أُصُولٌ وَمَعَالِمُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ

أُصُولٌ وَمَعَالِمُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ

((أُصُولٌ وَمَعَالِمُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ وَزِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))

فَالْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى-، وَهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ۖ وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].

وَهُمْ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46].

وَالذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ سَأَلَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ زَكَرِيَّا -أَيْضًا-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5-6].

قَالَ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} يَعْنِي بِهَذَا الْوَلِيِّ: الْوَلَدَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -تَعَالَى- فِي الْقِصَّةِ نَفْسِهَا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ الْوَلَدُ -أَيْضًا- بِقَوْلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89]، فَقَوْلُهُ: {لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: وَاحِدًا بِلَا وَلَدٍ)).

وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] مَا ذَكَرَهُ -سُبْحَانَهُ- فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

((الْأَوْلَادُ مِنَ الْبُشْرَيَاتِ فِي الْإِسْلَامِ))

الْإِسْلَامُ يَعُدُّ الْأَوْلَادَ مِنَ الْبُشْرَيَاتِ؛ فَالْأَوْلَادُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُمْسِكُهَا عَمَّنْ يَشَاءُ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ تَسُرُّ الْوَالِدَيْنِ بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِهِمْ رُسُلَ اللهِ مِنَ الْبَشَرِ وَزَوْجَاتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ} [مريم: 7].

وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّتِي تُبَشِّرُ الْآبَاءَ مِنَ الرُّسُلِ بِالْأَبْنَاءِ.

وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِبْشَارُ بِالْوَلَدِ وَالتَّبْشِيرُ بِهِ مِنَ السُّنَنِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللهُ -تَعَالَى- مَنْ تَبَرَّمَ مِنَ الْأُنْثَى وَاسْتَثْقَلَهَا؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي وَهَبَهَا كَمَا وَهَبَ الذَّكَرَ.

وَالْحَيَاةُ لَا تَسْتَمِرُّ إِلَّا بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَعًا، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59].

وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ: ((كَيْفَ أَقُولُ؟)).

قَالَ: قُلْ: ((جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ )). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الدُّعَاءِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].

أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ تُفْتَنُونَ بِهَا وَتُخْتَبَرُونَ، فَإِنْ شَكَرْتُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَقُمْتُمْ بِوَاجِبِهَا كُنْتُمْ مِنَ الرَّابِحِينَ، وَإِنْ كَفَرْتُمُوهَا وَلَمْ تَقُومُوا بِوَاجِبِهَا كُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

((نِعْمَةُ الْأَوْلَادِ مِنْحَةٌ أَوْ مِحْنَةٌ))

((اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ فِتْنَةٌ لِلْعَبْدِ وَاخْتِبَارٌ.

- فَإِمَّا مِنْحَةٌ تَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، سُرُورٌ لِلْقَلْبِ، وَانْبِسَاطٌ لِلنَّفْسِ، وَعَوْنٌ عَلَى مَكَابِدِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَصَلَاحٌ يَحْدُوهُمْ إِلَى الْبِرِّ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، اجْتِمَاعٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَاجْتِمَاعٌ فِي الْآخِرَةِ فِي دَارِ كَرَامَةِ اللهِ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

وَإِنَّ مِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الْمِنْحَةِ: أَنْ يَقُومَ الْوَالِدَانِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ، وَأَنْ يَقُومَ الْأَبُ خَاصَّةً بِذَلِكَ؛ لِيُخَلِّفَ بَعْدَهُ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً تَنْفَعُهُ وَتَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَتَى أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ، وَمَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَكَثْرَةِ دُعَائِهِ وَلُجُوئِهِ إِلَى اللهِ يَحْصُلُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ وَالتَّرْبِيَةُ الصَّالِحَةُ.

يَقُولُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

فَوَاللَّهِ مَا سَأَلُوا ذَلِكَ وَقَعَدُوا عَنْ فِعْلِ الْأَسْبَابِ؛ فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنَّكَ إِذَا سَأَلْتَ اللهَ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ تَفْعَلَ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِهِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ سَأَلَ اللهَ رِزْقًا لَسَعَى فِي أَسْبَابِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ السَّمَاءَ لَا تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، وَلَوْ سَأَلَ اللهَ ذُرِّيَّةً لَسَعَى فِي حُصُولِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ أَوْلَادًا، وَهَكَذَا إِذَا سَأَلَ اللهَ صَلَاحَ ذُرِّيَّتِهِ، وَأَنْ تَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْعَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابٍ؛ ذَلِكَ لِكَيْ تَكُونَ نِعْمَةُ الْأَوْلَادِ مِنْحَةً.

- أَمَّا الشَّطْرُ الثَّانِي مِنْ نِعْمَةِ الْأَوْلَادِ؛ فَأَنْ تَكُونَ مِحْنَةً وَعَنَاءً، وَشُؤْمًا وَشَقَاءً عَلَى أَهْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يَقُمْ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ لَهُمْ مِنْ رِعَايَةٍ وَعِنَايَةٍ وَتَرْبِيَةٍ صَالِحَةٍ، أَهْمَلَهُمْ فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، أَكْبَرُ هَمِّهِ نَحْوَهُمْ حِينَ كَانُوا شَهْوَةً قَذْفُهَا فِي رَحِمِ الْأُمِّ، أَضَاعَ حَقَّ اللهِ فِيهِمْ فَأَضَاعُوا حَقَّ اللهِ فِيهِ، لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِمْ بِالتَّرْبِيَةِ فَلَمْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ بِالْبِرِّ؛ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، فَفَاتَهُ نَفْعُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَلَيَكُونَنَّ مِنَ النَّادِمِينَ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

لَقَدْ ضَلَّ أَقْوَامٌ اعْتَنَوْا بِتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَرِعَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا، فَأَشْغَلُوا أَفْكَارَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ وَانْشَغَلُوا بِهَا عَنْ رَاحَتِهِمْ وَمَنَامِهِمْ، ثُمَّ نَسُوا أَهْلِيهِمْ وَأَوْلَادَهُمْ، وَمَا هِيَ قِيمَةُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ؟!!

أَلَيْسَ مِنَ الْأَجْدَرِ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُخَصِّصُوا شَيْئًا مِنْ قُوَاهُمُ الْفِكْرِيَّةِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِتَرْبِيَةِ أَهْلِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ؛ حَتَّى يَكُونُوا بِذَلِكَ شَاكِرِينَ نِعْمَةَ اللهِ، مُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِ اللهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمُ الْوِلَايَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَمَّلَكُمْ مَسْؤُولِيَّةَ الْأَهْلِ، أَمَرَكُمْ بِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ تِلْكَ النَّارَ الْمُزْعِجَةَ، لَمْ يَأْمُرْكُمْ بِأَنْ تَقُوا أَنْفُسَكُمْ فَحَسْبُ، بَلْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.

وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُضَيِّعِينَ لِأَمْرِ اللهِ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ لَوْ أَصَابَتْ نَارُ الدُّنْيَا طَرَفًا مِنْ وَلَدِهِ أَوْ كَادَتْ؛ لَسَعَى بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ لِدَفْعِهَا، وَهَرَعَ إِلَى كُلِّ طَبِيبٍ لِلشِّفَاءِ مِنْ حَرْقِهَا وَأَلَمِهَا، أَمَّا نَارُ الْآخِرَةِ فَلَا يُحَاوِلُ أَنْ يُخَلِّصَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ مِنْهَا)).

((التَّرْبِيَةُ الرَّشِيدَةُ أَكْبَرُ أَسْبَابِ صَلَاحِ الْأَوْلَادِ))

إِنَّ صَلَاحَ أَوْلَادِكُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ وَأَكْبَرِ مُوجِبَاتِهِ: تَرْبِيَتُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنْتُمْ مَسْؤُولُونَ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَاتَّقُوا اللهَ، وَقُومُوا بِرِعَايَةِ أَوْلَادِكُمْ وَمُرَاقَبَتِهِمْ، وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَبِإِلْزَامِهِمْ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ، وَعَلِّمُوهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالْأَذْكَارِ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَدَارِسَ وَدُورًا لِتَقْوِيمِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ.

((الْحَثُّ عَلَى تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَبَيَانُ أَهَمِّيَّتِهَا))

 ((مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ الْجَسِيمَةِ وَالْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: أَبْنَاؤُهُ؛ مِنْ حَيْثُ تَرْبِيَتُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ، وَنُصْحُهُمْ وَتَوْجِيهُهُمْ؛ فَإِنَّ الْأَبْنَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِرِعَايَتِهَا وَحِفْظِهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عِنْدَ ذِكْرِهِ لِأَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

وَاللهُ -تَعَالَى- كَمَا أَنَّهُ وَهَبَ الْآبَاءَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]؛ فَإِنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حُقُوقًا وَوَاجِبَاتٍ، وَجَعَلَهَا امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا لِلْآبَاءِ، فَإِنْ قَامُوا بِهَا تِجَاهَ أَبْنَائِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، وَإِنْ فَرَّطُوا فِيهَا فَقَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعُقُوبَةِ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِمْ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6].

وَالْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَوْلَادِ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِأَحْوَالِهِمْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ)))).

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: ((وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ: ((عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ، وَعَلِّمُوا أَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ، وَأَدِّبُوهُمْ)).

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((يَا هَذَا! أَحْسِنْ أَدَبَ ابْنِكَ؛ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ)).

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- تَفْسِيرًا لِآيَةِ التَّحْرِيمِ السَّابِقَةِ: ((أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ)).

وَإِنَّ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ: أَنَّكَ إِنْ غَرَسْتَ خَيْرًا حَصَدْتَ خَيْرًا، وَإِنْ غَرَسْتَ شَرًّا وَجَدْتَ شَرًّا وَلَا بُدَّ.

فَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ آثَارٌ مُدَمِّرَةٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ، بَلْ وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، فَكَمَا أَنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ فَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ، فَتَعْلِيمُ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ؛ مِنَ الْعِفَّةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْبِرِّ، وَحِفْظِ اللِّسَانِ، وَحِفْظِ الْوَقْتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالنَّافِعِ الْمُفِيدِ يُجَنِّبُ -بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى- الْوُقُوعَ فِي الْأَخْطَارِ وَالْمَكَارِهِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-.

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا   = عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَأْكِيدُ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيَانُ تَحَتُّمِهِ عَلَى الْآبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ ﷺ: ((مَسْؤُولٌ)): تَذْكِيرٌ بِسُؤَالِ اللهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ عَنْ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَلْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا فَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ.

وَكَمَا أَوْصَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْأَبْنَاءَ بِبِرِّ آبَائِهِمْ، وَوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]؛ فَقَدْ أَوْصَى الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ -أَيْضًا-؛ لِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].

فَوَصِيَّةُ اللهِ لِلْآبَاءِ بِأَوْلَادِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى وَصِيَّةِ الْأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ.

وَقَدْ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا عَلَى أَبْنَائِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ؛ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَىَ فِيهَا جَدْعَاءَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مَثَلٌ بَلِيغٌ مَحْسُوسٌ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْتَجُ فِي الْعَادَةِ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، فَلَيْسَ فِيهَا جَدْعٌ، أَوْ قَطْعٌ فِي يَدِهَا أَوْ أُذُنِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ رَاعِيهَا؛ إِمَّا بِإِهْمَالِهِ، وَإِمَّا بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً.

فَهَكَذَا الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَإِذَا تَعَلَّمَ الْكَذِبَ وَالْغِشَّ، أَوِ الْفَسَادَ وَالِانْحِرَافَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ فِطْرَتِهِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ، أَوِ الْإِهْمَالِ فِيهَا، أَوْ بِمُؤَثِّرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ أَصْحَابِ السُّوءِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلَطَاءِ)).

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الطِّفْلُ غَايَةَ الِاحْتِيَاجِ: الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ خُلُقِهِ؛ فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَلَى مَا عَوَّدَهُ الْمُرَبِّي فِي صِغَرِهِ؛ مِنْ حَرَدٍ وَغَضَبٍ، وَلَجَاجٍ وَعَجَلَةٍ، وَخِفَّةٍ مَعَ هَوَاهُ، وَطَيْشٍ وَحِدَّةٍ وَجَشَعٍ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ فِي كِبَرِهِ تَلَافِي ذَلِكَ، وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ صِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ رَاسِخَةً لَهُ، فَلَوْ تَحَرَّزَ مِنْهَا غَايَةَ التَّحَرُّزِ فَضَحَتْهُ -وَلَا بُدَّ- يَوْمًا مَا.

وَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ النَّاسِ مُنْحَرِفَةً أَخْلَاقُهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَغْلُظَ أَعْوَادُهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ قِبَلِ التَّرْبِيَةِ الَّتِي نَشَأَ عَلَيْهَا.

وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُجَنَّبَ الصَّبِيُّ إِذَا عَقَلَ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْبَاطِلِ، وَالْغِنَاءَ، وَسَمَاعَ الْفُحْشِ، وَالْبِدَعَ، وَمَنْطِقَ السُّوءِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِقَ بِسَمْعِهِ عَسُرَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ فِي الْكِبَرِ، وَعَزَّ عَلَى وَلِيِّهِ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْهُ، فَتَغْيِيرُ الْعَوَائِدِ مِنْ أَصْعَبِ الْأُمُورِ، يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى اسْتِجْدَادِ طَبِيعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الطَّبِيعَةِ عَسِرٌ جِدًّا.

وَيُجَنِّبُهُ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ أَعْظَمَ مِمَّا يُجَنِّبُهُ السُّمَّ النَّاقِعَ؛ فَإِنَّهُ مَتَى سَهَّلَ لَهُ سَبِيلَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ أَفْسَدَ عَلَيْهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَرَمَهُ كُلَّ خَيْرٍ.

وَيُجَنِّبُهُ الْكَسَلَ وَالْبَطَالَةَ وَالدَّعَةَ وَالرَّاحَةَ، بَلْ يَأْخُذُهُ بِأَضْدَادِهَا.

وَيُعَوِّدُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ وَقْتُ قَسْمِ الْغَنَائِمِ وَتَفْرِيقِ الْجَوَائِزِ؛ فَمُسْتَقِلٌّ، وَمُسْتَكْثِرٌ، وَمَحْرُومٌ، فَمَتَى اعْتَادَ ذَلِكَ صَغِيرًا سَهُلَ عَلَيْهِ كَبِيرًا)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّكَ وَأَحَقُّهُمْ بِمَعْرُوفِكَ: أَوْلَادُكَ؛ فَإِنَّهُمْ أَمَانَاتٌ جَعَلَهُمُ اللهُ عِنْدَكَ، وَوَصَّاكَ بِتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً لِأَبْدَانِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ، وَكُلُّ مَا فَعَلْتَهُ مَعَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا فَإِنَّهُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ، وَاحْتَسِبْهُ عِنْدَ اللهِ، فَكَمَا أَنَّكَ إِذَا أَطْعَمْتَهُمْ وَكَسَوْتَهُمْ وَقُمْتَ بِتَرْبِيَةِ أَبْدَانِهِمْ فَأَنْتَ قَائِمٌ بِالْحَقِّ مَأْجُورٌ؛ فَكَذَلِكَ -بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ- إِذَا قُمْتَ بِتَرْبِيَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْمَعَارِفِ الصَّادِقَةِ، وَالتَّوْجِيهِ لِلْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ضِدِّهَا.

فَالْآدَابُ الْحَسَنَةُ خَيْرٌ لِلْأَوْلَادِ حَالًا وَمَآلًا مِنْ إِعْطَائِهِمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَأَنْوَاعَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ؛ لِأَنَّ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ يَرْتَفِعُونَ، وَبِهَا يَسْعَدُونَ، وَبِهَا يُؤَدُّونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَبِهَا يَجْتَنِبُونَ أَنْوَاعَ الْمَضَارِّ، وَبِهَا يَتِمُّ بِرُّهُمْ لِوَالِدِيهِمْ)).

((مِنْ مَظَاهِرِ إِهْمَالِ الْأَوْلَادِ وَخَطَرُهُ))

((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ يُرَاقِبَ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، فِي أَصْحَابِهِمْ وَأَخِلَّائِهِمْ؛ حَتَّي يَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَيَقِينٍ فِي اتِّجَاهَاتِهِمْ وَسَيْرِهِمْ، فَيُقِرَّ مَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ صَالِحًا، وَيُنْكِرَ مَا يَرَاهُ فَاسِدًا، وَيُكَلِّمَهُمْ صَرَاحَةً، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ وَيَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَغْضَبُ فَيَجْفُوهُمْ وَيُعْرِضُ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفَسَادِ.

إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى مُرَاقَبَةِ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً صَالِحَةً فَمَنِ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا؟!!

هَلْ يَقُومُ عَلَيْهَا أَبَاعِدُ النَّاسِ وَمَنْ لَا صِلَةَ لَهُ فِيهِمْ؟!!

أَمْ يُتْرَكُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادُ وَالْأَغْصَانُ الْغَضَّةُ تَعْصِفُ بِهَا رِيَاحُ الْأَفْكَارِ الْمُضِلَّةِ، وَالِاتِّجَاهَاتِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْأَخْلَاقِ الْهَدَّامَةِ، فَيَنْشَأُ مِنْ هَؤُلَاءِ جِيلٌ فَاسِدٌ لَا يَرْعَى للهِ وَلَا لِلنَّاسِ حُرْمَةً وَلَا حُقُوقًا، جِيلٌ فَوْضَوِيٌّ مُتَهَوِّرٌ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، مُتَحَرِّرٌ مِنْ كُلِّ رِقٍّ إِلَّا مِنْ رِقِّ الشَّيْطَانِ، مُنْطَلِقٌ مِنْ كُلِّ قَيْدٍ إِلَّا مِنْ قَيْدِ الشَّهْوَةِ وَالطُّغْيَانِ!

نَعَمْ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ النَّتِيجَةَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ.

إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ مُعْتَذِرًا: أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِي، إِنَّهُمْ كَبِرُوا وَتَمَرَّدُوا عَلَيَّ.

وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ: لَوْ سَلَّمْنَا هَذَا الْعُذْرَ جَدَلًا أَوْ حَقِيقَةً وَاقِعَةً، ثُمَّ فَكَّرْنَا؛ لَوَجَدْنَا أَنَّكَ أَنْتَ السَّبَبُ فِي سُقُوطِ هَيْبَتِكَ مِنْ نُفُوسِهِمْ؛ لِأَنَّكَ أَضَعْتَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ، فَتَرَكْتَهُمْ يَتَصَرَّفُونَ كَمَا يَشَاؤُونَ، لَا تَسْأَلُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا تَأَنْسُ بِالِاجْتِمَاعِ إِلَيْهِمْ، لَا تَجْتَمِعُ مَعَهُمْ عَلَى غَدَاءٍ وَلَا عَلَى عَشَاءٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، فَوَقَعَتِ الْجَفْوَةُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَوْلَادِكَ، فَنَفَرُوا مِنْكَ وَنَفَرْتَ مِنْهُمْ؛ فَكَيْفَ تَطْمَعُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْقَادُوا لَكَ، أَوْ يَأْخُذُوا بِتَوْجِيهَاتِكَ؟!!

وَلَوْ أَنَّكَ اتَّقَيْتَ اللهَ فِي أَوَّلِ أَمْرِكَ، وَقُمْتَ بِتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرْتَ؛ لَأَصْلَحَ لَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبُّكَ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71])).

وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ؛ أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّي يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ :((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَكَمْ مِمَّنْ أَشْقَى وَلَدَهُ وَفِلْذَةَ كَبِدِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِهْمَالِهِ، وَتَرْكِ تَأْدِيبِهِ، وَإِعَانَتِهِ عَلَى شَهَوَاتِه، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يُكْرِمُهُ وَقَدْ أَهَانَهُ، وَأَنَّهُ يَرْحَمُهُ وَقَدْ ظَلَمَهُ، فَفَاتَهُ انْتِفَاعُهُ بِوَلَدِهِ، وَفَوَّتَ عَلَيْهِ حَظَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا اعْتَبَرْتَ الْفَسَادَ فِي الْأَوْلَادِ رَأَيْتَ عَامَّتَهُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا- -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَكْثَرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَإِهْمَالِهِمْ لَهُمْ، وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ فَرَائِضَ الدِّينِ وَسُنَنَهُ، فَأَضَاعُوهُمْ صِغَارًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ كِبَارًا، كَمَا عَاتَبَ بَعْضُهُمْ وَلَدَهُ عَلَى الْعُقُوقِ فَقَالَ وَلَدُهُ: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ عَقَقْتَنِي صَغِيرًا فَعَقَقْتُكَ كَبِيرًا، وَأَضَعْتَنِي وَلِيدًا فَأَضَعْتُكَ شَيْخًا كَبِيرًا)).

إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتْرُكُونَ أَوْلَادَهُمْ هَمَلًا، لَا يَسْأَلُونَهُمْ مَاذَا فَعَلُوا، وَلَا مَاذَا تَرَكُوا، رُبَّمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ، ثُمَّ لَا يَأْمُرُونَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَلَا يَضْرِبُونَهُمْ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا يَمُرُّونَ بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ وَلَا يَأْخُذُونَهُمْ مَعَهُمْ إِلَى الْمَسَاجِدِ، يَغِيبُونَ مُعْظَمَ النَّهَارِ وَكَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَسْأَلُونَهُمْ أَيْنَ كَانُوا.

سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَدْرِي مَاذَا يُجِيبُ هَؤُلَاءِ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا وَقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَأَلَهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ عَلَيْهِ!!

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا؛ وَلَكِنْ مَا هِيَ أَسْبَابُهُ لِنَعْرِفَ عِلَاجَهُ؟

إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِهِ: أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يُهْمِلُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ، وَلَا يُهَيِّبُونَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّأْدِيبِ؛ فَتُنْزَعَ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ الْأَوْلَادِ، وَيَشِبُّونَ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَوْلِيَائِهِمْ، فَلَا يَنْصَاعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَوَامِرِهِمْ.

وَمِنْ أَسْبَابِ تَمَرُّدِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ: أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ رُبَّمَا لَا يُحْسِنُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي التَّأْدِيبِ، وَلَا يُنْزِلُونَهُمْ مَنْزِلَتَهُمْ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْمُؤَدَّبِ وَانْطِبَاعَاتِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ عِلَاجِهِ.

فَمِنَ الْأَبْنَاءِ مَنْ يَكُونُ عَزِيزَ النَّفْسِ، عَالِيَ الْهِمَّةِ، يَقْتَنِعُ بِالْقَوْلِ النَّيِّرِ الْبَيِّنِ، وَيَنْفِرُ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّفْشِيلِ أَمَامَ أَقْرِبَائِهِ، فَمِثْلُ هَذَا يُعَامَلُ بِأُسْلُوبٍ هَادِئٍ مُقْنِعٍ يَسِيرٍ.

وَمِنَ الْأَوْلَادِ مَنْ يَكُونُ بَلِيدًا، لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الضَّرْبُ وَالتَّوْبِيخُ وَالتَّهْدِيدُ.

وَالْحِكْمَةُ أَنْ تُنْزِلَ كُلَّ وَاحِدٍ مَنْزِلَتَهُ، وَتُعَامِلَ كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ.

إِنَّ مِنَ الْمُشَاهَدِ أَنَّ مَنْ ضَيَّعَ وَاجِبَ اللهِ فِي أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَهْمَلَ تَرْبِيَتَهُمْ؛ مِنَ الْمُشَاهَدِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهِمْ بِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَعَدَمِ بِرِّهِ، وَبِالتَّمَرُّدِ عَلَيْهِ؛ فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ-، وَتَفَقَّدُوا أَوْلَادَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ.

وَالْأَمْرُ جِدٌّ لَا هَزْلَ فِيهِ.

قَالَ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنُصْحِهِ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)).

وَلَا شَكَّ أَنَّ أَكْبَرَ خَسَارَةٍ يَخْسَرُهَا الْمَرْءُ هِيَ أَنْ يَخْسَرَ نَفْسَهُ، وَيَخْسَرَ أَهْلَهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

وَسُوءُ التَّرْبِيَةِ لَهُ أَثَرٌ مُدَمِّرٌ عَلَى الْأَبْنَاءِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ؛ بَلْ وَعَلَى الْأَوْطَانِ.

((أَمَّا إِهْمَالُ الْأَوْلَادِ: فَضَرَرُهُ كَبِيرٌ، وَخَطَرُهُ خَطِيرٌ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ بُسْتَانٌ فَنَمَّيْتَهُ حَتَّى اسْتَتَمَّتْ أَشْجَارُهُ، وَحَتَّى أَيْنَعَتْ ثِمَارُهُ، وَتَزَخْرَفَتْ زُرُوعُهُ وَأَزْهَارُهُ، ثُمَّ أَهْمَلْتَهُ فَلَمْ تُحَافِظْ عَلَيْهِ، وَلَمْ تَحْفَظْهُ، وَلَمْ تَسْقِهِ، وَلَمْ تُنَقِّهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَتُعِدَّهُ لِلنُّمُوِّ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ؛ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ وَأَكْبَرِ الْجَهْلِ؟! فَكَيْفَ تُهْمِلُ أَوْلَادَكَ الَّذِينَ هُمْ فِلْذَةُ كَبِدِكَ، وَثَمَرَةُ فُؤَادِكَ، وَنُسْخَةُ رُوحِكَ، وَالْقَائِمُونَ مَقَامَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا الَّذِينَ بِسَعَادَتِهِمْ تَتِمُّ سَعَادَتُكَ، وَبِفَلَاحِهِمْ وَنَجَاحِهِمْ تُدْرِكُ خَيْرًا كَثِيرًا، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269])).

((وُجُوبُ الْعِنَايَةِ بِالْأَبْنَاءِ وَهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ))

وَتَجِبُ الْعِنَايَةُ بِالِابْنِ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؛ فَلَا يَجُوزُ إِيذَاؤُهُ، أَوِ التَّسَبُّبُ فِي ذَلِكَ، أَوِ التَّعَدِّي عَلَيْهِ بِإِسْقَاطٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَيُرَاعَى، وَيُتَّقَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهِ، وَيَسْعَى الْعَبْدُ سَعْيًا حَثِيثًا فِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلْوَلَدِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأُمِّ أَنْ تُضْعِفَ نَفْسَهَا، أَوْ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُفِيدِ لِطِفْلِهَا رَغْبَةً فِي إِضْعَافِهِ وَإِمَاتَتِهِ، وَهَذَا خُسْرَانٌ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، وَافْتِيَاتٌ وَتَعَدٍّ، وَإِضَاعَةٌ لِحَقٍّ، وَإِسَاءَةٌ.

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: غَرْسُ الْعَقِيدَةِ فِيهِمْ))

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: غَرْسُ الْعَقِيدَةِ وَالْإِيمَانِ فِيهِمْ؛ فَالْعَقِيدَةُ وَالْإِيمَانُ هُمَا الْأَسَاسُ الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا صَلَحَ الْأَسَاسُ صَلَحَتِ الْآثَارُ النَّاتِجَةُ عَنْهُ، وَأَثْمَرَتِ الثِّمَارَ الطَّيِّبَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 24-26].

فَالشَّجَرَةُ إِذَا قُطِعَ أَصْلُهَا مَاتَتْ؛ فَكَذَلِكَ الدِّينُ إِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهِ؛ فَمَنْزِلَةُ التَّوْحِيدِ مِنَ الدِّينِ مَنْزِلَةُ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَالْقَوَاعِدِ مِنَ الْبُنْيَانِ؛ وَلِهَذَا تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ فِي الْوَحْيَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ تَرْسِيخِ الْعَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ وَالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ مُنْذُ الصِّغَرِ، كَمَا جَاءَ فِي وَصَايَا لُقْمَانَ الْحَكِيمِ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ تَأْكِيدُهُ عَلَى هَذِهِ الرَّكِيزَةِ؛ بَلْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا قَالَ لَهُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

فَبَدَأَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ بِنَهْيِهِ عَنِ الشِّرْكِ، وَتَحْذِيرِهِ مِنْهُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَخْطَرُ الذُّنُوبِ، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

وَالشِّرْكُ هُوَ: تَسْوِيَةُ غَيْرِ اللهِ بِاللهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا أَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98].

وَكَانَ مِمَّا وَصَّى بِهِ لُقْمَانُ ابْنَهُ: تَذْكِيرُهُ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].

وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ لِلْأَبَوَيْنِ أَنْ يُعْنَوْا بِتَرْبِيَةِ أَبْنَائِهِمْ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِمْ.

فَغَرْسُ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ هُوَ تَعْزِيزٌ لِمَرْتَبَةِ الْإِحْسَانِ لَدَيْهِمْ، وَتَهْيِئَتُهُمْ لِمُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي انْتَشَرَتْ فِيهِ الْأَجْهِزَةُ وَمَا قَدْ يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ السُّمُومِ وَالْبَلَايَا الْجَسِيمَةِ.

وَقَدْ حَرِصَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى بَيَانِ هَذِهِ الْعَقَائِدِ، وَغَرْسِهَا فِي نُفُوسِ النَّاشِئَةِ؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ)).

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: كَثْرَةُ الدُّعَاءِ))

((وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: كَثْرَةُ الدُّعَاءِ؛ فَالدُّعَاءُ لِلْأَبْنَاءِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَهَمِّ الرَّكَائِزِ فِي صَلَاحِهِمْ وَاسْتِقَامَتِهِمْ، وَهَذَا الدُّعَاءُ يَكُونُ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ وَبَعْدَهُ، فَيَدْعُو الْوَالِدَانِ أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ -تَعَالَى- الذُّرِّيَّةَ الصَّالِحَةَ، وَيَدْعُوَانِ -أَيْضًا- لِلْأَوْلَادِ بَعْدَ أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ -تَعَالَى- بِهِمْ بِالْهِدَايَةِ وَالصَّلَاحِ، وَالِاسْتِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى الدِّيَانَةِ؛ أُسْوَةً بِالْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَخْبَرَنَا عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- -أَيْضًا-: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40].

وَقَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

وَمِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ امْتَدَحَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ: قَوْلُهُمْ: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

وَمِنْ نِعْمَةِ اللهِ وَكَرَمِهِ: أَنْ جَعَلَ دَعْوَةَ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ مُسْتَجَابَةً لَا تُرَدُّ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ -أَيْضًا-: أَنَّهُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَنْ يَحْذَرَا مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا بِالشَّرِّ؛ لَا سِيَّمَا فِي حَالِ الْغَضَبِ، فَلَا يَتَعَجَّلَا بِالدُّعَاءِ عَلَى أَوْلَادِهِمَا فَيُسْتَجَابَ لَهُمَا فِي أَبْنَائِهِمْ، ثُمَّ يَنْدَمَا بَعْدَ ذَلِكَ النَّدَامَةَ الشَّدِيدَةَ.

وَقَدْ حَذَّرَنَا رَسُولُنَا ﷺ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ((لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].

قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَدْعُو عَلَى مَالِهِ، فَيَلْعَنُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَلَوِ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ لَأَهْلَكَهُ)).

قَالَ السَّعْدِيُّ: ((وَهَذَا مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَعَجَلَتِهِ؛ حَيْثُ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَيُبَادِرُ بِذَلِكَ الدُّعَاءِ كَمَا يُبَادِرُ بِالدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ)) )).

قَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو لِلْأَبْنَاءِ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، لَمَّا أَرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ مَا أَرَادُوا بِرَسُولِ اللهِ، وَرَدُّوا دَعْوَتَهُ ﷺ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَآذَوْهُ، وَبِالْحِجَارَةِ رَمَوْهُ؛ عَرَضَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْجِبَالِ أَنْ يُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -جَبَلَانِ بِمَكَّةَ-، عِنْدَهَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُشْفِقُ الرَّحِيمُ: ((أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ -تَعَالَى- رَجَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِإِسْلَامِ أَبْنَائِهِمْ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُرْشِدُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ الِابْنِ مُسْتَقْبَلًا، فَيَقُولُ لِلْمُسْلِمِينَ: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللهم جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بِيْنَهُمَا وَلَدٌ؛ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا)).

وَفِي هَذَا تَوْجِيهٌ إِلَى أَنْ تَكُونَ الْبِدَايَةُ رَبَّانِيَّةً لَا شَيْطَانِيَّةً، فَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ -تَعَالَى- فِي بِدَايَةِ الْجِمَاعِ أُسِّسَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى التَّقْوَى، فَلَا يَضُرُّهُ الشَّيْطَانُ -بِإِذْنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا--.

وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو لَهُمْ وَهُمْ نُطَفٌ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ؛ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- خَارِجَ بَيْتِهِ، وَكَانَ ابْنُهُ مَرِيضًا فَمَاتَ، فَلَمْ تُخْبِرْهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ سُلَيْمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ عَوْدَتِهِ، وَلَمْ تُبْدِ أَيَّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الْحُزْنِ لَهُ، بَلْ تَزَيَّنَتْ وَتَجَهَّزَتْ، وَجَهَّزَتْ لَهُ عَشَاءَهُ فَتَعَشَّى، ثُمَّ قَارَفَهَا، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَخْبَرَتْهُ بِوَفَاةِ وَلَدِهِ بِطَرِيقَةٍ إِيمَانِيَّةٍ ذَكِيَّةٍ، فَقَامَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِمَا كَانَ مِنْ زَوْجَتِهِ وَمِنْهُ، فَدَعَا لَهُمَا ﷺ بِالْبَرَكَةِ فِي لَيْلَتِهِمَا، فَوَلَدَتْ بَعْدُ غُلَامًا سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللهِ، وَمِنْ بَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ: أَنَّهُ كَبُرَ، وَتَزَوَّجَ، وَرَزَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنَ الْأَوْلَادِ تِسْعَةً، كُلُّهُمْ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، وَالْقِصَّةُ بِطُولِهَا فِي ((الْبُخَارِيِّ)).

((مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: كَوْنُ الْوَالِدِ قُدْوَةً لِأَبْنَائِهِ))

((مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ: أَنْ يَكُونَ الْوَالِدُ قُدْوَةً لِأَبْنَائِهِ، فَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالْخَيْرِ حَرِصَ أَنْ يَكُونَ الْمُبَادِرَ إِلَيْهِ، وَإِنْ نَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنْهُ؛ فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ فِي وَادٍ وَفِعْلُهُ فِي وَادٍ آخَرَ، فَيُنْشِئُ عِنْدَ الْأَبْنَاءِ تَنَاقُضًا وَتَبَايُنًا وَاضْطِرَابًا عَظِيمًا؛ مِمَّا يَؤُولُ بِالْأَبْنَاءِ لِتَرْكِ التَّوْجِيهِ وَالتَّأْدِيبِ مِنَ الْآبَاءِ، وَتَجَاهُلِهِ، وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِ الْوَالِدِ وَتَوْجِيهِهِ؛ ((لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَصِفُ لَهُ الطَّبِيبُ دَوَاءً لِمَرَضٍ بِالطَّبِيبِ مِثْلُهُ، وَالطَّبِيبُ مُعْرِضٌ عَنِ الدَّوَاءِ الَّذِي وَصَفَهُ، غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إِلَيْهِ؛ بَلِ الطَّبِيبُ الْمَذْكُورُ عِنْدَهُمْ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَذَا الْوَاعِظِ الْمُخَالِفِ لِمَا يَعِظُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقُومُ دَوَاءٌ آخَرُ عِنْدَهُ مَقَامَ هَذَا الدَّوَاءِ الْمَتْرُوكِ، وَقَدْ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى تَرْكِ التَّدَاوِي، وَقَدْ يَقْنَعُ بِعَمَلِ الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ هَذَا الْوَاعِظِ؛ فَإِنَّ مَا يَعِظُ بِهِ طَرِيقٌ مُعَيَّنٌ لِلنَّجَاةِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، وَلَا بُدَّ مِنْهَا.

وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّفْرَةِ قَالَ شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْكَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ فَإِذَا أَمَرْتَ بِشَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْفَاعِلِينَ لَهُ، الْمُؤْتَمِرِينَ بِهِ، وَإِذَا نَهَيْتَ عَنْ شَيْءٍ فَكُنْ أَوَّلَ الْمُنْتَهِينَ عَنْهُ)).

وَعَنِ الْفُضَيْلِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((رَأَى مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ رَجُلًا يُسِيءُ صَلَاتَهُ، فَقَالَ: مَا أَرْحَمَنِي بِعِيَالِهِ!

فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى! يُسِيءُ هَذَا صَلَاتَهُ وَتَرْحَمُ عِيَالَهُ؟!

قَالَ: إِنَّهُ كَبِيرُهُمْ وَمِنْهُ يَتَعَلَّمُونَ)).

فَمَا أَعْظَمَ جِنَايَةَ الْوَالِدِ عَلَى وُلْدِهِ عِنْدَمَا يَكُونُ قُدْوَةً لَهُمْ فِي تَرْكِ الْفَرَائِضِ أَوْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ؛ إِذِ الْأَبْنَاءُ فِي الْغَالِبِ يَنْشَؤُونَ مُتَأَثِّرِينَ بِسُلُوكِيَّاتِ وَالِدِهِمْ؛ فَهُوَ كَبِيرُهُمْ وَمِنْهُ يَتَعَلَّمُونَ.

وَلْنَسْتَحْضِرْ فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي تَوْبِيخِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3])).

((مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْجَلِيسُ الصَّالِحُ))

((وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْجَلِيسُ الصَّالِحُ، وَتَعَاهُدُ الْأَبْنَاءِ فِي بَابِ الْجَلِيسِ وَالصَّاحِبِ مِنْ أَعْظَمِ الرَّكَائِزِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي التَّرْبِيَةِ؛ فَإِنَّ الصَّاحِبَ سَاحِبٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي جَلِيسِهِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ مَثَلًا فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الصَّاحِبِ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَقَالَ: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)).

فَعَلَى الْآبَاءِ مُتَابَعَةُ أَبْنَائِهِمْ فِيمَنْ يَصْحَبُونَ وَيُجَالِسُونَ فِي الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَفَقَّدُوهُمْ فِي ذَلِكَ.

وَقَدِ اسْتَجَدَّ نَوْعٌ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْجُلَسَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ فِي زَمَانٍ سَابِقٍ، وَهُوَ لَا يَقِلُّ فِي تَأْثِيرِهِ عَلَى صَاحِبِهِ عَنْ سَابِقِهِ؛ أَلَا وَهُوَ: الْقَنَوَاتُ الْفَضَائِيَّةُ، وَمَوَاقِعُ الْإِنْتَرْنِت، وَوَسَائِلُ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ الْمَحْمُولَةِ وَنَحْوِهَا، وَالَّتِي يَحْمِلُهَا الْأَبْنَاءُ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا؛ فِي بُيُوتِهِمْ وَعِنْدَ خُرُوجِهِمْ، وَهَذِهِ الْأَجْهِزَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْتَ مُتَابَعَةِ الْآبَاءِ وَرِقَابَتِهِمْ فَإِنَّ خَطَرَهَا عَظِيمٌ عَلَى الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، فَكَمْ قَدْ تَاهَ وَانْحَرَفَ مِنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ بِسَبَبِهَا، وَآلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى مُنْكَرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَبَلَايَا جَسِيمَةٍ لَا يَعْلَمُ خَطَرَهَا إِلَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- )).

((مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى النُّصْحِ))

((وَمِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْمُدَاوَمَةُ عَلَى النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ؛ لَا سِيَّمَا إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ بَدْءًا بِتَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِهِ، وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ يَبْدَأُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَسَائِرِ الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا النَّصِيبُ الْأَكْبَرُ مِنَ التَّوْجِيهِ وَالنُّصْحِ، وَبَعْدَهَا يَلْتَفِتُ الْوَالِدُ وَالْوَالِدَةُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا حَالُ أَبْنَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنَ الْوَصَايَا الْبَلِيغَةِ النَّافِعَةِ الْمُسَدَّدَةِ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ حِينَمَا وَعَظَ ابْنَهُ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ؛ حَيْثُ بَدَأَ مَعَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَثَنَّى بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبَعْدَهَا نَبَّهَهُ عَلَى إِحَاطَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِخَلْقِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ لِضَرُورَةِ مُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَخَتَمَ وَصِيَّتَهُ بِتَنْبِيهِهِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ رَفِيعِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ.

وَقَدِ انْتَهَجَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ كَمَا فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيَّيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- قَالَ: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132-133].

وَأَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِكَوْنِهِ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55].

وَأَمَرَ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِهَا -أَيْضًا-، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

وَيَدْخُلُ فِي تَوْجِيهِ الْأَبْنَاءِ وَنُصْحِهِمْ -أَيْضًا- أَنْ يُجَنِّبَ الْوَالِدُ أَبْنَاءَهُ كُلَّ مَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُمْ وَدِينَهُمْ؛ كَسَمَاعِ الْأَغَانِي، وَالْقَنَوَاتِ الضَّارَّةِ، وَالْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَكَذَا يَحْذَرُ مِنَ الذَّهَابِ بِأَبْنَائِهِ لِأَمَاكِنِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ)).

((حِمَايَةُ الْأَطْفَالِ مِنْ مَرْضَى الشُّذُوذِ الْجِنْسِيِّ))

((وَفِي مُقْتَبَلِ عُمُرِ الطِّفْلِ يَجِبُ أَنْ يَحْرِصَ الْأَبُ عَلَى حِمَايَةِ وَلَدِهِ مِنَ الشَّاذِّينَ، وَيَحْذَرَ إِهْمَالَ ذَلِكَ؛ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَحَدُ الشَّاذِّينَ الْعَرَبِ، وَبَاحَ بِسَبَبِ انْحِرَافِهِ وَشُذُوذِهِ؛ حَيْثُ كَانَ أَبَوَاهُ يُهْمِلَانِهِ بِانْشِغَالِهِمَا خَارِجَ الْبَيْتِ وَهُوَ فِي سِنِّ الطُّفُولَةِ؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى وُقُوعِهِ ضَحِيَّةً لِأَحَدِ رُفَقَاءِ السُّوءِ؛ حَيْثُ كَانَ يَجْهَلُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ.

وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ أَنْ يَحْذَرَ -أَيْضًا- كُلَّ مَنْ لَا يَخَافُ اللهَ مِنَ الْفُسَّاقِ وَنَحْوِهِمْ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْأَقْرِبَاءِ، أَوِ الْجِيرَانِ، أَوِ الْأَسَاتِذَةِ؛ فَإِنَّ الْإِحْصَاءَاتِ فِي أَمريكَا تُشِيرُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ الِاعْتِدَاءَاتِ الْجِنْسِيَّةِ عَلَى الْأَطْفَالِ تَقَعُ مِنْ أَفْرَادٍ يَعْرِفُونَهُمْ؛ كَأُسْتَاذِ الْمَدْرَسَةِ، أَوْ طَبِيبِ الْعَائِلَةِ، أَوْ مُسْتَشَارِ الْمُخَيَّمِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْتَهِدَ الْأَبُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَرِعَايَتِهِ، فَلَا يَتْرُكُ مَجَالًا لِخَلْوَةِ الْوَلَدِ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَهْمَا كَانَتِ الظُّرُوفُ.

وَرُبَّمَا يَحْدُثُ الِاعْتِدَاءُ الْجِنْسِيُّ مِنْ قِبَلِ طِفْلٍ أَكْبَرَ مِنْهُ سِنًّا؛ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَطْفَالِ يَنْضُجُونَ جِنْسِيًّا فِي مَرْحَلَةٍ مُبَكِّرَةٍ، كَمَا أَنَّهُ بِالْإِمْكَانِ قِيَامُ عَلَاقَاتٍ جِنْسِيَّةٍ بَيْنَ الْأَوْلَادِ قَبْلَ الْبُلُوغِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ لِأَصْدِقَاءِ الْوَلَدِ مِمَّنْ هُمْ فِي سِنِّهِ أَوْ أَصْغَرُ سِنًّا يُعَدُّ اخْتِيَارًا حَسَنًا مَأْمُونًا؛ فَلَا يَتْرُكُهُ يُصَاحِبُ الْكِبَارَ مِنَ الصِّبْيَانِ إِلَّا أَنْ يَضْمَنَ وَيَتَأَكَّدَ مِنِ اسْتِقَامَتِهِمْ وَحُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ.

وَيَتَنَبَّهُ الْأَبُ لِلتَّقْلِيلِ مِنْ خَلْوَةِ الْوَلَدِ قَبْلَ سِنِّ الْبُلُوغِ بِغَيْرِهِ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ يَزِيدُونَ؛ لِلتَّقْلِيلِ مِنِ احْتِمَالِ غِوَايَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ؛ فَالشَّيْطَانُ أَقْرَبُ لِلِاثْنَيْنِ مِنْهُ إِلَى الثَّلَاثَةِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ انْتِشَارِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ، وَجُرْأَةِ أَهْلِهَا: الْمُيُوعَةُ، وَالتَّخَنُّثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الصِّبْيَانِ.

فَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّمَيُّعِ وَالِانْحِلَالِ: إِطَالَةُ الْوَلَدِ لِشَعْرِهِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ، وَلُبْسُ الْبَنْطَلُونِ الضَّيِّقِ الْوَاصِفِ لِلْبَدَنِ، أَوْ لُبْسُ بَعْضِ الْمَلَابِسِ الْخَاصَّةِ بِالشَّاذِّينَ، وَجَرُّ الذُّيُولِ، وَالتَّكَسُّرُ فِي الْمِشْيَةِ، وَالْخُضُوعُ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّرَدُّدُ عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمَشْبُوهَةِ.

فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ الْمُنْحَرِفَةِ؛ وَجَبَ عَلَى الْأَبِ الْحَذَرُ مِنِ احْتِمَالِ انْحِرَافِ وَلَدِهِ؛ حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ يَجْهَلُ قُبْحَ هَذِهِ الْقَضَايَا؛ فَإِنَّ الْمُنْحَرِفِينَ يَنْتَظِرُونَ رُؤْيَةَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَظَاهِرِ لِيَنْقَضُّوا عَلَى فَرِيسَتِهِمْ بِشَتَّى الْوَسَائِلِ وَالْحِيَلِ الْمَاكِرَةِ.

وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ مِنْ تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ عَلَى الرُّجُولَةِ وَالْخُشُونَةِ؛ خَاصَّةً إِنْ كَانَ الْوَلَدُ جَمِيلَ الْمَطْلَعِ، فَيُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ، وَيُعَوِّدُهُ الرِّيَاضَةَ الْقَوِيَّةَ الَّتِي تَبْنِي جِسْمَهُ وَتُخَشِّنُ جِلْدَهُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَوِّدَهُ حِلَاقَةَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ شَعْرُهُ سَبَبَ جَمَالِهِ؛ اقْتِدَاءً بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي التَّعَامُلِ مَعَ الرَّجُلِ الْجَمِيلِ الَّذِي افْتُتِنَ بِهِ النِّسَاءُ.

وَيُعَوِّدُ وَلَدَهُ لُبْسَ الْمَلَابِسِ وَالثِّيَابِ الْفَضْفَاضَةِ، وَتَغْطِيَةَ رَأْسِهِ تَشَبُّهًا بِالْكِبَارِ الْبَالِغِينَ، وَيُحَذِّرُهُ مِنْ إِسْبَالِ الثَّوْبِ كَالنِّسَاءِ، وَلُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ؛ فَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ التَّخَنُّثِ وَالْمُيُوعَةِ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الرِّجَالِ.

وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِ وَالْغِنَى فَإِنَّ وَاجِبَهُ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ آكَدُ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْعَادَةِ مُرَفَّهُونَ، وَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النِّعْمَةِ؛ مِنْ نُعُومَةِ الْبَدَنِ، وَصَفَاءِ اللَّوْنِ، وَطِيبِ الرَّائِحَةِ، وَحُسْنِ ارْتِدَاءِ الثِّيَابِ، فَيَكُونُونَ بِذَلِكَ أَرْغَبَ وَأَدْعَى لِوُقُوعِهِمْ تَحْتَ أَيْدِي الْمُنْحَرِفِينَ؛ لِهَذَا فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُحَذِّرُ مِنْ مُجَالَسَةِ أَبْنَاءِ الْأُسَرِ الْمُتْرَفَةِ.

يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ: ((وَلَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ، وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الْعَذَارَى)).

كَمَا أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ الْوَلَدِ فَرِيسَةً لِأَحَدِ الشَّاذِّينَ فِي الْأُسَرِ الْغَنِيَّةِ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الْأُسَرِ الْمُتَوَسِّطَةِ الْحَالِ أَوِ الْفَقِيرَةِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأُسَرَ الْغَنِيَّةَ فِي الْعَادَةِ يُشَارِكُهَا فِي الْمَسْكَنِ خَدَمٌ وَعُمَّالٌ وَأَفْرَادٌ مِنْ غَيْرِ الْأُسْرَةِ يُقَدِّمُونَ الْخِدْمَةَ لِلْأُسْرَةِ، وَيَقُومُونَ عَلَى رِعَايَةِ شُؤُونِهَا، وَعَادَةً يَنْتَمِي هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ إِلَى ثَقَافَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ الْجَهْلُ وَقِلَّةُ الدِّينِ، فَنَادِرًا مَا يَكُونُ مِنْ بَيْنِهِمُ الصَّالِحُ الْمُسْتَقِيمُ، إِلَى جَانِبِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْعُزَّابِ، أَوِ الْمُغْترِبِينَ عَنْ أَهْلِيهِمْ، وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُؤْتَمَنُونَ عَلَى الْأَوْلَادِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانُوا مُؤْتَمَنِينَ حَتَّى عَلَى النِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ، فَلَا يَجِدُ الْأَبُ غَضَاضَةً عِنْدَمَا يَجِدُ وَلَدَهُ جَالِسًا يَتَحَدَّثُ فِي غُرْفَةِ الْخَادِمِ، وَلَا يَأْبَهُ إِذَا خَلَا الْبَيْتُ لِلْخَدَمِ وَالْأَوْلَادِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِهْمَالِ وَالتَّقْصِيرِ مِنَ الْأَبِ يُعَدُّ مَدْعَاةً لِوُقُوعِ الْفَاحِشَةِ بِالْوَلَدِ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنَ الْأَبِ، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ وُقُوعُ الْفَاحِشَةِ بِالْوَلَدِ فَتْرَةً طَوِيلَةً تَحْتَ طَائِلَةِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، أَوِ الْإِقْنَاعِ، أَوْ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مَاكِرَةٍ خَبِيثَةٍ؛ خَاصَّةً وَأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي لَمْ يُعْنَ وَالِدُهُ بِتَرْبِيَتِهِ يَقِلُّ فَهْمُهُ لِلْأُمُورِ، فَلَا يُدْرِكُ الصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ)).

كَمَا حَدَثَ مَعَ ذَلِكَ الشَّابِّ الَّذِي تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ، وَالَّذِي كَانَ صَرَّحَ بِأَنَّهُ كَانَ فَرِيسَةً لِأَحَدِ الْمُنْحَرِفِينَ بِسَبَبِ إِهْمَالِ وَالِدَيْهِ، وَجَهْلِهِ بِمَبَادِئِ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ.

وَهَذَا الْأَمْرُ مِنْ أَهَمِّ مَا يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَرِعَايَتُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالذَّاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا الشُّذُوذَ صَارَتْ مُؤَسَّسَاتٌ وَدُوَلٌ.. وَصَارَتْ جَمْعِيَّاتٌ وَمَرَاكِزُ تَدْعُو إِلَيْهِ وَتُزَيِّنُهُ، وَتَبُثُّهُ بَيْنَ النَّاسِ يَسْرِي فِي جَسَدِ الْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ سَرَيَانَ الْمَرَضِ الْخَبِيثِ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ.

فَعَلَى كُلِّ أَبٍ أَنْ يُرَاعِيَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُلَاحِظَ وَلَدَهُ، وَأَنْ يَقُومَ عَلَى حِيَاطَتِهِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.

((ثَمَرَاتُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ))

لَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ آدَابٍ: أَمْرُهُمْ بِهَا -أَيْ: بِالصَّلَاةِ-، وَضَرْبُهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((وَالصَّبِيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَوَلِيُّهُ مُكَلَّفٌ، لَا يَحِلُّ لَهُ تَمْكِينُهُ مِنَ الْمُحَرَّمِ؛ فَإِنَّهُ يَعْتَادُهُ، وَيَعْسُرُ فِطَامُهُ عَنْهُ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَهُ حَرَامًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، فَلَمْ يُحَرِّمْ لُبْسَهُ لِلْحَرِيرِ كَالدَّابَّةِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَإِنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِلتَّكْلِيفِ، وَلِهَذَا لَا يُمَكَّنُ مِنَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَلَا مِنَ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا وَنَجِسًا، وَلَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَعِبِ الْقِمَارِ، وَاللِّوَاطِ)).

وَقَالَ -أَيْضًا-: ((وَإِذَا صَارَ ابْنَ عَشْرٍ ازْدَادَ قُوَّةً وَعَقْلًا وَاحْتِمَالًا لِلْعِبَادَاتِ، فَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَهَذَا ضَرْبُ تَأْدِيبٍ وَتَمْرِينٍ، وَعِنْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ يَتَجَدَّدُ لَهُ حَالٌ أُخْرَى يَقْوَى فِيهَا تَمْيِيزُهُ وَمَعْرِفَتُهُ؛ وَلِذَلِكَ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيٌّ جِدًّا، وَإِنْ رُفِعَ عَنْهُ قَلَمُ التَّكْلِيفِ بِالْفُرُوعِ فَإِنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ آلَةَ مَعْرِفَةِ الصَّانِعِ، وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ، وَتَمَكَّنَ مِنْ نَظَرِ مِثْلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ كَمَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَهْمِ الْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، مَعَ أَنَّ أَدِلَّةَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ أَظْهَرُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ يَتَعَلَّمُهَا)).

 فَيَنْبَغِي أَنْ يُغْرَسَ فِي قَلْبِ الصَّبِيِّ الْإِيمَانُ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا الْإِيمَانُ أَطْيَبُ وَأَكْمَلُ وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِيمَا يَغْرِسُهُ الْأَبُ وَتَغْرِسُهُ الْأُمُّ فِي قَلْبِ الْوَلَدِ، وَهُوَ فَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسَاسُ كُلِّ طَاعَةٍ وَبِرٍّ، هُوَ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي اسْتِقَامَةِ الْمَرْءِ، وَاسْتِقَامَةِ الِابْنِ أَوِ الْبِنْتِ.

وَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يُبَيِّنُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ يُرْدِفُهُ خَلْفَهُ قَالَ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ؛ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: ((وَمَنْ حَفِظَ اللهَ فِي صِبَاهُ وَقُوَّتِهِ حَفِظَهُ اللهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ وَضَعْفِ قُوَّتِهِ، وَمَتَّعَهُ بِسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَحَوْلِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَعَقْلِهِ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)).

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعًا بِحِفْظِهِ الْجَمِيلِ، وَأَنْ يَحْفَظَ أَوْلَادَنَا وَأَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

أُصُولٌ وَمَعَالِمُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الطريق إلى محبة الله عز وجل
  تَكْرِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَرَدُّ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ حَوْلَهَا
  إلى أهل ليبيا الحبيبة
  مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ
  كَفُّ الْأَذَى عَنِ النَّاسِ صَدَقَةٌ
  موقف المسلم من العلم المادي
  الدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَمَنْزِلَةُ الْمَسَاجِدِ وَوُجُوبُ حِمَايَتِهَا فِي الْإِسْلَامِ
  الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ
  الْجيْشُ الْمِصْرِيُّ الْأَبِيُّ وَشَيْخُ الْحَدَّادِيَّةِ
  مَاذَا بَعْدَ الْحَجِّ؟
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان