النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ ﷺ فِي بَيْتِهِ وَحَيَاتِهِ

النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ ﷺ فِي بَيْتِهِ وَحَيَاتِهِ

((النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ ﷺ فِي بَيْتِهِ وَحَيَاتِهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الِاقْتِدَاءُ بِالْمَعْصُومِ ﷺ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ))

فَمِنْ مَظَاهِرِ حُبِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ، وَعِنَايَتِهِ -تَعَالَى- بِهِ، وَرِعَايَتِهِ -تَعَالَى- لَهُ ﷺ: كَمَالُهُ وَعِصْمَتُهُ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- فِي أَقْوَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ تَتَأَسُّونَ بِهَا؛ فَالْزَمُوا سُنَّتَهُ، فَإِنَّمَا يَسْلُكُهَا وَيَتَأَسَّى بِهَا مَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَاسْتِغْفَارِهِ وَشُكْرِهِ فِي كُلِّ حَالٍ)).

جَعَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- الرَّسُولَ ﷺ أُسْوَةً حَسَنَةً لَنَا، نَقْتَدِي بِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلِذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَعْصُومٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ مُوَافِقٌ لِلصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، يَرْضَى عَنْهُ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُكَافِئُ عَلَيْهِ خَيْرًا؛ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاتِّبَاعِ مَنْ يَزِلُّ أَوْ يُخْطِئُ، وَاللهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؟!

قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

وَبِالْقَطْعِ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ مَعْصُومًا؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ الْمُطْلَقِ، فَلَوْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ -وَحَاشَا للهِ- بَدَرَ مِنْهُ أَيُّ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ -وَحَاشَا للهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبَدًا-، وَاتَّبَعَهُ أَحَدٌ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَلَنْ يَخْرُجَ أَمْرُ الْمُتَّبِعِ مِنْ حَالَيْنِ:

إِمَّا أَنْ يَحْمِلَ وِزْرًا، وَهَذَا يُنَافِي كَمَالَ عَدْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ إِذْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يُعَاقِبُ عَلَى اتِّبَاعِهِ؟!!

وَإِمَّا أَنْ يُثَابَ، وَهَذَا يُنَافِي بَالِغَ حِكْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ ﷺ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ثَبَتَتْ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَثْبُتُ لَهُ الْكَمَالُ الْبَشَرِيُّ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ؛ فَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى عِصْمَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وهَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بِالِائْتِسَاءِ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ ﷺ فِي أُمُورِهِ جَمِيعِهَا فِيهَا مِنَ الْفَوِائِدِ الْكَثِيرُ، وَمِنْ ذَلِكَ:

تَزْكِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ بَالِغَ التَّزْكِيَةِ، وَذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ:

إِثْبَاتُ أَنَّ كُلَّ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فِي الْجِدِّ وَالضَّحِكِ، فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، فِي النَّوْمِ وَالْيَقَظَةِ، فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فِي الْحَلِّ وَالتَّرْحَالِ لَنَا فِيهِ قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ ﷺ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُحَدِّدْ مَجَالَ الْأُسْوَةِ، يَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فَجَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَكَذَا مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَقُلْ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي عِبَادَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ أُسْوَةٌ حَسَنةٌ، وَلَكِنْ جَعَلَتِ الْآيَةُ الْأُسْوَةَ فِي كُلِّ شَخْصِهِ الْكَرِيمِ ﷺ؛ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ حَتَّى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ، مِنْ أَوَّلِ حَيَاتِهِ حَتَّى مَمَاتِهِ ﷺ، فِي كُلِّ مَا تَفَوَّهَ بِهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ ﷺ؛ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ بِكُلِّ مَا فِيهِ أُسْوَةٌ ﷺ.

وَافْتَتَحَتِ الْآيَةُ الْكَلَامَ بِمُؤَكِّدٍ؛ وَهُوَ قَوْلُ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَقَدْ}، وَهِيَ تُفِيدُ التَّحَقُّقَ، وَأَيْضًا أَتَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْفِعْلِ (كَانَ) الَّذِي أَفَادَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمُضِيِّ ثُبُوتَ الْأَمْرِ فِي ذَاتِهِ؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ﷺ.

وَزَكَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَبْلَغَ التَّزْكِيَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ بِأَنْ جَعَلَتِ الْآيَةُ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ مُوَافِقًا لِلصَّوَابِ؛ بَلْ نَزَّهَتْ كُلَّ تِلْكَ الْأَفْعَالِ عَنِ الْخَلَلِ؛ حَيْثُ وَصَفَ اللهُ الْأُسْوَةَ بِأَنَّهَا حَسَنَةٌ، فَقَالَ رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

وَحَاشَا للهِ! أَنْ يَصِفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا فِيهِ أَدْنَى أَدْنَى خَلَلٍ بِأَنَّهُ حَسَنٌ، وَأَنْ يَصِفَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْحُسْنِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَلَلِ -وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا-؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ وَقَالَهُ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْأَصْوَبِ، لَا لِلصَّوَابِ وَحْدَهُ، ثُمَّ كُلُّ مَا جَاءَ عَنْهُ ﷺ مِنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ هُوَ مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ عَنِ الْخَلَلِ.

وَأَيْضًا يَتَفَرَّعُ عَلَى كُلِّ مَا سَبَقَ أَنَّ كُلَّ أَفْعَالِ الرَّسُولِ ﷺ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَصَبَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا أُسْوَةً حَسَنَةً، فَكُلُّ مَا أَتَى مِنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

وَذَكَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ فِي النَّبِيِّ ﷺ أُسْوَةً حَسَنَةً لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأُسْوَةُ لِأَيِّ أَحَدٍ، فَهَذَا أَبْلَغُ تَزْكِيَةٍ لِصَاحِبِ الْأُسْوَةِ؛ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَهُ مَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَانَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ عَلَى ذُكْرٍ فَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي الْآيَةِ أَيْضًا-: التَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ لِمَنْ يَطْعَنُ فِي أَيِّ شَيْءٍ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، أَوْ يَطْعَنُ فِي شَيْءٍ يَخُصُّ عَادَاتِهِ أَوْ عِبَادَاتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحْوَالِهِ ﷺ مُزَكَّاةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَمَنْ طَعَنَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ رَدَّ تَزْكِيَةَ اللهِ، أَوِ ادَّعَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ زَكَّى مَنْ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، أَوْ أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّ الطَّعْنَ مِنْ أَفْعَالِهِ، وَتَنَزَّهَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

إِذَنْ؛ فَفِي الْآيَةِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يَطْعَنُ فِي أَيِّ شَيْءٍ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ؛ قَوْلِيَّةً، أَوْ فِعْلِيَّةً، أَوْ ثُبُوتِيَّةً، أَوْ يَطْعَنُ فِي شَيْءٍ يَخُصُّ عَادَاتِهِ أَوْ عِبَادَاتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحْوَالِ الرَّسُولِ ﷺ مُزَكَّاةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْتَبِهَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ سُنَّةِ خَيْرِ الْأَنَامِ ﷺ، وَيُخْشَى عَلَى مَنْ يَتَعَرَّضُ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَدْنَى أَدْنَى لَمْزٍ أَوْ غَمْزٍ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ مَنْهَجَ حَيَاةٍ، أَوْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِعَدَمِ مُلَاءَمَتِهَا لِظُرُوفِ الْعَصْرِ، أَوْ أَنَّهَا قَاصِرَةٌ عَنْ فَهْمِ الْوَاقِعِ؛ نَخْشَى عَلَيْهِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ -أَيْضًا-: أَنَّ فِي الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسُولَ ﷺ فِي عَادَاتِهِ، وَاسْتَحْضَرَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ هَذَا؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي يَقْتَدِي فِيهِ بِالرَّسُولِ ﷺ مِنَ الْعَادَاتِ لَا مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الْعَادَاتِ بِالنِّيَّةِ الْحَسَنَةِ تَصِيرُ عِبَادَاتٍ، وَيَتَحَصَّلُ الْآتِي بِهَا عَلَى ثَوَابِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعِ لِلرَّسُولِ ﷺ طَالَمَا اسْتَحْضَرَ نِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَيُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ هَذَا؛ حَيْثُ إِنَّ الْآيَةَ حَثَّتْ عَلَى مُطْلَقِ الِاتِّبَاعِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَيِّدِ الْأُسْوَةَ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْعَادَاتِ، وَكُلُّ مَا حَثَّ اللهُ عِبَادَهُ عَلَى فِعْلِهِ فَلَهُمْ فِيهِ الْأَجْرُ وَالْمَثُوبَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ بِإِطْلَاقٍ، وَلَمْ يُحَدِّدْ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَجَالًا مِنَ الْمَجَالَاتِ الَّتِي يُتَأَسَّى فِيهَا بِالرَّسُولِ ﷺ، ثُمَّ يَقْصُرُ الْأُسْوَةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا أُسْوَةً حَسَنَةً مُطْلَقَةً؛ وَعَلَيْهِ فَفِي مَجَالِ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ مُتَّسَعٌ لِمَنْ أَرَادَ اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْفَهْمِ: أَنَّ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- اقْتَفَوْا أَثَرَ النَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ شَيْءٍ دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ عَادَةٍ وَعِبَادَةٍ، وَلَمْ يَتَمَحَّكُوا كَمَا تَمَحَّكَ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَفَصَلُوا بَيْنَ مَا كَانَ مِنْ عَادَاتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عِبَادَاتِهِ، وَإِنَّمَا تَأَسَّوْا بِالرَّسُولِ ﷺ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

أَلَمْ تَرَ إِلَى أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَيْفَ أَحَبَّ الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَكَانَ أَنَسٌ قَبْلَ ذَلِكَ يَبْغَضُهُ وَيَكْرَهُهُ؟! أَيْ: يَبْغَضُ ذَلِكَ الدُّبَّاءَ، وَيَكْرَهُهُ كُرْهًا شَدِيدًا، ((فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ ﷺ يُحِبُّهُ وَيَتَتَبَّعُهُ فِي جَوَانِبِ الصَّحْفَةِ قَالَ: فَلَمْ أزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ)).

فَللهِ دَرُّهُ مِنْ إِمَامٍ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ!

اقْتَفَوْا أَثَرَ النَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ شَيْءٍ دُونَ تَفْرِيقٍ بَيْنَ عَادَةٍ وَعِبَادَةٍ -فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: أَنَّهُ يَقْوَى الِاتِّبَاعُ وَيَضْعُفُ بِقُوَّةِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقِلَّتِهِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي الْيَقِينِ فَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ بِالِاتِّبَاعِ سَيَزِيدُ الْيَقِينُ عِنْدَهُ، فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَةٌ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}.

فَمَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ الْيَقِينُ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وعلى أَنَّهُ مُلَاقِيهِ، وَذَكَرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا؛ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ ذَلِكَ يَأْتِي الِاتِّبَاعُ بِقُوَّةٍ مُنَاسِبَةٍ لِقُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِذَا قَلَّ الْيَقِينُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَقَلَّ ذِكْرُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ يَتَخَلَّفُ.

وَإِذَنْ؛ فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ مُتَلَازِمَةٌ؛ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ جِهَةٍ، وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

((هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي أَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ)).

((النَّبِيُّ ﷺ الْقُدْوَةُ فِي الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ))

إِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ حُبِّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ، وَعِنَايَتِهِ -تَعَالَى- بِهِ، وَرِعَايَتِهِ -تَعَالَى- لَهُ ﷺ: أَنْ أَثْنَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِصِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، وَوَصَفَهُ بِوَصْفَيْنِ جَلِيلَيْنِ، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

((لَقَدْ جَاءَكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- رَسُولٌ مِنْ قَوْمِكُمْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَا تَلْقَوْنَ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْعَنَتِ، حَرِيصٌ عَلَى إِيمَانِكُمْ وَصَلَاحِ شَأْنِكُمْ، وَهُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ كَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ)).

وَهَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعُهَا كُلُّهَا تَزْكِيَةٌ بَلِيغَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَفِيهَا هَذَا الْوَصْفُ الَّذِي وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ، وَفِيهَا هَذَا النَّعْتُ الْجَلِيلُ الَّذِي نَعَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ.

وَمِنْ مَظَاهِرِ الثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَيَانُ أَنَّ إِرْسَالَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى النَّاسِ هُوَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ إِنَّهُ ﷺ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَيَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِمْ.

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((يَمْتَنُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعَثَ فِيهِمُ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يَعْرِفُونَ حَالَهُ، وَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْأَخْذِ عَنْهُ ﷺ )).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (({مِنْ أَنْفُسِكُمْ}: هَذَا يَقْتَضِي مَدْحًا لِنَسَبِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ وَخَالِصِهَا ﷺ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﷺ ))؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ ﷺ مِنْ خِيَارِ مَعْدِنِهِمْ، فَهُوَ خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ مِنْ خِيَارٍ ﷺ.

وَفِي الْآيَةِ -أَيْضًا- مِنَ الثَّنَاءِ الْجَلِيلِ عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ: شَفَقَةُ النَّبِيِّ ﷺ الْبَالِغَةُ بِأُمَّتِهِ؛ حَيْثُ أَوْضَحَتِ الْآيَةُ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ ﷺ كُلُّ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى أُمَّتِهِ، أَوْ يُسَبِّبُ لَهَا الْحَرَجَ، وَهُوَ الْعَنَتُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى عَظِيمِ حُبِّهِ ﷺ لِأُمَّتِهِ.

وَكَذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ حِرْصِهِ عَلَى عَدَمِ إِعْنَاتِ الْأُمَّةِ: أَنَّهُ ﷺ رَاجَعَ رَبَّهُ التَّخْفِيفَ فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ حَتَّى أَصْبَحَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ مِنْ أَصْلِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.

وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ -أَيْضًا-: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ أَيُّ أَمْرٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ أَوْ عَنَتٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا كَانَ لِيَشْرَعَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَشُقُّ عَلَى نَبِيِّهِ وَخَلِيلِهِ ﷺ، وَلَوْ حَدَثَ أَنْ شَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهَا؛ لَطَلَبَ النَّبِيُّ ﷺ التَّخْفِيفَ مِنْ رَبِّهِ كَمَا حَدَثَ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ.

وَفِي الْآيَةِ -أَيْضًا- مِنْ مَظَاهِرِ الثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: حِرْصُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى إِيصَالِ كُلِّ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إِلَى أُمَّتِهِ، وَدَفْعِ كُلِّ أَنْوَاعِ الشَّرِّ عَنْهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ دَأْبُ الْحَرِيصِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ: حَرِيصٌ عَلَى دُخُولِكُمُ الْجَنَّةَ، وَنَجَاتِكُمْ مِنَ النَّارِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا كَمَالُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَكُنْ لِيُزَكِّيَهُ فِي حِرْصِهِ عَلَى أُمَّتِهِ دُونَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ ﷺ بِدَعْوَتِهِمْ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْفَى عَنَّا شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ، أَوْ أَنَّ خَيْرًا لَمْ يَدُلَّنَا عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ شَرًّا لَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ؛ فَقَدْ كَذَّبَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ.

وَفِي الْآيَةِ -أَيْضًا- مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا هُوَ أَعْظَمُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ؛ حَيْثُ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ﷺ بِوَصْفَيْنِ عَظِيمَيْنِ، وَهُمَا: ((رَؤُوفٌ رَحِيمٌ))، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ مِنْ ثَنَاءٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ إِلَّا هَذَا الثَّنَاءُ لَكَفَى.

نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ فِي ((تَفْسِيرِهِ)) عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفُضَيْلِ قَوْلَهُ: ((لَمْ يَجْمَعِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ (رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) إِلَّا لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَالَ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وَقَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ})).

فَجَمَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَنَعَتَهُ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الْجَلِيلَتَيْنِ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاصِفًا ذَاتَهُ الْمُقَدَّسَةَ: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.

قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((تَفْسِيرِهِ)): ((أَيْ: هُوَ ﷺ شَدِيدُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ، أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ وَالِدِيهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ حَقُّهُ مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ حُقُوقِ الْخَلْقِ، وَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَتَعْظِيمُهُ، وَتَعْزِيرُهُ، وَتَوْقِيرُهُ ﷺ )).

النَّبِيُّ ﷺ وَصَفَهُ اللهُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ؛ فَهُوَ ﷺ {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.

((نَمَاذِجُ عَمَلِيَّةٌ مِنْ رَأْفَةِ وَرَحْمَةِ الرَّسُولِ ﷺ ))

مِنْ آثَارِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ﷺ: مَا كَانَ مِنْ سَائِرِ مَوَاقِفِهِ ﷺ، وَمَا كَانَ مِنْ طَرِيقَةِ تَعْلِيمِهِ ﷺ؛ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ..))، وَالْغُلَامُ: هُوَ الصَّبِيُّ مِنْ حِينَ يُولَدُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ، كُلُّ مَا دُونَ الْبُلُوغِ فَهُوَ غُلَامٌ، يُقَالُ لِلصَّبِيِّ مِنْ حِينَ يُولَدُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْحُلُمَ: غُلَامٌ، فَقَالَ: ((كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ ))؛ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ أَنْ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَكَانَ وَلَدُهَا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَعْنِي: فِي تَرْبِيَتِهِ، وَتَحْتَ عَيْنِهِ وَتَحْتَ نَظَرِهِ، -بِفَتْحِ الْحَاءِ- فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قَالَ: ((وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ))، تَطِيشُ: تَتَحَرَّكُ وَتَمْتَدُّ بِغَيْرِ هُدًى إِلَى نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، وَالصَّحْفَةُ: هِيَ مَا تُشْبِعُ خَمْسَةً، وَنَحْوُهَا، وَهِيَ أَكْبَرُ مِنَ الْقَصْعَةِ.

كَانَ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فِي كَفَالَتِهِ، وَتَحْتَ عِنَايَتِهِ وَفِي رِعَايَتِهِ، وَكَانَ يَجْلِسُ يَأْكُلُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَعَهُ.

