوَرُوا، وَانْتَهَى رَأَيُهُمْ إِلَى مُبَايَعَةِ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمَّا تَمَّتِ الْبَيْعَةُ تَفَرَّغُوا لِتَجْهِيزِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
فَتَأَمَّلْ فِي فِقْهِهِمْ، وَانْظُرْ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَقُصَّ عَلَى آثَارِهِمْ، تَسْعَدْ دُنْيَا وَآخِرَةً، فَإِنَّهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمْ يُقَدِّمُوا أَمْرًا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْجَلَلِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِأَخْذِهِمْ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ فِي نَصْبِ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ.
لَا يَكُونُ فِي الْأَوْطَانِ أَمْنٌ وَلَا أَمَانٌ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعُ الْكَلِمَةِ إِلَّا بِالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ مُصَفًّى مِمَا شَابَهَ وَلَحِقَ بِهِ عَبْرَ الْقُرُونِ، مُرَبًّى عَلَيْهِ كَمَا رَبَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ أَصْحَابَهُ.
وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانُوا فِي تَنَاحُرٍ وَتَقَاتُلٍ وَافْتِرَاقٍ وَاضْطِرَابٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْإِسْلَامِ؛ اجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَعَظُمَتْ قُدْرَتُهُمْ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: ١٠٢-١٠٣].
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَإِنَّمَا صَلُحَ أَوَّلُهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)).
إِنَّمَا صَلُحَ أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْيَقِينِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَا صَلَاحَ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِهَذَا.
أَلَا مَا أَعْظَمَ الْجَرِيرَةَ الَّتِي يَرْتِكِبُهَا أَقْوَامٌ، وَيَسْتَجِرُّونَها لِأُمَّةِ خَيْرِ الْأَنَامِ ﷺ؛ إِذْ لَا يُرْشِدُونَ النَّاسَ أَنَّ الْأَمْرَ يَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، لَا يَأْتِي الْأَمْرُ مِنْ هَاهَنَا، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَأْتِي مِنْ هَاهُنَا)).
أَوَّلُ شَيْءٍ تَخْلِيصُ الْقُلُوبِ مِمَّا شَابَهَا مِنْ شِرْكِهَا بِرَبِّهَا، وَتَوَكُّلِهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَرَجَائِهَا سِوَاهُ، وَاعْتِمَادِهَا عَلَى مَنْ دُونَهُ مَعَ التَّخْلِيطِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ وَالرُّكُونِ إِلَى أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا، هَذَا أَوُّلُ شَيْءٍ؛ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ لِلْمَلِيكِ الْمَجِيدِ.
أَوَّلُ شَيْءٍ تَسْتَقِيمُ بِهِ الْأُمُورُ، وَهُوَ مَا اسْتَقَامَتْ بِهِ أُمُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ تَنَاحُرِهَا وَاخْتِلَافِهَا وَتَقَاتُلِهَا، فَاسْتَقَامَتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِ اللهِ، فَصَارَتْ أَعَزَّ أُمَّةٍ، وَهِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ، وَمَلَّكَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَمَالِكَ، فَمَلَكَتِ الْأَرْضَ الْقَدِيمَةَ كُلَّهَا مِنْ مَشَارِقِهَا إِلَى مَغَارِبِهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا)). قَالَ: ((وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ)).
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهُ ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَهُ وَاحِدَةً؛ سَأَلَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَلَّا يُسَلِّطَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهَا مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهَا، وَيَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهَا، قَالَ: ((فَآتَانِيهَا، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا)).
وَأَلَّا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ سَنَةً عَامَّةً -مَجَاعَةً وَقَحْطًا شَامِلَيْنِ- حَتَّى تَهْلِكَ بِذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ اللهُ مَا سَأَلَ.
قَالَ: ((وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهَا بَيْنَهَا فَمَنَعَنِيهَا حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)). كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهَا بَيْنَهَا، وَأَلَّا يُسَلِّطَ بِذُنُوبِهَا بَعْضَ أَبْنَائِهَا عَلَى بَعْضٍ، يَتَنَاحَرُونَ مُتَقَاتِلِينَ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
مَا الْعِصْمَةُ مِنْ هَذَا؟
هُوَ دِينُ اللهِ؛ تَوْحِيدُهُ، وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَلَا تَتَّبِعْ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا.
