((تَقْدِيرُ الْمَصْلَحَةِ وَتَنْظِيمُ الْمُبَاحِ))
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.
وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.
فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.
وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُتَّقُونَ الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ.. سَوَاءٌ كَانَ بِالْجَلْبِ وَالتَّحْصِيلِ كَتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَاللَّذَائِذِ، أَوْ بِالدَّفْعِ وَالِاتِّقَاءِ كَاسْتِبْعَادِ الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ؛ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى مَصْلَحَةً.
وَالْمَصْلَحَةُ فِيمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ هِيَ: «الْمَنْفَعَةُ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِعِبَادِهِ؛ مِنْ حِفْظِ دِينِهِمْ، وَنُفُوسِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ -وَهِيَ الضَّرُورَاتُ الْخَمْسُ-، طِبْقَ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا)).
وَالْمَصَالِحُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا: هِيَ الْمَصَالِحُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الَّتِي هِيَ:
* حِفْظُ الدِّينِ.
* وَحِفْظُ النَّفْسِ.
* وَحِفْظُ الْعَقْلِ.
* وَحِفْظُ النَّسْلِ.
* وَحِفْظُ الْمَالِ.
لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ بِهَا قِوَامُ الدُّنْيَا الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَلِيقُ بِهِ إِلَّا بِهَا.
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَا شَرَعَ حُكْمًا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إِمَّا جَلْبُ نَفْعٍ لَهُمْ، وَإِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.
فَالْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ أَيِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ: جَلْبُ مَنْفَعَةٍ لِلنَّاسِ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.
وَهَذَا الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ هُوَ الْغَايَةُ مِنْ تَشْرِيعِهِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَحَكَمَ بِهِ.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ؛ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُدْخِلَ النَّفْعَ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى غَيْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)). رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تُدْخِلَ النَّفْعَ عَلَى نَفْسِكَ، وَتُدْخِلَ الضَّرَرَ عَلَى غَيْرِكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَرِيمِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)): قِيلَ: إِنَّ الضَّرَرَ هُوَ الِاسْمُ، وَالضِّرَارَ الْفِعْلُ؛ فَالْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرَرَ نَفْسَهُ مُنْتَفٍ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ إِدْخَالَ الضَّرَرِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَذَلِكَ هُوَ مُنْتَفٍ فِي الشَّرْعِ.
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَهَابِ الْأَمْنِ وَإِشَاعَةِ الِاضْطِرَابِ وَالْفَوْضَى: شَغْلَ النَّاسِ بِالسِّيَاسَةِ، وَزَجَّهُم فِيهَا؛ فَإِنَّ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى زَعْزَعَةِ الْأَمْنِ -وَلَوْ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ-: شَغْلَ النَّاسِ بِالسِّيَاسَةِ الْخَاصَّةِ بِالْحُكُومَاتِ، وَزَجَّهُمْ فِيهَا عَنْ جَهْلٍ وَعَدَمِ دِرَايَةٍ، فَالسِّيَاسَةُ عِلْمٌ مِنَ الْعُلُومِ؛ بَلْ هِيَ عِلْمٌ صَعْبٌ جِدًّا، أَحْيَانًا لَا يُعْرَفُ لَهَا رَأْسٌ مِنْ ذَنَبٍ؛ فَكَيْفَ تُعْرَضُ عَلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَكَيْفَ يُنَاقِشُ فِيهَا الْجَمِيعُ؟!!
وَالسِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ رِعَايَةُ شُؤُونِ الْأُمَّةِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ بِمَا لَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ.
إِذَنْ؛ يَدُورُ أَمْرُ السِّيَاسَةِ عَلَى الْإِصْلَاحِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرِّعَايَةِ، وَالِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ، وَإِدَارَةِ الشُّؤُونِ وَالْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَأَمَاكِنِ الدَّوْلَةِ الثَّقِيلَةِ؛ كَالْوِزَارَاتِ، وَالْجُيُوشِ، وَالْمُعَاهَدَاتِ الدَّوْلِيَّةِ، وَالْعَلَاقَةِ مَعَ الدُّوَلِ الْمُجَاوِرَةِ.
فَانْظُرْ -رَعَاكَ اللهُ- مَنِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ فِي السِّيَاسَةِ، وَلِمَنْ يَكْتُبُ وَلِمَنْ يَقُولُ؛ لِتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ صَعْبُ الْمَنَالِ، قَدْ خَاضَ بِحَارَهُ وَسَبَرَ أَغْوَارَهُ وَاسْتَخْرَجَ كُنُوزَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، لَا عَامَّةُ النَّاسِ وَالْغَوغَاءُ مِنْهُمْ.
وَنَظَرًا لِخَفَاءِ هَذَا الْعِلْمِ وَصُعُوبَتِهِ؛ فَإِنَّه لَا يُذْكَرُ أَمَامَ عَامَّةِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ؛ فَإِنَّ انْتِقَادَ سِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأَمرِ وَالدَّوْلَةِ أَمَامَ النَّاسِ وَعَبْرَ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ وَعَلَى الْمَنَابِرِ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَقْلِ.
فَمَا أَسْرَعَ هَيَجَانَ النَّاسِ وَمَا أَسْهَلَهُ! فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْكَلامَ فِي هَذَا الشَّأْنِ شَجَاعَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْكَلامَ فِي هَذَا الشَّأْنِ غَبَاوَةٌ؛ لِأَنَّه يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَفِقْهٍ وَإِلْمَامٍ؛ فَإِنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ تُحِيطُ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْمَشَاكِلِ، وَيَعْلَمُ مِنَ التَّقَارِيرِ وَالْأَسْرَارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ عَامَّةُ النَّاسِ، وَيَكُونُ قَرَارُهُ فِي الْمُنْتَهَى مُؤَسَّسًا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَيَظْهَرُ أَمَامَهُمْ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ وَعَلَى غَيْرِ مَا يَشْتَهُونَ، فَيَأْتِي النَّقْدُ وَالطَّعْنُ وَالتَّهْيِيجُ تَحْتَ عُنْوَانِ (حُرِّيَّةُ الرَّأْيِ أَوِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ)؛ وَحِينَهَا يَكْرَهُهُ الْكُلُّ أَوْ مُعْظَمُ النَّاسِ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا زَعْزَعَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَلَيْسَ إِلَّا الْفَوضَى.
فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ- وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فَاعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّهُ لَا مَفْسَدَةَ أَشَدُّ مِنَ الْإِضْرَارِ بِحَيَاةِ النَّاسِ، وَالْأَوْلَوِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ لِإِزَالَةِ كُلِّ مَا يُشَكِّلُ خَطَرًا عَلَى الْحَيَاةِ، ثُمَّ لِمَا يُحَقِّقُ مَصَالِحَ النَّاسِ، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ أَنْ يَتَعَاوَنُوا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثِّمَارَ يَحْصُدُهَا الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ يَقَعُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَقَوْمٍ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ وَبَيْنَ عَوَاصِفِهِ، وَفِي ظُلُمَاتِ مُحِيطَاتٍ إِذَا أَخْرَجَ الْمَرْءُ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، وَأَنَّ مَصِيرَهُمْ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَأَنَّ الْوَهْمَ الَّذِي يَأْتِي لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ حَتَّى فِي الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ مِنْ مُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ دُوَلِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا عَلَيْهِ إِذَا مَا كَانَ صَالِحًا وَفَسَدَ النَّاسُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ وَأَنْ يَسْعَى مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُفَّ النَّاسَ عَنِ الشُّرُورِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَإِلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَظَلَّ مُنْطَوِيًا عَلَى نَفْسِهِ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مِنَ الصَّلَاحِ، وَإِنَّمَا هُوَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ جِدًّا، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ نَبِيُّنَا ﷺ.
فَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللهِ -تَعَالَى- وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَنَسْقِيَ مِنَ الْمَاءِ وَلَا نُؤْذِي مَنْ فَوْقَنَا.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ : فَلَوْ أَنَّهُمْ تَرَكُوهُمْ –يَخْرِقُوا فِي نَصِيبِهِمْ.. فِي نَصِيبِهِمْ خَرْقًا- هَلَكُوا جَمِيعًا، وَلَوْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ كَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تُحِيطُ بِهِمُ الْأَخْطَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، السَّمَاءُ فَوْقَهُمْ، وَالْبَحْرُ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَالرِّيَاحُ الْعَاصِفَاتُ تَنُوشُهُمْ مِنْ جَوَانِبِهِمْ، وَهَذِهِ السَّفِينَةُ كَأَنَّمَا هِيَ رَمْلَةٌ فِي صَحَرَاءَ مُتَرَامِيَةٍ، وَهِيَ قَطْرَةٌ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَأْتِيهِ الْمَوْجُ مِنْ فَوْقِهِ.. الْمَوْجُ مِنْ فَوْقِهِ السَّحَابُ بِظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَخُصُّهُ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْمُجْتَمَعِ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ لَنَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.