((رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((رَمَضَانُ شَهْرُ الْهِدَايَةِ))
فَقَدِ اخْتَصَّ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَمَضَانَ بِعَطَايَا وَمَزَايَا لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ؛ مِنْهَا أَنَّهُ ((شَهْرُ الْهِدَايَةِ))؛ فَرَمَضَانُ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي خَصَّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ؛ بَلْ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ؛ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
فَهَذَا الشَّهْرُ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ فِيهِ؛ هِدَايَةً لِلنَّاسِ، وَفُرْقَانًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَنِبْرَاسًا يُنِيرُ دَيَاجِيرَ ظُلْمَةِ الْمَرْءِ فِي سَعْيِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَنْكَادِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْمَخَاطِرِ وَالْمَكَائِدِ -مِنْ مَكَائِدِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَالْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ، وَكُلِّ صَادٍّ عَنْ سَبِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
فَهَذَا الشَّهْرُ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الْآيَاتِ الْمُبْهِرَةَ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الصِّيَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ بَعَثَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ الْخَاتَمَ مُحَمَّدًا ﷺ بِرِسَالَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ﷺ.
((رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ))
إِنَّ رَمَضَانَ مَوْسِمٌ لِاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: «إِنَّ لِلهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَإنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ دَعْوَةً يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفَتَّحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغَلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ » . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ.
فَشَهْرُ رَمَضَانَ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الآيَاتِ المُبْهِرَةَ؛ مِنْهَا: أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ: «وَلِلهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».
وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِر».
مَوْسِمٌ مَفْتُوحٌ مِنْ عَطَاءَاتِ وَفُيُوضَاتِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.
((مُوجِبَاتُ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ فِي رَمَضَانَ))
إِنَّ أَسْبَابَ وَمُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ كَثِيرَةٌ ضَافِيَةٌ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِحْسَانِ الصِّيَامِ، وَمِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالْجُودِ وَالْعَطَاءِ وَالْبِرِّ، بِكُلِّ مَا فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ؛ إِذَا مَا فُعِلَتْ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ يَكُونُ الشَّهْرُ مُكَفِّرًا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ». وَالْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي «الصَّحِيحِ».
رَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرٌ لِمَا بَيْنَهُمَا إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ.
وَالصَّوْمُ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ الرَّسُولِ ﷺ قَالَ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّومُ وَالصَّدَقَةُ».
وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ ريحِ الْمِسْكِ، وَالْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لِلصَّائِمِينَ حِينَ يُفْطِرُونَ.
وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وَفِيهِ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ الرَّسُولِ ﷺ-: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ؛ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ».
وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَها فَقَدْ حُرِمَ.
وَشَهْرُ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ: «وَلِلهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».
((مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ:
تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ))
إِنَّ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ: ((تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ، الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا إلَّا بِهِ، وَيَغْفِرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِصَاحِبِهِ وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ تَرَكَهُ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48])) .
وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ الْمَغْفِرَةَ مُعَلَّقَةٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالِاحْتِسَابِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قَامَ وَصَامَ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا؛ إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ، بِالَّذِي فَرَضَ، وَاحْتِسَابًا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ طَلَبًا لِلْأَجْرِ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، مِنْ غَيْرِ مَا عَمَلٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْيِيبٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي ضَمِيرِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيَاهِبِ الْمَكْنُونِ مِنْ ثَنَايَا النَّفْسِ؛ حَتَّى إِنِ اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ أَلَّا يُطْلِعَ ذَاتَهُ عَلَى عَمَلِ ذَاتِهِ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ» .
«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
*وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّوْمِ، ((وَهِيَ عَزْمُ الْقَلْبِ عَلَى الصَّوْمِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى أَوْ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) .
فَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا؛ فَالنِّيَّةُ تَجِبُ بِلَيْلٍ قَبْلَ الْفَجْرِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلًا؛ صَحَّتِ النِّيَّةُ وَلَوْ بَعْدَ طلُوعِ الْفَجْرِ وَارْتِفَاعِ النَّهَارِ، بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ قَدْ طَعِمَ شَيْئًا )).
*وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ اللهَ اخْتَصَّ نَفْسَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصَّوْمِ وَجَزَائِهِ؛ فَالصِّيَامُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)) .
فَالصَّومُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجْزِيِ عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
*وَمِنْ مَظَاهِرِ التَّوْحِيدِ فِي رَمَضَانَ: أَنَّ الصِّيَامَ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِي هَذَا الصِّيَامِ سِرًّا لَطِيفًا جِدًّا؛ إِذْ هُوَ الْمُعَامَلَةُ الْحَقَّةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ وَلِذَلِكَ فَهُوَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ سِوَى ذَلِكَ، وَمَا هِيَ فِي الْمُنْتَهَى إِلَّا كَفٌّ بِنِيَّةٍ، وَامْتِنَاعٌ عَنْ تَلَذُّذٍ بِشَهْوَةِ وِقَاعٍ أَوْ شَهْوَةِ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، مَعَ إِمْسَاكٍ لِلْجَوَارِحِ عنِ الْوُلُوغِ فِيمَا يَسُوءُ، ثُمَّ إِقْبَالٌ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ عَابِدٍ مُخْبِتٍ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لِلتَّوْحِيدِ فَضَائِلُ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى؛ مِنْهَا:
*أَنَّ التَّوْحِيدَ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ)) .
*وَالتَّوْحِيدُ سَبَبٌ لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ أَسْبَابِ تَكْفِيرِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: «يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ.
((مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ:
تَقْوَى اللهِ))
التَّقْوَى هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
والتَّقْوَى: هِيَ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ بِفِعْلِ المَأْمُورِ وَتَرْكِ المَحْظُورِ، فَهَذِهِ تَقْوَى اللهِ.
إِنَّ التَّقْوَى مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ، وَالصِّيَامُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((يُخْبِرُ تَعَالَى بمَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ؛ بِأَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ كَمَا فَرَضَهُ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَوَامِرِ الَّتِي هِيَ مَصْلَحَةٌ لِلْخَلْقِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.
وَفِيهِ تَنْشِيطٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تُنَافِسُوا غَيْرَكُمْ فِي تَكْمِيلِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى صَالِحِ الْخِصَالِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي [خُصِصْتُمْ] بِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حِكْمَتَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ؛ فَقَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ التَّقْوَى؛ لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ)).
إِنَّ رَمَضَانَ فُرْصَةٌ لِتَحْقِيقِ التَّقْوَى، وَعَاقِبَةُ التَّقْوَى الْجَنَّةُ وَالْعِتْقُ مِنَ النَّارِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63].
تِلْكَ الْجَنَّةُ هِيَ الَّتِي نَهَبُ -بِفَضْلٍ مِنَّا- الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِنَا الَّذِينَ ارْتَقَوُا الْمَرْتَبَاتِ الْعَالِيَاتِ فِي مَرْتَبَةِ التَّقْوِى؛ إِذْ وَرِثُوا الْحِصَصَ الَّتِي كَانَتْ مُعَدَّةً فِي الْجَنَّةِ لِسَائِرِ الْعِبَادِ لَوْ آمَنُوا وَعَمِلُوا صَالِحًا، فَلَمَّا كَفَرَ الْأَكْثَرُونَ، وَاسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ؛ أَخَذَ الْمُتَّقُونَ حِصَصَهُمْ، وَيَأْخُذُ أَهْلُ الْجَنِّة مِنْ هَذَا الْمِيرَاثِ الْعَظِيمِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ وَدَرَجَتِهِ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15].
صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَهَا اللهُ الْمُتَّقِينَ؛ فِيهَا أَنْهَارٌ عَظِيمَةٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ مُتَغَيِّرِ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ، وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ كَمَا تَتَغَيَّرُ أَلْبَانُ الدُّنْيَا، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ يَلْتَذُّ بِهَا الشَّارِبُونَ، وَلَا يَكُونُ مَعَهَا ذَهَابُ عَقْلٍ وَلَا صُدَاعٌ وَلَا أَسْقَامٌ كَخَمْرٍ الدُّنْيَا، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ خَالِصٍ صَافٍ مِنْ جَمِيعِ شَوَائِبِ عَسَلِ الدُّنْيَا.
وَلِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ لِلَّذَّةِ وَالتَّفَكُّهِ، وَلَهُمْ مَعَ هَذَا النَّعِيمِ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55].
(({إِنَّ الْمُتَّقِينَ} لِلَّهِ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ نَوَاهِيهِ، الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}؛ أَيْ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، الَّتِي فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، مِنَ الْأَشْجَارِ الْيَانِعَةِ، وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، وَالْقُصُورِ الرَّفِيعَةِ، وَالْمَنَازِلِ الْأَنِيقَةِ، وَالْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ اللَّذِيذَةِ، وَالْحُورِ الْحِسَانِ، وَالرَّوْضَاتِ الْبَهِيَّةِ فِي الْجِنَانِ، وَرِضْوَانِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، وَالْفَوْزِ بِقُرْبِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}، فَلَا تَسْأَلُ بَعْدَ هَذَا عَمَّا يُعْطِيهِمْ رَبُّهُمْ مِنْ كَرَامَتِهِ وَجُودِهِ، وَيَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ وَمِنَّتِهِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا حَرَمَنَا خَيْرَ مَا عِنْدَهُ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا)) .
((مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ:
الصِّيَامُ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّوْمَ أَحَدُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَخِصَالِهِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا فِي وِقَايَةِ الْعَبْدِ مِنَ النَّارِ؛ فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَوِقَايَةٌ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي «الْمُسْنَدِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ».
وَ«الْجُنَّةُ»: الْوِقَايَةُ؛ كَالدِّرْعِ السَّابِغَةِ، يَتَحَصَّنُ بِهَا الْمَرْءُ مِنْ سِلَاحِ عَدُوِّهِ، فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ؛ وِقَايَةٌ وَسَاتِرٌ وَحِجَابٌ بَيْنَ الْمَرْءِ وَالنَّارِ -أَعَاذَنَا اللهُ جَمِيعًا مِنْهَا-.
وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.
قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ».
ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟! الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَالْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ لِلهِ يَوْمًا، وَكَانَ صِيَامُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ بَعَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).
وَالصَّوْمُ أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَقْبَلُ اللهُ شَفَاعَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الْقُرْآنَ وَالصِّيَامَ يَشْفَعَانِ فِي الْعَبْدِ, يَقُولُ الصِّيَامُ: مَنَعْتُهُ الشَّهْوَةَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِالنَّهَارِ, فَيُشَفَّعُ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَأَوْرَثْتُهُ السُّهْدَ وَالسَّهَرَ)) .
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَيُشَفَّعَانِ))، فَيَشْفَعُ الصِّيَامُ, وَيَشْفَعُ الْقُرْآنُ فِي الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ، وَطَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ؛ فَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ الصَّائِمِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوْجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيْرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
إِنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشْرِ؛ وَمِنْهَا: الصَّائِمُونَ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَالصَّائِمَاتُ.. الَّذِيْنَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشْرِ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَاسِعَةً تَمْحُو ذُنُوبَهُمْ، وَأَجْرًا عَظِيمًا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إِنَّ الْلَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَعَلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ مَا هُوَ مُتَاحٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُوَجِّهًا الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ مِنَ الْإِيمَانِ تَحْصِيلُهُ بَأَسْبَابِهِ، وَنُقْصَانُ الصِّيَامِ نُقْصَانٌ مِنَ الْإِيمَانِ؛ وَلِأَنَّ مَعْقِدَ الإِيمَانِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَالْأَخْذِ بِالتَّعَالِيمِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ.
فَوَجَّهَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْلَمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْحِكْمَةِ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ، وَفَرَضَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى السَّابِقِينَ، كَمَا فَرَضَهَا عَلَيْنَا، وَلَا فَرَضَ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ، كَمَا فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ.
لِأَنَّ فِي الصِّيَامِ الْمَشَقَّةَ.
وَلِأَنَّ فِي الصِّيَامِ التَّعَبَ.
وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُغَادِرُ فِيهِ الْمَأْلُوفَ، وَيُعَانِي مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحِرْمَانِ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ شَارَكَهُ فِي الَّذِي هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ، خَفَّ عَلَيْهِ وَهَانَ.
فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فَأَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ -صِيَامَ رَمَضَانَ-، وَأَنَّهُ فَرَضَ الصِّيَامَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ، وَأَنَّ هَذَا الْفَرْضَ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا فَرَضَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا؛ حَتَّى يَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ -عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ- مَا يَسْتَطِيعُ بِهِ أَلَّا يَسْتَصْعِبَ شَيْئًا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ.. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ التَّقْوَى، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِنَّمَا الصِّيَامُ بِشَيْءٍ آخَرَ يُحَصِّلُهُ الْعَبْدُ الصَّائِمُ؛ حَتَّى يَكُونَ صَائِمًا حَقًّا فِي مِيزَانِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَلَيْسَ الصِّيَامُ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ-: ((لَيْسَ الصِّيَامُ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ)) .
((وَلَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَالصَّخَبِ)).
الصِّيَامُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ-: شَيْءٌ يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهِ الْمَرْءُ الصَّائِمُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ، يَتَغَيَّرُ بِهِ نِظَامُ حَيَاتِهِ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ سُلُوكُهُ، وَيَكْتَسِبُ بِالصِّيَامِ الصَّحِيحِ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُعَانِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ)) ؛ إِلَّا التَّعَبُ وَالنَّصَبُ.
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الصِّيَامَ يُحَصِّلُ لَدَى الْمَرْءِ الصَّائِمِ شَيْئًا عَظِيمًا جِدًّا وَجَلِيلًا جِدًّا، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِسُلُوكِيَّاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الَّذِي لَا يَدَعُ قَوْلَ الزُّورِ -وَهُوَ الِانْحِرَافُ عَنِ الْحَقِّ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الانْحِرَافِ؛ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَاعْتِقَادًا، وَمَسْلَكًا- ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْوَسِيلَةِ، وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا الصَّائِمُ الْتِفَاتًا صَحِيحًا، وَأَنْ يَسْعَى سَعْيًا حَثِيثًا؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَتَحْصِيلِ ثَمَرَتِهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ -مَنْ لَمْ يَتْرُكْ- قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ خَلْقِهِ، وَالْلَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا أَرَادَ الْخَيْرَ بِالنَّاسِ، وَأَرَادَ الْخَيْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَبَدَّلَ سُلُوكِيَّاتُهُمْ، وَأَنْ تَتَحَسَّنَ أَخْلَاقُهُمْ، وَأَنْ يَصِيرُوا خَلْقًا جَدِيدًا فِي تَعَامُلَاتِهِمْ، وَفِي أَحَاسِيسِهِمْ، وَفِي مَشَاعِرِهِمْ، وَفِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُحَذِّرًا: إِنَّ هَذَا الصِّيَامَ الَّذِي يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ عَامَّةُ الصَّائِمِينَ؛ وَأَنَّهُ مُجَانَبَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَا يُعَدُّ شَيْئًا مَا لَمْ يُحَصِّلِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَمَا لَمْ يَصِلْ إِلَى مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْغَايَاتِ، وَمَا لَمْ يَجْنِ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْجَنَى وَالثَّمَرَاتِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الْزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْجَهْلَ-، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا آخَرَ، وَجَعَلَهُ مُرْتَبِطًا بِالصِّيَامِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ارْتِبَاطَ الصِّيَامِ فِي يَوْمِهِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْخَنَا، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الصَّخَبِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ، يَتَفَوَّهُ بِهَا الْمَرْءُ رَفَثًا، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي أَثْنَاءِ الصِّيَامِ، ((فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، وَإِنْ قَاتَلَهُ أَحَدٌ أَوْ سَابَّهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ))، يُذَكِّرُ نَفْسَهُ، وَيُذَكِّرُ الْآخَرَ أَيْضًا.
فَجْعَلُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الصَّوْمِ مُرْتَبِطًا بِعَدَمِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ.
((فَلَا يَرْفُثْ)): وَهُوَ الْكَلَامُ بِرَدِيءِ وَفَاحِشِ الْكَلِمِ؛ فَالإِنْسَانُ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، فَعَلَيْهِ أَلَّا يَجْعَلَ لِسَانَهُ مُتَخَلَّلًا، يَتَخَلَّلُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، أَوْ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تَمُرُّ -حَتَّى- لَغْوًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ خَسِرَ الصَّفْقَةَ الرَّابِحَةَ، وَالْأَصْلُ أَلَّا تَمُرَّ لَحْظَةٌ مِنْ لَحْظَاتِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا لِنَفْسِهِ غَنِيمَةً؛ لِأَنَّ الْعُمْرَ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَيُّ تَاجِرٍ يُغَامِرُ بِرَأْسِ الْمَالِ هُوَ تَاجِرٌ فَاشِلٌ بِلَا خِلَافٍ.
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ التَّنْمِيَةَ وَالتَّثْمِيرَ وَالِاسْتِثْمَارَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَعَلَيْهِ أَلَّا يُهْدِرَهُ، وَأَلَّا يُبَدِّدَهُ، وَأَلَّا يَمُرَّ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْخُسْرَانُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ)) .
وَلَا يَسُبَّ مَنْ سَبَّهُ، وَالسَّبُّ: هُوَ الْإِتْيَانُ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ، وَمَا يُرَادُ بِهِ التَّنَقُّصُ وَالْإِقْلَالُ مِنَ الشَّأْنِ، هَذَا هُوَ مَفْهُومُ السَّبِّ عِنْدَ عَامَّةِ الْبَشَرِ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ دَالًّا عَلَى الِانْتِقَاصِ وَالتَّقْلِيلِ مِنَ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ، فَهَذَا الْأَمْرُ إِذَا وَقَعَ مِنَ الْآخَرِ فَلَا يَنْبَغِي مُطْلَقًا أَنْ يُقَابَلَ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ بِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ، ((فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ))؛ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ فُطِمَ عَنْ مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ فُطِمَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَسُوءُ، وَأَنَّهُ قَدْ فُطِمَ عَنْ أَنْ يُخَالِفَ الرَّسُولَ ﷺ.
قَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ثَمَرَةً لِلصِّيَامِ الصَّحِيحِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
الصِّيَامُ: هُوَ الِامْتِنَاعُ وَالْكَفُّ بِنِيَّةٍ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ -لَا تَعَبُّدًا-، يُمْكِنُ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حِمْيَةً، أَوْ بِأَمْرِ مَنْ يُعَالِجُهُ لِدَاءٍ فِيهِ، فَيَكُفُّ -حِينَئِذٍ- عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، رُبَّمَا تَمْتَدُّ بِهِ السَّاعَاتُ إِلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَمْتَدُّ بِهِ سَاعَاتُ يَوْمِ الصِّيَامِ، وَلَا يُعَدُّ صَائِمًا.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَفِّ تَعَبُّدًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْكَفِّ تَعَبُّدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ هِلَالِ رَمَضَانَ إِلَى هِلَالِ شَوَّالٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ صَائِمًا فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ، وَإِنَّمَا يُتَعَبَّدُ بِالتَّرْكِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُبَيِّنُ لَنَا -بِفِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ وَسُلُوكِهِ، وَإِقْرَارِهِ ﷺ- مَدَى تَأْثِيرِ الصِّيَامِ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ لَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ؛ فَجَعَلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ إِصْلَاحًا لَهُ، وَوِقَايَةً وَجُنَّةً لَهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ)).
فَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْصَّوْمَ وِقَايَةٌ، وَالْجُنَّةُ: مَا يَسْتَجِنُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَخْتَفِي بِهِ مِنْ عُيُونِ أَعْدَائِهِ وَمَنْ سِلَاحِهِمْ، وَالْجُنَّةُ: التُّرْسُ وَالدِّرْعُ يَجْعَلُهُ الْمُحَارِبُ عَلَى صَدْرِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ سِهَامَ الْعَدُّوِ وَحِرَابَهُمْ وَكَذَلِكَ سُيُوفَهُمْ.
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الصِّيَامَ جُنَّةً، جَعَلَهُ وِقَايَةً لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِيمَا يُجَانِبُ التَّقْوَى، وَفِيمَا يُخَالِفُ الدِّينَ.
((الصَّوْمُ جُنَّةٌ))، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَثَابَةِ الْحِصْنِ يَحْتَمِي بِهِ الصَّائِمُ مِنْ عَدُوِّهِ أَنْ يُصِيبَهُ، وَيَكْفِي فِيهِ أَنَّهُ يُقَلِّلُ مَجَارِيَ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي رُوحِهِ، وَفِي بَدَنِهِ، وَفِي ضَمِيرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، وَأقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَادِمًا، وَتَخَشَّعَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ تَائِبًا، فَإِنَّهُ يُجَانِبُ الشَّيْطَانَ، وَيُجَانِبُهُ الشَّيْطَانُ.
وَإِذَا مَا قَلَّلَ مِنْ مَادَّةِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَسْتَفِزُّ الْمَرْءَ لِفِعْلِ الشَّهَوَاتِ، وَالَّتِي تَمُدُّ قُوَّةَ الْغَضَبِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ السَّلَامَةِ، وَعَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ خَلْفَ نَبِيِّهِ ﷺ.
الرَّسُولُ ﷺ بَيَّنَ لَنَا بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَسُلُوكِهِ ﷺ فِي رَدِّ الْفِعْلِ عَلَى جَهْلِ الْآخَرِينَ، فِي رَدِّ الْفِعْلِ عَلَى خَطَأِ الْآخَرِينَ، فِي رَدِّ الْفِعْلِ عَلَى خَطَايَا الْآخَرِينَ فِيهِ؛ إِذْ يَظْلِمُونَهُ، إِذْ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ، إِذْ يَعْتَدُونَ عَلَيْهِ ﷺ.
فَبَيَّنَ لَنَا ﷺ -بِذَلِكَ جَمِيعِهِ- مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ أَعْيُنِ قُلُوبِنَا، بِبَصَائِرِنَا؛ حَتَّى نَسْلُكَ مَسْلَكَهُ، وَنَنْهَجَ نَهْجَهُ، وَنَسِيرَ خَلْفَهُ؛ لِيَكُونَ مُسْتَقَرُّنَا فِي الْجَنَّةِ -إِنَّ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-.
((مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ:
الصَّدَقَاتُ وَالْجُودُ))
لِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ مَزِيَّةٌ وَخُصُوصِيَّةٌ؛ فَيُبَادِرُ إِلَيْهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَدَائِهَا بِحَسَبِ حَالِهِ، وَلِلصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ بَلَاغَةً وَبَلَاغًا فِي الْوُصُولِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ، وَسَيْأَتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَسْطٍ -إِنْ شَاءَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا-؛ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وسَقْيُ الْمَاءِ.
إِطْعَامُ الطَّعَامِ يَجْعَلُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وِقَايَةً وَجُنَّةً مِنَ الْآثَامِ وَالشُّرُورِ؛ فَإِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ».
وَالسَّلَفُ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ تَبَعًا لِنَبِيِّهِمْ ﷺ فِي بَذْلِ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَكِسْوَةٍ، وَفَضْلِ زَادٍ، فِي سَبِيلِ تَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)) .
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ -وَأَجْوَدَ، بِالضَّمِّ، وَالْفَتْحِ مَعًا، وَالضَّمُّ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ- مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَلنَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ مَنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).
هَذَا الْحَدِيثُ بَيَّنَ لَنَا فِيهِ عَبْدُ اللهِ بِنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَقَوْلِهِ وَحَالِهِ؛ لِأَنَّ الْجُودَ إِنَّمَا هُوَ بَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ، وَالْعَمَلِ، وَالْجَاهِ أَيْضًا.
الْجُودُ: بَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ؛ صَدَقَةً لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَدِيَّةً لِلْأَغْنِيَاءِ، وَمُوَاسَاةً لِلْمُحْتَاجِينَ، فَبَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ، وَبَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْعَمَلِ؛ كَإِعَانَةِ الْأَخْرَقِ، وَالسَّعْيِ فِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ؛ مِنَ الْعَمَلِ بِالْخَيرِ، مِنْ أَجْلِ إِيصَالِهِ لِلْغَيْر، كَمَا بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي كَثْرَةِ تَعَدُّدِ سُبُلِ الْخَيْرِ مَمْهُودَةً، وَمُحَصَّلَةً -أَيْضًا-.
وَكَذَلِكَ بَذْلُ الْجَاهِ شَفَاعَةً -فِيمَا لَا يُغْضِبُ اللهَ، وَلَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ- لِمَنْ لَا جَاهَ لَهُ، فَهَذَا جُودٌ -أَيْضًا-، فَالْجُودُ: بَذْلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ، وَالْعَمَلِ، وَالْجَاهِ.
((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ))، كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِذَلِكَ جَمِيعِهِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ يَشْفَعُ لِلرَّجُلِ إِذَا مَا قَلَتْهُ امْرَأَتُهُ شَرْعًا؛ فَإِنَّ بَرِيرَةَ لَمَّا مَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَأُعْتِقَتْ، كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، وَلَهَا الْخِيَارُ -حِينَئِذٍ- أَنْ تَكُونَ تَحْتَهُ وَأَنْ تُفَارِقَهُ، فَرَأَتْ فِرَاقَهُ، فَذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ يَسْتَشْفِعُ بِهِ لَدَيْهَا، فَكَلَّمَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ وَأَنْ تُعَاوِدَهُ.
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: ((لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ)).
فَقَالَتْ: لَا أُرِيدُهُ.
فَكَانَ يَدُورُ وَرَاءَهَا فِي الْأَسْوَاقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهَا-، يَتَتَبَّعُهَا يَبْكِي من مَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَمَنْ جَفَائِهَا لَهُ.
فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ مُعَجِّبًا أَصْحَابَهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ: ((أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟!!)).
((الْقُلُوبُ بِيَدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)) .
وَلَكِنِ انْظُرْ كَيْفَ سَعَى بِجَاهِهِ ﷺ وَمَنْزِلَتِهِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ -كَمَا تَرَى-؟!!
((فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، يُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).
وَأَنَّى مِنْ جُودِهِ الرِّيحُ الْمُرْسَلَةُ ﷺ؟!!
فَالْجُودُ مِنْ خِصَالِ هَذَا الشَّهْرِ، خَصِيصَةٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ هَذَا الْجُودُ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَجْعَلْهُ سَائِرًا هَكَذَا نَافِلَةً كَفَافًا يَمُرُّ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَنَّ مَنْ فَطَّرَ فِي هَذَا الشَّهْرِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ بِبَذْلِ هَذَا الْجُودِ مِمَّا تُحِبُّهُ النَّفْسُ، فَأَعْطَى أَخَاهُ -وَلَوْ شِقَّ تَمْرَةٍ لِيُفْطِرَ عَلَيْهَا- تَحَصَّلَ عَلَى مِثْلِ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَنَعْلَمُ قُلُوبًا غُلْفًا، الْقَلْبُ فِي غُلَافِهِ صَارَ أَغْلَفَ، وَهَذَا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ خَيْرٌ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ طَرِيقِهِ ذَرَّةٌ مِنْ خَيْرٍ، فَلَرُبَّمَا أَعْطَيْتَهُ تَمْرَةً لِيُفْطِرَ عَلَيْهَا، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ، وَتَتَحَصَّلُ عَلَى مِثْلِ أَجْرِهِ -كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ- فَيَضِنُّ بِذَلِكَ عَلَيْكَ!! وَيَأْتِي بِهَذَا الْأَمْرِ -وَهُوَ أَبْعَدُ مَا يَكُونُ عَنِ الْخَيْرِ- يَضِنُّ عَلَيْكَ بِأَنْ يُفْطِرَ عَلَى مَا تُقَدِّمُهُ لَهُ لِيُفْطِرَ عَلَيْهِ لِتَتَحَصَّلَ عَلَى الْأَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ.
النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةٌ مُلْتَوِيَةٌ جَدًّا!!
وَمَسَارِبُهَا مُعَقَّدَةٌ جِدًّا!!
وَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَكْمَنِ الدَّافِعِ الَّذِي يَكْمُنُ وَرَاءَ فِعْلِهِ.. لَا يَسْتَطِيعُ، فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْتَطِيعُ، بَلْ إِنَّ الْمُؤْمِنَ النَّاصِحَ الشَّفِيقَ الَّذِي يَضِنُّ بِدِينِهِ، وَالَّذِي هُوَ شَحِيحٌ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ لَا يَسْتَطِيعُ -أَيْضًا- أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَكْمَنِ الدَّافِعِ وَرَاءَ الْفِعْلِ الَّذِي يَفْعَلُهُ.
بَلْ أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْخَيْرِ لِمَنْ يَبْذُلُونَ الْخَيْرَ؛ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].
فَإِذَا مَا عُرِضُوا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا مَا فُتِّشَ فِي السَّرَائِرِ، وَعُلِمَ مَا فِي الضَّمَائِرِ، وَبَانَ ظَاهِرًا مَا وَرَاءَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَحْوَالِ مِنَ الدَّوَافِعِ وَالنَّيَّاتِ؛ حِينَئِذٍ يَعْلَمُ الْمَرْءُ أَكَانَ عَلَى الْحَقِّ، وَالْحَقِيقَةِ، أَمْ كَانَ مِنْ أَضَلِّ الْخَلِيقَةِ، وَكَانَ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْرُوفِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا!!
هَذِهِ الْأُمُورُ يُبَيِّنُهَا لَنَا الرَّسُولُ ﷺ، وَيَجْعَلُ لَنَا مِنَ الْعَلَامَاتِ اللَّائِحَاتِ الظَّاهِرَاتِ مَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى مَا وَرَاءَ الْأَعْمَالِ مِنَ النِّيَّاتِ الْكَّامِنَاتِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قِيلَ لَهُ: ((إِنَّ فُلَانَةَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ -وَقَدْ حُذِفَ الْمَعْمُولُ كَمَا تَرَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّهْوِيلِ- وَتَعْمَلُ، وَتَصَّدَّقُ -وَحُذِفَ مَا تَعْمَلُهُ، وَحُذِفَ مَا تَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لتَهْوِيلِهِ، وَتَعْظِيمِهِ، وَتَفْخِيمِهِ- وَتَعْمَلُ وَتَصَّدَّقُ، وَلَكِنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
قَالَ: ((لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ!)).
وَقِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي الْخَمْسَ، تَصُومُ الشَّهْرَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَكِنَّهَا لَا تُؤْذِي أَحَدًا)).
((تَصَّدَّقَ بِأَثْوَارٍ)): جَمْعُ ثَوْرٍ، وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ، أَوْ مِنَ الْجُبْنِ الْمُجَفَّفِ، فَهِيَ تَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَمَّا عُلِمْتُ بِانَتْ قَلِيلَةً، ((وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ)): وَلَعَلَّ التَّنْكِيرَ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيلِ لَا عَلَى ضِدِّهِ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلَا تُؤْذِي أَحَدًا.. لَا تُؤْذِي أَحَدًا بِلِسَانِهَا.
قَالَ: ((هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ وَرَاءَ الْعِبَادَاتِ، وَوَرَاءَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَاتِ دَوَافِعَ، وَهَذِهِ الدَّوَافِعُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ مِنْ وَرَاءِ الْعِبَادَةِ هُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ التَّقْوَى بِالصِّيَامِ.
فَإِذَا كَانَ مُتَّقِيًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، آخِذًا بِزِمَامِ نَفْسِهِ؛ لِيَحْمِلَهَا عَلَى الْجَادَّةِ، وَلِيَأْطُرَهَا عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، فَإِنَّهُ عَلَى الْخَيْرِ -بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--، وَإِنَّهُ لَيُؤَمِّلُ الْخَيْرَ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
فُلَانَةُ تَصُومُ شَهْرَهَا، وَتَقُومُ مَا تَيَسَّرَ؛ يَعْنِي تَأْتِي بِتِلْكَ الرَّوَاتِبِ الَّتِي رَتَّبَهَا الرَّسُولُ ﷺ؛ تُصَلِّي الْفَرْضَ، وَتَصُومُ الْفَرْضَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّسِعُ لَهُ الْحَالُ وَالْجَهْدُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُؤْذِي أَحَدًا؛ أَثْمَرَتِ الْعِبَادَةُ فِيهَا هَذِهِ الثَّمَرَةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ عَلَى رَجَاءِ الْقَبُولِ، بَلْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَّ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى الْقَبُولِ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ﷺ؛ لِأَنَّهُ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
وَأَمَّا الْأُولَى، ((فَإِنَّهَا تَصُومُ النَّهَارَ -هَكَذَا- تَقُومُ اللَّيْلَ -هَكَذَا- تَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَلَكِنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا)).
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ)) .
((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ))؛ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ مِمَّا يَتَأَتَّى مِنَ النَّزَقِ وَالسَّفَهِ وَالطَّيْشِ، مَنْ لَمْ يَدَعْ ذَلِكَ؛ مَنْ لَمْ يَتْرُكْهُ ((فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .
وَكَأَنَّهُ ﷺ يُومِئُ إِلَى الْأَمْرِ الْخَطِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِخَبِيئَتِهِ ﷺ، ((فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَطَشٍ وَلَا جُوعٍ مَسًّا مُجَرَّدًا، وَإِنَّمَا مَسًّا مُثْمِرًا، فَإِذَا لَمْ يُثْمِرْ، فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا، ((فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
لِأَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي يُرِيدُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَرَاءِ وَدَعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَرْكِهِمَا: هُوَ هَذَا الَّذِي لَمْ يَتَخَلَّ عَنْهُ الصَّائِمُ بِزَعْمِهِ؛ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَدَعَ قَوْلَ الزُّورِ، وَأَنْ يَدَعَ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَنْ يَدَعَ الْجَهْلَ، يُرِيدُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهُ أَلَّا يَرْفُثَ، وَأَلَّا يَصْخَبَ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْضَبِطًا، وبِقَانُونِ الشَّرْعِ مُلْتَزِمًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَدَعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْأُمُورِ.
فَإِذَا لَمْ يُحَصِّلْهَا، فَمَاذَا صَنَعَ؟!!
عَذَّبَ نَفْسَهُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ!!
((وَكَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ!!)).
كَمْ مِنْ صَائِمٍ! لَا يُحْصَوْنَ عَدَدًا! كَثِيرٌ هُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!
((وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ))!
فَهَذَا شَهْرٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْجُودُ، وُجُودُ النَّبِيِّ ﷺ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ آنٍ وَفِي كُلِّ حَالٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ كَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَأَسَّى بِهِ الْأُمَّةُ -وَهُوَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ ﷺ-، وَأَمَّا جُودُهُ وَعَطَاؤُهُ فَلَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى رَمَضَانَ، وَإِنَّمَا كَانَ مَبْذُولًا فِي كُلِّ الْعَامِ.
وَكَانَ مَنْ يَأْتِيهِ -حَتَّى مَنَ الْكُفَّارِ- يَعُودُ بِحِلْيَتِهِ إِلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْكَافِرِينَ؛ لِيَقُولَ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ ﷺ، هُوَ أَسْخَى النَّاسِ قَطُّ ﷺ، يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ ﷺ ، يُعْطِي عَطَاءً لَا يُعْطِيهِ إِلَّا نَبِيٌّ؛ لِتَوَكُلِّهِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَطَاءَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ مُعْطٍ))؛ يَعْنِي هُوَ يَقْسِمُ مَا أَعْطَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فَالَّذِي يُعْطِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَالَنَّبِيُّ ﷺ مِنْ وَصْفِ حَالِهِ وَفَعَالِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- نَخْرُجُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْفَوَائِدِ:
*وَأَوَّلُ ذَلِكَ: هُوَ مُزَاوَلَةُ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ؛ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمَسَاكِينِ؛ مَنَ الْأَيْتَامِ، وَالْأَرَامِلِ، وَالْمُحْتَاجِينَ، وَأَنْ يُعَوِّدَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ؛ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ لَهُ خُلُقًا وَسَجِيَّةً، وَيَصِيرَ فِي الْحَيَاةِ لَهُ مَسْلَكًا وَدَيْدَنًا؛ وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ -الَّذِي رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَخْرَجَهُ الضِّيَاءُ فِي ((الْمُخْتَارَةِ))، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» .
وَالْسَّفْسَافُ: مَا تَطَايَرَ عَنِ الرَّحَى عِنْدَ الطَّحْنِ، أَوْ مَا أَثَارَتْهُ سَنَابِكُ الْخَيْلِ عِنْدَ السَّيْرِ وَالْجِرْيِ وَالْعَدْوِ، فَمَا يَتَطَايَرُ مِنْ ذَلِكَ الْغُبَارِ هُوَ تِلْكَ السَّفَاسِفُ، لَا يُحِبُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يُحِبُّ مَنْ أَتَى بِهَا.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ))، وَالْجُودُ: بَذَلُ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْمَالِ وَالْعَمَلِ وَالْجَاهِ -أَيْضًا-، فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ تَبْذُلَ هَذَا فِي رَمَضَانَ؛ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ لَكَ سَجِيَّةً بَعْدَ رَمَضَانَ بِفَضْلِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْكَرِيمِ الدَّيَّانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُتَّقِي إِذَا مَا صَامَ رَمَضَانَ كَمَا يَنْبَغِي.
((رَمَضَانُ شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَوَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ))
إِنَّ مَظَاهِرَ وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَدَّى فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((بُعْدًا لِمَنِ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ)) .
يَقُولُ الْنَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ دُعَاءِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثُمَّ أَمَّنَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى ﷺ.
قَالَ: ((آمِينَ)).
((رَغِمَ أَنْفُهُ)): أَنْ يُلْزَقَ أَنْفُهُ فِي التُّرَابِ، مَذَلَّةً لَهُ، وَهَوَانًا، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ ﷺ فَهُوَ ذَلِيلٌ صَاغِرٌ، ((وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي)) ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، ((وَإِنَّهُمْ -وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ- لَأَحْقَرُ مِنَ الذُّبَابِ)) .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مُخَالِفٍ لِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيهِ مِنَ الْمَذَلَّةِ، وَفِيهِ مِنَ الْهَوَانِ، وَفِيهِ مِنَ الصَّغَارِ عَلَى قَدْرِ مُخَالَفَتِهِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ.
وَمَفْهُومُ هَذَا الْمَنْطُوقِ: أَنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ طَائِعًا لِلرَّسُولِ ﷺ، مُوَافِقًا لِأَمْرِ الرَّسُولِ ﷺ، كَانَ لَهُ مِنَ الْعِزِّ، وَمَنَ العِزَّةِ، وَمَنَ الرِّفْعَةِ، وَمَنَ الْمَكَانَةِ عَلَى قَدْرِ مُوَافَقَتِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمُقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا عَنْ أُمُوْرٍ فِي هَذَا الشَّهْرِ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ إِلَيْهَا، وَأَلَّا نُضَيِّعَهَا، فَالَنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَهَا خَصَائِصُ يَنْبَغِي أَنْ تَحْرِصَ عَلَيْهَا، وَمَا تَزَالُ الْأُمَّةُ ظَاهِرَةً مَا حَرِصَتْ عَلَى خَصَائِصِهَا، وَمَا تَمَسَّكَتْ بِمَظَاهِرِ تِلْكَ الْخَصَائِصِ وَلَمْ تُفَرِّطْ فِيهَا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَا تَزَالُ ظَاهِرَةً: يَعْنِي عَالِيَةً، وَالظُّهُورُ: العُلُوُّ، وَمِنْهُ ظَهْرُ الدَّابَّةِ؛ إِذْ هُوَ مَا يَعْلُوهَا، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ ظَاهِرَةً مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)) .
مَا عَجَّلَتِ الْأُمَّةُ الْفِطْرَ، تَظَلُّ ظَاهِرَةً، عَالِيًا أَمْرُهَا؛ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ أُوْلَئِكَ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ لَا يَفْعَلُونَ؛ كَالرَّوَافِضِ الشِّيعَةِ الْأَنْجَاسِ، الَّذِينَ لَا يُفْطِرُونَ حَتَّى يَرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْكَوْكَبَ وَيُؤَخِّرُونَ، وَمَا كَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ، فَمَا صَلَّى ﷺ الْمَغْرِبَ قَطُّ حَتَّى يُفْطِرَ، ((يُفْطِرُ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى تُمَيْرَاتٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)) .
الْمُهِمُّ أَنَّهُ ﷺ يُعَجِّلُ الْفِطْرَ، ((لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَتِ الْأُمَّةُ الْفِطْرَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ)).
وَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ ((أَنَّ فَارِقَ وَأَنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ.. فَارِقُ وَفَاصِلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا -نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ- وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ)) .
السُّحُورِ فَارِقُ مَا بَيْنَ صِيَامِ الْمُسْلِمِينَ وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَعَل النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي قَدْ تَبْدُو -بَادِيَ الرَّأْيِ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ- يَسِيرَةً، بَلْ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَعُدُّهَا أَمْرًا شَكْلِيًّا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُ عَنْ عِظَمِ الْأَثَرِ الَّذِي يُتَحَصَّلُ فِي الْأُمَّةِ مِنَ الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ، هَذِهِ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي الْمُوَاضَعَاتِ؛ جَعَلَ الْهَيْئَةَ الظَّاهِرَةَ دَائِمًا وَأَبَدًا جَاعِلَةً النَّظِيرَ يَلْتَقِي بِالنَّظِيرِ، وَجَاعِلَةً الشَّبِيهَ يَنْضَمُّ إِلَى الشَّبِيهِ، وَهَذَا مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَرْكُوزًا فِي طَبَائِعِ الْبَشَرِ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ تَنْزِلُ بِهِ الْمُصِيبَةُ الْفَاجِعَةُ الَّتِي لَا يَحْتَمِلُهَا إِنْ أَرَادَ احْتِمَالَهَا وَحْدَهُ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَى مِثْلَ مُصِيبَتِهِ قَدْ أَصَابَ غَيْرَهُ؛ فَإِنَّهُ يَتَسَلَّى بِذَلِكَ.
وَقَدْ عَبَّرَتِ الْخَنْسَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمُنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا بِالْهِدَايَةِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَتَبَدَّلَ الْحَالُ تَمَامًا وَجْهًا لِقَفًا، -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
تَقُولُ وَهِيَ تَبْكِي أَخَاهَا صَخْرًا:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي = عَلَى قَتْلَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ = أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
فَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي يَقَعُ مِنَ الْقَتْلِ بَيْنَ الْبَشَرِ مِمَّا يُصِيبُ الْأَهْلِينَ لِأُوْلَئِكَ الْقَتْلَى مِنْ زَوْجَاتٍ وَأَخَوَاتٍ وَبَنَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ، هَذَا الَّذِي وَقَعَ مُشْتَرَكًا فِي عُمُومِ الْبَشَرِ يَجْعَلُ الْأَمْرَ قَابِلًا لِلِاحْتِمَالِ نَوْعًا مِنَ الْقَبُولِ، فَتَقُولُ:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي = عَلَى قَتْلَاهُمُ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُوْنَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ = أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
فَتَتَأَسَّى بِصَبْرِ الصَّابِرِينَ وَاحْتِمَالِ الْمُحْتَمِلِينَ، وَهَذَا قَالَتْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَبْلَ أَنْ يَمُنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا بِالْهِدَايَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ.
فَلَمَّا هُدِيَتْ وَجَاءَهَا نَعْيُ أَرْبَعَةٍ مِنْ أَبْنَائِهَا قُتِلُوا تَحْسَبُهُمْ شُهَدَاءَ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُجَاهِدِينَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ، وَمِنْ أَجْلِ إِعْزَازِ شَأْنِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِتَبْلِيغِ دِينِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ لِلْعَالَمِينَ فِي الْخَافِقَيْنِ.. لَمَّا أَنْ نُقِلَ إِلَيْهَا ذَلِكَ نَعْيًا، وَنُعِيَ إِلَيْهَا أَبْنَاؤُهَا؛ سُرَّتْ، وَقَالَتْ لِمَنْ أَتَى إِلَيْهَا:
إِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَتَيْتُمْ لِلتَّعْزِيَةِ فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي مَوْضِعٌ وَلَا مَحَلٌّ! وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَتَيْتُمْ لِلتَّهْنِئَةِ؛ فَقَدْ جِئْتُمُ الْمَجِيءَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ!
فَانْظُرْ كَيْفَ تَبَدَّلَ الْحَالُ!
وَتَأَمَّلْ -أَيْضًا- فِي هَذِهِ الْمُشَاكَلَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْخَيْرِ إِذَا كَانُوا عَلَى شَاكِلَةٍ، وَكَانُوا مُقْبِلِينَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِقْبَالًا صَحِيْحًا؛ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْقُلُوبَ مِتَآلِفَةً.
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ عِظَمَ هَذَا الْأَمْرِ فِي دِينِ اللهِ، وَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الظَّاهِرِ يُؤَدِّي إِلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْبَاطِنِ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، فَكَانَ يَقُولُ ﷺ لِأَصْحَابِهِ كُلَّمَا أَمَّهُمْ، وَهَمَّ بِأَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ بِهِمْ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.. كَانَ يَقُولُ ﷺ آمِرًا إِيَّاهُمْ بِالِاسْتِوَاءِ كَالْقِدْحِ فِي الصَّلَاةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوِينَ اسْتِوَاءً يَتَرَاصُّونَ بِهِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ فِي صَلَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَأْمُرُهُمْ بِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ، فَيَقُولُ ﷺ: : «اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) .
وَهِيَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ إِلَى أَنْ يَأْذَنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَرَابِ الْعَالَمِ، كُلَّمَا وَقَفَ إِمَامٌ بَيْنَ يَدَيْ إِخْوَانِهِ -مِمَّنْ يَأْتَمُّ بِهِ فِي الصَّلَاةِ- يَقُولُ لَهُمْ:
((اسْتَوُوا.. وَلَا تَخْتَلِفُوا!))؛ يَعْنِي: لَا تَخْتَلِفُوا اخْتِلَافَ أَبْدَانٍ، فَإِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمُ اخْتِلَافَ أَبْدَانٍ اخْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، بِذَلِكَ أَخْبَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ الصِّيَامَ فِي رَمَضَانَ سِوَاهُ فِي بَقِيَّةِ الْعَامِ؛ لَمَا يَجْعَلُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوَّلًا مِنَ الرَّحْمَةِ فِي الزَّمَانِ -وَهُوَ زَمَانٌ شَرِيفٌ-، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَ الْعَطَاءَ مُضَاعَفًا، وَجَعَلَ فِيهِ خِصَالَ الْخَيْرِ مَبْذُولَةً؛ لِتَحْصِيلِ رِضْوَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَغْفِرَتِهِ.
فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ زَمَانٌ شَرِيفٌ؛ تَجِدُ النَّاسَ في جُمْلَتِهِمْ فِي صِيَامٍ بِإِمْسَاكٍ عَنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَشَهْوَةٍ، وَفِي حِفَاظٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، تَجِدُ هَذَا الْجَوَّ الْعَامَّ مِنْ جَوِّ الْإِيمَانِ دَاعِيًا إِلَى الِالْتِزَامِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَلِيمِ الْعَلَّامِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ.
((مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ:
قِرَاءَةُ وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلُ بِهِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْعِزَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ: قِرَاءَةَ وَتَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلَ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]: وَإِنَّهُ لَفَخَارٌ وَشَرَفٌ، وَسُؤْدَدٌ وَعِزَّةٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هِدَايَةً وَنُورًا.
إِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ، وَيُقَوِّيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ فَالْمُؤْمِنُ بِمُجَرَّدِ مَا يَتْلُو آيَاتِ اللهِ، وَيَعْرِفُ مَا رُكِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْحَسَنَةِ، يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ خَيْرٌ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَحْسَنَ تَأَمُّلَهُ، وَفَهِمَ مَقَاصِدَهُ وَأَسْرَارَهُ؟!!
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَكَانَ ﷺ يُدَارِسُهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ ﷺ فِي مُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَهَذَا مِنْ سُنَّتِهِ ﷺ.
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُدَارِسُهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ إِنَّمَا فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الصِّيَامَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ نَزَّلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
فَجَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ بِصِيَامِهِ مُرَتَّبًا، وَعِلَّةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
فَجَعَلَ الصِّيَامَ مُنَزَّلًا عَلَى تَنَزُّلِ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ الْقُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ، فَالْقُرْآنُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَى فِي رَمَضَانَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ -كَمَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ، وَقِيلَ: فِي رَكْعَةٍ.
وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ مَرَّةً، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ، وَعَنِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ، فَكَانَ يَخْتِمُ فِي النَّهَارِ خَتْمَةً، وَفِي اللَّيْلِ خَتْمَةً، فَيَخْتِمُ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً.
وَهُنَالِكَ أَعْدَادٌ ذُكِرَتْ هِيَ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْمَذْكُورِ، حَتَّى وَصَلَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَىَ ثَمَانِ خَتْمَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي ((التِّبْيَانِ)) .
يَأْتِي الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ)) .
هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا خَتَمَ الرَّجُلُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ هَلْ يَكُونُ مُخَالِفًا؟
اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارُ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا، إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ، أَمَّا فِي الْأَزْمَانِ الْفَاضِلَةِ كَرَمَضَانَ، فَلَا يُعَدُّ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْعَدْنَانِ ﷺ، فَلَوْ خَتَمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ إِذَا وَقَعَتْ دِيمَةً، وَوَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِنَا أَجْمَعِينَ-.
وَكَذَلِكَ إِذَا خَتَمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي الْأَمْكِنَةِ الشَّرِيفَةِ الطَّاهِرَةِ، كَمَنْ كَانَ مِنَ الْآفَاقِيِّينَ، يَنْزِلُ مَكَّةَ -مَثَلًا- وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ السَّفَرِ لَا عَلَى نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُخَالِفًا إِذَا خَتَمَ فِي أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ.
وَإِذَنِ؛ الْمُخَالَفَةُ عِنْدَ الِالْتِزَامِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُدَاوِمًا عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ طُرُوءِ الْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ، أَوْ عِنْدَ حُلُولِ الْأَمْكِنَةِ الْفَاضِلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ فَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ، فَهَذِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ.
كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ﷺ، دَارَسَهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَاضِرَ الْقَلْبِ، وَاعِيَ الْحِسِّ، مُتَيَقِّظَ الضَّمِيرِ، لَا أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَأْتِي بِالْمُخَالَفَاتِ الْجَسِيمَةِ لِدِينِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيُحَارِبُ رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ, وَيَخْرِقُ سِيَاجَ سَنَّةِ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ، هَذَا مَعِيبٌ، وَقَدِيمًا قَالَ الشَّارِحُ فِي ((الْخِزَانَةِ))، وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّاهِدَ ثُمَّ عَكَفَ عَلَيْهِ شَرْحًا:
هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ = وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرِّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيبُ
هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ، وَالْمَرْءُ -يَعْنِي سُرَاقَةَ- عِنْدَ الرِّشَا -يَعْنِي: عِنْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ وَتَعَاطِي الْحَرَامِ- إِنْ يَلْقَهَا - ذِيبُ -أَيْ ذِئْبٌ-.
فَلَا تَكُنْ كَسُرَاقَةَ!
هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ = وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرِّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيبُ
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ فِيكَ الْقُرْآنُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُحَصِّلًا لِثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَهَذَا أَمْرٌ.
((مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ:
ذِكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))
إِنَّ ذِكْرَ اللهِ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالذِّكْرُ سَبَبٌ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوْنِي أَذْكُرْكُمْ}؛ يَعْنِي: اذْكُرُوْنِي بِالطَّاعَةِ أَذْكُرْكُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَمْرًا.. صَحِيحٌ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ أَصَابَهُ -لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ بِهِ دُونَ بَقِيَّةِ أَيَّامِ الْعَامِ- كَانَ حَسَنًا جِدًّا، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ -كَمَا أَخْبَرَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--: ((كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ، قَعَدَ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا)) ؛ أَيْ: طُلُوْعًا حَسَنًا.
فَأَخْبَرَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ظَلَّ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي صَلَّى الصُّبْحَ فِيهِ، يَذْكُرُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ أَخْبَرَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مِنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَ لَهُ أَجْرُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)) .
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عَظِيمِ هَذَا الْفَضْلِ الْكَبِيرِ وَالْأَجْرِ الْجَزِيلِ مَعَ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِي يَبْدُو أَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ، وَلَكِنْ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَجْرَ الْكَبِيرَ، وَلَا يُطِيقُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؟!!
وَالْمِثَالُ الْمَضْرُوبُ: هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لِمَّا شَكَا لَهُ الْفُقَرَاءُ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يُصَلُّونَ كَمَا يُصَلِّي الْفُقَرَاءُ، وَأَنَّهُمْ يَصُومُونَ كَمَا يَصُومُ الفُقَرَاءُ، وَلَكِنْ لَهُمْ فَضْلُ مَالٍ يَحُجُّونَ مِنْهُ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيُجَهِّزُونَ الْغُزَاةَ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَفْعَلُونَ الْخَيْرِ.
قَالُوا: يَفْعَلُونَ مِنَ الْخَيْرِ مَا نَفْعَلُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ -أَيْ زِيَادَةُ مَالٍ- آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِيَّاهُ، يَفْعَلُونَ بِهِ مَا لَا نَفْعَلُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا إِنْ عَمِلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يَلْحَقْ بِكُمْ مَنْ خَلْفَكُمْ، أَلَا أَدُلُّكُمْ؟)).
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ: ((تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ))؛ أَيْ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلٍّ، وَالتَّنْوِينُ فِي ((كُلٍّ)) عِوَضٌ عَنِ الْجُمْلَةِ مِنْ كُلٍّ؛ يَعْنِي مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ أَدْرَكْتُمْ -لَحِقْتُمْ- مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَمْ يَلْحَقْكُمْ مَنْ خَلْفَكُمْ.
فَذَهَبُوا بِهَا، تَكَادُ الْقُلُوبُ تَطِيرُ مِنَ الْحُبُورِ وَالسُّرُورِ وَالْفَرَحِ طَيَرَانًا!
وَلَكِنْ.. وَاأَسَفَاهُ!
سَمِعَ أَهْلُ الدُّثُورِ -أَهْلُ الْمَالِ، أَهْلُ الْغِنَى- بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِلْفُقَرَاءِ فَعْمِلُوهُ.
فَجَاءَ الْفُقَرَاءُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الدُّثُورِ -أَيْ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى، وَالِامْتِلَاكِ، وَالْمَالِ- سَمِعُوا مَا قُلْتَ لَنَا، فَهُمْ يَقُولُونَهُ.
قَالَ: ((وَمَا أَصْنَعُ؟ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)) .
لَهَا وَجْهٌ آخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى بِهِ؛ تَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ فِي أَصْلِهَا، حَتَّى لَا يَفْزَعَ فَقِيرٌ، وَلَا يُحْبَطَ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَحَتَّى لَا يَحْزَنَ مُقِلٌّ، وَإِنَّمَا لَهَا مَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ الْآنَ بِمَقَامٍ، الْمُهِمُّ أَنَّكَ تَجِدُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَبْدُو يَسِيرًا جِدًّا.
مَاذَا فِي أَنْ تَصْبِرَ دَقَائِقَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْكَ اللهُ؛ لِتُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؟!!
قَلِيلٌ جِدًّا مَنْ يَأْتِي بِهَذَا، وَهُوَ -كَمَا تَرَى- مِنْ أَيْسَرِ مَا يَكُونُ ظَاهِرًا، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَعْسَرِ مَا يَكُونُ حَقِيقَةً عِنْدَ فُقْدَانِ التَّوْفِيقِ، فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا الْمُوَفَّقُ.
فَدَلَّنَا الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، فَإِذَا صَلَّيْتَ الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، فَظَلِلْتَ فِي الْمُصَلَّى الَّذِي صَلَّيْتَ فِيهِ، تَذْكُرُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ تَسْتَقِلَّ طَالِعَةً؛ يَعْنِي عِنْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ -بَعْدَ الشُّرُوقِ بِحَوَالَيْ ثُلُثِ سَاعَةٍ-، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْإِشْرَاقِ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ .
مَا الَّذِي يَتَحَصَّلُ الْآتِي بِهَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ؟!!
مَا الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ الْآتِي بِهَا؟!!
يَتَحَصَّلُ عَلَى أَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، وَلَا تَسْتَكْثِرْ هَذَا فَرَبُّكَ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَأَيْضًا إِنَّمَا يَكُونُ الْعَطَاءُ عَلَى قَدْرِ مَا فِي الْقُلُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إِنَّمَا يَتَفَاوَتُ عَلَى مَا تَشَابَهَ وَتَمَاثَلَ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَادَاتِ عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، وَإِنَّ الرَّجُلَيْنِ يَقُومَانِ فِي الصَّلَاةِ، يُصَلِّيَانِ خَلْفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، يُكَبِّرَانِ تَحْرِيمًا بِتَكْبِيرِهِ، وَيُسَلِّمَانِ تَحْلِيلًا بِتَسْلِيمِهِ، وَيَرْكَعَانِ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدَانِ بِسُجُودِهِ، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بَلْ قُلْ -إِنَ شِئْتَ صَادِقًا، غَيْرَ مُكَذَّبٍ-: كَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.. وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، لَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا بَلْ كَمَا بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَهُمَا يَأْتِيَانِ بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَاحِدًا مُتَمَاثِلًا.
وَلَكِنَّ حَقَائِقَ الْأَعْمَالِ تَتَفَاضَلُ -عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- بِهَا الْأُجُورُ عَطَاءً وَمَنْعًا عَلَى حَسَبِ تَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ، فَبَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ، فَاحْرِصْ عَلَيْهِ.
((الِاجْتِهَادُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ فِي رَمَضَانَ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ هَذَا الزَّمَانَ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ زَمَانَ عَطَاءٍ وَفَضْلٍ وَبَرَكَةٍ، وَيَكْفِي أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اخْتَارَهُ لِيَجْعَلَهُ مَحَلًّا زَمَانِيًّا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.
فَأَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا -أَوْ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لَا بَأْسَ- أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ جُمْلَةً، ثُمَّ ابْتَدَأَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْيًا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
فَأَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ -وَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ- الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَنَزَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَأَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ -كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ- لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا مِنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ .
فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ فِي رَمَضَانَ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))، ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
قَالَ ذَلِكَ رَسُولُنَا ﷺ .
فَتَأْتِي بِالشَّرْطَيْنِ:
إِيمَانًا بِالَّذِي فَرَضَ، وَبِالَّذِي بَلَّغَ، وَبِالْقُرْآنِ الَّذِي فِيهِ الْبَلَاغُ، وَبِمَوْعُودِ رَبِّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلطَّائِعِينَ، وبِوَعِيدِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- لِلْعَاصِينَ؛ فَتُحَرِّرُ الْقَلْبَ مِنْ شِرْكِهِ، وَتُطَهِّرُ الرُّوحَ مِنْ دَنَسِهَا، وَتُصَفِّي الضَّمِيرَ مِنْ شَوَائِبِهِ؛ فَهَذَا مَا لِأَجْلِهِ فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ الصِّيَامَ؛ فَرَضَهُ لِتُحَصِّلَ التَّقْوَى، وَهَلْ تَكُونُ شَيْئًا سِوَى هَذَا؟!!
أَنْ تُهَذِّبَ الضَّمِيرَ، وَأَنْ تُنْقِّيَ الْخُلُقَ، وَأَنْ تُصَفِّيَ الِاعْتِقَادَ مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ الَّتِي عَلِقَتْ بِهِ؛ مِنْ مَوْرُوثَاتِ الْقَوْمِ، وَمَنْ عَلَائِمِهِمْ، وَمِنْ تَضْلِيلِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ لِخَلْقِ اللهِ مِنَ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَكُونُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَلِكُوا أَدَاةَ الْعِلْمِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَرِّرُوا الصَّحِيحَ مِنَ الدَّخِيلِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَرِّرُوا الصُّرَاحَ مَنَ الزَّيْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ الْمَرْءُ قَلْبَهُ وَاعْتِقَادَهُ، فَهَذَا أَهُمُّ شَيْءٍ: ((إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا)).َ
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ ذَاكَ مُؤَدِّيًا لِذَلِكَ!
وَهُوَ تَحْصِيلُ حَقِيقَةِ التَّقْوَى -كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- صِيَامٌ وَقِيَامٌ، تُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ حَتَّىَ يَنْصَرِفَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عِنَدَمَا خَرَجَ فِي لَيْلَةٍ لِسَابِعَةٍ تَبْقَى، فَصَلَّى بِمَنْ كَانَ هُنَالِكَ مِنْ إِخْوَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَجْمَعِينَ، حَتَّى مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ لَسَّادِسَةٍ تَبْقَى، ثُمَّ خَرَجَ ﷺ فَصَلَّى بِهِمْ، فَمَدَّ الصَّلَاةَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ.
فَقَالُوا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا!
فَقَالَ ﷺ: ((مِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)) .
فَمَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَتِهِ، لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَحْدَهُ، وَانْصَرَفَ عَنِ الْإِمَامِ لِيُصَلِّيَ وَحْدَهُ، أَوْ لِيُصَلِّيَ مَعَ غَيْرِ إِمَامٍ، فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- لَا يَكُونُ مُتَحَصِّلًا عَلَى وَعْدِ النَّبِيِّ الْهُمَامِ ﷺ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى أَخْبَرَ أَنَّكَ لَوْ صَلَّيْتَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَكَ قِيَامُ لَيْلِكَ.
هَذَا كَلَامُهُ، لَا يُنْقَضُ ﷺ، وَلَا يُنْسَخُ.
هَذَا حُكْمٌ كَمَا تَرَى بَيَّنَهُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)).
هَذَا وَعْدٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، إِنَّ كُنْتَ أَنْتَ لِلَّهِ قَائِمًا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَجْزِمَ أَنَّكَ قَدْ قُمْتَ اللَّيْلَةَ -وَإِنْ قُمْتَهَا-، لِمَاذَا؟
لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَكَ النَّبِيُّ ﷺ.
نَرْفُقُ.. نَتَلَطَّفُ.. لَا نُضَيِّعُ الْخَيْرَ.. وَلَا نَأْخُذُ بِالْأَعَنَتِ الْأَعَنَتِ، وَالْأَشَقِّ الْأَشَقِّ!
وَإِنَّمَا نَجْتَهِدُ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَسُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ تُرِيحُ الْقُلُوبَ، وَتُطَمْئِنُ الْخَوَاطِرَ، وَتُزَيلُ الْبَلَابِلَ الَّتِي تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ، فَتَجْعَلُهُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ عَلَى قَرَارٍ.
سَنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ آتِيَةٌ بِالِاطْمِئْنَانِ، بِالسَّكِينَةِ، بِالْوَقَارِ، بِالِاسْتِقْرَارِ، وَأَمَّا إِذَا خُولِفَتْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ نَقِيضُ هَذِهِ الْأُمُورِ.
فَنَجْتَهِدُ فِي هَذَا، فِي تَحْصِيلِ مَا دَلَّنَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، نَجْتَهِدُ فِي أَنْ نُعَجِّلَ الْفِطْرَ، وَأَنْ نُؤَخِّرَ السُّحُورَ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ نُهْمِلَهُ أَصْلًا: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً)). هَذَا كَلَامُهُ ﷺ .
وَقَالَ لِلْعِرْبَاضِ -وَقَدْ جَلَسَ يَتَسَحَّرُ ﷺ-: ((هَلُمَّ إِلَى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ)) ؛ هِيَ أَكْلَةُ بَرَكَةٍ.
وَذَكَرَ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي ثَلَاثَةٍ))، ذَكَرَ مِنْهَا: ((السَّحُورَ ﷺ )) .
وَأَخْبَرَ عَنِ الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ ((أَنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ)) .
نَجْتَهِدُ فِي ضَبْطِ اللِّسَانِ فِي الْبُعْدِ عَنِ الصَّخَبِ، وَعَنِ الرَّفَثِ، وَالْبُعْدِ عَنِ اللَّغْوِ، وَالْأَخْذِ بِالذِّكْرِ، وَأَلَّا نَجْهَلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَنَجْتَهِدُ فِي ضَبْطِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّدِيدَ لَيْسَ بِالَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ، ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ -يَعْنِي الَّذِي يَصْرَعُ مِنْ صَارَعَهُ، وَيَغْلِبُ مَنْ غَالَبَهُ-؛ وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ)) ، حَتَّى يَكُونَ زِمَامُ النَّفْسِ بِيَدِ الْمَرْءِ الْمُؤْمِنِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، حَتَّى لَا تَكُونَ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ فِي كُلِّ حِينٍ، مُطَاعَةً فِي كُلِّ حَالٍ.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دِينِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تَعَلُّمًا، فَإِنَّ الْجَاهِلَ لَا خَيْرَ فِيهِ، الْجَاهِلُ لَا خَيْرَ فِيهِ.
يَتَعَلَّمُ الْمَرْءُ أُصُولَ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَتَعَلَّمُ الْعَقِيدَةَ، وَيَصْبِرُ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَصْبِرْ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، صَبَرَ عَلَى ذُلِّ الْجَهْلِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ، ((مَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذُلِّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً، صَبَرَ عَلَى ذُلِّ الْجَهْلِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ)) .
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى التَّعَلُّمِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ ذَكَرٌ، وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْعِلْمَ إِلَّا ذُكْرَانُ الرِّجَالِ، مُخَنَّثُو الرِّجَالِ لَا يُحِبُّونَ الْعِلْمَ.
أَمَّا ذُكْرَانُ الرِّجَالِ فَهُمْ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْعِلْمَ، يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، يُحَوِّلُونَهُ إِلَى عَمَلٍ، إِلَى سُلُوكٍ وَمَنْهَجٍ، إِلَى دَعْوَةٍ لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى فِيهِ، كَمَا بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي بَيَانِ الْمُفْلِحِينَ بِصِفَاتِهِمْ وَبَيَانِ أَحْوَالِهِمْ:
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا، وَعَرَفُوا الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: وَهُمُ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْعِلْمِ الَّذِي تَعَلَّمُوهُ بِدَلِيلِهِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَمِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا: عَرَفُوا الْحَقَّ، وَعَلِمُوهُ بِدَلِيلِهِ.
{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: عَمِلُوا بِهِ.
{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: دَعَوْا إِلَيْهِ.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: صَبَرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
لِأَنَّ كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذَى، كُلُّ آمِرٍ بِالْمَعْرُوفِ، نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ الْأَذَى مِنْ أَصْحَابِ الْمَلَذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ مِنْ الْمُنْفَلِتِينَ بِأَزِمَّةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ عِقَالِهَا، يَخْبِطُونَ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ فِي الدَّيَاجِيرِ الْمُظْلِمَةِ، وَهُمْ لَا يُحِبُّونَ مَنْ يَأْتِي بِبَصِيصٍ مِنْ ضِيَاءٍ، وَلَا مَنْ يُشْعِلُ شَمْعَةً -وَلَوْ وَاحِدَةً- تَعْصِفُ بِهَا الرِّيَاحُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فِي دَيْجُورٍ مُظْلِمٍ، بَهِيمٍ بِلَيْلِهِ، حَالِكَاتٌ سَوَادُهُ، إِذَا أَخْرَجَ الْمَرْءُ كَفَّهُ فِيهِ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَ!
لَا يُحِبُّونَ!
وَحِينَئِذٍ يَأْتِي مِنْهُمُ الْأَذَى، وَهَذِهِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ بِسَبِيلِهِا، وَصِفَتِهَا، وَشِيَتِهَا، وَحِلْيَتِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الْأَذَى فِيهِ مِنَ الْمُبْطِلِينَ، وَالْمُكَذِّبِينَ، وَأَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ أَجْمَعِينَ.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ دِيَنَ اللهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى رَأْسِ الطَّرِيقِ، وَأَنَّهُ مَا دَامَ هَاهُنَا وَلَمْ تُقْبَضْ رُوحُهُ بَعْدُ، فَهُوَ مُقَارِبُ الْخُطَى.
فَلْيُقَارِبْ خَطْوَهُ!
وَلْيُسَدِّدْ نَهْجَهُ!
وَلْيَتَّبِعْ نَبِيَّهُ!
وَلْيُفَارِقْ لَذَّةَ جَسَدِهِ وَشَهْوَةَ قَلْبِهِ!
وَلْيُقِمْ عَلَى الدَّرْبِ قَدَمَهُ!
وَلْيَتْبَعْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ رَسُوْلَهُ ﷺ!
وَمَا أَحْوَجَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَتَى بِالْبَيِّنَاتِ السَّاطِعَاتِ، وَتَرَكَنَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، لِمَاذَا؟
لِأَنَّهَا مَحَجَّةٌ، فَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ، لَوْ أَغْمَضْتَ عَيْنَيْكَ لَسِرْتَ فِيهَا مَا دُمْتَ مُسْتَقِيمًا مُسَدَّدًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ مُنِيرَةٌ، وَلَيْسَتْ مُنِيرَةً فِي ظُلُمَاتِ لَيْلٍ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هِيَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا -حِينَئِذٍ -لِاسْتِقَامَتِهَا وَتَمَامِ النُّورِ فِيهَا، وَإِحَاطَةِ الْإِضَاءَةِ فِي سَبِيلِهَا- إِلَّا هَالِكٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ : ((وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هَالِكٌ)) ؛ لِأَنَّ خِصَالَ الْخَيْرِ، وَأَسْبَابَ الْمَغْفِرَةِ، لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَدُونَكَ الطَّرِيقَ، وَالنَّفَسُ فِيكَ يَتَرَدَّدُ، وَلَمْ تَبْلُغِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، وَإِلَّا فَإِنْ بَلَغَتْ انْقَطَعَتِ التَّوْبَةُ بِحَقِّ الْأَبْعَدِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ مِنْ صَدَقَةٍ يَقُولُ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ.
فَمَا زِلْتَ -وَالنَّفَسُ فِيكَ يَتَرَدَّدُ، وَالْعَطَاءُ إِلَيْكَ يَتَجَدَّدُ، وَدِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَخْلُقْ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، بَلْ هُوَ وَاضِحٌ، لَمْ تَنْدَرِسْ مَعَالِمُهُ لِمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّمًا بِإِخْلَاصٍ، يُحَاوِلُ أَنْ يَتَلَمَّسَ الطَّرِيقَ إِلَى رِضْوَانِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الزَّمَانَ الَّذِي شَرَّفَهُ بِالْقُرْآنِ.. أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ عَمَلًا صَالِحًا مُتَقَبَّلًا.
اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ، اللَّهُمَّ أَعْتِقْ رِقَابَنَا مِنَ النَّارِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