إِنَّ كَثْرَةَ الْآرَاءِ وَاخْتِلَافَهَا يُعَجِّلُ بِدَمَارِ الْأُمَّةِ وَهَلَاكِهَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ دُقْمَاقٍ فِي ((الْجَوْهَرُ الثَّمِينُ فِي سِيَرِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ)): ((قَالَتِ الْحُكَمَاءُ: مَا اخْتَلَفَتِ الْآرَاءُ عَلَى دَوْلَةٍ إِلَّا تَعَجَّلَ هَلَاكُهَا)).
مَا اخْتَلَفَتِ الْآرَاءُ عَلَى أُمَّةٍ إِلَّا تَعَجَّلَ هَلَاكُهَا، لِكِلٍّ عَقْلٌ، وَلِكُلٍّ رَأْيٌ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَلَكِنْ دِينُ اللهِ واحِدٌ، فَإِذَا تَبِعُوهُ تَوَحَّدَتْ آرَاؤُهْمْ، وَاتَّحَدَتْ وُجْهَاتُهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَقْدَامُهُمْ، وَلَكِنْ تَأْتِيهِمْ شِقْوَتُهُمْ عَلَى قَدْرِ بُعْدِهِمْ عَنْ مِنْهَاجِ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
الْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَغَوِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)) .
قَالَ الشَّاطِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الِاعْتِصَامِ)): ((إِنَّ قَوْلَهُ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً)) قَدْ أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يْخَتَلِفُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ -أَيْضًا- لَمْ يَقُلْ إِلَّا وَاحِدَةً)).
فَالْحَقُّ وَاحِدٌ بِنَصِّ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، بَلْ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: ٣٢].
فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ -تَعَالَى- بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَنْزِلَةً ثَالِثَةً، إِمَّا حَقٌّ وَإِمَّا ضَلَالٌ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي اتِّبَاعِ رَسُولِ اللهِ، إِمَّا اتِّبَاعُهُ ﷺ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا مَنْزِلَةً ثَالِثَةً؛ {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: ٥٠].
فَإِمَّا اتِّبَاعُ الْمَعْصُومِ ﷺ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، إِمَّا الْأَخْذُ بِالْحَقِّ وَإِمَّا رُكُوبُ الْبَاطِلِ، وَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ.
الِاجْتِمَاعُ وَالِائْتِلَافُ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ، وَدَلَّ عَلَيْهَا رَسُولُهُ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: ١٠٥-١٠٦].
وَالْبِدْعَةُ مَقْرُونَةٌ بِالْفُرْقَةِ كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ مَقْرُونَةٌ بِالْجَمَاعَةِ، فَيُقَالُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، كَمَا يُقَالُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ، فَمَا فَرَّقَ الْقَوْمَ إِلَّا ابْتِدَاعُهُمْ؛ إِذِ الصِّرَاطُ وَاحِدٌ، وَإِذِ السَّبِيلُ وَاحِدَةٌ، كَمَا بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ إِذْ خَطَّ عَلَى الْأَرْضِ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَجَعَلَ عَلَى جَانِبَيْهِ خُطُوطًا قِصَارًا، ثُمَّ قَالَ : ((هَذَا صِرَاطُ اللهِ، وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: ١٥٣])). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ.
الْحَقُّ وَاحِدٌ، وَالْأَهْوَاءُ مُخْتَلِفَةٌ، الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَاحِدٌ، وَالْآرَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَشِعِبَّةٌ، وَالْعِصْمَةُ كُلَّ الْعِصْمَةِ فِي اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيَيْنِ الْمَعْصُومَيْنِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ فَمُخْتَلِفُونَ مُتَخِلِّفُون مُخَالِفُونَ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الِاخْتَلَافِ الْمُطْلَقِ كُلُّهُمْ مَذْمُومِينَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْهُمْ إِلَّا خَالَفَ حَقًّا، وَاتَّبَع بَاطِلًا؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ الرُّسُلَ أَنْ يَدْعُوا إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَأَلَّا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: ١٣].
الْخَلَاصُ فِي الْإِخْلَاصِ، وَالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالرَّائِدُ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ، وَلَكِنْ اسْتُؤْمِنَ غَيْرُ أَمِينٍ فَخَانَ.. مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ، وَإِنَّمَا اسْتُؤْمِنَ غَيْرُ أَمِينٍ فَخَانَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصِّدْقِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ وَالسُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ، لَا يَغُشُّونَ الْأُمَّةَ، وَلَا يَخْدَعُونَهَا، وَيَتَوَقُّونَ الْمَهَالِك تَتَرَدَّى فِيهَا فَيُحَذِّرُونَهَا، وَيَنْتَصِبُونَ قَائِمِينَ رَافِعِينَ رَايَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، مِنْ غَيْرِ مَا عَجَلَةٍ وَلَا رَيْثٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَصُّ عَلَى آثَارِ السَّابِقِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَهُمْ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَاتِّبَاعُهُمْ فِيهِ النَّجَاةُ.
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: تَحْكِيمُ الشَّرِيعَةِ))
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ: تَحْكِيمُ الشَّرِيعَةِ، وَإِقَامَةُ حُكْمِ اللهِ فِي أَرْضِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَنَفْيُ مَا سِوَاهُ مِمَّا يَحْكُمُ النَّاسُ بِهِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج: ٤٠].
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: ٤١].
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَغَيْرُهُمَا، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)) وَغَيْرِهَا، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((حَدٌّ يُعْمَلُ - وَفِي رِوَايًةٍ: يُقَامُ- فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ -وَفِي رِوَايَةٍ: لِأَهْلِهِ- مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا ثَلَاثِينَ صَبَاحًا)).
فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ اسْتِجْلَابِ الْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ: الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ لَيْسَ -كَمَا يَقْصُرُهُ الْقَوْمُ - مَحْدُودًا مَحْصُورًا فِيَما يَتَعَلَّقُ بِالْحُدُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى شَامِلٌ تَامٌّ؛ فَيَحْكُمُ الْمَرْءُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي عَقِيدَتِهُ حَتَّى تَكُونَ عَلَى عَقِيدَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
الْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْعَقِيدَةِ بِنَفْيِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَبُغْضِ الْمُشْرِكِينَ وَمُحَارَبَتِهِمْ.
وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْعِبَادَةِ بِنَفْيِ الْبِدْعَةِ، وَمُجَانَبَةِ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى السُّنَّةِ، وَمُتَابَعَةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ.
وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنَ الدِّمَاءِ، وَالْفُروجِ، وَالْأَمْوَالِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى أخْلَاقِ رَسُولِ اللهِ وَعَلَى سُلُوكِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
الدَّعْوَةُ إِلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ جَالِبٍ لِلْأَمَانِ فِي الْأَوْطَانِ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى الدِّينِ، وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَالْتِزَامُ سُنَّةِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ ﷺ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِلْخَيْرَاتِ وَالْأَمْنِ وَالرِّزْقِ فِي الْأَوْطَانِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: ٦٦].
وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [ الأعراف: ٩٦].
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: الِاهْتِمَامُ بِالِاقْتِصَادِ))
مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: الِاهْتِمَامُ بِالِاقْتِصَادِ؛ وَلِذَلِكَ فَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْعَمَلِ وَالتَّكَسُّبِ؛ فَفِي الْعَمَلِ قُوَّةٌ لِلْأُمَّةِ؛ لِكَثْرَةِ إِنْتَاجِهَا، وَإِغْنَاءِ أَفْرَادِهَا؛ فَيَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالرِّعَايَةِ الصِّحَّيَّةِ، وَاسْتِغْنَائِهَا عَنْ أَعْدَائِهَا، وَالْمَهَابَةِ لَهَا فِي أَعْيُنِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى الْأُمَّةِ)).
((إِنَّ الْعَمَلَ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَهُوَ سُنَّةُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-، فَالِاحْتِرَافُ وَالتَّكَسُّبُ قَامَ بِهِ خَيْرُ الْخَلْقِ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ اللهِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ-، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ أَصْحَابُ نَبِيِّنَا ﷺ وَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ؛ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10].
وَعَنِ الْمِقْدَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)).
وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ -كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَنَّ نَبِيَّ اللهِ زَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا)).
وَعَمِلَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَجِيرًا عَشْرَ سِنِينَ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى- حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27-28].
وَقَدْ تَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مَالِ خَدِيجَةَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَتِهِ ﷺ-، وَسُئِلَ ﷺ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟
قَالَ: ((وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ)). هَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَمَعْنَى ((أَرْوَاحٌ)) أَيْ: لَهُمْ رَوَائِحُ بِسَبَبِ عَمَلِهِمْ وَعَرَقِهِمْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتَقُولُونَ: مَا بَالَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ...)).
قَالَ مُعَلِّلًا: ((وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ))، فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ)).
هَذَا الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
وَفِيهِ: أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ، وَأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلٌ فِي أَمْوَالِهِمْ، فِي زُرُوعِهِمْ وَفِي بَسَاتِينِهِمْ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.
فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ:
تَرْسِيخُ قِيَمِ التَّكَافُلِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ))
إِنَّ تَرْسِيخَ قِيَمِ التَّكَافُلِ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ أَهَمِّ مُقَوِّمَاتِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامِ الْمُجْتَمَعِيِّ، وَقَدْ أَوْلَى دِينُنَا الْحَنِيفُ هَذَا الْجَانِبَ عِنَايَةً خَاصَّةً؛ فَفَرَضَ الزَّكَاةَ، وَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَشَرَعَ الْوَقْفَ وَشَجَّعَ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
((وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ: الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ زُرِعَتْ فِي أَرْضٍ طَيِّبَةٍ، فَإِذَا بِهَا قَدْ أَخْرَجَتْ سَاقًا تَشَعَّبَ مِنْهَا سَبْعُ شعَبٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سُنْبُلَةٌ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللهُ يُضَاعِفُ الْأَجْرَ لِمَنْ يَشَاءُ، بِحَسَبِ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الْمُنْفِقِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ التَّامِّ، وَفَضْلُ اللهِ وَاسِعٌ، وَهُوْ -سُبْحَانَهُ- عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ، مُطَّلِعٌ عَلَى نِيَّاتِ عِبَادِهِ)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].
((وَمَا تَبْذُلُوا مِنْ مَالٍ يَعُدْ عَلَيْكُمْ نَفْعُهُ مِنَ اللهِ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ مَالٍ -مُخْلِصِينَ للهِ- تَوَفَّوْا ثَوَابَهُ، وَلَا تُنْقَصُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ)).
وقال اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274].
((الَّذِينَ يُخْرِجُونَ أَمْوَالَهُمْ مَرْضَاةً للهِ لَيْلًا وَنَهَارًا مُسِرِّينَ وَمُعْلِنِينَ؛ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا، ذَلِكَ التَّشْرِيعُ الْإِلَهِيُّ الْحَكِيمُ هُوَ مِنْهَاجُ الْإِسْلَامِ فِي الْإِنْفَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ فِي كَرَامَةٍ وَعِزَّةٍ، وَتَطْهِيرِ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ، وَتَحْقِيقِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ دُونَ قَهْرٍ أَوْ إِكْرَاهٍ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ»- وَغَيْرِهِ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وَقَالَ ﷺ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ثَوْبٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ثَوْبَ لَهُ»، فَمَا زَالَ يُعَدِّدُ مِنْ أَصْنَافِ الفَضْلِ حَتَّى ظَنَّ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْفَضْلِ، يَعْنِي: فِي الزِّيَادَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ شَرَابٍ، أَوْ مَرْكُوبٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ.
فَذَلِكَ فِي الْمُوَاسَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّكَاةِ تَحْقِيقًا لِلسَّلَامِ وَالْأَمْنِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ بِوُجُودِ طَائِفَةٍ جَائِعَةٍ تَرَى الْمَالَ وهي مَحْرُومَةٌ مِنْهُ، وَجَعَلَهَا اللهُ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ، وَجَمْعًا لِلْكَلِمَةِ؛ يَجُودُ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنَصِيبٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، فَيُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَحَبَّةَ، وَيَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ مُجْتَمَعًا مُتَوَادًّا مُتَحَابًّا، لَا حِقْدَ فِيهِ وَلَا أَثَرَةَ.
وَشَرَعَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الصَّدَقَةَ لِغَايَاتٍ نَبِيلَةٍ وَحِكَمٍ جَلِيلَةٍ تَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ، وَتَتَآلَفُ بِهَا الْقُلُوبُ، وَتُقْضَى بِهَا الْحَوَائِجُ، وَيُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى النَّوَائِبِ، وَهِيَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.
الصَّدَقَةُ تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ كَالْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، يَرْحَمُ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، وَيَعْطِفُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَيُحْسِنُ الْغَنِيُّ إِلَى الْمُعْسِرِ، فَيَشْعُرُ صَاحِبُ الْمَالِ بِالرَّغْبَةِ فِي الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
الصَّدَقَةُ حِصْنٌ حَصِينٌ، وَسَدٌّ مَنِيعٌ، وَحِمًى مَتِينٌ لِلْمُجْتَمَعِ مِنْ جَرَائِمِ السَّطْوِ وَالْإِجْرَامِ، وَقَدْ رَبَطَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بَيْنَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ وَالتَّهْلُكَةِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ النَّاسِ))
مِنْ أَهَمِّ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ: تَرْسِيخُ مَبْدَأِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَالنَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَالْمُجْتَمَعُ الْآمِنُ الرَّاقِي لَا تَمْيِيزَ بَيْنَ أَبْنَائِهِ عَلَى أَسَاسِ الْعِرْقِ أَوِ اللَّوْنِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ، وَلَا فَضْلَ لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَطَاعَتِهِ.
وَأَخْرَجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فَصَارُوا عَابِدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدِينَ، وَأَعْلَمَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)): ((أَيُّهَا النَّاسُ! كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِتَقْوَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الِانْتِمَاءَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سَوَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَنَا جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ، وَرَفَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَمَنْ كَانَ تَقِيًّا -وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا-؛ كَانَتْ لَهُ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَوْقَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ -وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا-.
إِنَّ التَّفَاضُلَ لَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْقُدُرَاتِ وَالطَّاقَاتِ وَمَا يَبْذُلُهُ الْفَرْدُ مِنْ جُهُودٍ تُفِيدُ مُجْتَمَعَهُ.
((مِنْ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجَتَمَعِيِّ: الْحِفَاظُ عَلَى الْبِيئَةِ))
لَا شَكَّ أَنَّ تَحْقِيقَ الْأَمْنِ الْبِيئِيِّ مِنْ أَهَمِّ رَكَائِزِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ؛ بِتَنْمِيَةِ الْبِيئَةِ وَحِمَايَتِهَا مِنْ أَيَّةِ أَضْرَارٍ أَوْ مَخَاطِرَ، حَيْثُ يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ أَيْ: جَعَلَكُمْ فِيْهَا لِتَعْمُرُوهَا، وَمَكَّنَكُمْ بِمَا آتَاكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا.
وَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: ((فَلَا يَغْرِسُ الْمُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا طَيْرٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ أَوْ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا قَوْلُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ)).
فَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى تَضَافُرِ جَمِيعِ الْجُهُودِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ، وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِ، مِنْ خِلَالِ تَكَامُلِ جَمِيعِ مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ؛ مِنْ مَسَاجِدَ، وَتَعْلِيمٍ، وَجَيْشٍ، وَشُرْطَةٍ، وَأُسْرَةٍ؛ لِيَتَحَقَّقَ الْأَمْنُ لِكُلِّ أَبْنَاءِ الْمُجَتَمَعِ بِجُهُودِهِمْ مُتَضَامِنِينَ.
((الْإِسْلَامُ مَصْدَرُ الْأَمْنِ وَالسَّلَامِ لِلْعَالَمِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَّرَنَا بِبَعْضِ أُصُولِ النِّعَمِ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَشْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهَا؛ لِيُمْسِكَهَا عَلَيْنَا رَبُّنَا، وَيَزِيدَنَا مِنْهَا؛ فَإِنَّ النِّعْمَةَ صَيْدٌ وَالشُّكْرَ قَيْدٌ، فَمَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ فَلَمْ يَشْكُرِ اللهَ عَلَيْهَا لَمْ تَلْبَثْ إِلَّا أَنْ تَزُولَ، وَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
اللهم إِنَّا نَعُوذَ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ مِنْ نِعْمَةِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَنِعْمَةِ السُّكُونِ وَالسَّكِينَةِ وَالِاطْمِئْنَانِ مِنْ سَلَامِ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ مُبَدِّدٌ لِلطَّاقَاتِ وَالْقُوَى، وَالْخَائِفُ الْمُفَزَّعُ لَا يَأْتِي مِنْهُ شَيْءٌ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي النَّاسِ يُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَجْعَلُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ كَمَا بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ فِي دَعْوَةٍ لَمْ يَسْتَجِبْ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ فِيهَا، قَالَ: ((وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)).
وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ أَسْرِهِ، وَلَا يَنْفَكُّونَ مِنْ قَبْضَتِهِ إِلَّا بِالْإِقْبَالِ عَلَى دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ اللهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ هُوَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْيًا مَعْصُومًا لَا يُبَدَّلُ وَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَيَّرُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ تَوَلَّى حِفْظَهُ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فَلَمْ يَسْتَحْفِظْ عَلَيْهِ أَحَدًا، وَإِنَّمَا تَوَلَّى هُوَ -سُبْحَانَهُ- حِفْظَهُ، فَلَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ، وَحَفِظَ الْمُبَيِّنَ كَمَا حَفِظَ الْمُبَيَّنَ، فَحَفِظَ سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ كَمَا حَفِظَ الْمُبَيَّنَ وَهُوَ الْوَحْيُ الْأَوَّلُ الْمَعْصُومُ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ.
فَالْمَنْهَجُ هُوَ هُوَ لَا يَتَغَيَّرُ، مَنْهَجُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَاحِدٌ وَاضِحٌ لَا غَبَشَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ وَلَا الْتِوَاءَ، وَلَا خُرُوجَ لِلدُّنْيَا بِأَسْرِهَا مِمَّا هِيَ فِيهِ مِنَ اضْطِرَابٍ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى دِينِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ؛ لِأَنَّ زِمَامَ الْبَشَرِيَّةِ بِقِيَادَةِ الْقُوَّةِ إِذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْوَثَنِيِّينَ أَوِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ الْكَوْنَ مُهَدَّدٌ بِخَرَابٍ وَدَمَارٍ، وَلِأَنَّ الْقُوَّةَ إِذَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الزِّمَامَ الَّذِي تُقَادُ بِهِ هُوَ الْوَحْيُ الْمَعْصُومُ.
وَدِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي رَشَّدَ الْحَيَاةَ وَرَقَّاهَا، وَجَعَلَ لَهَا قِيمَةً، فَلَوْلَا دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكَانَ النَّاسُ أَسْوَءَ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَمَا كَانَ لِأَحَدٍ قِيمَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّرَفَ إِنَّمَا صَارَ شَرَفًا بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعِرْضُ صَارَ عِرْضًا بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا تَخَلَّى النَّاسُ عَنِ الدِّينِ فَلَا شَرَفَ وَلَا عِرْضَ وَلَا حِفَاظَ وَلَا دِمَاءَ، وَإِنَّمَا هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، وَلِأَنَّ الْمِلْكِيَّةَ الْخَاصَّةَ مَحْفُوظَةٌ بِسِيَاجٍ مِنَ الشَّرْعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ تَرْوِيعَ الْمُسْلِمِ لَا يَجُوزُ، فَيَأْمَنُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِكَيْ تَنْطَلِقُ مَلَكَاتُهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مُرَشِّدًا لِلْحَيَاةِ بِمَنْهَجِ اللهِ، أَمَّا إِذَا خَافَ فَالْخَوْفُ أَعْظَمُ شَيْءٍ يُصَابُ بِهِ الْمَرْءُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَافَ تَبَدَّدَتِ الطَّاقَاتُ وَتَبَعْثَرَتِ الْقُوَاتُ، فَلَمْ يَصِرْ لَهُ حَيَاةٌ يُمْكِنُ أَنْ تُسَمَّى حَيَاةً.
حَتَّى فِي الْحَيَوانَاتِ -كَمَا مَرَّ- فِي الْمِثَالِ الَّذِي ضَرَبَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا -رَحِمَهُ اللهُ- لَمَّا قَالَ: إِنَّ الشَّاةَ إِذَا كُسِرَتْ ذِرَاعُهَا فَإِنَّهَا لَا تَلْبَثُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَلْتَئِمَ كَسْرُهَا وَيُجْبَرُ، ثُمَّ هِيَ مُقْبِلَةٌ عَلَى طَعَامِهَا وَعَلَفِهَا وَشَرَابِهَا مَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَالِ فِي الصِّحَّةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْنِ فَإِذَا زَالَ زَالَتِ الْحَيَاةُ، فَإِذَا رُبِطَتْ بِمَقْرُبَةٍ مِنْ ذِئْبٍ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، وَلَكِنَّهَا تَرَاهُ وَتَسْمَعُهُ إِذَا مَا كَشَّرَ عَنْ أَنْيَابِهِ عَاوِيًا وَهِيَ تَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ الضُّرَامِ وَالشَّرَاسَةِ وَالْعُرَامِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبِلُ -حِينَئِذٍ- لَا عَلَى طَعَامٍ وَلَا عَلَى شَرَابٍ.
دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي رَشَّدَ الْحَيَاةَ، وَجَعَلَ فِيهَا السَّلَامَ، فَمَا عَرَفَتِ الدُّنْيَا السَّلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي مُجْتَمَعَاتِهَا حَتَّى جَاءَ نَبِيُّ السَّلَامِ ﷺ، فَعَلَّمَ النَّاسَ السَّلَامَ؛ السَّلَامَ النَّفْسِيَّ، وَالسَّلَامَ الْعَقْلِيَّ، وَالسَّلَامَ الرُّوحِيَّ، أَمَّنَ النَّاسَ عَلَى حَيَوَاتِهِمْ، أَمَّنَ النَّاسَ عَلَى أَبْشَارِهِمْ، عَلَى أَعْرَاضِهِمْ، أَمَّنَ النَّاسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَعَلَى دُورِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، بَلْ أَمَّنَ النَّاسَ عَلَى مَا تَأْتِي بِهِ قَرَائِحُهُمْ، فَيُنْسَبُ كُلُّ فَضْلٍ لِمَنْ أَتَى بِهِ، {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [الأنعام: 164].
أَمَّنَ النَّاسَ وَانْطَلَقَتِ الطَّاقَاتُ هَادِرَةً مَائِجَةً فَوَّارَةً فَائِرَةً، فَحَمَلَ الْأَصْحَابُ الْحَقَّ إِلَى الدُّنْيَا كُلِّهَا، وَدَانَ الْعَالَمُ الْقَدِيمُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِقُوَّةِ الْيَقِينِ، بِقُوَّةِ الْحُبِّ، لَا بِحُبِّ الْقُوَّةِ، وَلَا بِتَمَلُّكِ السَّيْطَرَةِ، وَإِنَّمَا بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَجَلَالِ الْيَقِينِ، تَحَرَّكُوا فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْهُدَى، وَلَمْ يَظْلِمُوهُمْ، وَعَرَفُوا جَمِيعًا رُؤُوسًا وَأَذْنَابًا كِبَارًا وَصِغَارًا رُؤَسَاءَ وَمَرْؤُوسِينَ حَقِيقَةَ هَذَا الدِّينِ، فَامْتَثَلُوا بِهَا، وَحَقَّقُوهَا فِي الْحَيَاةِ وَاقِعًا، وَدَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهَا رَاشِدِينَ.
وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ هَذَا السَّلَامَ الَّذِي عَلِمَهُ الْعَالَمُ وَعَاشَهُ إِنَّمَا كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ وَفِي زَمَانِ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ، ثُمَّ وَقَعَ مَا وَقَعَ، وَقَدْ أَبَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا أَنْ يُدْحِضَ هَذِهِ الشُّبْهَةَ، وَأَنْ يُفَنِّدَ هَذِهِ الْفِرْيَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ مَا وَقَعَ وَتَبَدَّلَتْ أَحْوَالٌ وَصَارَ الْأَمْرُ مُلْكًا كَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَذَهَبَ عَهْدُ النُّبُوَّةِ وَعَهْدُ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ، وَعَسَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ أَثْنَاءَهَا فِي بَعْضِ طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ لَيْلًا مَعَ فَتَاهُ أَسْلَمُ، فَلَمَّا أَعْيَا -كَمَا قَالَ أَسْلَمُ-؛ اسْتَنَدَا إِلَى جِدَارٍ لِدَارٍ مِنْ دُورِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَسَمِعَ امْرَأَةً تُجَادِلُ ابْنَتَهَا؛ أَيْ بُنَيَّةُ! امْذُقِ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ)).
فَقَالَتْ: ((يَا أُمَّتَاهُ! أَلَمْ تَسْمَعِي عَزْمَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟)).
قَالَتْ: ((وَمَا هِيَ؟)).
قَالَتْ: ((إِنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَهَى عَنْ خَلْطِ -أَيْ: مَذْقِ- اللَّبَنِ بِالْمَاءِ)).
فَقَالَتْ: ((يَا بُنَيَّةُ! وَأَيْنَ مِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَعُيُونُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟)).
فَقَالَتْ: ((إِنْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرَانَا فَرَبُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَرَانَا)).
قَالَ: ((يَا أَسْلَمُ! عَلِّمِ الدَّارَ، وَاعْرِفِ الْبَابَ))، وَانْطَلَقَ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ دَعَا وُلْدَهُ فَقَالَ: ((يَا بَنِيَّ! مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُرِيدًا لِلزَّوَاجِ زَوَّجْتُهُ، وَوَاللهِ! لَوْ كَانَ بِي حَرَكَةٌ إِلَى النِّسَاءِ مَا فَاتَتْنِي)).
فَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَقَالَ: ((عِنْدِي زَوْجَةٌ))، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ.. وَقَالَ عَاصِمٌ: ((لَا زَوْجَةَ لِي، فَزَوِّجْنِي))، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَوَلَدَتْ لَهُ بِنْتًا هِيَ أَمُّ عَاصِمٍ، تَزَوَّجَهَا بَعْدُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، فَأَنْجَبَتْ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ)).
