«الإِسْرَاءُ وَالمِعْرَاجُ وَدُرُوسٌ فِي المِنْحَةِ بَعْدَ المِحْنَةِ»
جمعٌ وترتيبٌ مِن خُطَبِ الشيخِ العلَّامة:
أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
«اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ يُؤيِّدُ أنبيائَهُ بالمُعْجِزَاتِ»
فإنَّ اللهَ –جلَّ وعلا- خلقَ الإنسانَ ومتَّعَهُ بنعمةِ العقلِ والبيانِ، ولم يجعل ربُّنَا –تبارك وتعالى- العقلَ طليقًا في مجالاتٍ يرتادُها بغيرِ حدودٍ، وإنما جَعَلَ للعقلِ حدودًا ينتهي عندها ونهاياتٍ يتوقفُ لديها، ومِن أجلِ أنْ يُسدِّدَ اللهُ رب العالمين الأنبياء فيما آتاهم اللهُ رَبُّ العالمين إيَّاهُ مِن الوحيِ المُبين؛ جَعَلَهُم آتِينَ بالمعجزاتِ التي يُجْرِيهَا اللهُ ربُّ العالمين على أيدِيهم مِمَّا يجعلُ العقلَ المستقيمَ لدى الخَلْقِ أجمعين يُقرُّ ويُذْعِنُ بأنَّ ذلك لا يكونُ إلَّا مِن لدُن ربِّ العالمين.
والمعجزةُ: أمرٌ خارقٌ للعادةِ مقرونٌ بالتحدي صراحةً أو ضِمْنًا، يُجريه اللهُ ربُّ العالمين على يَدَيْ مُدَّعٍ للنبوةِ، تَصْدِيقًا له فيما جاء به من دَعْوَى الرسالةِ مِن عند اللهِ رَبِّ العالمين، والتأييدُ مِن اللهِ ربِّ العالمين لا يكونُ إلَّا لصادقٍ؛ لأنَّ تأييدَ الكاذبِ تصديقٌ له، وتصديقُ الكاذبِ كَذِبٌ، والكذبُ مُحالٌ على اللهِ رب العالمين.
فإذا أظهرَ اللهُ ربُّ العالمين أَمْرًا خَارِقًا للعادةِ على يَدَيْ مُدَّعٍ للنبوةِ؛ فإنَّ ذلك يقومُ في مقامِ قولِ ربِّنَا –تبارك وتعالى- لو أسْمَعَنَا: صَدَقَ عبدي فيما يُبَلِّغُ عنِّي.
والمعجزةُ التي يأتي بها الرسولُ أو النبيُّ مِن عند العليِّ الأعلى تُفارِقُ المُخترعاتِ الحديثةِ التي يَتَوَصَّلُ إليها الناسُ يومًا بعد يومٍ؛ لأنَّ هذه المُخترَعَات مِمَّا يخضعُ لقانونٍ يعرفهُ العقلُ ويَتَوَصَّلُ إليه، ولأننا لم نَرَ رجُلًا اخترعَ جهازًا، ثم قامَ يتحدى به العالَم، ويدَّعِي النبوةَ بسببِ ما أتى به مِن هذا الاختراعِ العجيب، ولو فعلَ؛ لقامَ إليه كثيرٌ مِن خلقِ اللهِ ربِّ العالمين يُعارِضونَهُ بمِثْلِ ما أتى به وأَعْلَى منه وَأَجَلُّ، وأمَّا المعجزةُ فليس لها قانونٌ يُتَوَصَّلُ إليه، وليس لَهَا نَهجٌ يُعَوَّلُ عليه؛ لأنها تأييدٌ مِن اللهِ ربِّ العالمين صاحبِ القوَى والقُدَرِ الذي هو على كلِّ شيءٍ قدير.
والمعجزةُ تختلفُ أيضًا عن السِّحرِ؛ لأن السِّحرَ وإنْ كان يأتي في ظاهرِ الأمرِ بدروبٍ لا يتخيلها العقلُ، فإنه يخضعُ في النهايةِ لقواعدَ وأصول، يعرفُهَا الساحرُ، ويسيرُ عليها، ويخضعُ لها، ويَذِلُّ عندها، وليست المعجزةُ كذلك.
والمعجزةُ التي يُؤيِّدُ اللهُ رب العالمين بها أنبيائَهُ تختلفُ عن الكرامةِ التي يُكْرِمُ اللهُ رب العالمين بها أوليائَهُ؛ لأن الكرامةَ أمرٌ خارقٌ للعادةِ يُجريه اللهُ رب العالمين على يدي رجُلٍ صالحٍ لا يدَّعِي النبوة، وأمَّا المعجزةُ ففيها ادَّعاءُ النبوةِ، وفيها تصديقُ المعجزةِ بوحي الرسالةِ مِن عند اللهِ رب العالمين.
وأمَّا الكرامةُ: فتجري على يدي رجلٍ صالحٍ ينتسبُ إلى نبيٍّ مِن الأنبياءِ تكونُ زيادةً في شَرَفِ النبيِّ المَتْبُوعِ، فأمَّا إذا جَرَى الأمرُ الخارقُ للعادةِ على يَدَيْ الرجُلِ الطَالِحِ؛ فهذه هي الشَّعوذةُ، وهذا هو الدَّجَلُ، وهذا هو التَّمْوِيهُ.
وَقَد أيَّدَ اللهُ ربُّ العالمين الأنبياءَ والمُرسَلينَ قبل مُحمدٍ ﷺ بِدُرُوبٍ مِن خَوَارِقِ العَادَاتِ، بالمُعْجِزَاتِ البَيِّنَاتِ والآياتِ القَاهِرَاتِ، فلمَّا جاءَ الرسولُ ﷺ؛ جَمَعَ اللهُ رب العالمين له ما أَجْرَاهُ اللهُ رَبُّ العالمين على الأنبياءِ والمُرسلين قبلَهُ.