قَالَ: ((وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: ((يَا غُلَامُ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي دَعْوَتِهِ لِلْيَتِيمِ الَّذِي كَانَ فِي تَرْبِيَتِهِ وَتَحْتَ نَظَرِهِ كَانَ فِيهِ هَذَا الرِّفْقُ، وَكَانَ آخِذًا بِهَذَا الرِّفْقِ فِي تَعْلِيمِهِ، وَفِي تَأْدِيبِهِ، وَفِي رِعَايَتِهِ، وَفِي تَرْبِيَتِهِ، وَقَدْ أَثْمَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الثَّمَرَةَ الْمَرْجُوَّةَ مِنْ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ ، وَصَحَّحَهَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)): أَنَّهُ ﷺ قَالَ لَهُ: ((ادْنُ مِنِّي؛ فَسَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

((ادْنُ مِنِّي)): اقْتَرِبْ مِنِّي، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: ((سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ تَفَضَّلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بِإِدْنَائِهِ مِنْ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، ثُمَّ خَاطَبَهُ فِي رِوَايَةٍ بِقَوْلِهِ: ((يَا بُنَيَّ!))، ((يَا بُنَيَّ! سَمِّ اللهَ))، ((يَا بُنَيَّ!))؛ لِيَزِيدَ الرِّفْقَ لُطْفًا وَكَرَمًا.

فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ أَثَرُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَالْكَرَمِ، وَاسْمَعْ مَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) فِي رِوَايَةٍ قَالَ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)) يَعْنِي: أَثَّرَ هَذَا الرِّفْقُ وَهَذَا التَّعْلِيمُ الرَّفِيقُ فِي عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَثَّرَ فِيهِ إِدْنَاءُ النَّبِيِّ ﷺ إِيَّاهُ مِنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ ﷺ تَرَفَّقَ بِهِ الرِّفْقَ كُلَّهُ، فَقَالَ لَهُ: ((يَا بُنَيَّ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)).

قَالَ: ((فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)) أَيْ: صِفَةَ أَكْلِي.

فَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ رَأْفَةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمِنْ صُوَرِ رَحْمَتِهِ ﷺ.

وَأَيْضًا صُورَةٌ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ﷺ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ لَهَا: ((اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرِي)).

قَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي))، وَلَمْ تَعْرِفْهُ ﷺ.

فَقِيلَ لَهَا: ((إِنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ ))، فَأَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: ((لَمْ أَعْرِفْكَ)).

فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)).

مَرَّ بِهَا النَّبِيُّ ﷺ وَهِيَ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ أَوْدَعَتْهُ حَبِيبًا، وَغَيَّبَتْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَوَاطِفِهَا، أَوْ بَعْضًا مِنْ قَلْبِهَا أَوْ كَبِدِهَا أَوْ مَا شِئْتَ؛ فَهِيَ تَبْكِي عِنْدَ الْقَبْرِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرِي)).

وَانْظُرْ كَيْفَ قَدَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، فَقَالَ: ((اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرِي))، قَالَ ((اتَّقِ اللهَ))؛ لِأَنَّ التَّقْوَى هِيَ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْ وَرَائِهَا الصَّبْرُ، فَقَدَّمَ النَّبِيُّ ﷺ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَقَالَ: ((اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرِي)).

قَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي))؛ وَلَمْ تَعْرِفْهُ.

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ آخِذًا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا: ((إِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجَوَدَةَ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا))، وَأَمَّا التَّنَزُّلُ إِلَى السَّفْسَافِ -وَالسَّفْسَافُ: هُوَ الرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُطْلَقُ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْغُبَارِ إِذَا تَصَاعَدَتْ ذَرَّاتُهُ، وَكَذَلِكَ عَلَى الدَّقِيقِ إِذَا مَا تَصَاعَدَ عِنْدَ الطَّحْنِ مِنْ ذَرَّاتِهِ شَيْءٌ، فَهَذَا هُوَ السَّفْسَافُ، شَيْءٌ تَرَاهُ مِنْ خَصَاصِ الْبَابِ أَوِ النَّافِذَةِ إِذَا مَا تَسَلَّلَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَتَرَى مَا هُنَالِكَ مِنْ ذَلِكَ الْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ-.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا)).

فَلَمَّا رَدَّتْ هَذَا الرَّدَّ الْغَلِيظَ الْخَشِنَ وقَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي))، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، وَلَهُ ﷺ عَلَيْهَا حَقُّ الطَّاعَةِ، وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَقِفَ ﷺ عِنْدَ هَذَا الرَّدِّ الْغَلِيظِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا، وَكَانَ يُمْكِنُ -وَحَاشَا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَلَكِنَّهُ مُمْكِنٌ عَقْلِيٌّ- أَنْ يَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهَا؛ فَلَا تُفْلِحُ أَبَدًا بَعْدَهَا لَا فِي دُنْيَا وَلَا فِي آخِرَةٍ، وَإِنَّمَا انْصَرَفَ ﷺ، وَمَرَّ مَرًّا كَرِيمًا، فَقِيلَ لَهَا: ((إِنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ )).

فَأَتَتِ النَّبِيَّ ﷺ تَشْتَدُّ بِأَثَرِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ لَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مُعْتَذِرَةً: ((لَمْ أَعْرِفْكَ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -وَهَذَا أَيْضًا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ فَهُوَ لَمْ يَتَوَقَّفْ عِنْدَ حُدُودِ الرَّدِّ، هِيَ جَاءَتِ الْآنَ مُعْتَذِرَةً، لَا مِمَّا كَانَ مِنْ عَدَمِ أَخْذِهَا بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنَّمَا مِنْ رَدِّهَا الْغَلِيظِ عَلَيْهِ عِنْدَمَا قَالَتْ: ((إِلَيْكَ عَنِّي؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي))، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ جَاءَتْ إِلَيْهِ ﷺ مُعْتَذِرَةً عَنْ رَدِّهَا، لَا عَنْ سُوءِ الْفِعْلِ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ الْقَبْرِ بِإِعْوَالٍ وَجَزَعٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يُرِيدُ مِنْهَا اعْتِذَارًا لِشَخْصِهِ ﷺ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ مِنْهَا أَوْبَةً إِلَى شَرْعِ رَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا-، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -وَقَدْ تَجَاوَزَ هَذَا الِاعْتِذَارَ-: ((إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَيْنِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي أَثْنَاءِ بَيَانِهِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: ((فِيهِ أَيْ: فِي الْحَدِيثِ-: مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ التَّوَاضُعِ وَالرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَتَرْكِ مُؤَاخَذَةِ الْمُصَابِ، وَقَبُولِ اعْتِذَارِهِ)).

وَكَيْفَ كَانَ أَثَرُ هَذَا التَّعَامُلِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ اللَّطِيفِ عَلَى الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا؟

رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَلَمَّا ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ مُتَرَفِّقًا بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ -يَرْوِي أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا كَانَ رَدُّ فِعْلِهَا بَعْدَ أَنْ عَرَفَتْ أَنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ-: ((فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ، فَأَتَتْ بَابَهُ ﷺ )).

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ قَوْلِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (( ((فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ)) يَعْنِي: مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ الَّذِي أَصَابَهَا لَمَّا عَرَفَتْ أَنَّهُ ﷺ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا؛ خَجَلًا مِنْهُ، وَمَهَابَةً لَهُ ﷺ )).

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِالْأَمْرِ الطَّارِئِ عَلَى أَخْلَاقِهِ -حَاشَا وَكَلَّا-، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ خُلُقًا ثَابِتًا مُتَأَصِّلًا فِي أَخْلَاقِهِ الطَّيِّبَةِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ ﷺ.

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مِنْ صُوَرِ رِفْقِهِ وَلُطْفِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَرَأْفَتِهِ وَشَفَقَتِهِ تَتَبَدَّى فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ -وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْآخَرُ الَّذِي عَطَسَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا-، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ -وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ-، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟!! -يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ تَفْقِدَهُ أُمُّهُ- وَاثُكْلَ أُمِّيَاهُ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟!! -لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَا يُرِيدُونَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ- فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ -هُنَا إِيجَازٌ بِالْحَذْفِ، فَهُوَ يَقُولُ: فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ -الرُّؤْيَةُ هُنَا: الْعِلْمُ-، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي -يَعْنِي: يُسَكِّتُونَنِي-، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ -فَلَمَّا عَلِمْتُهُمْ يُرِيدُونَ سُكُوتِي وَصَمْتِي- قَالَ: لَكِنِّي سَكَتُّ -يَقُولُ: يُسَكِّتُونَنِي، يَعْنِي: يُصَمِّتُونَنِي؛ غَضِبْتُ وَتَغَيَّرْتُ؛ وَلَكِنْ هَذَا حُذِفَ مِنْ كَلَامِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَلَمْ يَقُلْهُ أَصْلًا، فَهَذَا إِيجَازٌ بِالْحَذْفِ يَفْهَمُهُ مَنْ كَانَ سَامِعًا لِهَذِهِ اللُّغَةِ الشَّرِيفَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ.

((فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي -فَلَمَّا عَلِمْتُهُمْ يُسَكِّتُونَنِي غَضِبْتُ وَتَغَيَّرْتُ-؛ لَكِنِّي سَكَتُّ))، فَيَقُولُ هُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي؛ لَكِنِّي سَكَتُّ -فَلَمْ يَذْكُرْ فِي صَرِيحِ اللَّفْظِ غَضَبًا وَلَا تَغَيُّرًا -لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ -يَقُولُ-: فَوَاللَّهِ! مَا كَهَرَنِي -بِالْكَافِ الْمُهْمَلَةِ- يَقُولُ: فَوَاللَّهِ! مَا كَهَرَنِي -الْقَهْرُ وَالْكَهْرُ وَالنَّهْرُ (نَهَرَهُ) مُتَقَارِبَةٌ، يَعْنِي: مَا قَهَرَنِي وَلَا نَهَرَنِي- فَوَاللَّهِ! مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) -يَقُولُ هُوَ مُتَحَرِّزًا-: أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ))، هَذَا مِنْ كَلَامِهِ هُوَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )). هَذِهِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْإِمَامِ مُسْلِمٍ.

مَاذَا أَثْمَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ -مِنْ رِوَايَتِهِ، يَعْنِي: مِنْ رِوَايَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ-؟

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي ((شَرْحِهِ عَلَى مُسْلِمٍ)) تَعْلِيقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: ((قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي! مَا أُرِيتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ))؛ فِيهِ: بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ عَظِيمِ الْخُلُقِ الَّذِي شَهِدَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ بِهِ، وَرِفْقِهِ بِالْجَاهِلِ، وَرَأْفَتِهِ بِأُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ.

وَفِيهِ: التَّخَلُّقُ بِخُلُقِهِ ﷺ فِي الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ، وَحُسْنِ تَعْلِيمِهِ، وَاللُّطْفِ بِهِ، وَتَقْرِيبِ الصَّوَابِ إِلَى فَهْمِهِ)).

نَتِيجَةُ هَذَا الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هُوَ يَحْكِيهَا بِنَفْسِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ:  قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ -الْجَاهِلِيَّةُ: مَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَسُمُّوا جَاهِلِيَّةً؛ لِكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ وَجَهَالَاتِهِمْ، وَفُحْشِهِمْ وَتَفَحُّشِهِمْ-، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ يَعْنِي: كَأَنَّمَا يَعْتَذِرُ عَمَّا كَانَ بِهِ-، فَيَقُولُ: إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الْكُهَّانَ)).

قَالَ: ((فَلَا تَأْتِهِمْ)).

قَالَ: ((وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ)) يَعْنِي: يَزْجُرُونَ الطَّيْرَ، فَإِنْ مَرَّتْ عَنْ يَمِينٍ تَيَمَّنُوا، وَإِنْ مَرَّتْ عَنْ شِمَالٍ تَشَاءَمُوا فَرَجَعُوا إِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ سَفَرًا أَوْ حَاجَةً، قَالَ: ((وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ)).

قَالَ: ((ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ))، يُشِيرُ إِلَى الْخَطِّ عَلَى الرَّمْلِ؛ كَأَنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ فِي كَهْفِ الْغَيْبِ رَحِيقٌ مَخْتُومٌ، قَالَ: قُلْتُ: ((وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ)).

قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ يَعْنِي: يَخُطُّ عَلَى الرَّمْلِ-، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ)) يَعْنِي: فَمَنْ وَافَقَ خَطُّهُ خَطَّ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ يَخُطُّ عَلَى الرَّمْلِ فَذَاكَ، يَعْنِي: فَهَذَا نُبِيحُهُ؛ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الْخَطَّ الَّذِي يَخُطُّهُ الْمُعَاصِرُونَ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْخَطِّ الَّذِي خَطَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟!!

كَيْفَ لَنَا الْعِلْمُ؟!! وَالْأَنْبِيَاءُ -أَيْضًا- مَعْصُومُونَ مُؤَيَّدُونَ بِالْوَحْيِ، يَعْنِي: هُوَ كَانَ يَخُطُّ -هَذَا النَّبِيُّ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ- ((كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ))، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَمْرَ مَحْكُومًا بِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَعْصُومِينَ الْمُؤَيَّدِينِ بِوَحْيِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا؟ هَذَا أَمْرٌ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ الْمُوَافَقَةُ؛ ((فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ))، فَمِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ خَطَّهُ قَدْ وَافَقَ خَطَّ النَّبِيِّ الَّذِي كَانَ يَخُطُّ؟!!

هَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَإِذَنْ؛ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بِهَذِهِ الْقُيُودِ بِهَذِهِ الْأَقْيَادِ قَدْ نَهَى عَنْ أَنْ يَقَعَ الْإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ.

أَثَّرَ الرِّفْقُ فِي مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَدْرَكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ كَانَ بِسَبَبِ قُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا اعْتَذَرَ بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَبَدَأَ يَسْتَفْسِرُ عَنْ أُمُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا، وَكَانَتْ شَائِعَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِنَ اجْتِنَابِهَا إِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، أَوْ يَأْخُذَ بِهَا إِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَأَخَذَ يَسْأَلُ الرَّسُولَ ﷺ.

لَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ، بَلْ إِنَّهُ عَزَمَ عَلَى كَفَّارَةِ خَطَأٍ كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ بِصُورَةٍ يَسْتَغْرِبُهَا الْإِنْسَانُ جِدًّا؛ فَكَيْفَ يَتَحَوَّلُ الْمَرْءُ هَذَا التَّحَوُّلَ الْعَظِيمَ السَّرِيعَ الَّذِي يُشَاهِدُهُ الْمَرْءُ فِي شَخْصِيَّةِ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ الزَّمَنِيَّةِ الْوَجِيزَةِ؟!! فَاسْمَعْ مِنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ يُحَدِّثُ قِصَّتَهُ، قَالَ: ((وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ (أُحُدٍ) وَ(الْجَوَّانِيَّةِ) ))، وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ -يَعْنِى: جِهَةَ- (أُحُدٍ): جَبَلِ أُحُدٍ (وَالْجَوَّانِيَّةِ) الْجَوَّانِيَّةُ: مَكَانٌ بِقُرْبِ أُحُدٍ شَمَالَيْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ-.

قَالَ: ((فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ -يَعْنِي: جِئْتُ يَوْمًا أَنْظُرُ الْجَارِيَةَ وَالْغَنَمَ الَّتِي تَرْعَاهَا-؛ فَإِذَا الذِّيبُ أَيِ: الذِّئْبُ- قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ -انْظُرْ إِلَيْهِ كَيْفَ يَعْتَذِرُ -أَيْضًا-، وَيُقَدِّمُ هَذَا الِاعْتِذَارَ الَّذِي أَدَّى إِلَى الْأَمْرِ الْمَنْكُورِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ يُرِيدُ لَهُ مَخْرَجًا-؛ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ وَالْأَسَفُ: الْحُزْنُ وَالْغَضَبُ، أَغْضَبُ- كَمَا يَأْسَفُونَ)).

وَانْظُرْ إِلَيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ، قَالَ: ((وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً وَالصَّكُّ: هُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ مَبْسُوطَةً-، قَالَ: وَلَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ -كَيْفَ تَفْعَلُ هَذَا الَّذِي فَعَلْتَ؟! وَكَيْفَ تَمْتَدُّ يَدَاكَ عَلَيْهَا ضَارِبًا؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ- فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا أَعْتِقُهَا؟)).

قَالَ: ((ائْتِنِي بِهَا)).

فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: ((أَيْنَ اللهُ؟)).

قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).

قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)).

قَالَتْ: ((أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))، وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنْ هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ بَيَانِ رَأْفَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأُمَّتِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِهَا ﷺ.

وَهُنَا هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ لِلْجَارِيَةِ؛ قَالَ: ((ائْتِنِي بِهَا)).

فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: ((أَيْنَ اللهُ؟)).

قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).

قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)).

قَالَتْ: ((أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

قَالَ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).

فَهَذِهِ جَارِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فِي (الْجَوَّانِيَّةِ) وَفِي (أُحُدٍ)، بَعِيدَةً عَنِ الْعُمْرَانِ، وَعَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَعَنْ حُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ؛ وَلَكِنِ الْأَمْرُ الْمُسْتَفِيضُ الشَّائِعُ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَانَ مَعْلُومًا لَهَا؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَا سَأَلَهَا: ((أَيْنَ اللهُ؟)).

قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ أَنَا؟)).

قَالَتْ: ((أَنْتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ )).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفًا رَحِيمًا ﷺ، وَمِنْ ذَلِكَ: رِفْقُهُ ﷺ بِالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَيْفَ أَثَّرَ ذَلِكَ الرِّفْقُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْأَعْرَابِ جَفَاءً وَغِلْظَةً، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَنْ بَدَا جَفَا))، يَعْنِي: الَّذِي يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ فِي الْمَنْطِقِ وَفِي السُّلُوكِ وَالْخُشُونَةِ فِي التَّصَرُّفِ.. يَكُونُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ بَدَاوَتِهِ؛ ((مَنْ بَدَا جَفَا)).

فَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ))، وَانْظُرْ إِلَى تَعْبِيرِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ))، لَمْ يَقُلْ: قَاعِدًا، وَإِنَّمَا قَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ النِّبِيِّ ﷺ!!

الْمَكَانُ مِنَ الشَّرَفِ حَيْثُ هُوَ، وَالزَّمَانُ مِنَ الشَّرَفِ حَيْثُ هُوَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَفِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ، ((فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: مَهْ! مَهْ!))؛ هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ، يَزْجُرُونَهُ؛ لِكَيْ يَكُفَّ عَنْ هَذَا الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ مِنْ تَلْوِيثٍ وَتَنْجِيسٍ لِجُزْءٍ مِنْ أَرْضِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ.

((مَهْ)): اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ مَبْنِيٍّ عَلَى السُّكُونِ؛ بِمَعْنَى: اسْكُتْ، ((مَهْ! مَهْ!)) يَعْنِي: اسْكُتْ، كُفَّ! كُفَّ عَنْ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تُزْرِمُوهُ))، وَالْإِزْرَامُ: الْقَطْعُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ: قَطْعُ الْبَوْلِ، وَقَطْعُ الدَّمْعِ وَمَا أَشْبَهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تُزْرِمُوهُ)) يَعْنِي: لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ، ((دَعُوهُ)): اتْرُكُوهُ يَفْعَلُ مَاذَا؟!! يُتِمُّ بَوْلَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ ((لَا تُزْرِمُوهُ))؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْبَوْلِ يَضُرُّ مَنْ قَطَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: ((لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ))، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ وَبَلَغَ الْغَايَةَ مِمَّا كَانَ يُرِيدُ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ تَعَامَلَ مَعَ الرَّجُلِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، فَأَزَالَ الْجَهْلَ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلَّمَهُ ﷺ، وَبَقِيَ أَمْرُ الْمَكَانِ الَّذِي تَنَجَّسَ، قَالَ: ((فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ)) يَعْنِي: صَبَّهُ عَلَيْهِ.

فَانْظُرْ كَيْفَ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَسْأَلَةَ بِهَذَا الرِّفْقِ وَهَذِهِ الرَّحْمَةِ: ((دَعُوهُ، لَا تُزْرِمُوهُ))، فَلَمَّا أَتَمَّ بَوْلَهُ حَتَّى لَا يُصِيبَهُ ضَرَرٌ بِسَبَبِ الْإِزْرَامِ -إِزْرَامُ الْبَوْلِ هو: قَطْعُ الْبَوْلِ-، تَرَكَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَمَرَ بِتَرْكِهِ حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَأَزَالَ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ نَجَاسَةِ الْجَهْلِ فِي الصَّدْرِ، فَعَلَّمَهُ ﷺ، ثُمَّ أَزَالَ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ نَجَاسَةٍ بِأَرْضِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْلُ، ((فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ فَصَبَّهُ- عَلَيْهِ)) ﷺ.

انْظُرْ رِفْقَهُ وَرَحْمَتَهُ وَرَأْفَتَهُ ﷺ بِالْجَاهِلِ، يَقُولُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: ((وَفِيهِ: الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ، وَتَعْلِيمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ وَلَا إِيذَاءٍ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمُخَالَفَةِ اسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا)) يَعْنِي: جَاءَ بِالْمُخَالَفَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ لِلشَّرْعِ، وَتَعَمُّدِ الْمُرُوقِ مِنَ النَّصِّ وَمِنْ سِيَاجِ الشَّرِيعَةِ، إِذَا لَمْ تَأْتِ الْمُخَالَفَةُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِالْجَاهِلِ، وَأَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَلْزَمُهُ بِغَيْرِ مَا تَعْنِيفٍ وَلَا إِيذَاءٍ.

ثُمَّ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ وَقْعِ هَذَا التَّعْلِيمِ الْمَقْرُونِ بِالرِّفْقِ عَلَى قَلْبِ الْأَعْرَابِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَهَذَا يُلَاحَظُ فِي قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ ابْنُ مَاجَه  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، قَالَ: ((قَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ -هَذَا كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ: فَقَامَ إِلَيَّ يَعْنِي: النَّبِيَّ ﷺ، يَعْنِي: فَقَامَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ- بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ، فَقَالَ: ((إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ، إِنَّمَا بُنِيَ لِذِكْرِ اللهِ وَلِلصَّلَاةِ)).

هُوَ يَحْكِي مَا كَانَ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ تَقْوِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ، هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ -كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- ((فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَ أَنْ فَقِهَ -يَحْكِي مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الشَّأْنِ-، فَقَامَ إِلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ -ثُمَّ قَالَ مُفْدِّيًا رَسُولَ اللهِ ﷺ بِأَبَوَيْهِ: بِأَبِي وَأُمِّي-، فَقَامَ إِلَيَّ بِأَبِي وَأُمِّي، فَلَمْ يُؤَنِّبْ وَلَمْ يَسُبَّ فَقَالَ: ((إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ، إِنَّمَا بُنِي لِذِكْرِ اللهِ وَلِلصَّلَاةِ)).

يُفَدِّي أَبَوَيْهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِمَا قَالَهُ ﷺ لَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ هَذَا التَّعْلِيمُ الْمَقْرُونُ بِالرِّفْقِ وَالرَّفة والرحمة وهي من ثوابت أخلاق النبي صحْمَةِ، وَهِيَ مِنْ ثَوَابِتِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ ﷺ.

وَأَيْضًا مِنْ مَظَاهِرِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْأُمَّةِ: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ ﷺ مَعَ الشَّابِّ الَّذِي جَاءَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الزِّنَا؛ فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، وَقَالُوا: مَهْ! مَهْ!)) وَهِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ؛ بِمَعْنَى: اسْكُتْ.

((مَهْ! مَهْ!))، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ادْنُهْ)) يَعْنِي: اقْتَرِبْ مِنِّي، ((فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ))، فَجَلَسَ هَذَا الْفَتَى الشَّابُّ، وَهَذَا الْأَدَاءُ أَيْضًا- تَلْحَظُ فِيهِ أُمُورًا؛ فَإِنَّ أَبَا أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((إِنَّ فَتًى شَابًّا)) يَعْنِي: كَأَنَّمَا مِنْ عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ وَقُوَّتِهِ يَكَادُ يَتَفَتَّقُ جِلْدُهُ مِنْ شَبَابِهِ، ((إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ ))، وَهَذَا مَلْحُوظٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَاعَى هَذَا الْأَمْرَ؛ وَلِذَلِكَ أَخَذَهُ بِهَذَا الرِّفْقِ وَهَذِهِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَقَالَ لَهُ ﷺ وَالْقَوْمُ لَا يَتَحَمَّلُونَ، فَأَخَذُوا يَزْجُرُونَهُ، وَقَالُوا: ((مَهْ! مَهْ!))، فَقَالَ: ((ادْنُهْ))، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ)).

يَلْحَظُ الْمَرْءُ أَمْرًا آخَرَ؛ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ ﷺ بِالزِّنَا فِيهِ خَيْرٌ؛ بَلْ فِيهِ خَيْرٌ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْخَيْرِ مِنْ أَقْطَارِهِ لَوَقَعَ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ تَصْرِيفِ شَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِئْذَانٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَنِّنَ الْأَمْرَ بِقُيُودٍ مِنْ قَوَانِينِ الشَّرِيعَةِ، فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ يَسْتَأْذِنُ فِي الزِّنَا، فَلَمَّا جَلَسَ قَرِيبًا مِنَ الرَّسُولِ ﷺ؛ أَخَذَهُ بِهَذَا الْمَنْطِقِ الْغَرِيبِ حَقًّا؛ وَلَكِنَّهُ لَا يُسْتَغْرَبُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

قَالَ: ((أَتَرْضَاهُ لِأُمِّكَ))، وَتَأْتِي صُورَةٌ ذِهْنِيَّةٌ قَافِزَةٌ طَافِحَةٌ عَلَى مَخِيلَةِ هَذَا الْفَتَى الشَّابِّ لِأُمِّهِ، قَالَ: ((لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ))، هَكَذَا بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ((لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟)).

قَالَ: ((لَا -وَاللهِ- يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟)).

قَالَ: ((لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟)).

قَالَ: ((لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ)).

قَالَ: ((أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟)).

قَالَ: ((لَا -وَاللهِ- جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ)).

قَالَ: ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ)).

وَهَلِ امْرَأَةٌ وَهَلْ أُنْثَى إِلَّا أُمُّ رَجُلٍ، أَوْ بِنْتُ رَجُلٍ، أَوْ أُخْتُ رَجُلٍ، أَوْ عَمَّةُ رَجُلٍ، أَوْ خَالَةُ رَجُلٍ؟!!

فَجَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُ الْأَمْرَ هَكَذَا، ((وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ)).

قَالَ: ((فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ﷺ، وَقَالَ: ((اللهم اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ)).

قَالَ: ((فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ)).

الصِّيَاغَةُ هُنَا: فَلَمْ يَكُنِ الْفَتَى بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ، هَذَا الْمَعْنَى، وَالصِّيَاغَةُ: ((فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ))، وَقَدَّمَ هَذَا الظَّرْفَ الزَّمَنِيَّ بِهَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدُ قَطُّ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اسْتَجَابَ لِنَبِيِّهِ ﷺ فِيهِ، فَغَفَرَ لَهُ ذَنْبَهُ وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الِاجْتِرَاءِ مَعَ الْجَهْلِ بِالطَّلَبِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مَا طَلَبَ، ثُمَّ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِطَهَارَةِ الْقَلْبِ، وَتَحْصِينِ الْفَرْجِ: ((اللهم اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ))، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ)).

الرِّفْقُ وَاللِّينُ وَالنُّصْحُ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ.. أَثَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي هَذَا الشَّابِّ؛ فَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الزِّنَا.

وَمِنَ الْمَظَاهِرِ الْعَظِيمَةِ عَلَى رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ﷺ: مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ رَأْفَتِهِ بِذَلِكَ الَّذِي أَصَابَ مِنِ امْرَأَتِهِ قَبْلَ أَدَاءِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، كَانَ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،  وَهُوَ الَّذِي أَصَابَ مِنْ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الظِّهَارِ وَقَبْلَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِهِ.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ امْرَأً قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ تَظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ؛ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ فِي لَيْلَتِي شَيْئًا فَأَتَتَايَعَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِي النَّهَارُ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِعَ))، يَعْرِفُ قُدْرَتَهُ، وَيَجْعَلُهَا فِي مَكَانِهَا فِي مَحَلِّهَا وَيَحْتَاطُ، وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ وَقَعَ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْغُلُوِّ بِشَيْءٍ مَا؛ غَيْرَ أَنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَتَى بِهَذَا الْأَمْرِ وَنِيَّتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى وَجْهِهَا، يَقُولُ: ((كُنْتُ امْرَأً قَدْ أُوتِيتُ مِنْ جِمَاعِ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرِي، فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ تَظَاهَرْتُ -يَعْنِي: جَعَلَهَا عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ- مِنِ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ؛ فَرَقًا خَوْفًا- مِنْ أَنْ أُصِيبَ فِي لَيْلَتِي شَيْئًا فَأَتَتَايَعَ))؛ التَّتَايُعُ: الْوُقُوعُ فِي الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَالْمُتَابَعَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ التَّتَايُعُ إِلَّا فِي الشَّرِّ، لَا يَكُونُ التَّتَايُعُ فِي الْخَيْرِ.

قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَلَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ -وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ- تَظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ؛ فَرَقًا مِنْ أَنْ أُصِيبَ فِي لَيْلَتِي شَيْئًا فَأَتَتَايَعَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يُدْرِكَنِي النَّهَارُ وَأَنَا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِعَ)).

قَالَ: ((فَبَيْنَا هِيَ -وَهِيَ قِصَّةٌ مِنَ الْقِصَصِ الْجَمِيلَةِ يَحْكِيهَا هَذَا الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ فِي أَخَصِّ خُصُوصِيَّاتِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ- قَالَ: فَبَيْنَا هِيَ تَخْدُمُنِي إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرِي، وَقُلْتُ لَهُمْ: انْطَلِقُوا مَعِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأُخْبِرُهُ بِأَمْرِي، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ؛ نَتَخَوَّفُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ، أَوْ يَقُولَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَالَةً يَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ)).

يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ لَنَا دَخْلٌ فِي الَّذِي أَتَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي ظَاهَرْتَ، وَأَنْتَ الَّذِي وَقَعْتَ عَلَى امْرَأَتِكَ فِي غَيْرِ مَا حِلٍّ؛ وَعَلَيْهِ فَمَا لَنَا نَحْنُ وَلِذَلِكَ!! ((إِنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ، أَوْ يَقُولَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَقَالَةً يَبْقَى عَلَيْنَا عَارُهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ)).

قَالَ: فَ((خَرَجْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي)).

فَقَالَ لِي: ((أَنْتَ بِذَاكَ؟)) يَعْنِي: أَنْتَ الْمُلِمُّ بِذَلِكَ الَّذِي وَصَفْتَ وَالْمُرْتَكِبُ لَهُ؟

فَقُلْتُ: ((أَنَا بِذَاكَ)).

فَقَالَ: ((أَنْتَ أَنْتَ بِذَاكَ؟)).

فَقُلْتُ: ((أَنَا بِذَاكَ)).

فَقَالَ: ((أَنْتَ بِذَاكَ؟)).

قُلْتُ: ((نَعَمْ، هَا أَنَا ذَا؛ فَأَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنِّي صَابِرٌ لَهُ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَعْتِقْ رَقَبَةً)).

قَالَ: ((فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي بِيَدِي، وَقُلْتُ: لَا -وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ- مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا)).

قَالَ: ((فَصُمْ شَهْرَيْنِ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا فِي الصِّيَامِ!)).

قَالَ: ((فَتَصَدَّقْ)).

قَالَ: فَقُلْتُ: ((وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ وَحْشًا مَا لَنَا مِنْ عَشَاءٍ))؛ الرَّجُلُ الْوَحْشُ: هُوَ الرَّجُلُ الْجَائِعُ الَّذِي لَا طَعَامَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ وَحْشٌ فِي الْفَلَوَاتِ.

قَالَ: ((تَصَدَّقْ)).

قُلْتُ: ((وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ وَحْشًا مَا لَنَا عَشَاءٌ))؛ فَمَا الَّذِي حَمَلَكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟

قَالَ: ((اذْهَبْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ، فَأَطْعِمْ عَنْكَ مِنْهَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، ثُمَّ اسْتَعِنْ بِسَائِرِهِ عَلَيْكَ وَعَلَى عِيَالِكَ)).

قَالَ: ((فَرَجَعْتُ إلَى قَوْمِي، فَقُلْتُ: وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ السَّعَةَ وَالْبَرَكَةَ، وَقَدْ أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ فَادْفَعُوهَا إلَيَّ، قَالَ: فَدَفَعُوهَا إلَيْهِ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

النَّبِيُّ ﷺ يَتَعَامَلُ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ بِهَذَا اللُّطْفِ ﷺ؛ فَمَا أَعْظَمَ لُطْفَهُ!

وَمَا أَكْرَمَ حِلْمَهُ!

وَمَا أَبْلَغَ رَأْفَتَهُ!

وَمَا أَجَلَّ شَفَقَتَهُ!

وَمَا أَثْبَتَ رَحْمَتَهُ ﷺ!

فَهَذَا الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- ارْتَكَبَ خَطَأً جَسِيمًا؛ وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ عِنَادٍ وَلَا اسْتِخْفَافٍ، وَهَا هُوَ يَسْعَى حَثِيثًا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، جَاءَ مُقْبِلًا تَائِبًا بِوَجْهِهِ إِلَى اللهِ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَرَّرَهُ وَأَخَذَ يقول: ((أَنْتَ بِذَاكَ؟)).

يَقُولُ: ((أَنَا بِذَاكَ))، فَلَمَّا عَادَ النَّبِيُّ ﷺ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً؛ قَالَ: ((نَعَمْ، هَا أَنَا ذَاكَ؛ فَأَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنِّي صَابِرٌ لَهُ)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

النَّبِيُّ ﷺ دَلَّهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ اخْتَارَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَلْطَفَ الْمَخَارِجِ وَأَعْظَمَهَا -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-.

النَّبِيُّ ﷺ لَا ضَرْبَ، وَلَا شَتْمَ، وَلَا زَجْرَ، وَلَا نَهْرَ، وَلَا قَهْرَ، وَلَا كَهْرَ، بَلِ الرَّأْفَةُ وَالرِّفْقُ وَاللِّينُ وَالشَّفَقَةُ وَالرَّحْمَةُ ﷺ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؟!! بَلْ هُوَ ﷺ الَّذِي أَمَرَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُبَشِّرَ الْقَادِمِينَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا}؛ فَمَاذَا تَقُولُ لَهُمْ؟

{فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ۖ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54].

وَلِذَلِكَ يَكْفِينا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَعَ قَوْمِهِ بَعْدَ عَوْدَتِهِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((النَّبِيُّ ﷺ الْقُدْوَةُ فِي بَيْتِهِ))

إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- اصْطَفَى نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى الْخَلْقِ جَمِيعًا، فَشَرَحَ صَدْرَهُ، وَأَعْلَى شَأْنَهُ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِكُلِّ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْبَشَرِيِّ، فَكَانَ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا، وَأَطْهَرَهُمْ قَلْبًا، وَأَحْسَنَهُمْ مُعَامَلَةً؛ حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1-4].