كَانَتِ الْأَيَّامُ قَدِ اخْتَلَفَتْ، وَكَانَتِ السُّنُونُ قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ أَصَابَهُمْ شَيْءٌ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْضُ شَيْءٍ مِنْ بَعْضِ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَشَجُّ بَنِي أُمِيَّةَ، وَهُوَ الْأَشَجُّ مِنْ بَنِي عُمَرَ الْفَارُوقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، مَنْ هَذَا الْأَشَجُّ مِنْ وُلْدِي يَمْلَأُ الدُّنْيَا عَدْلًا بَعْدَ أَنْ مُلِأَتْ جَوْرًا، فَكَانَ هُوَ، لَمَّا رَمَحَهُ فَرَسٌ فَأَصَابَهُ فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ، فَكَانَتْ شَجَّةً فِي وَجْهِهِ، فَهُوَ أَشَجُّ بَنِي أُمِيَّةَ، وَكَانَ مَا كَانَ.
فَلَمَّا تَمَلَّكَ، عَرَفَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، رَدَّهُ أَوَّلًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى عَهْدًا مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمْ يُرِدْهُ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَجَمَعَ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، لَمَّا جَاءُوهُ مُبَايِعِينَ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ رَدَدْتُ الْأَمْرَ إِلَيْكُمْ، فَطَلَبُوهُ، قَالُوا: جَعَلْنَاهُ فِيكَ، فَبَايَعُوهُ، وَكَانَتْ بَعْدُ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا أُنْكِرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى جَنَازَةٍ بَعْدَ تَوَلِّيهِ الْخِلَافَةَ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقُدِّمَتْ لَهُ شِبْهُ وِسَادَةٍ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُبُورِ، فَضَرَبَهَا بِرِجْلِهِ وَزَاحَهَا بِقَدَمِهِ، وَجَلَسَ لِلنَّاسِ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْأُمَّةَ اسْتَأْجَرَتْهُ، وَأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَفَّعَ عَلَى مُسْتَأْجِرِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَجِيرًا عِنْدَ الْأُمَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ حَدَّهُ، وَأَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ فِي سَنَتَيْنِ مَا وَقَعَ قَبْلُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْأُمَّةِ مُحْتَاجًا، وَحَتَّى عَيَّنَ الْخَدَمَ لِلْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى، وَكَانَ مُنَادِيهِ يُنَادِي النَّاكِحِينَ -أَيِ: الرَّاغِبِينَ فِي الزَّوَاجِ- وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينِ، فَأَغْنَاهُمْ وَكَفَاهُمْ، وَأَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَ الذِّئَابِ عَلَى الْأَغْنَامِ، لَمَّا تَوَلَّى بِعَدْلِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَشُبْهَةٌ خَائِبَةٌ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا حَكَمَ الْإِسْلَامُ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ خَادِمٍ لِأَنْ يَقَعَ فِي الدُّنْيَا بَعْدُ، كَذِبٌ؛ بَلْ يَقَعُ، إِذَا عَرَفَ النَّاسُ حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَتَمَسَّكُوا بِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، وَأَخْلَصُوا للهِ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ، يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الدُّنْيَا لِلْبَشَرِ الْعَابِدِينَ، أَنَّهَا جَنَّةٌ مِنَ الْجِنَانِ فِي الْأَرْضِ؛ فِيهَا السَّكِينَةُ، فِيهَا الْمَحَبَّة،ُ فِيهَا الطُّمَأْنِينَةُ، وَهَذَا مِثَالٌ مَضْرُوبٌ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-، فِي سَنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ رَدَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى نِصَابِهَا، فِي غَيْرِ طَوِيلِ مُدَّةٍ، لَا نَحْتَاجُ إِلَّا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ أَنْ نَفْهَمَ الدِّينَ بِحَقِيقَتِهِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَأَنْ نَتَّبِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ.
وإذا نَحْنُ السَّادَةُ الْمُهَذَّبُونَ، وَإِذَا نَحْنُ الْقَادَةُ الْمُخْلِصُونَ فَذَلِكَ كَذَلِكَ مَا تَمَسَّكَ النَّاسُ بِهِ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَمْرِهِ، وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُهَيِّئَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الطَّاعَةِ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ، وَيُقْضَى فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ وَيُؤَمِّنَ وَطَنَنَا وَجَمِيعَ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.
اللهم مُنَّ عَلَى هَذَا الْبَلَدِ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالسَّكِينَةِ وَالْهُدُوءِ وَالِاطْمِئْنَانِ، وَاجْعَلْ رِزْقَهُ رَغَدًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَمُنَّ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّكَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَالسِّتِّيرُ الْحَيِيُّ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: رَكَائِزُ الْأَمْنِ الْمُجْتَمَعِيِّ