كما قالَ الشافعيُّ –رحمةُ اللهِ عليه- فيما يَرْوِيهُ عنه البيهقيُّ –رحمهُ اللهُ-، قال: «مَا آتَى اللهُ ربُّ العالمين نبيًّا قطُّ مِن آيةٍ ولا معجزةٍ إلَّا أَعْطَى مُحَمَّدًا ﷺ مِثْلَهَا أو أَعْظَمَ منها وأَجَلَّ، فَقِيلَ له: إنَّ اللهَ –عزَّ وجلَّ- قد أَجْرَى على يَدَيْ المَسِيحِ –عليه السلام- إِحْيَاءَ المَوْتَى، فأين ذلك لرسولِ اللهِ ﷺ؟
فقالَ الشافعيُّ الإمامُ –عليه الرحمة-: إنَّ اللهَ –عزَّ وجلَّ- أَعْطَى مُحَمَّدًا ﷺ أجَلَّ مِن ذلك وأَعْظَمَ، لأنَّ اللهَ ربَّ العالمين جَعَلَ الجِذْعَ -وهو خَشَبَةٌ لا حياةَ فيها- تَحِنُّ إليه، وتَئِنُّ لفِرَاقِهِ بما كان يُتْلَى عند هذا الجِذعِ في مَسْجِدِ النبيِّ ﷺ مِن آياتِ اللهِ والذِّكرِ، فهذا أعظمُ مِن ردِّ الحياةِ على ميِّتٍ كان حيًّا قبلُ.
وإنْ قيل: إنَّ اللهَ رَبَّ العالمين قد فَلَقَ البَحْرَ لموسى.
قلنا: إنَّ اللهَ رب العالمين قد فلقَ القمرَ وشقَّهُ لمُحَمَّدٍ ﷺ، والقمرُ بانشقاقِهِ آيةٌ سماويةٌ، والبحرُ بانفلاقِهِ آيةٌ أرضيبةٌ، والآيةُ السماويةُ أعلى وأجلُّ مِن الآيةِ الأرضيةِ.
وإنْ قيلَ: إنَّ اللهَ ربَّ العالمين قد أَجْرَى على يَدَيْ موسى –عليه السلام- أنه يَضْرِبُ الحَجَرَ بعصاه؛ فَتَنْبَجِسُ منه أَعْيُنُ المياه.
قلنا: إنَّ اللهَ ربَّ العالمين أَخْرَجَ مِن بين اللحمِ والدَّمِ مِن يَدَيْ مُحمَّدٍ ﷺ الماءَ العَذْبَ النميرَ بلا حدٍّ ولا حدود، وإخراجُ الماءِ مِن الحجرِ هذا هو المعهودُ، وأمَّا إخراجُ الماءِ مِن بين اللحمِ والدَّمِ، مِن الجارحةِ التي هي اليَدُ؛ فهذا هو الأمرُ الذي لا يُعهَدُ وأجراهُ اللهُ رب العالمين على مُحَمَّدٍ ﷺ آيةً بيِّنَةً ومعجزةً قاهرةً.
وإن قيل: إنَّ اللهَ رب العالمين سخَّرَ لسليمان –عليه السلام- الريح غدُّوهَا شهرٌ ورواحُها شهرٌ.
قلنا: إنَّ اللهَ ربَّ العالمين قد عَرَجَ بمُحَمَّدٍ ﷺ بعدما أَسْرَى به إلى المسجدِ الأقصى، إلى السماوات السبعِ، إلى سِدرةِ المُنتهى، ثم تقدَّمَ إلى مقامٍ يسمعُ فيه صريفَ الأقلام».
يقولُ الإمامُ النوويُّ –رحمةُ اللهِ عليه- في «مقدمةِ شرحِهِ على صحيحِ مسلم»: «إنَّ اللهَ ربَّ العالمين أعطى مُحَمَّدًا ﷺ مِن المعجزاتِ مائتين وألفًا»، ألفٌ ومائتان مِن المُعجزات أُتِيهَا وأُعطاها مُحمدٌ ﷺ.
وتنوعت معجزاتُ الرسول ﷺ فَشَمَلَت المُعجزات الحِسيَّة التي يَرَاهَا مَن يُعَاصِرُ خيرَ البريةِ ﷺ، ويشهدُهَا بعيني رأسِهِ، فتقومُ بها الحُجَّةُ، ويقعُ بها الإذعانُ، وتستبينُ بها المَحجَّةُ، ثم يتواترُ النقلُ بها صحيحًا مُستقرًّا، كأنما نَرَاهَا وَنُشَاهِدُهَا، يُجْرِيهَا اللهُ ربُّ العالمين على يَدَيْ خَلِيلِهِ وَصَفِيِّهِ ﷺ.
ثُمَّ آتَاهُ اللهُ ربُّ العالمين المعجزةَ الخالدةَ الباقيةَ «القرآنَ العظيم»، لأنه مبعوثٌ في مطلقِ الزمانِ ومطلقِ المكان كما قيل فيما صحَّ عنه فيما رواهُ الشيخان عن الرسولِ ﷺ، قال: وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومِهِ خاصة، وبُعِثْتُ إلى الناسِ عامة»، فهو رسولُ عامةٍ بلا حدودٍ ولا قيودٍ ولا سدودٍ، في مطلقِ الزمانِ ومطلقِ المكانِ، فناسبَ ذلك أنْ تظلَّ معجزتُهُ قائمةً للعيَانِ، يشهدُهَا مَن متَّعَهُ اللهُ رب العالمين بنعمةِ البصيرةِ، ويُقْبِلُ عليها مَن متَّعَهُ اللهُ رب العالمين بنعمةِ العقلِ، وما تزالُ باقيةً حتى يرفعُهَا اللهُ رب العالمين بين يَدَيْ الساعةِ مِن الصدورِ ومن السطورِ.
«حَدِيثُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ»
وَبَعْدَ خَمْسِينَ مِنَ الْأَعْوَامِ ... مَضَتْ لِعُمْرِ سَيِّدِ الْأَنَامِ
أَسْرَى بِهِ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الظُّلَمِ ... وَفَرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَتَمِ
وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى, وَالْمِعْرَاجُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمَّ إِلَى حَيْثُ -شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ-, هذا ملخص ما كان.
قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الْإِسْرَاءِ: 1].
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذِكْرِ الْمِعْرَاجِ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النَّجْمِ: 13-18].
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: «بَابُ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الْإِسْرَاءِ: 1]»:
وَرَوَى البُخَاريُّ عن أَبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يقول: «لَمَّا كَذَّبَنِي قُرَيْشٌ, قُمْتُ فِي الحِجْرِ, فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ, فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». والحديث أخرجه أيضًا مسلم في «صحيحه».
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ, وَهُوَ دَابَّةٌ, أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ, قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بها الْأَنْبِيَاءُ.
قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ, فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ.
ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ».
ورَوَى البخاريُّ -رحمه الله تعالى-: «بَابُ: الْمِعْرَاجِ»، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ, فَقَدَّ -قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ –وهما بمعنى القدُّ والشقُّ للثوب وكذلك لما بين هذه إلى هذه واحد-، مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ».
فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟
قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ،«فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي, ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي, ثُمَّ حُشِيَ, ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ».
فَقَالَ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟
فَقَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ.
قَالَ: «فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.
فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ, فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ, قِيلَ مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ.
قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.
فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ, قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ.
قِيلَ: وقد أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.
فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ؛ فَإِذَا يُوسُفُ قَالَ: هَذَا يُوسُفُ, فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: محمد ﷺ.
قيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: محمد ﷺ.
قيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ, فَنِعْمَ المجيء جاء.
فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ, قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: ومن مَعَكَ؟
قَالَ: محمد ﷺ.
قيل: أَوْقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.
فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى, قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟
قَالَ: أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: جِبْرِيلُ.
قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ ﷺ.
قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.
فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَليَّ السَّلَامَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَر, وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ.
قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى, وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ: فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ.
ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ, فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ، أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ, ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟
قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ.
قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ, فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.
فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ, فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟
قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ.
قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ, وَإِنِّي جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ.
قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ, وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ.
قَالَ: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا.
قال الشيخُ حَافِظُ الحكمي -رحمه الله تعالى-: وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ إِدْرِيسَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ, هَذَا قَدْ يُشْكِلُ؛ لأَنَّ إِدْرِيسَ مِنْ آبَائِهِ؛ وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ: «نَحْنُ مَعَاشِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَبْنَاءُ عِلَّاتٍ». الْخَ. والرواية التي ذكر الشيخ الحكمي –رحمه الله تعالى- لا تطابق الاستدلال بها، والتي تطابق الاستدلال على ما يريد هو –رحمه الله تعالى- هي: «الأَنْبيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ».
وَلمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ, فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا.
-لأنَّ الإسراءَ كان بِلَيْلٍ، والنبيُّ ﷺ لم يَكُن بحيث يَدُورُ في أرجاءِ المسجدِ الأَقْصَى ليعرفَ مَعَالِمَهُ، ثم هنالك مِن الأبوابِ والنَّوَافِذِ والسقوفِ وما أَشْبَهَ، بل إنَّ النبيَّ ﷺ لَمَّا صَلَّى إِمَامًا للأنبياءِ فيه –صلوات اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعين-؛ عُرِجَ به بعد ذلك إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، ثم إلى ما وراءَ ذلك مِمَّا لا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-.
قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ, فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهَا قَطُّ, قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ: مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ». الْحَدِيثَ.
«المِنْحَةُ بَعْدَ المِحْنَةِ الشَّدِيدَةِ»
اللهُ –تبارك وتعالى- جَعَلَ حَادِثَ الإسراءِ والمِعْرَاجِ بِعَقِبِ ما كان مِن إيذاءِ قُرَيْشٍ للنبيِّ ﷺ في تَصَاعُدِ خَطِّ الإيذاءِ إلى ذُرْوَتِهِ وَأَعْلَاهُ؛ لأنه بعد أنْ مَاتَ عَمُّهُ وَمَاتَت خديجةُ –رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-، وكان عَمُّهُ أبو طَالِب يُدَافِعُ عنه، فَيَجِدُ النبيُّ ﷺ هذا السَّنَدَ مِن البَشَرِ في الخارجِ –في خارجِ البيتِ-، ولكنَّهُ يَجِدُ العَنَتَ العَانِتَ، فإذا جاءَ إلى البيتِ وَجَدَ خديجةَ –رضي اللهُ عنها-، فكانَ يَجِدُ السَّكَنَ ﷺ، وَقَد مَرَّ مَا كانَ مِن أَمْرِهَا.
خديجةُ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وهذا مِن الآياتِ ومِن دلائلِ النبوةِ –نبوة الرسولِ ﷺ-، عندما رَجَعَ النبيُّ ﷺ وقد أُوحِيَ إليه أولَّ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يقول: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قال: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ».
قالت: «لا والله، لا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إنك لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، والله لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».
عِنْدَنَا دَلَالَاتَانِ:
*الدلالة الأولى: أنّ النبيَّ ﷺ كانت أخلاقُهُ لا تَصَنُّعَ فيها، لأنَّ اللهَ –تبارك وتعالى- كما أخبرَ عن أخلاقِهِ، جَعَلَهَا في الذُّرْوَةِ العُلْيَا مِن سُمُوِّ الأخلاقِ، وجلالِهَا وكمالِهَا وبهائِهَا: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، والتعبيرُ بـ (على) وهي الاستعلاء، فهو على الخُلُقِ العَظِيمِ ﷺ، كأنه يَعْلُوهُ ويَفُوقُهُ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ﴾ ﷺ، فَكَانَ هذا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فكانَ في بَيْتِهِ –وفي البيتِ تَبْدُو أخلاقُ الرَّجُلِ- كان على أَحْسَنِ ما يَكُونُ مِن الخُلُقِ، فهذه دلالة.
*والدلالة الثانية: أنَّ صَنَائِعَ المعروفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وأنَّ الإنسانَ إذا كان مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا واعتقادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ ربُّ العالمين عند نزولِ المُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ المعروفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، قالت: «لا والله، لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثم ذَكَرَت العِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمَلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ على نَوَائِبِ الدَّهْرِ»، إذن؛ ما دُمْتَ كذلك؛ فإنه لا يُمْكِنُ بحالٍ أبدًا أنْ يُصِيبَكَ شيءٌ، أو أنْ يُخْزِيكَ اللهُ –عز وجل-، أو أنْ يَتَخَلَّى عنك ﷺ.
فالنبيُّ ﷺ لَمَّا فَقَدَ خديجة وفَقَدَ عَمَّهُ، ومِن آياتِ اللهِ –تبارك وتعالى- ودلائلِ النبوةِ في النبيِّ ﷺ وله: أنَّ عَمَّهُ كان يُنَاصِرُهُ وهو بَاقٍ على كُفْرِهِ، لأنه لو كان أَسْلَمَ وهو مُنَاصِرُهُ؛ لَرُبَّمَا قال قائل: إنما انتصرَ الإسلامُ بالعصبيةِ؛ لأن عَمَّهُ قد أَسْلَمَ، فهو يَنْصَرُ الإسلامَ عَصَبِيَّةً، بمعنى أنَّ اللهَ –عز وجل- يَنْصُرُ هذا الدِّينَ بِعَصَبِيَّةِ الرسولِ ﷺ، ولم يَكُن الأمرُ كذلك، وإنما بَقِيَ على كُفْرِهِ؛ لَيَعْلَمَ الناسُ كلَّ الناسِ أنَّ الذي يَنْصُرُ الدِّينَ هو رَبُّهُ، هو الذي شَرَعَهُ، هو الذي أَنْزَلَهُ، وأنَّ الذي يَنْصُرُ الدِّينَ هو اللهُ.
فَيَبْقَى أبو طالب على كُفْرِهِ، بل يُخْرِجُ اللهُ ربُّ العالمين مِن أَعْمَامِ النبيِّ ﷺ مَن يُحَارِبُهُ عندما استعلنَ بالدعوةِ، يعني لم يَكُن في قُرَيْش سوى أبي لهب لكي يقولَ للنبيِّ ﷺ لَمَّا جَمَعَهُم عند الصَّفَا وَدَعَاهُم: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».
لم يَكُن في قُرَيش إلَّا هذا الرَّجُل، فيقولُ: تَبًّا لك سَائِرَ هذا اليوم!! ألهذا جَمَعْتَنَا؟ هذا عَمُّهُ!! بل كان يُؤذِيهِ أَبْعَدَ مِن ذلك وأَبْلَغَ، لِيَعْلَمَ الناسُ أيضًا أنَّ هذا الدينَ لم يُنْصَر بِمِثْلِ هذه الأمورِ، فَإِنَّ النبيَّ ﷺ كان يدورُ على النَّاسِ في مَجَامِعِهِم وفي مَوَاسِمِهِم وفي أَسْوَاقِهِم.
فَيَأتي العربُ وفودًا إلى مكة في الموسم، وكذلك كانوا يأتونَ وفودًا إلى مكة في الأسواق؛ في عُكاظ، وذي المجَنَّة، وذي المَجَاز، أسواقٌ للعربِ كانت معلومةً تُعْقَدُ في كلِّ عامٍ كمعرضِ الكتاب، فكانوا إذا جَاءوا؛ ذهبَ النبيُّ ﷺ يَعْرِضُ عليهم الإسلام، قولوا: «لا إله إلَّا اللهُ تُفْلِحُوا»، وَرَجُلٌ وَضِيءٌ أَحْوَلُ له غَدِيرَتَان –ضَفِيرَتَان- يَدُورُ وراءَ النبيِّ ﷺ كلما دَعَا قومًا؛ أَقْبَلَ هو على القومِ يقول: لا تُصَدِّقُوهُ، هو ابنُ أخي وهو مجنون!! فيقولُ النَّاسُ: عَمُّهُ أَدْرَى به!! بلاءٌ عظيمٌ.
فَلَمَّا مَاتَ أبو طالب وَمَاتَت خديجةُ، والنبيُّ ﷺ يقولُ: «والله مَا خَلُصَ إليَّ أَحَدٌ بِأَذَى أو بِشَيءٍ أَكْرَهُهُ إلَّا بعد أنْ مَاتَ أبو طالب».
وذهبَ النبيُّ ﷺ وقد أراد أنْ يَنْقُلَ الدعوةَ بِمَرْكزِهَا –مركز الثِّقَلِ في الدعوةِ- إلى الطائفِ؛ لأنَّ مَكَةَ اسْتَعْصَت، صَارَت حالتُهَا مُسْتَعْصِيَةً، يعني كما يقولون أَتَت بآخرِ مَا عِنْدَهَا، الدعوةُ هكذا وَصَلَت إلى الطريقِ المَسْدُودِ في مَكَّةَ في ذلك الوقتِ، فَأَرَادَ أنْ يَنْقُلَ مركزَ الدعوةِ ﷺ إلى الطائف، فَذَهَبَ إلى ثقيفٍ وَحَدَثَ عندهم ما حَدَثَ مِن الإيذاءِ لرسولِ اللهِ ﷺ، أَغْرُوا به الغِلْمَانَ والسُّفَهَاءَ والضُّعَفَاءَ يَقذِفُونَهُ بالحجارةِ، والرسول ﷺ يَبْتَعِدُ عن هؤلاء السفهاءِ حتى لا يَكُونَ في مَرْمَى أحجارِهِم،ومع ذلك أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ في عَقِبِهِ، وَبَلَغَ منه التَّعَبُ مَبْلَغَهُ، حتى ما كان يستطيع أنْ يقومَ على قَدَمَيْهِ، فَمَا وَصَلَ إلى ظِلِّ حَائِطِ عُتْبَةَ وشَيْبَةَ إلَّا على يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ، وكان ما كان.
مع هذا الأَسَى كلِّهِ ومع هذا العَنَتِ، ومع هذا الإيذاءِ مِن هؤلاء القومِ والمَوْجِدَةِ في القلبِ، وما استطاع أنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بعد ذلك إلَّا في جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وهو المُطْعم بن عَديٍّ؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ قالوا خَيْرًا فَعَلَ، لا يَدْخُلُهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَم يَدْخُل النبيُّ ﷺ مَكَّةَ بعد ذلك إلا في جِوَار المُطْعِمِ بنِ عَديٍّ.
فالنبيُّ ﷺ مع هذا كلِّهِ عندما أَتَى مَلَكُ الجبالِ، وقال: «إنْ أَرَدْتَ أنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِم الأَخْشَبَيْنِ –أي: الجَبَلَيْنِ؛ فَعَلْتُ، جَعَلَنِي اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- طَوْعَ أَمْرِكَ».
قال: «لَا، لَعَلَّ الله أنْ يُخْرِجَ مِن أَصْلَابِهِم مَن يُوَحِّدُ اللهَ –عَزَّ وَجَلَّ-».
فَصَدَقَ مَن سَمَّاهُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمَ ﷺ، مع هذا كلِّهِ لم يَأْخُذْهُم إلَّا بِالحِلْمِ والفَضْلِ، لأنَّ الهدايةَ بِيَدِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ-.
جَاءَت حَادِثَةُ الإسراءِ والمِعْرَاجِ فَتْحًا بعد أنْ وَقَعَ هذا، لم يَسْتَطِع أنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَجَفَاهُ النَّاسُ مِن قريبٍ وبعيدٍ، وتَعْرِفُ أنَّ الحديثَ الذي فيه: اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوتي وقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي على الناسِ...، ثُمَّ إلى مَن تَكِلُنِي، إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إلى عَدوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي..هَذَا ضَعِيفٌ.
ومع ذلك فاللهُ ربُّ العالمين أَسْرَى بِنَبِيِّهِ ﷺ بِعَقِبِ ذلك، فإذا كان أَهْلُ الأرضِ قد جَفَوْكَ يا مُحَمَّد؛ فَأَهْلُ السَّمَاءِ يَحْتَفُونَ بك.
والنبيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا به ربُّنَا، فهذه البُشريات يحتاجُهَا المسلمُ في الدعوةِ إلى اللهِ، الدَّاعِي إلى اللهِ أحيانًا يَرَى رؤيا، يَحْدُثُ له أَمْرٌ مِن الأمورِ التي تُعَدُّ بِشَارَةً كَمَا كان النبيُّ ﷺ يُحِبُّ الفَأْلَ –الكلمة الحَسَنَة-، ولَكِن كان لا يَتَطيَّرُ ولا يَتَشَاءَمُ، هو يُحِبُّ الفَأْلَ –هو الكلمةُ الصالحةُ، الكلمةُ الحَسَنَةُ، الكلمةُ الطيبةُ-، فكان يَهَشُّ لَهَا ﷺ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ(1).
*****
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
«الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا»
فَالَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا يَقَظَةً لَا مَنَامًا, وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي قَوْلِهِ ﷺ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا أَتَيَاهُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَرَّ نَائِمًا.
يعني أَتَيَاهُ وهو نائمٌ فاستيقظَ، فَأَخَذَاهُ، فَذَهَبَا به، فَشَقَّا ما بينَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إلى ما دونَ ذلك، فاسْتُخْرِجَ قلبُهُ، ثم جُعِلَ في طَسْتٍ مِن ذَهَبٍ فيه ماءٌ مِن زمزم، وغُسِلَ جَوْفُهُ ﷺ، وحُشِيَ حكمةً وعِلْمًا، وكلُّ هذا مُصَدَّقٌ، ولا يُمَاري فيه أَحَدٌ، لأنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قدير، وإنما استغَرَبَت قريشٌ ذلك؛ لأنها لم تَكُن مؤمنةً إيمانًا صحيحًا بقدرةِ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ-، وقدرةُ اللهِ طليقةٌ لا حَدَّ لَهَا، واللهُ يَفْعَلُ ما يشاء.
فإذا كان اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي خَلَقَ الزمانَ والمَكَانَ؛ أَفَيُرَاجَعُ اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- في شيءٍ يَخْرِقُ به سياجَ الزمانِ وسياجَ المكان؟!!
اللهُ على كلِّ شيءٍ قدير، ولذلك النبيُّ ﷺ أنزلَ اللهُ رَبُّ العالمين في شأنِ الإسراءِ به أنه هو الذي أَسْرَى به: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، اللهُ –عَزَّ وَجَلَّ- لم يَقُل إنَّ مُحَمَّدًا قد أَسْرَى بِنَفْسِهِ، وإنَّمَا أُسْرِيَ به، فهو ﷺ لم يَسْرِ بِنَفْسِهِ، وإنما أُسْرِيَ به، مَن الذي أَسْرَى به؟ الله.
إذن نُرْجِعُ المَسألةَ إلى اللهِ، قدرةُ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- لا حَدَّ لَهَا، فَمَهْمَا أَخْبَرَنَا به مِن شَيْءٍ؛ فنحن نُصَدِّقُهُ؛ لأنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ، وما نَسْتَغْرِبُهُ نحن بعقولِنَا؛ هذا رَاجِعٌ إلى قُدُرَاتِنَا نحن، إلى قدرةِ المَخلوقِ، وقدرةُ المَخلوقِ على قَدْرِهِ، وقدرةُ الخالقِ على قَدْرِ ذَاتِهِ، وذَاتُهُ ليس كَمِثْلِهَا ذَات، فَقُدْرَةُ اللهِ –عَزَّ وَجَلَّ- طليقةٌ.
فَأَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِن المَسجدِ الحَرَامِ إلى المسجدِ الأَقْصَى، ثُمَّ عُرِجَ به إلى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، ثُمَّ إلى مَا وَرَاءَ ذلك مِمَّا لا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ.
فَأُتِيَ بِالبُرَاقِ إلى غيرِ ذلك، فلا يَمْنَع أَبَدًا أنْ يكونَا قد أَتَيَا وهو نَائِمٌ ثُمَّ استيقظَ، لا أنَّ النَّصَّ يَدُلُّ على أنه حينما أُسْرِيَ به في حالِ مَنَامِهِ، لا دليلَ على ذلك، بل إنه ﷺ كما سيأتي حينما أُسْرِيَ به وعُرِجَ به بِجَسَدِهِ وروحِهِ ﷺ يقظةً لا مَنَامًا، بل هذا ما يَدُلُّ عليه العَقْلُ، ولا يُمَارِي فيه مَن آتَاهُ اللهُ رَبُّ العالمين ذَرْوًا مِن العَقْلِ، لِمَا؟
لأنَّ النبيَّ ﷺ لو أَخْبَرَهُم أنه رَأَى رؤيا؛ أكانَ أَحَدٌ –مَهْمَا كانت الرؤيا عجيبة- يُجَادِلُهُ فيها، يعني: عندما يقول: إني رأيتُ رؤيا أني قد أُسْرِيَ بي مِن المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المسجدِ الأَقْصَى، وعُرِجَ بي إلى السماءِ، أكانت قُرَيْشٌ تُجَادِلُهُ في ذلك؟ أو تُكَذِّبُهُ فيه؟!!
فالإنسانُ يَرَى أَعْجَبَ مِن ذلك مِن المَسَافَاتِ المُتَبَاعِدَةِ، يَرَى ذلك ويُخْبِرُ به ولا يُجَادِلُهُ فيه أَحَدٌ ولا يُكَذِّبُهُ، فلو كانت رؤيا مَنَام؛ ما كَذَّبَتْهُ قُرَيْش، وإِنَّمَا هي تَيَقَّنَت أنه ﷺ يُخْبِرُ عن أَمْرٍ وَقَعَ له يَقَظَةً، ولذلك قالوا: تَذْهَبُ وتَجِيءُ وفِرَاشُكَ لَمَّا يَزَل دَافِئًا بَعْدُ؟!!
فالإنسانُ يُمْكِنُ أنْ يَرَى في الرؤيا أنه ذَهَبَ إلى أَبْعَدَ مِن هذا –أي: أَبْعَدَ مِمَّا بينَ مَكَّة وبَيْتِ المَقْدِسِ-، ثُمَّ يَعُودُ وهو على فِرَاشِهِ، فَلَا يَزَالُ دَافِئًا بَعْدُ، ولَكِن هو خَرَجَ مِن هَذَا الفِرَاشِ بِجَسَدِهِ، ثُمَّ أُسْرِيَ به، فَذَهَبَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ عُرِجَ به إلى السماءِ الدنيا، ثُمَّ إلى السابعة إلى سُدْرَةِ المُنْتَهَى، ثُمَّ إلى مَا وَرَاءَ ذلك مِمَّا لا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ، هذا ما اسْتَغْرَبُوهُ.
وَلِذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحَيَّا, وَلَكِنْ فِي سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَنُزُولِهِ، وَرَبْطِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَصُعُودِهِ وَهُبُوطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا.
وهذا مَوْطِنُ الإعجازِ في المَسألةِ، وَأَمَّا إذا كانت مَنَامًا؛ فالإنسانُ يَرَى في المَنَامِ أَعْجَبَ الأمورِ، ولا يُرَاجِعُهُ في ذلك أَحَدٌ، ولَكِنْ في اليَقَظَةِ يَحْدُثُ هذا، هذا هو مَوْطِنُ الآيةِ في هذا الأمرِ العَظِيمِ.
هل إذا قِيلَ هذا عَبْدٌ، تَنْطَبِقُ على الرُّوحِ دونَ الجَسَدِ أو على الجَسَدِ دونَ الرُّوحِ أَمْ تَنْطَبِقُ على الرُّوحِ والجَسَدِ مَعًا؟
عليهما مَعًا، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، فَهَذَا شَامِلٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النَّجْمِ: 13]، جَعَلَ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ ﷺ لِجِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مُقَابِلًا لِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَبْطَحِ, وَهِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ حَقِيقَةً لَا مَنَامًا.
–عندما رَأَى النبيُّ ﷺ جبريلَ على هَيْئَتِهِ المَلَكيَّةِ، له ستمائة جَنَاح، وقد سَدَّ الأُفُقَ، فَرَآهُ على هيئتِهِ المَلَكيةِ التي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا؛ لأنه كان يَتَشَكَّلُ، ولَكِن رَآهُ على هَيْئتِهِ المَلَكيةِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّة بِالأَبْطحِ، ثم قال الله –تبارك وتعالى-: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾، كما رآه في المرة الأولى على هيئته الملكية؛ رآه مرة ثانية، الأولى كانت يقظة أم مناما؟ كانت يقظة، فالثانية كمثلها-.
وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً وَلَا كَانَ لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ بِهَا، وَقَوْلِهِمْ كُنَّا نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا ذَهَابًا وَشَهْرًا إِيَابًا, وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ إِلَيْهِ وَأَصْبَحَ فِينَا, إِلَى آخِرِ تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ ﷺ.
ما كان لذلك –أي: مِن اعتراضِهِم-، ما كان مِن اعتراضِهِم هذا مِن مَعْنَى، لو أَنَّهُم فَهِمُوا أنه كان مَنَامًا؛ لأنَّهُم يقولون نحن نذهبُ إليه يَقَظَةً بأبدانِنَا في شَهْرٍ، نَضْرِبُ أكبادَ الإِبَلِ ليَحُثُّونَهَا على الإسراعِ في السَّيْرِ شَهْرًا في الذِّهَابِ وشَهْرًا في الإيَابِ، ومُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أنه أُسْرِيَ به بِلَيْلٍ وأَصْبَحَ فِينَا؟!!
لو أنه قالَ لَهُم أو فَهِمُوا هُم أنه إنما رَأَى ذلك رؤيا مَنَامٍ، هل كانوا يَعْتَرِضُونَ عليه بهذا؟ هل كانوا يُكَذِّبُونَهُ؟ ما وَجْهُ التكذيبِ حِينَئِذٍ؟
*مَوْقِفُ الصِّدِيقِ أَبِي بَكْرٍ مِن خَبَرِ الإسراءِ:
لَمَّا قَالُوا لِلصِّدِّيقِ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ ﷺ.
قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ بِذَلِكَ؟!
قَالَ: نَعَمْ, إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، فِي خَبَرِ السَّمَاءِ يَأْتِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا-أَوْ كَمَا قَالَ-.
هذا الخَبَرُ عند الحاكمِ في «المُسْتَدْرَكِ» مِن روايةِ عائشة –رضي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنها- بإسنادٍ ثَابِتٍ عنها –رضوان الله عنها-(1).
«هَل رَأَى النبيُّ رَبَّهُ ليلةَ المِعْرَاجِ؟»
مِن عقيدةِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ المؤمنينَ يَرَوْنَ رَبَّهُم يومَ القيامةِ بأبصارِهِم، والأدلةُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ:
*مِن الكتابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ [القيامة: 22-23].
*وأَمَّا مِن السُّنَّةِ، فالأدلةُ أَيْضًا كثيرةٌ:
ففي حديثِ أبي هريرة –رَضِيَ الله عنه- قالَ: قالوا: يا رسولَ اللهِ؛ هَل نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القيامةِ؟
قال: «فَهَل تُضَارُّونَ في رؤيةِ الشَّمْسِ في الظَّهِيرَةِ لَيْسَت في سَحَابَةٍ؟»
قالوا: لا.
قال: «فَهَلْ تُضَارُّونَ في رؤيةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ في سَحَابَةٍ؟»
قالوا: لا.
قال: «فَوالذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تُضَارُّونَ في رؤيةِ رَبِّكُم إلَّا كَمَا تُضَارُّونَ في رؤيةِ أَحَدِهِمَا».
هذه روايةُ مُسْلِمٍ، والحديثُ في «الصحيحين» مِن روايةِ أبي سَعِيد –رضي اللهُ عنه- بِنَحْوِهِ.
والتشبيهُ هُنَا للرؤيةِ بالرؤيةِ، لا للمَرْئيِّ بالمَرْئيِّ، وهي رؤيةٌ معروفةٌ ليست بِمَجْهُولَةٍ، يُرَى سبحانهُ بغيرِ إِدْرَاكٍ ولا إحاطةٍ، إذ لا تُدْرِكُهُ الأبصارُ، وإنما تَرَاهُ في القيامةِ الأبصارُ، فهو أعظمُ مِن أنْ يُحَاطَ به –جَلَّ شَأْنُهُ-.
وفي حديثِ صُهَيْب عن النبيِّ ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟
قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيحِهِ».
جمهورُ السَّلَفِ على أنَّ مَن جَحَدَ رؤيةَ اللهِ في الدارِ الآخرةِ فهو كافرٌ، فإنْ كانَ مِمَّن لم يَبْلغُهُ العِلْمُ في ذلك عُرِّفَ ذلك، كما يُعرَّفُ مَن لم يَبْلْغُهُ شيءٌ مِن شَرَائِعِ الإسلامِ، فَإِنْ أَصَرَّ على الجحودِ بعد بلوغِ العِلْمِ له فهو كافرٌ، كَمَا قَرَّرَ ذلك العلماءُ، ومنهم شيخُ الإسلام.
هذه مِن المسائلِ المعلومةِ في اعتقادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فإعادتُهَا عليكم لا تكونُ مِن بابِ تحصيلِ الحاصلِ، وإنما مِن بَابِ الذِّكْرَى التى تَنْفَعُ المؤمنين، لَنَدْلُفَ منها إلى أَمْرٍ مُهِمٍّ.
لم يَرَ الرسولُ ﷺ رَبَّهُ عِيانًا على الأرضِ، وإنَّمَا رَأَى رَبَّهُ ليلةَ المِعْرَاجِ رؤيةً قلبيةً، لا بِعَيْنَيْ رأسِهِ، كما لَم يَرَ رَبَّهُ –سبحانه وتعالى- في الأرضِ –أي: هو في الأرض-.
قال شيخ الإسلام: «كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ؛ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بعض النِّزَاعِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هَلْ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟»
وقال: «وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُمْ إمَّا إطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ»
وقد سُئِلَ رسولُ اللهِ: هل رأيتَ رَبَّكَ؟
فقَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ». كما عند مُسْلِمٍ في «الصحيح».
وعنده قال ﷺ: «حِجَابُهُ النورُ لو كَشَفَهُ لأحْرَقَت سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انْتَهَى إليه بَصْرُهُ مِن خَلْقِهِ».
قَالَ مَسْرُوقٍ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: «يَا أُمَّتَاهُ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ رَبَّهُ؟
فَقَالَتْ: لَقَدْ قُفَّ شَعْرِيَ مِمَّا قُلْتَ, أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ –هذا لفظ البخاري-، وعند مسلم: فقد أعظم على الله الفرية بدل: فقد كذب-، ثُمَّ قَرَأَتْ ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الْأَنْعَامِ: 103]،: ﴿ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الشُّورَى: 51]-، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ [لُقْمَانَ: 34]، وَمَنْ حَدَّثَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأْتُ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الْمَائِدَةِ: 67] الْآيَةَ.
وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ».
وَهَذَا في «الصحيحين».
لو رآه النبي ﷺ نَفْسَهُ بعينِهِ؛ لَكَانَ ذِكْرُ ذلك أَوْلَى في مِثْلِ هذا المَوطن، فقد قال ربنا –تبارك وتعالى-: ﴿أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ﴾ [النجم: 12] ﴿لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ [النجم: 18]، وكذلك قال رَبُّنَا –تبارك وتعالى-: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، فلو كان رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ؛ لكانَ ذَكَرَ ذلك في هذا المَوْطِنِ أَوْلَى.
وقد ثَبَتَ بالنُّصوص الصحيحةِ، واتِّفاقِ سَلَفِ الأُمَّة أنه لا يَرَى أَحَدٌ في الدنيا رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ إلَّا ما نَازَعَ فيه بَعْضُهُم مِن رؤيةِ نبيِّنا محمَّدٍ خَاصَّة.
وعنه أنه قال: «رَآهُ بِقَلْبِهِ» فيما يتعلقُ بالرؤيةِ، فيكونُ كلامُهُ –يعني كلامَ ابنِ عَبَّاسٍ- مُطَابِقًا لكلامِ غَيْرِهِ مِمَّن نَفَى أنْ يكونَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رأسِهِ، كقولِ عائشة لمَسروق: «قُفَّ شَعْرُ رَأْسِي مِمَّن قَالَ ذَلِكَ، فَقَد أَعْظَمَ على اللهِ الفِرْيَةَ». بَل النبيُّ ﷺ نَفَى ذلك عن نَفْسِهِ: عن أبي ذَرٍّ قالَ: سَأَلْتُ رسولَ اللهِ ﷺ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟
قَالَ: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ».
فابنُ عَبَّاسٍ لَم يَقُل: إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وإنَّمَا قالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، أو أَطْلَقَ الرؤيةَ، فَتُقَيَّدُ بِذَلِكَ القَيْدُ.
فالرؤيةُ المُثْبَتَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بالرؤيةِ القَلبيَّةِ، فَيَسْتَقِيمُ هذا مع مَا قَالَت عائشةُ.
«تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ: الإسْرَاءُ والمِعْرَاجُ لَمْ يَقَعَا في شَهْرِ رَجَب»
ما يفعلهُ كثيرٌ مِن المُسلمينَ مِمَّا أَطْبَقُوا عليه في «ليلةِ السابعِ والعشرينَ مِن شَهْرِ رَجَب» يَزْعُمُونَ، بل يَعْتَقِدُونَ أنَّ «الإسراءَ والمِعْرَاجَ» قد وَقَعَا في تلك الليلةِ ويَجْزِمُونَ بذلك، ولم يَكُن شيءٌ مِن ذلك في ذلك، والله المستعان.
وقد أخطأَ من جَزَمَ به كما قرَّرَ علماؤنا عليهم الرحمة، ولكنَّهُم يجعلونَهُ دِينًا مُتَّبَعًا وسُنَّةً يَؤمُّونَها يتقربونَ بها إلى الله بزَعْمِهم، ثم يَذرفونَ الدموعَ أو دمعةً أو دمعتين على الأقصى السَّليب، ثم يُنْسَى ذلك من آخرِ الليلِ -واللهُ المستعانُ وإليه المُشتكى-.
فالإسراءُ والمعراجُ لم يقَعَا في شهرِ رجب ولا في السابعِ والعشرينَ في ليلتِهِ منه، وإنما هذا كلام، ولكنَّهُ وقعَ بدلالةِ الكتابِ والسُّنةِ، ولنا بعدُ هذه المعجزةُ العظيمةُ مِن معجزاتِ رسولِ اللهِ ﷺ، ولنا بعدُ الإيمانُ الصِّديقيُّ، لا نَنْكَسِرُ، لأنَّ الناسَ يفزَعُونَ إلى العلمِ الماديِّ ويقولون كيف، إننا لو نظرنَا في أجزاءِ الزمان، وفرَضْنَا أسرعَ وسيلةٍ تكون، فإنَّ هذا لا يمكن أنْ يقعَ في تلك المسافةِ والفراشُ لم يبرُد بعدُ، أنْ يخرجَ مُسْرَىً به من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى، ثم يُعرَجُ به إلى السمواتِ؛ سماءً بعد سماءٍ إلى السماءِ السابعةِ إلى سِدرةِ المُنتهى، ثم ينزلُ فيراجعُهُ موسى، ويعودُ مُراجِعًا ربَّهُ، ثم يكونُ ما يكونُ مِن الوقائعِ والأحداثِ، وكلُّ ذلك لم يبرُد فراشُهُ بعدُ.
نعم نُصَدِّقُ بهذا لأنه أخبرنَا به، هو رسولُ اللهِ، واللهُ –جلَّ وعلا- هو صاحبُ القوى والقُدَر، يفعلُ ما يشاءُ، ولم يقُل مُحَمَّدٌ إنه أَسْرَى، وإنما قال اللهُ: إنه أُسْرِيَ به، يكونُ الإسراءُ ويكونُ المعراجُ على قدرِ قوةِ وإرادةِ مَن أسرَى به ومَن جعلَهُ حيثُ كان ﷺ.
فإذا أرجعْتَ ذلك إلى قدرةِ اللهِ؛ فلا كلام، فلا ننكسرُ أمام أحدٍ، يُريدونَ أنْ يُفسِدوا علينا عقيدتَنا، يُشَكِّكونَ ويُثيرونَ الشُّبُهات في دينِ النبيِّ المأمونِ، في الكتابِ والسُّنةِ!! والمسلمون أكثرُهُم مِن المساكين جُهَّالٌ بحقيقةِ الدين، لم يتعلموا الأصلَ الأصيلَ، الذي ينفي عنهم الشُّبُهات، والذي يُطَوِّحُ بعيدًا عنهم بالشهواتِ، ويقيمُهُم على حقيقةِ دينِ ربِّ العالمين مِن التوحيدِ والاتباعِ.
المسلمون في جُملتِهِم مِن المساكين، يَعْلَمُونَ أمورًا تَضُرُّهُم ولا تَنْفَعُهُم في دينِ رَبِّ العالمين، إنَّ العِلْمَ الحقَّ هو:
قالَ اللــهُ، قال رسولُــهُ، قالَ الصحابـــةُ ليس بالتمويـــهِ
ما العلمُ نَصْبَكَ للخلافِ سفاهةً بين الرسولِ وبين قولِ فقيهِ
إذا جاءَ الأمرُ مِن اللهِ؛ فلا كلام، وإذا جاء الخبرُ عنه فهو الصِّدقُ التامُّ، وإذا أرَنَا النبيُّ ﷺ أو نهانَا أو أخبرَنَا؛ فليس للعقلِ مَدخَل إلَّا في شيءٍ واحدٍ هو: البحثُ في النصِّ هل ثبتَ أمْ لم يثبُتِ، فإنْ ثبتَ؛ فلا كلام، كما قال الصِّديقُ في شأنِ الإسراءِ والمعراجِ.
فنؤمنُ باللهِ وبما أُنزِلَ مِن عندِ اللهِ على مرادِ اللهِ، ونؤمنُ برسولِ وما ثبتَ عن رسولِ اللهِ على مرادِ رسولِ اللهِ، لا نُكذِّبُ، ولا نُعَطِّلُ، ولا نُشَبِّهُ، ولا نُمَثِّلُ، ولا نُكَيِّفُ، ولا نأوِّلُ، وإنما نؤمنُ بالدين كما جاء به النبيُّ الأمين وكما التزمَهُ الصحابةُ المُكَرَّمونَ –رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين-.
أسألُ اللهَ –تبارك وتعالى- أنْ يُعلِّمنا ما ينفعنَا وأن ينفعنَا بما علَّمنا وأنْ يزيدنا عِلمًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ(1).
*****
أَسْأَلُ اللهَ بِأَسْمَائِهِ الحُسْنَى وَصِفَاتِهِ المُثْلَى أَنْ يَحْفَظَ شَيْخَنَا وَأَنْ يُبَارِكَ فِي عِلْمِهِ وَعُمُرِهِ.
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين
مَوْقِعُ تَفْرِيغِ خُطَبِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ
WWW.KHOTABTEXT.COM
مَوْقِعُ تَفْرِيغِ العلّامَة رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
WWW.RSLANTEXT.COM