((يَقُولُ تَعَالَى -مُمْتَنًّا عَلَى رَسُولِهِ-: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أَيْ: نُوَسِّعُهُ لِشَرَائِعِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، وَتَسْهِيلِ الْخَيْرَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ ضَيِّقًا حَرَجًا لَا يَكَادُ يَنْقَادُ لِخَيْرٍ، وَلَا تَكَادُ تَجِدُهُ مُنْبَسِطًا.

{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} أَيْ: ذَنْبَكَ {الَّذِي أَنْقَضَ} أَيْ: أَثْقَلَ {ظَهْرَكَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.

{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} أَيْ: أَعْلَيْنَا قَدْرَكَ، وَجَعَلْنَا لَكَ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ الْعَالِيَ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ، فَلَا يُذْكَرُ اللَّهُ إِلَّا ذُكِرَ مَعَهُ رَسُولُهُ ﷺ، كَمَا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِي الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالْخُطَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَعْلَى اللَّهُ بِهَا ذِكْرَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَلَهُ فِي قُلُوبِ أُمَّتِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ بَعْدَ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ)).

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي حَيَاةِ نَبِيِّنَا ﷺ يَجِدُ أَنَّهُ كَانَ بِحَقٍّ نِعْمَ الْقُدْوَةُ لِلْإِنْسَانِيَّةِ جَمْعَاءَ؛ حَيْثُ يَقُولُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، فَتَرَاهُ ﷺ نِعْمَ الزَّوْجُ، وَنِعْمَ الْأَبُ، وَنِعْمَ الْجَدُّ؛ لَاسِيَّمَا أَنَّهُ الْقَائِلُ ﷺ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)).

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْمَبِيتِ، وَالْإِيوَاءِ، وَالنَّفَقَةِ.

وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَكَانَ يُسَرِّبُ إِلَى عَائِشَةَ بَنَاتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا -وَكَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ-، وَكَانَ إِذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ تَابَعَهَا عَلَيْهِ.

وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ حَائِضًا، وَكَانَ يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَأْتَزِرُ، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا، وَكَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يُمَكِّنُهَا مِنَ اللَّعِبِ، وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ مُتَّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبِهِ تَنْظُرُ، وَسَابَقَهَا فِي السَّفَرِ عَلَى الْأَقْدَامِ مَرَّتَيْنِ، وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنَ الْمَنْزِلِ مَرَّةً.

وَكَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لِلْبَوَاقِي شَيْئًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَكَانَ يَقُولُ: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، فَدَنَا مِنْهُنَّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنَّ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، وَكَانَ يَخْدُمُ نَفْسَهُ؛ فَعَنْ عَمْرَةَ قَالَتْ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ؛ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

وَلِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ؛ سَأَلَهَا رَجُلٌ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟

قَالَتْ: ((نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ مَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ)).

وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِلَفْظٍ آخَرَ، قَالَتْ: ((كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ)).

((يَفْلِي ثَوْبَهُ)) أَيْ: يُفَتِّشُهُ؛ لِيُخْرِجَ مِنْهُ مَا عَلِقَ بِهِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ قَذًى.

((قِيلَ لَهَا -وَالْقَائِلُ لَهَا لَمْ يُعَيَّنْ-: مَاذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟))

قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ))، وَمَهَّدَتْ بِذَلِكَ لِمَا يَأْتِي: ((يَفْلِي ثَوْبَهُ)) تَعْنِي: يُفَتِّشُهُ؛ لِيَلْتَقِطَ مَا فِيهِ مِمَّا عَلِقَ فِيهِ مِنْ نَحْوِ شَوْكٍ وَغَيْرِهِ، أَوْ لِيُرَقِّعَ مَا فِيهِ مِنْ نَحْوِ خِرْقٍ.

((وَيَحْلُبُ شَاتَهُ)): بِضَمِّ اللَّامِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا: ((وَيَحْلِبُ شَاتَهُ)).

((يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ))، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((يَعْمَلُ عَمَلَ الْبَيْتِ))، وَأَكْثَرُ مَا يَعْمَلُ: الْخِيَاطَةُ، يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ؛ فَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ خِدْمَةُ نَفْسِهِ، وَخِدْمَةُ أَهْلِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَدَمِ تَرَفُّعِهِ وَتَكَبُّرِهِ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الدُّنْيَا وَأَهْلُ الْجَاهِ وَالْمَنَاصِبِ.

وَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَقِفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ ﷺ فِي بَيْتِهِ، وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ لِأَهْلِهِ؛ فَعِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ:  ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ)).

قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَا وَاللهِ! لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)).

وَلَمَّا وَقَعَ شَيْءٌ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَ: «مَنْ تَرْضَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَكِ؟».

فَرَضِيَتْ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ أَبُوهَا، فَاخْتَارَتْ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَاسْتَدْعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَقُولِينَ أَوْ أَقُولُ أَنَا؟!»

فَقَالَتْ: ((قُلْ، وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا)).

فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَامَ يَضْرِبُهَا، وَأَخَذَ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهَا بِيَدِه، وَيَقُولُ: ((يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا! وَهَلْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؟!!)).

فَدَارَتْ حَتَّى كَانَتْ خَلْفَ النَّبِيِّﷺ، فَأَخَذَ يَمْنَعُ عَنْهَا أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: «مَا لِهَذَا دَعَوْنَاكَ!».

يَعْنِي: أَنَا مَا دَعَوْتُكَ لِتَضْرِبَهَا، لَوْ كُنْتُ ضَارِبًا لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ جِئْنَا بِكَ حَكَمًا، لَا مُعَاقِبًا وَلَا ضَارِبًا.

انْصَرَفَ أَبُو بَكْرٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ، وَقَالَ لَهَا: «أَرَأَيْتِ كَيْفَ دَفَعْتُ عَنْكِ الرَّجُلَ؟!».

اصْطَلَحَا.

فَأَرْسَلَ ﷺ أَنَسًا فَاشْتَرَى عِنَبًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُتَلَدِّدًا يَسِيرُ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ، يَخْشَى مِنْ غَضَبِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَيَغْضَبُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهَا، وَيَخْشَى أَنْ يُطَلِّقَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَمْ يَبْعُدْ، فَلَقِيَ أَنَسًا فَقَالَ: ((كَيْفَ الْحَالُ يَا أَنَسُ؟)).

قَالَ: ((اصْطَلَحَا)).

فَدَخَلَ غَيْرَ مُحْتَشِمٍ، وَقَالَ: ((دَعَوْتُمَانِي فِي غَضَبِكُمَا أَوْ فِي خِصَامِكُمَا، وَنَسِيتُمَانِي فِي صُلْحِكُمَا!!)).

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «ادْخُلْ فَكُلْ» أَيْ: كُلْ عِنَبًا.

فَالنَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ الْخَصْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- لَمْ يَضْرِبْ، الْحَكَمُ لَمْ يَصْبِرْ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهَا، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا! وَهَلْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؟!

وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَيَقُولُ لَهَا: «انْظُرِي كَيْفَ دَفَعْتُ عَنْكِ الرَّجُلَ؟!!».

وَمِنْ وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: قِيَامُهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَتَقْطِيعِ أَعْضَائِهَا، ثُمَّ الْأَمْرُ بِتَوْزِيعِ ذَلِكَ فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدُ.

وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْوَفَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي تَقْطِيعِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ، وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَى بُيُوتِ الصَّاحِبَاتِ مَعَ نُدْرَةِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ شَاةٌ يُطْعِمُهَا أَهْلَ بَيْتِهِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ جُودُهُ ﷺ، وَشَاهِدُهُ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ مَا كَانَ يُبْقِي مِنَ الشَّاةِ شَيْئًا؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا»، وَلَوْ لَا إِرْسَالُ جَمِيعِ الشَّاةِ لَقَالَتْ: ثُمَّ يَبْعَثُ مِنْهَا.

وَكَذَلِكَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ ﷺ عِنْدَمَا تَزُورُهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَرَدَ: «فَارْتَاعَ لِذَلِكَ» أَيْ: هَشَّ لِمَجِيئِهَا، مَعَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْفَرَحِ عَلَى وَجْهِهِ.

فَمِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ ﷺ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ كَانَ يُحِبُّ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ»؛ أَيْ: يَا رَبِّ! اجْعَلِ الْمُسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ هَالَةَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ لِحُسْنِ الْعَهْدِ، وَحِفْظِ الْوُدِّ، وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ وَالْعَشِيرِ فِي حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِبِ».

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ, وَمَا رَأَيْتُهَا)).

عَجِيبٌ!! هِيَ الَّتِي لَمْ تَرَهَا، وَهِيَ الَّتِي تَغَارُ مِنْهَا، وَبَلَغَتِ الْغَيْرَةُ مِنْهَا مَبْلَغَهَا، وَمَا غَارَتْ غَيْرَتَهَا مِنْهَا عَلَى وَاحِدَةٍ مِمَّنْ عَاصَرَتْهُنَّ تَحْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِمَ؟!

قَالَتْ: ((وَلَكِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ  يُكْثِرُ ذِكْرَهَا, وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً, ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -فِي صُوَيْحِبَاتِهَا-))؛ هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، أَنْعِمْ بِأَيَّامِ خَدِيجةَ، اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَيْهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ تَطْرُقُنَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَأَنْعِمْ بِأَيَّامِ خَدِيجَةَ، اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى صَاحِبَةِ خَدِيجَةَ، وَهَكَذَا.

تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((فَرُبَّمَا قُلْتُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ)).

فَيَقُولُ: ((إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ)).

مَزَايَا عَدِيدَةٌ، وَخِصَالٌ حَمِيدَةٌ، وَمَآثِرُ مَجِيدَةٌ، وَمِنْ مَآثِرِهَا: أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهَا فِي عِشْرَتِهَا بِطُولِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا أَغْضَبَتْهُ مَرَّةً قَطُّ، وَلَا رَاجَعَتْهُ فِي شَيْءٍ أَبَدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَهَذَا الْوَفَاءُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَانَ كُلُّهُ بَعْدَ وَفَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، مَعَ مَا كَانَ مِنَ الْوَفَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الْوَفَاءَ.

وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ -مِنْ لُؤْلُؤٍ مُجَوَّفٍ، أَوْ مِنْ ذَهَبٍ مَنْظُومٍ بِالْجَوْهَرِ- لَا صَخَبَ فِيهِ -لَا اخْتِلَاطَ لِلْأَصْوَاتِ بِارْتِفَاعِ غَوْغَائِيَّتِهَا-، وَلَا نَصَبَ -لَا مَشَقَّةَ وَلَا تَعَبَ-)).

فَصَفَاءٌ فِي الْمَكَانِ، وَصَفَاءٌ فِي الْمَكِينِ، وَصَفَاءٌ فِي الْجَوِّ، وَصَفَاءٌ فِي الضَّمِيرِ، وَهِيَ الصَّفَاءُ كُلُّهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا أُمِّنَا-.

وَكَانَ لِبَنَاتِهِ ﷺ نَصِيبٌ عَظِيمٌ مِنْ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَمْتِهِ، وَفِي دَلِّهِ، وَفِي مَشْيِهِ، وَفِي جِلْسَتِهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا؛ قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ.

وَمَقَامُ فَاطِمَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَقَامٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ لَمَّا أَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَعَلِيٌّ زَوْجُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابْنَتَهُمْ.

فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: ((إِنَّ آلَ أَبِي جَهْلٍ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَلَا وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلْيُفَارِقْ فَاطِمَةَ))، فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ حَدَثَ يَكُونُ فِتْنَةً لِفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-؛ لِأَنَّهُ تَكُونُ ضَرَّتُهَا بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى عَلِيٍّ مَا يُمَاثِلُ مَا لِلْأُخْرَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي -وَالْبَضْعَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ- يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا)). فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

لَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ، وَأَسَرَّ إِلَيْهَا كَلَامًا، فَبَكَتْ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ فَضَحِكَتْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ وَتَبْكِي فِي آنٍ!!)).

فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: ((بِمَ أَسَرَّ إِلَيْكِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَتْ: ((إِنِّي إِذَنْ لَبَذِرَةٌ -وَالْبَذِرُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يَنْقُلُ الْحَدِيثَ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ شَيْءٌ سَمِعَهُ، فَإِذَا جَلَسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَدَّثَ بِمَا كَانَ- وَمَا كُنْتُ لَأُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللهِ)).

فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ حَدَّثْتُ بِالَّذِي كَانَ، فَقَالَتْ: ((إِنِّي لَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جَاءَهُ فِي هَذَا الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ دَنَا.

قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، فَلَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنِّي -أَيْ فَاطِمَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- أَسْرَعُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقًا بِهِ، قَالَتْ: فَضَحِكْتُ)).

فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.

فَضْلُ فَاطِمَةَ وَعَظِيمُ قَدْرِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَكَانَ نَبِيُّنَا ﷺ نِعْمَ الْجَدُّ لِأَحْفَادِهِ، يُكْرِمُهُمْ، وَيُلَاطِفُهُمْ، وَيَحْنُو عَلَيْهِمْ؛ فَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».

«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.

قَالَ الْقَاضِي«»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ«».

«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.

فِي الْحَدِيثِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.

وَفِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.

«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَفِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.

فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً؛ -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ)).

فَقَالَ: ((إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ«».

عَنْ عَائِشَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.

((مَا ضَرَبَ)) ((بِيَدِهِ)) لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَادَةً يَكُونُ بِالْيَدِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ)) لَفُهِمَ أَنَّهُ مَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّهُ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: ((مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ)).

((شَيْئًا)) أَيْ: آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.

وَ ((قَطُّ)): -كَمَا مَرَّ- لِتَأْكِيدِ الْمَاضِي.

((إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ)) أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِيَدِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِيَدِهِ فِي أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ ﷺ أَحَدًا سِوَاهُ.

وَأُبِيُّ بْنُ خَلَفٍ أَشْقَى النَّاسِ، فَإِنَّ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيُّ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

((وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً))؛ أَيْ: مَعَ وُجُودِ سَبَبِ ضَرْبِهِمَا، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمَا غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا، فَالتَّنَزُّهُ عَنْ ضَرْبِ الْخَادِمِ وَالْمَرْأَةِ -حَيْثُ أَمْكَنَ- أَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا لِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْكَمَالِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُ أَنَسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا قَالَ لَهُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا هَكَذَا.

فَالْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ.

هَاهُنَا بَيَانٌ لِرَحْمَتِهِ بِنِسَائِهِ وَخَدَمِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَخْدَمَ يَدَهُ إِلَّا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ فِي شَتَّى مَجَالَاتِهِ.

((وُجُوبُ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ ﷺ ))

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى التَّأَسِّيِ بِنَبِيِّنَا ﷺ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ حَيَاتِهِ؛ فَقَدْ كَانَ ﷺ أَرْحَمَ الْخَلْقِ، وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَصْدَقَهُمْ، وَأَعْدَلَهُمْ، وَأَشْجَعَهُمْ، وَذَلِكَ التَّأَسِّي وَالِاقْتِدَاءُ مِنْ دَلَائِلِ مَحَبَّتِهِ ﷺ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

((قُلْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ-: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ حَقًّا فَاتَّبِعُونِي، وَآمِنُوا بِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وَيَمْحُ ذُنُوبَكُمْ؛ فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، رَحِيمٌ بِهِمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ -تَعَالَى- وَلَيْسَ مُتَّبِعًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ حَقَّ الِاتِّبَاعِ، مُطِيعًا لَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ حَتَّى يُتَابِعَ الرَّسُولَ ﷺ حَقَّ الِاتِّبَاعِ)).

((هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْمِيزَانُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ حَقِيقَةً، وَمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ دَعْوَى مُجَرَّدَةً، فَعَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ: اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي جَعَلَ مُتَابَعَتَهُ وَجَمِيعَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ طَرِيقًا إِلَى مَحَبَّتِهِ وَرِضْوَانِهِ، فَلَا تُنَالُ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ وَثَوَابُهُ إِلَّا بِتَصْدِيقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِمَا، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِمَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَجَازَاهُ جَزَاءَ الْمُحِبِّينَ، وَغَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَسَتَرَ عَلَيْهِ عُيُوبَهُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَعَ ذَلِكَ فَمَا حَقِيقَةُ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَصِفَتُهَا؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ، وَتَصْدِيقِ الْخَبَرِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)).

((ثَمَرَةُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ))

لَقَدْ أَثْمَرَتِ الدَّعْوَةُ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ ثَمَرَتَهَا بِلُطْفِهِ وَلِينِهِ، وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ﷺ.

فَيَا لَلهِ مَا أَحْلَمَهُ!

وَيَا لَلهِ مَا أَكْرَمَهُ!

وَيَا لَلهِ مَا أَعْظَمَهُ!

وَيَا لَلهِ مَا أَجَلَّ حِكْمَتَهُ!

وَيَا لَلهِ مَا أَكْرَمَ لَهْجَتَهُ!

وَيَا لَلهِ مَا أَبْلَغَ مَنْطِقَهُ!

وَوَاللهِ! مَا بَلَغَ الْوَاصِفُونَ شَيْئًا مِنْ وَصْفِ أَخْلَاقِهِ ﷺ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَحْشُرَنَا مَعَهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.    

المصدر: النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ ﷺ فِي بَيْتِهِ وَحَيَاتِهِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْوَفَاءُ وَحِفْظُ الْجَمِيلِ
  الرد على الملحدين:الأدلة على وجود الله عز وجل 1
  النَّبِيُّ الْقُدْوَةُ ﷺ فِي بَيْتِهِ وَحَيَاتِهِ
  الإدمان والإفساد في الأرض
  اسْتِقْبَالُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْوَفَاءِ بِالْحُقُوقِ وَتَحَرِّي الْحَلَالِ
  مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
  كيف تصحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟
  النَّبِيُّ ﷺ كَمَا تَحَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ
  الْقَضِيَّةُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ وَأَحْدَاثُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبِر
  الْجَارُ مَفْهُومُهُ وَحُقُوقُهُ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان