((أَمَانَةُ الْعَامِلِ وَالصَّانِعِ وَإِتْقَانُهُمَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((عِظَمُ شَأْنِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِسْلَامِ))
فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ بِسَنَدَيْهِمَا عَنْ حُذَيْفَةَ صَاحِبِ سِرِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «حَدَّثَنا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، ثُمَّ حَدَّثَنا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيءٌ)).
ثُمَّ أَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ ﷺ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».
النَّبِيُّ ﷺ يَضْرِبُ الْمَثَلَ الْمَحْسُوسَ بِمَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ لَا يُحَسُّ، وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَمْرٍ كَائِنٍ فِي الْأُمَّةِ لَا مَحَالَةَ؛ بَلْ رَآهُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمِنْهُمْ رَاوِي الْحَدِيثِ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ: ((وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا اليَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا)).
وَهَذَا حُذَيْفَةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا؛ فَمَا نَقُولُ نَحْنُ؟!!
اللَّهُمَّ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ -وَجَذْرُ كُلِّ شَيْءٍ: أَصْلُهُ- فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ))، كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا))، ثُمَّ: ((إِنَّ قَوْمًا يَقْرَأُونَهُ يَنْثِرُونَهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)).
فَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الْإِيمَانَ نَزَلَ فِي جَذْرِ -أَيْ: فِي أَصْلِ- قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ.
ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَنْ قَبْضِ الْأَمَانَةِ، عَنْ قَبْضِ الْإِيمَانِ مِنَ الْقُلُوبِ، يَنَامُ الرَّجُلُ فَيُقْبَضُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، وَتُنْزَعُ الْأَمَانَةُ مِنْ فُؤَادِهِ، فَيُصْبِحُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ إلَّا كَمَثَلِ أَثَرِ الْوَكْتِ -وَهُوَ الْأَثَرُ الْيَسِيرُ يَبْقَى فِي الشَّيْءِ عَلَامَةً بَاهِتَةً تَكَادُ تُخْطِؤُهَا الْعَيْنُ-.
ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَيُقْبَضُ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ، وَتُنْزَعُ الْأَمَانَةُ مِنْ فُؤَادِهِ، فَيُصْبِحُ وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ إلَّا كَمِثْلِ أَثَرِ الْمَجْلِ -وَهُوَ مَا يُصِيبُ الْيَدَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْفَأْسِ وَنَحْوِهَا-؛ فَإِذَا هِيَ مُنْتَبِرَةٌ قَدْ نَفِطَتْ، وَتَجَمَّعَ الْمَاءُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، كَالَّذِي دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ، وَأَخَذَ حَصَاةً فَدَحْرَجَهَا عَلَى رِجْلِهِ ﷺ.
ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْأَمَانَاتِ تُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى تُصْبِحَ أَنْدَرَ مِنْ عُقَابِ مَغْرَبٍ أَوْ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، لَا يَكَادُ الرَّجُلُ الْأَمِينُ يُوجَدُ فِي الْقَوْمِ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ، يَتَحَدَّثُ بِنُدْرَتِهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا؛ لِنُدْرَتِهِ، وَعَدَمِ وُجُودِهِ، وَعِزَّتِهِ! «يُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا».
وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَمَانَةَ عِنْدَمَا تُنْزَعُ مِنَ النَّاسِ تَخْتَلُّ الْمَقَايِيسُ، فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَحْسَنَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الشَّكْلُ الظَّاهِرُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَةٍ؛ كَالْقَبْرِ.. لَهُ ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ، يَحْوِي الْجِيَفَ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى الدُّودِ وَمَا أَشْبَهَ، رُفَاتٌ وَأَسْمَالٌ بَالِيَاتٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النِّفَايَاتِ، ظَاهِرٌ يَسُرُّ، وَبَاطِنٌ مِنْ دُونِهِ يَضُرُّ.
مَا أَجْمَلَهُ! مَا أَعْقَلَه! مَا أَكْيَسَهُ! مَا أَحْسَنَهُ! مَا أَجْلَدَهُ! وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.
يَقُولُ حُذَيْفَةُ: ((وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَلَا أُبَالِي أَيُّكُمْ بَايَعْتُ))؛ مَنْ أَعْطَيْتُ، وَمِمَّنْ أَخَذْتُ، وَلَا أُبَالِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ وَلَا فِيهِ أَحَدًا؛ ((لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وَأَمَّا اليَومَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا))؛ لِعِزَّةِ الْأَمْرِ وَنُدْرَتِهِ، وَلِصُعُوبَةِ الْحُصُولِ عَلَى الْأَمِينِ فِي الْقَوْمِ، كَمَا قَالَ الْأَمِينُ ﷺ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ، قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَتُمَثَّلُ لَهُ أَمَانَتُهُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ إِلَيْهِ، فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا، فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبَيْهِ؛ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ: إِنَّهُ سَأَلَ عَنْهُ أَبَاهُ -كَمَا وَرَدَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ ((الزُّهْدِ)) لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ -رَحِمَهُ اللهُ--، فَقَالَ الْإِمَامُ لِابْنِهِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: ((إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ)).
وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ؛ فَهُوَ مَوْقُوفٌ حَسَنٌ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِخْبَارًا عَنْ عَذَابٍ وَعَنْ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ فَمِ الْمَعْصُومِ ﷺ: ((الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ -الشَّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ- يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إِلَّا الْأَمَانَةَ، قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَيُقَالُ: أَدِّ أَمَانَتَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى الْهَاوِيَةِ -وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ، أَوْ هُوَ طَبَقَةٌ فِيهَا-، وَتُمَثَّلُ لَهُ أَمَانَتُهُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ إِلَيْهِ، فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا، فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، حَتَّى إِذَا نَظَرَ ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ مَنْكِبَيْهِ؛ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ)).
((الْأَمَانَةُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))
إِنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْغَرَّاءَ حَافِلَةٌ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَمِنْهَا: خُلُقُ الْأَمَانَةِ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ- بِهِ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ، وَوَصَفَ بِهِ أَهْلَ الْفَلَاحِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا} [النساء: 58].
((الْأَمَانَاتُ: كُلُّ مَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَأُمِرَ بِالْقِيَامِ بِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِأَدَائِهَا، أَيْ: كَامِلَةً مُوَفَّرَةً، لَا مَنْقُوصَةً، وَلَا مَبْخُوسَةً، وَلَا مَمْطُولًا بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْوِلَايَاتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَسْرَارِ، وَالْمَأْمُورَاتِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَنِ اؤْتُمِنَ أَمَانَةً وَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا، قَالُوا: لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِحِفْظِهَا; فَوَجَبَ ذَلِكَ.
وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى أَهْلِهَا} دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ وَتُؤَدَّى لِغَيْرِ الْمُؤْتَمِنِ، وَوَكِيلُهُ بِمَنْزِلَتِهِ; فَلَوْ دَفَعَهَا لِغَيْرِ رَبِّهَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لَهَا)).
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
(({وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أَيْ: مُرَاعُونَ لَهَا، ضَابِطُونَ، حَافِظُونَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا وَتَنْفِيذِهَا، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلَّهِ، وَالَّتِي هِيَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ}؛ فَجَمِيعُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ أَمَانَةٌ، عَلَى الْعَبْدِ حِفْظُهَا بِالْقِيَامِ التَّامِّ بِهَا، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمَانَاتُ الْآدَمِيِّينَ؛ كَأَمَانَاتِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَسْرَارِ، وَنَحْوِهِمَا؛ فَعَلَى الْعَبْدِ مُرَاعَاةُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَتَيْنِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ يَشْمَلُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ، وَالَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ، وَهِيَ الِالْتِزَامَاتُ وَالْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْعَبْدُ؛ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاتُهَا وَالْوَفَاءُ بِهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْرِيطُ فِيهَا وَإِهْمَالُهَا)).
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283].
((وَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَلَمْ تَجِدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَكُمْ فَادْفَعُوا إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ شَيْئًا يَكُونُ عِنْدَهُ ضَمَانًا لِحَقِّهِ إِلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَدِينُ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ، فَإِنْ وَثِقَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْكِتَابَةِ، وَالْإِشْهَادِ، وَالرَّهْنِ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ أَمَانَةً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاقِبَ اللهَ فَلَا يَخُونُ صَاحِبَهُ.
فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَدِينُ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ، وَكَانَ هُنَاكَ مَنْ حَضَرَ وَشَهِدَ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ شَهَادَتَهُ، وَمَنْ أَخْفَى هَذِهِ الشَّهَادَةَ فَهُوَ صَاحِبُ قَلْبٍ غَادِرٍ فَاجِرٍ.
وَاللهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى السَّرَائِرِ.. الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ أُمُورِكُمْ سَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].
((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤَدُّوا مَا ائْتَمَنَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ قَدْ عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ؛ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
فَمَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ اسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بَلْ خَانَهَا؛ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ، وَصَارَ خَائِنًا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِأَمَانَتِهِ، مُنْقِصًا لِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِأَخَسِّ الصِّفَاتِ وَأَقْبَحِ الشِّيَاتِ؛ وَهِيَ الْخِيَانَةُ، مُفَوِّتًا لَهَا أَكْمَلَ الصِّفَاتِ وَأَتَمَّهَا؛ وَهِيَ الْأَمَانَةُ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ مُمْتَحَنًا بِأَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَرُبَّمَا حَمَلَتْهُ مَحَبَّتُهُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى أَدَاءِ أَمَانَتِهِ؛ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ فِتْنَةٌ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ سَتُؤَدَّى لِمَنْ أَعْطَاهَا، وَتُرَدُّ لِمَنِ اسْتَوْدَعَهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ.
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ عَقْلٌ وَرَأْيٌ؛ فَآثِرُوا فَضْلَهُ الْعَظِيمَ عَلَى لَذَّةٍ صَغِيرَةٍ فَانِيَةٍ مُضْمَحِلَّةٍ، فَالْعَاقِلُ يُوَازِنُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَيُؤْثِرُ أَوْلَاهَا بِالْإِيثَارِ وَأَحَقَّهَا بِالتَّقْدِيمِ)).
إِنَّ شَأْنَ الْأَمَانَةِ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَظِيمٌ، وَكَمَا أَمَرَ بِأَدَائِهَا وَالْحِفَاظِ عَلَيْهَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-؛ كَذَلِكَ أَمَرَ بِهَا نَبِيُّنَا ﷺ، وَأَوْلَاهَا اهْتِمَامًا كَبِيرًا فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ: أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)).
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَإنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ)). الْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ)).
((وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ..)).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)).
وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ)).
اؤْتُمِنَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا دَامَ قَدِ الْتَفَتَ.
((إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
لَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ)) كَذَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حَدِيثِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ كَلَامِ جَعْفَرٍ فِي مُخَاطَبَةِ النَّجَاشِيِّ، فَقَالَ لَهُ: ((أَيُّهَا الْمَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ؛ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ صِدْقَهُ، وَنَسَبَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، قال: فَصَدَّقْنَاهُ، وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ...)) الْحَدِيثَ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ، وَغَيْرُهُ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى جَمِيعًا-.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا، فَلَمَّا حَضَرَ جِزَازُ النَّخْلِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا كَثِيرًا، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ)).
قَالَ: ((اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ)).
فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ طَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ((ادْعُ أَصْحَابَكَ)).
فَمَا زَالَ يَكِيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى اللهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَأَنَا -وَاللهِ- رَاضٍ أَنْ يُؤَدِّيَ اللهُ أَمَانَةَ وَالِدِي، وَلَا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتِي بِتَمْرَةٍ، فَسَلَّمَ -وَاللهِ- الْبَيَادِرَ كُلَّهَا حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً وَاحِدَةً!!)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ لِي عَلَى قُرَيْشٍ حَقًّا، وَإِنَّ لِقُرَيْشٍ عَلَيْكُمْ حَقًّا مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا، وَاؤْتُمِنُوا فَأَدَّوْا، وَاسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: ((مَتَى السَّاعَةُ؟)).
فَمَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: ((أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟)).
قَالَ: ((هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ)).
قَالَ: ((فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).
قَالَ: ((كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟)).
قَالَ: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ)).
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؛ عَلَى وُضُوئِهِنَّ، وَرُكُوعِهِنَّ، وَسُجُودِهِنَّ، وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ)).
قَالُوا: ((يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟)).
قَالَ: ((الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: ((يَا غُلَامُ! هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟)).
قَالَ: قُلْتُ: ((نَعَمْ؛ وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ)).
قَالَ: ((فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟)).
فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا، فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: ((اقْلُصْ))، فَقَلَصَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ)).
قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: ((يَرْحَمُكَ اللهُ؛ فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ)).
ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ بِإِسْنَادِهِ قَالَ: ((فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مَنْقُورَةٍ، فَاحْتَلَبَ فِيهَا، فَشَرِبَ، وَشَرِبَ أَبُو بَكْرٍ، وَشَرِبْتُ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، قُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ)).
قَالَ: ((إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ)).
قَالَ: ((فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، ثُمَّ تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-؟)).
قَالُوا: ((كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟)).
قَالَ: ((تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَوَامِّكُمْ)).
وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ: ((لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ)).
فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ)).
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ)).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا: ((ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعُكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُوَدِّعُنَا: ((أَسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ)).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟)).
قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ؛ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَجْمَعُ اللَّه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ، فَيَقُومُ الْمُؤمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ- فَيَقُولُون: يَا أَبَانَا! اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيقُولُ: وهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ؟! لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، فَيقُولُ عِيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، فَيَقُومُ، فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ)).
قُلْتُ: ((بِأَبِي وَأُمِّي! أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟!!)).
قَالَ: ((أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدُّ الرِّجَالِ تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، حَتَّى يَجِئَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا، وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ، مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ)).
((وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ! إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
((أَمَانَةُ الْعَامِلِ وَالصَّانِعِ وَسُبُلُهَا))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَهَمِّ صُوَرِ الْأَمَانَةِ: أَمَانَةَ الْعَامِلِ وَالصَّانِعِ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.
الْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومَ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.
وَتَكُونُ أَمَانَةُ الْعَامِلِ أَوِ الصَّانِعِ أَوِ الْمُوَظَّفِ بِمُرَاقَبَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كُلِّ عَمَلٍ كُلِّفَ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَمَلًا عَامًّا أَمْ خَاصًّا؛ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- سِرًّا وَعَلَنًا فِي حُضُورِ صَاحِبِ الْعَمَلِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، أَوْ فِي عَدَمِ حُضُورِ أَيٍّ مِنْهُمَا، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
((أَيْ: هُوَ مُرَاقِبٌ لِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 9]، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((اعْبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))، وَهَذَا إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ بِمُرَاقَبَةِ الرَّقِيبِ)).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [الأحزاب: 52].
((أَيْ: مُرَاقِبًا لِلْأُمُورِ، وَعَالِمًا بِمَا إِلَيْهِ تَؤُولُ، وَقَائِمًا بِتَدْبِيرِهَا عَلَى أَكْمَلِ نِظَامٍ وَأَحْسَنِ إِحْكَامٍ)).
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
((يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ عُمُومِ مُشَاهَدَتِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، وَفِي ضِمْنِ هَذَا الدَّعْوَةُ لِمُرَاقَبَتِهِ عَلَى الدَّوَامِ فَقَالَ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} أَيْ: حَالٍ مِنْ أَحْوَالِكَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، {وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} أَيْ: وَمَا تَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْكَ، {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أَيْ: وَقْتَ شُرُوعِكُمْ فِيهِ وَاسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.
فَرَاقِبُوا اللهَ فِي أَعْمَالِكُمْ، وَأَدُّوهَا عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَإِيَّاكُمْ وَمَا يَكْرَهُ اللهُ -تَعَالَى- فَإِنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكُمْ، عَالِمٌ بِظَوَاهِرِكُمْ وَبَوَاطِنِكُمْ..
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} أَيْ: مَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أَيْ:َ قَدْ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ، وَجَرَى بِهِ قَلَمُهُ.
وَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللهُ بَيْنَهُمَا، وَهُمَا: الْعِلْمُ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَكِتَابَتُهُ الْمُحِيطَةُ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70])).
وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
((قَالَ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِخَلْقِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ وَسَمَاعِهِ كَلَامَهُمْ وَرُؤْيَتِهِ مَكَانَهُمْ حَيْثُ كَانُوا وَأَيْنَ كَانُوا فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا} أَيْ: مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ وَسِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ، وَرُسُلُهُ -أَيْضًا- مَعَ ذَلِكَ تَكْتُبُ مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مَعَ عِلْمِ اللهِ بِهِ وَسَمْعِهِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [التوبة: ٧٨]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزُّخْرُف: ٨٠]، وَلِهَذَا حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعِيَّةُ عِلْمِهِ -تَعَالَى-، وَلَا شَكَّ فِي إِرَادَةِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ سَمْعَهُ -أَيْضًا- مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَبَصَرَهُ نَافِذٌ فِيهِمْ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَى خَلْقِهِ لَا يَغِيبُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: افْتَتَحَ الْآيَةَ بِالْعِلْمِ وَاخْتَتَمَهَا بِالْعِلْمِ)).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! وَمِنْ أَمَانَةِ الْعَامِلِ وَالصَّانِعِ إِتْقَانُ الْعَمَلِ وَالصَّنْعَةِ وَتَجْوِيدُهُمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي الْفَرْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْعَمَلَ صَحِيحًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتْقَنًا؛ فَهَل يَعِي ذَلِكَ الْمُسلِمُونَ وَيَسْعَوْنَ إِلَى جَعْلِهِ مِيزَةً لِشَخْصِيَّاتِهِمْ وَخُلُقًا يَتَّصِفُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَمَبْدَأً يَنْطَلِقُونَ مِنْهُ فِي مُؤَسَّسَاتِ الْعِلْمِ وَمَيَادِينِ الْعَمَلِ وَأَسْوَاقِ الصِّنَاعَةِ، لِيَصِلُوا بِهِ إِلَى الْإِنجَازِ وَيُحَقِّقُوا بِسَبَبِهِ النَّجَاحَ؟!!.
إِنَّ إِتْقَانَ الْعَمَلِ وَالتَّمَيُّرَ فِيهِ وَالْقِيَامَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ مِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا الْإِسْلَامُ وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا، وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ هَذَا الْكَوْنَ بِإِتْقَانٍ وَإِبْدَاعٍ؛ لِيَسِيرَ النَّاسُ عَلَى هَذَا النَّهْجِ الْإِلَهِيِّ فِي أَعْمَالِهِمْ؛ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
وَتَرَى الْجِبَالَ -أَيُّهَا الرَّائِي- تَظُنُّهَا مُتَمَاسِكَةً لَا حَرَكَةَ لِذَرَّاتِهَا وَلَا سَيْرَ لَهَا فِي جُمْلَتِهَا، وَهِيَ فِي وَاقِعِ حَالِهَا تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ الَّذِي تَتَحَرَّكُ ذَرَّاتُهُ تَحَرُّكًا دَاخِلِيًّا، وَيَسِيرُ فِي جُمْلَتِهِ مِنْ مَوْقِعٍ إِلَى مَوْقِعٍ فِي السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْجِبَالِ وَسَائِرِ مَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ ذَرَّاتُ كُلِّ شَيْءٍ تَتَحَرَّكُ حَرَكَاتٍ فِي دَوَائِرَ وَأَقْفَالٍ مُقْفَلَةٍ.
وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مَعَ جِبَالِهَا تَمُرُّ سَائِرَةً فِي دَوْرَةٍ يَوْمِيَّةٍ حَوْلَ نَفْسِهَا وَفِي دَوْرَةٍ سَنَوِيَّةٍ حَوْلَ الشَّمْسِ.
صَنَعَ اللهُ ذَلِكَ صُنْعًا الَّذِي أَحْكَمَ صُنْعَهُ، وَجَعَلَهُ مُطَابِقًا لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ.
وَدِينُنَا الْحَنِيفُ لَا يَطْلُبُ مِنَ النَّاسِ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ، إِنَّمَا يَطْلُبُ إِتْقَانَهُ وَإِحْسَانَهُ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].
وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)).
إِنَّ دِينَنَا دِينُ الْإِتْقَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَقَدْ عُنِيَ عِنَايَةً بَالِغَةً بِذَلِكَ، سَوَاءٌ فِي مَجَالِ الصِّنَاعَةِ أَمْ فِي مَجَالِ الْحِرَفِ وَالْمِهَنِ، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ لَا يُمْكِنَ أَنْ تَنْهَضَ أَوْ تَتَقَدَّمَ بِلَا إِتْقَانٍ، وَدَوْرُنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِتْقَانَ ثَقَافَةَ الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْإِتْقَانُ هُوَ الْأَصْلُ فِي حَيَاتِنَا وَمَا عَدَاهُ هُوَ الشَّاذُّ الَّذِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ الْقَبُولُ بِهِ.
إِنَّ الْمُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْقَانِ فِي أَعْمَالِهِ التَّعَبُّدِيَّةِ وَالْمَعَاشِيَّةِ؛ إِحْكَامًا وَإِكْمَالًا، وَمِنْ ذَلِكَ: سُرْعَةُ إِنْجَازِ الْعَمَلِ فِي مَوْعِدِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَالْعَهْدِ، وَهُوَ شَأْنُ الْعُمَّالِ وَالصُّنَّاعِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُتَحَضِّرَةِ، كَمَا أَنَّهُ صِفَةٌ كَرِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
(({وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} أَيِ: الَّذِي تُعَاهِدُونَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَالْعُقُودَ الَّتِي تُعَامِلُونَهُمْ بِهَا؛ فَإِنَّ الْعَهْدَ وَالْعَقْدَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسْأَلُ صَاحِبُهُ عَنْهُ: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} أَيْ: عَنْهُ)). ابن كثير
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ، وَامْتَدَحَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ؛ أَيْ: بِإِكْمَالِهَا وَإِتْمَامِهَا، وَعَدَمِ نَقْضِهَا وَنَقْصِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْعُقُودِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ مِنَ الْتِزَامِ عُبُودِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِهَا أَتَمَّ قِيَامٍ، وَعَدَمِ الِانْتِقَاصِ مِنْ حُقُوقِهَا شَيْئًا، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِهِ، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقَارِبِ بِبِرِّهِمْ وَصِلَتِهِمْ وَعَدَمِ قَطِيعَتِهِمْ، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الصُّحْبَةِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ؛ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَعُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، بَلْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي عَقَدَهَا اللهُ بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} بِالتَّنَاصُرِ عَلَى الْحَقِّ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَيْهِ، وَالتَّآلُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمِ التَّقَاطُعِ.
فَهَذَا الْأَمْرُ شَامِلٌ لِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْعُقُودِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْقِيَامِ بِهَا)).
وَيَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 8-11].
(({وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} أَيْ: إِذَا اؤْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، بَلْ يُؤَدُّونَهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا عَاهَدُوا أَوْ عَاقَدُوا أَوْفَوْا بِذَلِكَ، لَا كَصِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا اؤتمن خَانَ».
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ} أَيْ: يُوَاظِبُونَ عَلَيْهَا فِي مَوَاقِيتِهَا، كَمَا قَالَ ابن مسعود: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَلَتْ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟))، قَالَ «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟))، قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قُلْتُ: ((ثُمَّ أَيٌّ؟))، قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَفِي ((مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ)) قَالَ: «الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا».
وَلَمَّا وَصَفَ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ وَالْأَفْعَالِ الرَّشِيدَةِ قَالَ: {أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ})).
((ثَمَرَاتُ الْأَمَانَةِ وَجَزَاؤُهَا))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ جَزَاءَ الْأَمَانَةِ عَظِيمٌ، وَفَضْلَهَا عَمِيمٌ، وَيَكْفِي أَنَّ الْعَامِلَ وَالصَّانِعَ الْمُتَحَقِّقَ بِالْأَمَانَةِ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْإِيمَانِ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ)).
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَمَانَةَ أَحَدُ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ، وَالْعَامِلُ الْأَمِينُ وَالصَّانِعُ الْأَمِينُ بِعَقِيدَتِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَعِبَادَتِهِ الصَّحِيحَةِ وَأَمَانَتِهِ مَحْبُوبٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- حَيْثُ أَطَاعَ أَمْرَهُ -سُبْحَانَهُ-، مَحْبُوبٌ مِنَ النَّاسِ حَيْثُ يَثِقُونَ بِعَمَلِهِ وَصَنْعَتِهِ وَيُقْبِلُونَ عَلَى مُنْتَجِهِ، فَإِذَا قَامَ الْعَبْدُ بِإِتْقَانِ عَمَلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فَجَزَاؤُهُ ثَمَرَةٌ وَخَيْرٌ وَبَرَكَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَثَوَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ يَلْقَى اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
((وَإِحْسَانُ الْعَمَلِ: أَنْ يُرِيدُ الْعَبْدُ الْعَمَلَ لِوَجْهِ اللهِ، مُتَّبِعًا فِي ذَلِكَ شَرْعَ اللهِ، فَهَذَا الْعَمَلُ لَا يُضِيعُهُ اللهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، بَلْ يَحْفَظُهُ لِلْعَامِلِينَ، وَيُوَفِّيهِمْ مِنَ الْأَجْرِ بِحَسَبِ عَمَلِهِمْ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ)).
كَمَا أَنَّ الْمُجْتَمَعَ الَّذِي تَغْلِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَتَتَحَقَّقُ الْأَمَانَةُ فِي عُمَّالِهِ وَصُنَّاعِهِ وَسَائِرِ أَطْيَافِهِ مُجْتَمَعُ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ، وَبِيئَةٍ صَالِحَةٍ مُفْعَمَةٍ بِالْأَمَلِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِنْتَاجِ الْمُتَمَيِّزِ وَالْعَمَلِ الْمُتْقَنِ، فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْخَيْرُ، وَيَعُمُّ الرَّخَاءُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْأَمْنَ وَالْأَمَانَةَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَمْنُ، فَلَا أَمْنَ بِلَا إِيمَانٍ، وَلَا إِيمَانَ بِلَا أَمَانَةَ، وَأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَتِ الْأَمَانَةُ حَدَثَ اضْطِرَابٌ مُجْتَمَعِيٌّ كَبِيرٌ، وَوَقَعَتِ الْقَلَاقِلُ وَالْخُصُومَاتُ وَالْفِتَنُ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَشَكَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ، فَلَمْ يَأْمَنْ صَدِيقٌ صَدِيقَهُ، وَلَا زَوْجٌ زَوْجَهُ، وَلَا جَارٌ جَارَهُ، أَمَّا الْأَمَانَةُ فَتُحَقِّقُ لِلنَّاسِ الطُّمَأْنِينَةَ وَالسَّكِينَةَ وَالْأَمْنَ الْمُجْتَمَعِيَّ.
إِنَّ لِلْأَمَانَةِ ثَمَرَاتٍ عَظِيمَةً وَأَثَرًا جَلِيلًا فِي تَحْقِيقِ الْأَمْنِ وَالسَّلَامِ الْمُجْتَمَعِيِّ؛ فَمِنْ ثَمَرَاتِ الْأَمَانَةِ: ((أَنَّهَا مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ، وَيَقُومُ عَلَيْهَا أَمْرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَالْأَمَانَةُ مِحْوَرُ الدِّينِ، وَامْتِحَانُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَبِالْأَمَانَةِ يُحْفَظُ الدِّينُ، وَالْأَعْرَاضُ، وَالْأَمْوَالُ، وَالْأَجْسَامُ، وَالْأَرْوَاحُ، وَالْمَعَارِفُ وَالْعُلُومُ، وَالْوِلَايَةُ، وَالْوِصَايَةُ، وَالشَّهَادَةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْكِتَابَةُ.
وَالْأَمِينُ يُحِبُّهُ اللهُ، وَيُحِبُّهُ النَّاسُ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الصِّفَاتِ الْخُلُقِيَّةِ الَّتِي وَصَفَ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} [المؤمنون: ٨].
إِنَّ الْمُجْتَمَعَ الَّذِي تَفْشُو فِيهِ الْأَمَانَةُ مُجْتَمَعُ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ)).
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا إِيمَانَنَا، وَأَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا أَدَاءَ أَمَانَاتِنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر: أَمَانَةُ الْعَامِلِ وَالصَّانِعِ وَإِتْقَانُهُمَا