((ذِكْرُ اللهِ فِي رَمَضَانَ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((ذِكْرُ اللهِ حَيَاةٌ.. ))
فَذِكْرُ اللهِ هُوَ عِمَارَةُ الْأَوْقَاتِ, وَبِهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْكُدُورَاتُ, وَبِهِ تَحْصُلُ الْأَفرَاحُ وَالْمَسَرَّاتُ, وَهُوَ عِمَارَةُ الْقُلُوبِ الْمُقْفِرَاتِ, كَمَا أَنَّهُ غِرَاسُ الْجَنَّاتِ.
وَهُوَ مُوصِلٌ لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ, وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يُحْصَى, وَمِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُسْتَقْصَى, قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42].
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) .
فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيُدَاوِمُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَيٌّ, حَيٌّ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ, وَأَمَّا الَّذِي لَا يَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذِكْرًا كَثِيرًا, وَلَا يُقْبِلُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهُوَ مَيِّتٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ, وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ؛ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).
إِذَا مَا كَانَ الْبَيْتُ مَوْصُولًا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ الشَّأْنَ فِيهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي فِيهَا الذِّكْرُ فِي الْأَرْضِ, وَإِنَّ مَسَاجِدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَتَتَرَاءَى لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءَى النُّجُومُ لَنَا أَهْلَ الْأَرْضِ)) .
إِنَّ الْبُيُوتَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيُتْلَى فِيهَا كِتَابُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ تَبْدُو لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مُنِيرَةً مُتَلَأْلِئَةً مُشْرِقَةً كَمَا تَبْدُو لَنَا النُّجُومُ فِي صَفْحَةِ السَّمَاءِ بِاللَّيْلِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُفَرِّدُونَ, هُمُ الذَّاكِرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)).
قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)) .
فَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ وَمِنْ أَهْلِ الِانْفِرَادِ؛ فَهُمْ أَثْبَاتٌ أَفْذَاذٌ لَا يُلْحَقُونَ، وَلَا يُسْبَقُونَ, هَؤُلَاءِ الْمُفَرِّدُونَ السَّابِقُونَ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْمَأْمُونُ ﷺ: ((هُمُ الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)).
((ذِكْرُ اللهِ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ فِي الْإِسْلَامِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ الْأُصُولِ الْأَصِيلَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: الذِّكْرُ, وَهَذَا الْأَصْلُ غَفَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَرِّرَ هَذَا الْأَصْلَ, وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْإِصَابَةِ مِنْهُ بِسَهْمٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ وَخَطَرَهُ، وَلِأَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ كَبِيرَةٌ وَعَظِيمَةٌ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ، وَفِي آخِرَتِهِ.
إِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ: هِيَ الْقِيَامُ بِعِبَادَةِ اللهِ؛ كَمَا قال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], أَيْ: لِتَكُونَ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا عِبَادَةً لِي؛ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمُتَحَتِّمَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَلَّا تُغَادِرَ الْعِبَادَةُ شَيْئًا مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا وَشَمِلَتْهُ.
وَالذِّكْرُ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَاهَا وَمَبْنَاهَا, وَلَيْسَ لِلْعِبَادَةِ مَعْنًى وَلَا قِيمَةٌ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعِبَادَةُ ذِكْرًا للهِ.
وَشُمُولِيَّةُ الذِّكْرِ لِلْعِبَادَةِ كَشُمُولِيَّةِ الْعِبَادَةِ لِلْحَيَاةِ, وَتَعْلُو الْعِبَادَةُ وَيَزْدَادُ شَأْنُهَا بِقَدْرِ تَمَكُّنِ ذِكْرِ اللهِ مِنْ قَلْبِ الْعَابِدِ الْقَائِمِ بِهَا.
فَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ لِلْعِبَادَةِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ مَا كَانَتْ إِلَّا لِلذِّكْرِ؛ إِذْ إنَّ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ؛ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى, وَالْمَقْصُودُ بِهَا: تَحْصِيلُ ذِكْرِ اللهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
*وَالذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَالْقَلْبِ، وَالْجَوَارِحِ:
*وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللِّسَانِ: الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّمْجِيدِ.
*وَالذِّكْرُ بِالْقَلْبِ: التَّفْكُّرُ فِي أَدِلَّةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ, وَفِي أَدِلَّةِ التَّكَالِيفِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ حَتَّى يَطَّلِعَ عَلَى أَحْكَامِهَا، وَفِي أَسْرَارِ مَخْلُوقَاتِ اللهِ.
*وَالذِّكْرُ بِالْجَوَارِحِ: هُوَ أَنْ تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً فِي الطَّاعَاتِ, وَمِنْ ثَمَّ سَمَّى اللهُ الصَّلَاةَ ذِكْرًا فَقَالَ: {فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
فَذِكْرُ اللهِ زَيَّنَ اللَّهُ بِهِ أَلْسِنَةَ الذَّاكِرِينَ كَمَا زَيَّنَ بِالنُّورِ أَبْصَارَ النَّاظِرِينَ، فَاللِّسَانُ الْغَافِلُ كَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ, وَالْأُذُنِ الصَّمَّاءِ, وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ.
وَهُوَ -أَيِ: الذِّكْرُ- بَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يُغْلِقْهُ الْعَبْدُ بِغَفْلَتِهِ.
وَبِالذِّكْرِ: يَصْرَعُ الْعَبْدُ الشَّيْطَانَ كَمَا يَصْرَعُ الشَّيْطَانُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ.
قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)). وَالحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) .
وَسَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: ((أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)) .
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ: مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)) .
وَفِي ((صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظيمِ)).
وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟
إِنَّ أَحَبَّ الْكَلامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)).
إِنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَيْسَرِ الْأُمُورِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَذْلِ مَالٍ, وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى كَبِيرِ مَجْهُودٍ.
((أَفْضَلُ الصُّوَّامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ))
عِبَادَ اللهِ! «إِنَّ أَفْضَلَ أَهْلِ كُلِّ عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَأَفْضَلُ الصُّوَّامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ فِي صَوْمِهِمْ» .
*ذِكْرُ اللهِ سَبِيلُ تَطْهِيرِ اللِّسَانِ فِي رَمَضَانَ:
النَّبِيُّ ﷺ أَرْشَدَنَا إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَامَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّى بِمَكَارَمِ الْأَخلَاقِ, وَأَنْ يُمْسِكَ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَمَا دُونَهُمَا.
فَهَذَا فِي رَمَضَانَ وَفِي كُلِّ صَوْمٍ.
فَرَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ الصَّائِمَ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْفُحْشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْكَذِبِ؛ فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالعَمَلَ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اغْتَابَ أَخَاهُ؛ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ لَحْمَهُ مَيْتًا، وَهُوَ أَمْرٌ تَكْرَهُهُ الطِّبَاعُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ النُّفُوسُ؛ وَلَكِنْ هَكَذَا هُوَ فِي قُبْحِهِ، هَكَذَا هُوَ فِي شَنَاعَتِهِ.
«إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ؛ فَلَا يَرْفُثْ -وَالرَّفَثُ: هُوَ ذِكْرُ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ عِنْدَ النِّسَاءِ خَاصَّةً- فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ».
«رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((السُّنَنِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ».
فَحَذَّرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَكْلِ لُحُومِ النَّاسِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي أَعْرَاضِهِمْ، فَتَخْلِيَةُ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُدَرِّبَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَأَنْ يُمْسِكَ لِسَانَهُ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ.
عِبَادَ اللهِ! «إِنَّ ذِكْرَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَبَبُ اشْتِغَالِ اللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَالْكَذِبِ، وَالْفُحْشِ، وَالْبَاطِلِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَذِكْرِ أَوَامِرِهِ؛ تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ بَعْضِهَا.
وَلَا سَبِيلَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنْهَا -الْبَتَّةَ- إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَالْمُشَاهَدَةُ وَالتَّجْرِبَةُ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ، فَمَنْ عَوَّدَ لِسَانَهُ ذِكْرَ اللهِ؛ صَانَ اللهُ لِسَانَهُ عَنِ الْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ، وَمَنْ يَبَسَ لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى؛ تَرَطَّبَ بِكُلِّ بَاطِلٍ، وَلَغْوٍ، وَفُحْشٍ -وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ-».
((ذِكْرُ اللهِ وَدُعَاؤُهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ))
((ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ -إِنْ شَاءَ اللهُ-)): هَذَا هُوَ الدُّعَاءُ الَّذِي يُقَالُ عِنْدَ إِفْطَارِ الصَّائِمِ.
هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).
وَلَفْظُهُ: عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ((ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ -إِنْ شَاءَ اللهُ-)).
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى تَمْرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرَاتٌ؛ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ)).
((ذَهَبَ الظَّمَأُ)): الظَّمَأُ: الْعَطَشُ النَّاتِجُ عَنِ الصِّيَامِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الظَّمَأُ مَهْمُوزُ الْآخِرِ مَقْصُورٌ: هُوَ الْعَطَشُ)).
((ابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ)): بِالرِّيِّ بَعْدَمَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْيُبُوسَةِ.
((وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ)): خَصَّ ذَهَابَ الظَّمَأِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْجُوعُ؛ لِأَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالْمَاءِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ -كَالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ- أَشَدُّ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُفْطِرُونَ بِهِ، وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ؛ شُكْرًا عَلَى النِّعْمَةِ بِإِنَالَةِ الْمُسْتَلَذِّ بَعْدَ الْمَنْعِ عَنْهُ شَرْعًا.
((وَثَبَتَ الْأَجْرُ)): أَيْ: حَصَلَ الثَّوَابُ الَّذِي يَرْجُوهُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ؛ فَضْلًا مِنْهُ وَنِعْمَةً، وَهُوَ اسْتِبْشَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ مَنْ فَازَ بِبُغْيَتِهِ، وَنَالَ مَطْلُوبَهُ بَعْدَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَلِذَّ بِمَا أَدْرَكَهُ مَزِيدَ اسْتِلْذَاذٍ؛ ذَكَرَ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ، وَمِنْ ثَمَّ حَمِدَ أَهْلُ السَّعَادَةِ فِي الْجَنَّةِ بَعْدَمَا أَفْلَحُوا.
قَوْلُهُ: ((إِنْ شَاءَ اللهُ)): لِأَنَّ قَبُولَ الصِّيَامِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، وَثُبُوتُ الْأَجْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ؛ لِهَذَا قَالَ: ((إِنْ شَاءَ اللهُ)).
أَوْ لِأَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقَةَ التَّرَقِّي، وَفِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَثِقُ وَلَا يَقْطَعُ بِحُصُولِ الْأَجْرِ عَلَى فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ، يُحْتَمَلُ أَنَّ التَّقْيِيدَ لِلثُّبُوتِ، لَا لِنَفْسِ حُصُولِ الْأَجْرِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ مَا يُبْطِلُهُ.
فَفِي الْحَدِيثِ: مَشْرُوعِيَّةُ قَوْلِ هَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَ الْإِفْطَارِ؛ لِقَوْلِ الرَّاوِي: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ((ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ -إِنْ شَاءَ اللهُ-)).
وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّحَقُّقِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))-: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)).
هَذَا بِخِلَافِ السُّحُورِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ التَّأْخِيرُ إِلَى مَا قُبَيْلِ الْفَجْرِ؛ لِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، فَسَأَلَهُ أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَمْ كَانَ قَدْرُ مَا بَيْنَهُمَا؟
قَالَ: خَمْسِينَ آيَةً)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَا يُجْزَمُ لِأَحَدٍ بِقَبُولِ صِيَامِهِ، وَثُبُوتِ أَجْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ عَامٌّ، وَهَذَا هُوَ مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِخِلَافِ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ عَلَى اللهِ الثَّوَابَ لِلْعَبْدِ.
قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ذَهَابُ الظَّمَأِ بِالشُّرْبِ وَاضِحٌ، وَابْتِلَالُ الْعُرُوقِ بِذَلِكَ وَاضِحٌ، فَالْإِنْسَانُ إِذَا شَرِبَ وَهُوَ عَطْشَانُ؛ يُحِسُّ بِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ حِينَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَعِدَةِ يَتَفَرَّقُ فِي الْبَدَنِ.
وَيُحِسُّ بِهِ إِحْسَاسًا ظَاهِرًا، فَيَقُولُ لِقَلْبِهِ: سُبْحَانَ اللهِ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ الَّذِي فَرَّقَهُ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ!!
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ فِيمَا إِذَا كَانَ الصَّائِمُ ظَمْآنَ، وَالْعُرُوقُ يَابِسَةً)).
وَأَمَّا حَدِيثُ: ((بِسْمِ اللهِ، اللهم لَكَ صُمْتُ، وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ.. ))؛ فَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي ((سُنَنِهِ))، وَفِي ((الْمَرَاسِيلِ)) لَهُ، وَضَعَّفَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ))، وَغَيْرِهِ.
فَالْأَوْلَى قَوْلُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ -إِنْ شَاءَ اللهُ-)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَفِي فِطْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ -يَعْنِي: عَلَى الرُّطَبِ-، أَوْ عَلَى التَّمْرِ، أَوِ الْمَاءِ تَدْبِيرٌ لَطِيفٌ جِدًّا؛ فَإِنَّ الصَّوْمَ يُخْلِي الْمَعِدَةَ مِنَ الْغِذَاءِ، فَلَا تَجِدُ الْكَبِدُ فِيهَا مَا تَجْذِبُهُ وَتُرْسِلُهُ إِلَى الْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ، وَالْحُلْوُ أَسْرَعُ شَيْءٍ وُصُولًا إِلَى الْكَبِدِ، وَأَحَبُّهُ إِلَيْهَا، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ رُطَبًا، فَيَشْتَدُّ قَبُولُهُا لَهُ، فَتَنْتَفِعُ بِهِ هِيَ وَالْقُوَى.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَالتَّمْرُ؛ لِحَلَاوَتِهِ، وَتَغْذِيَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَحَسَوَاتُ الْمَاءِ تُطْفِئُ لَهِيبَ الْمَعِدَةِ، وَحَرَارَةَ الصَّوْمِ، فَتَتَنَبَّهُ بَعْدَهُ لِلطَّعَامِ، وَتَأْخُذُهُ بِشَهْوَةٍ».
«وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَحُضُّ عَلَى الْفِطْرِ بِالتَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ، وَنُصْحِهِ لَهُمْ؛ فَإِنَّ إِعْطَاءَ الطَّبِيعَةِ الشَّيْءَ الْحُلْوَ مَعَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ، وَانْتِفَاعِ الْقُوَى بِهِ؛ خَاصَّةً الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ.
أَمَّا الْمَاءُ؛ فَإِنَّهُ يُرَطِّبُ الْكَبِدَ بَعْدَ نَوْعٍ مِنَ الْيُبُوسِ؛ فَإِنَّ التَّمْرَ وَالْمَاءَ لَهُمَا تَأْثِيرٌ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ)) .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَقَالَ ﷺ: ((بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ كَالْبَيْتِ لَا طَعَامَ فِيهِ)) . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
فَالَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ: هُوَ مَا مَرَّ مِنَ الْحَدِيثِ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَذْكُرَهُ بِمَا عَلَّمَهُ نَبِيُّهُ ﷺ، وَبِمَا ثَبَتَ عَنْهُ ﷺ.
((قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ))
*الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَكْرَمُ الذِّكْرِ، وَأَعْظَمُهُ، وَأَشْرَفُهُ:
إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
فَشَهْرُ رَمَضَانَ هُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ مِنْ قِرَاءَتِهِ.
لَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ، «وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ، وَنُقِلَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ مَا نُقِلَ، فَهَذِهِ نُسَلِّمُ لِلسَّلَفِ أَحْوَالَهُمْ فِيهَا، وَلَا نَتَأَسَّى بِهِمْ فِيهَا!! فَمِنْهُمْ مَنَ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، مَرَّةً بِالنَّهَارِ، وَمَرَّةً بِاللَّيْلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ خَتْمًا، كان عثمانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يختمُ القرآنَ كلَّ يومٍ مرَّةً، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَخْتِمُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَخْتِمُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ مَرَّةً، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ سَبْعٍ مَرَّةً، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ عَشْرٍ.
وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَّا فِي الْأَوْقَاتِ الْمُفَضَّلَةِ؛ كَشَهْرِ رَمَضَانَ؛ خُصُوصًا اللَّيَالِي الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أَوْ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُفَضَّلَةِ؛ كَمَكَّةَ لِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا؛ فَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ فِيهَا مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ؛ اغْتِنَامًا لِفَضِيلَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عَمَلُ غَيْرِهِمْ» . وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ؛ فِي أَنَّ أَحَدَهُمْ رُبَّمَا خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً بِالنَّهَارِ، وَمَرَّةً بِاللَّيْلِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ؛ لَمْ يَفْقَهْهُ».
فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ، وَأَمَّا لِاغْتِنَامِ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ وُجُودِ الْمَرْءِ فِي الْأَمَاكِنِ الْفَاضِلَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ -حِينَئِذٍ- مِنَ الْإِكْثَارِ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.
((تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَثَمَرَاتُهُ))
عِبَادَ اللهِ! لِلْقُرْآنِ بِرَمَضَانَ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ؛ فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى صِيَامَهُ.
وَلِلنَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ مَزِيدُ عِنَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، وَمَوْصُولُ تَدَارُسٍ وَتَدَبُّرٍ.
وَلِلْمُسْلِمِ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ؛ لِأَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ أَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ، وَفَلَاحِهِ، وَثَبَاتِهِ.
وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ فِي تَثْبِيتِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَإِرْسَاءِ دَعَائِمِهِ؛ «لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَوَعَدَهُمْ أَسْنَى الْمَوَاهِبِ.
فَلَوْ أَنْفَقَ الْعَبْدُ جَوَاهِرَ عُمُرِهِ فِي هَذَا التَّدَبُّرِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي جَنْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ الْمَطَالِبِ، وَأَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ، وَأَصْلُ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَقَاعِدَةُ أَسَاسَاتِ الدِّينِ، وَصَلَاحُ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَتْ حَيَاةُ الْعَبْدِ زَاهِرَةً بِالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَطِيبِ الْحَيَاةِ، وَالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» .
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ؛ فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا، وَأَسْبَابِهِمَا، وَغَايَاتِهِمَا، وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ -أَيْ تَجْعَلُ مُسْتَقِرًّا فِي يَدِهِ- مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ.
وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ، وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ.
وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا.
وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ، وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ.
وَفِي تَأَمُّلِ الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِهِ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الْكُنُوزِ، طِلَّسْمُهُ -أَيْ: الْمُزِيلُ لِغُمُوضِهِ، الْمُوَضِّحُ لِمَعَانِيهِ، الْمُفَسِّرُ لِمُبْهَمِهِ- الْغَوْصُ بِالْفِكْرِ إِلَى قَرَارِ مَعَانِيهِ».
فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ الْقُرْآنِ؛ خَاصَّةً فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْقُرْآنَ، وَإِلَّا مَا اسْتَفَدْنَا مِنْهُ مَا نَرْجُوهُ، وَمَا حَقَّقْنَا مِنْهُ مَا نَطْلُبُهُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
((ذِكْرُ اللهِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ))
*وَمِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ : الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
مِمَّا يُؤْتَى بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ العَامِ: الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ -بِحَدِيثٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ بِشَوَاهِدِهِ- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ».
فَهَذَا فِي كُلِّ الأَيَّامِ؛ فَكَيْفَ فِي رَمَضَانَ؟!!
((ذِكْرُ اللهِ رُوحُ الِاعْتِكَافِ))
مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا».
وَالِاعْتِكَافُ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ كَثِيرًا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ مِنَ التِّلَاوَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَغَيْرِهَا، وَآكَدُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ.
وَالاِعتْكِاَفُ هُوَ الخَلْوَةُ المَشْرُوعَةُ، يَفْعَلُهُ المَرْءُ فَيَخْلُو بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ؛ مِنْ أَهْلٍ، وَصَاحِبٍ، وَوَلَدٍ، وَيُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَالمُعْتَكِفُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَيَقْطَعُ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ.
((الدُّعَاءُ مِنْ أَكْرَمِ الْأَذْكَارِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ))
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤمِنِينَ أَنْ يَدْعُوهُ، وَيَطْلُبُوا مِنْهُ مَا أَرَادُوا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)) .
((لَيْسَ شَيْءٌ))؛ أَيْ: مِنَ العِبَادَاتِ القَوْلِيَّةِ.
((أَكْرَمَ عَلَى اللهِ)): أَيْ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ.
فَالدُّعَاءُ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ وَأَرْفَعُ دَرَجَةً، وَأَعْلَى قَدْرًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَدْرِهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ، مَعَ اعْتِرَافِ الدَّاعِي بِعَجْزِهِ وَتَبَرِّيهِ مِنْ حَوْلِهِ وَطَوْلِهِ.
((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)) أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْعِبَادَاتِ -وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَشَرَّفُ فِي بَابِهِ- أَكْثَرَ كَرَامَةً، وَأَعْلَى قَدْرًا، وَأَرْفَعَ دَرَجَةً -فَهُوَ أَحْرَى بِالِاسْتِجَابَةِ وَالقَبُولِ- مِنَ الدُّعَاءِ.
((مِنَ الدُّعَاءِ)) أَيْ: مِنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ رَبَّهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ، وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِقُوَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَبِغِنَاهُ وَإِغْنَائِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، مَعَ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.
وَالدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِذَا قَالَ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) أَيِ: العِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَأْهِلُ أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً؛ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ؛ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو العبدُ وَلَا يَخَافُ إِلَّا إِيَّاهُ، قَائِمًا بِوُجُوبِ العُبُودِيَّةِ وَوَاجِبِهَا، مُعْتَرِفًا بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
((الْحَثُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي شَهْرِ رَمضَانَ))
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَسْأَلُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَاجَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ؛ حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُم إِذَا لَمْ يَجِدْ مِلْحَ طَعَامِهِ؛ سَأَلَ اللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مِلْحَ طَعَامِهِ، وَإِذَا انْقَطَعَ شِرَاكَ نَعْلِهِ؛ سَأَلَ اللهَ أَنْ يُعَوِّضَهُ خَيْرًا، فَيُعَوِّضُهُ اللهُ خَيْرًا.
وَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيَغْضَبُ إِنْ تَرَكَ النَّاسُ سُؤَالَهُ، بِخِلَافِ بَنِي آدَمَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا سَأَلْتَ بَنِي آدَمَ الْمَالَ أَوِ الْعَوْنَ، وَكَرَّرْتَ ذَلِكَ أَغْضَبْتَهُمْ، وَأَحْرَجْتَهُمْ؛ قال ﷺ: ((إِنَّهُ مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) .
وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صَاحِبُ الْخَزَائِنِ الَّتِي لَا تَنْقُصُ، يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَفِي كُلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، اسْأَلْ مَا شِئْتَ رَبَّكَ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وأنت صائِمٌ؛ فرَمَضَانُ شَهْرُ الدُّعَاءِ .
اسْأَلْهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُمُورَ الآخِرَةِ بِالدَّرَجَةِ الْأُولَى.
وَاسْأَلْه مَا شِئْتَ مِنْ دُنْيَاكَ، وَلَا تَتَجَاوَزْ حُدُودَ الشَّرْعِ، وَلا تَعْتَدِ فِي الدُّعَاءِ.
وَإِذَا سَأَلْتَ اللهَ المَالَ؛ فَلْتَكُنْ لَكَ النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ أَنْ تَعْرِفَ حَقَّ الْمَالِ.
وَإِذَا سَأَلْتَ اللهَ طُولَ الْحَيَاةِ؛ فَلْتَكُنْ نِيَّتُكَ حَسَنَةً أَنْ تَقْضِيَ حَيَاتَكَ فِي طَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَفِيمَا أَبَاحَ لَكَ مِنْ مُتَطَلَّبَاتِ الْجَسَدِ، وَمُتَطَلَّبَاتِ الْحَيَاةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا.
وَإِذَا سَأَلْتَ اللهَ كَثْرَةَ الْوَلَدِ؛ فَلْيَكُنْ لَكَ النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ؛ لِيَكُونُوا مِنْ عُمَّارِ الْأَرْضِ بِطَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَكُونُوا مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ، حَمَلَةِ الشَّرْعِ، وَمِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ بِالْكَلِمَةِ وَبِالْمُؤَلَّفَاتِ، وَبِمَا أَمْكَنَ أَنْ يُجَاهِدَ بِهِ الْإِنْسَانُ.
وَاجْتَهِدْ فِي ذَلكَ أَشَدَّ الاجْتِهَادِ فِي أَثناءِ صَومِكَ، وَخُصُوصًا فِي رَمَضَانَ.
وَشَهْرُ رَمَضَانَ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الآيَاتِ المُبْهِرَةَ؛ وَمِنْهَا: أَنَّ لِلصَّائِمِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِر».
فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِآدَابِ الدُّعَاءِ، وَعَلَيْنَا أَلَّا نَعْجِزَ فِي الدُّعَاءِ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ مِنَ الدُّعَاءِ في أثناءِ الصيامِ، وَأَنْ نَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَشْرَفُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ، يَتَعَبَّدُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) .
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَوَجَّهَ دَائِمًا وَأَبَدًا إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نُخْلِصَ الْقُلُوبَ لَهُ، وَأَنْ نَكُونَ مُوَحِّدِينَ؛ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَنَا رَبُّنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.
*لِيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -خَاصَّةً فِي رَمَضَانَ-:
عِبَادَ اللهِ! فَلْنُطَهِّرِ اللِّسَانَ مِنْ آفَاتِهِ، هَذِهِ التَّخْلِيَةُ، وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِنْ تَلَوْتَ الْقُرْآنَ، وَذَكَرْتَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَسَبَّحْتَهُ؛ وَهَذِهِ تَحْلِيَةٌ تَأْتِي بِهَا بِاللِّسَانِ، وَلَمْ تُخَلِّ اللِّسَانَ مِنْ آفَاتِهِ؛ بَدَّدَ عَلَيْكَ اللِّسَانُ بِآفَاتِهِ مَا حَصَّلْتَهُ مِنْ حَسَنَاتٍ؟!!
فَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ.
اعْلَمْ -عَبْدَ اللهِ- أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ فَهُوَ غَنِيمَةٌ.
فَاحْذَرْ مَجَالِسَ الْفَارِغِينَ، وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَفَاحِشِ الْقَوْلِ، وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ.
وَأَلْزِمْ نَفْسَكَ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْجَمِيلَ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ، وَهِيَ فُرْصَةٌ لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ لَا تَتَكَرَّرُ الْفُرْصَةُ؛ بَلْ قَدْ تَمُوتُ قَبْلَ أَنْ تَعُودَ الْفُرَصُ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الذِّكْرَ رَأْسُ الْأُصُولِ، فَمَنْ فُتِحَ لَهُ فِيهِ؛ فَقَدْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الدُّخُولِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلْيَتَطَهَّرْ، وَلْيَدْخُلْ عَلَى رَبِّهِ؛ يَجِدْ عِنْدَهُ كُلَّ مَا يُرِيدُ، فَإِنْ وَجَدَ رَبَّهُ تَعَالَى؛ وَجَدَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فَاتَهُ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَاتَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِذِكْرِهِ؛ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِنَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ))
الرَّسُولُ ﷺ دَلَّ الْأُمَّةَ -كَمَا دَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ بَلْ مِنْ أَوْسَعِ أَبْوَابِ الْخَيْرِ, فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا جَعَلَ هَذَا الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مَوْسِمًا لِلطَّاعَةِ, وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ بَابًا مِنَ الْأَبْوَابِ الْعَظِيمَةِ لَا يُكَلِّفُ النَّاسَ شَيْئًا, وَلَكِنَّ النَّاسَ يَبْخَلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْخَيْرِ!!
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ, فَالْإِنْسَانُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِلَ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ -حَتَّى بِنِيَّتِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا-؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَبِيتَ بِالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ عَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَسْبِقُ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ؛ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا لِلْجُهْدِ، وَأَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي الْأَدَاءِ.
فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّنَا -كَمَا دَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- عَلَى بَابٍ عَظِيمٍ جِدًّا, وَأَرْشَدَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَيْهِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عِنْدَمَا سَأَلَتِ الرَّسُولَ ﷺ عَمَّا تَقُولُهُ إِذَا عَرِفَتْ وَعَلِمَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.
وَقَوْلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي سُؤَالِهَا لِلرَّسُولِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ؛ مَاذَا أَقُولُ؟
الْعِبَادَةُ الَّتِي دَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَيْهَا؛ وَهِيَ الدُّعَاءُ: قَالَ ﷺ: ((قُولِي: اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنِّي)) .
الذِّكْرُ، وَالدُّعَاءُ.
كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَسْتَعِدُّ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَيَأْخُذُ أُهْبَتَهُ؛ مِنْ أَجْلِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ؛ بَلْ إِنَّهُ ﷺ كَانَ يَعْتَزِلُ النِّسَاءَ.
الرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ -يَعْنِي: لَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ ﷺ قِيَامَ اللَّيْلِ طُولَ اللَّيْلِ-.
لَمْ يَرِدْ -كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- لَمْ يَحْدُثْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ؛ بَلْ كَانَ يَقُومُ وَيَنَامُ ﷺ, وَلَكِنَّهُا تَقُولُ فِي الْحَدِيثِ: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ -تَعْنِي: الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ-؛ أَحْيَا لَيْلَهُ)) ؛ فَكَانَ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ؛ فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ.
فَمِنْ وَظَائِفِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: أَنْ يَظَلَّ الْمُسْلِمُ سَاهِرًا لَيْلَهُ كُلَّهُ فِي ذِكْرٍ, وَفِي دُعَاءٍ, وَفِي تِلَاوَةٍ لِلْقُرْآنِ, وَفِي صَلَاةٍ -فِي قِيَامٍ-, وَفِي تَفَكُّرٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ, فِي عِبَادَةٍ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اللَّيْلَ كُلَّهُ.
((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ؛ أَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ)).
وَكَانَ ﷺ يَتَقَلَّلُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ, وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي التَّقْلِيلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا جَاءَ فِي الْإِفْطَارِ فَامْتَلَأَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ -وَيَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ عَوَّضَ الْوَجْبَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ فِي الضُّحَى أَوْ فِي الظُّهْرِ-؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَدْ صَنَعَ شَيْئًا, وَإِنَّمَا يَثْقُلُ عَنِ السَّهَرِ, وَيَثْقُلُ عَنِ الْعِبَادَةِ, وَيَنْطَرِحُ حِينَئِذٍ؛ كَمَا جَاءَ الْوَصْفُ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ: جِيفَةٌ بِاللَّيْلِ، حِمَارٌ بِالنَّهَارِ!!
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَلَّا يُضَيِّعَ هَذِهِ الْعَشْرَ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ مِنْ حِيَلِهِ الْكَثِيرَةِ: أَدْخَلَ -وَبِخَاصَّةٍ عَلَى النِّسَاءِ- عَلَيْهِمْ أُمُورًا تُضَيِّعُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْفَتْرَةَ الْعَظِيمَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ, وَهِيَ لَا تَتَكَرَّرُ إِلَّا فِي كُلِّ عَامٍ, وَالْمَرْءُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ بَعْدَ ذَلِكَ, وَإِذَا أَتَى فَالْمَرْءُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ بِصِحَّةٍ يَسْتَطِيعُ بِهَا أَنْ يَقُومَ بِالْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا.
فَعَلَى النِّسَاءِ خَاصَّةً أَنْ يَجْتَهِدْنَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ؛ وَهِيَ عِبَادَةُ الذِّكْرِ.
((حَثُّ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ عَلَى عِبَادَةِ الذِّكْرِ))
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ فِي هَذَا الذِّكْرِ خَاصِّيَّةً عَظِيمَةً, وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ ذِكْرًا كَثِيرًا, وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
وَيَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].
وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ بِأَنْ يَذْكُرَهُ كَثِيرًا, وَأَنْ يُسَبِّحَهُ كَثِيرًا: {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41].
((فَضَائِلُ ذِكْرِ اللهِ وَثَمَرَاتُهُ))
لَنَا فِي النَّبِيِّ ﷺ الْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالْأُسْوَةُ الْمُبَارَكَةُ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
فَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُقْتَدِيًا بِالرَّسُولِ ﷺ اقْتِدَاءً حَسَنًا إِلَّا إِذَا كَانَ رَاجِيًا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ, وَكَانَ ذَاكِرًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذِكْرًا كَثِيرًا.
*طُمْأَنِينَةُ الْقُلُوبِ فِي ذِكْرِ اللهِ:
الذِّكْرُ يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ؛ كَمَا أَخْبَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
*ذِكْرُ اللهِ فِي الصِّعَابِ كَالْجِهَادِ:
بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ النَّاسَ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ إِذَا جَدَّ الْجِدُّ, وَإِذَا جَاءَتِ الْأُمُورُ الْكِبَارُ؛ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَذْكُرُوا الْعَزِيزَ الْغَفَّارَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَذْكُرُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الْعَظِيمِ؛ مَوْطِنِ الْجِلَادِ وَالْجِهَادِ, وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَوْتِ شَهَادَةً فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
*مِنْ فَضَائِلِ الذِّكْرِ: ذِكْرُ اللهِ مَنْ يَذْكُرُهُ:
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُقَابِلَ أَنْ يَذْكُرَهُ الْعَبْدُ: أَنْ يَذْكُرَهُ الرَّبُّ؛ وَهَذَا عَطَاءٌ كَبِيرٌ جِدًّا, يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ؛ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ؛ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا؛ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا؛ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي؛ أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)) .
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ فِي مُقَابِلِ ذِكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: أَنْ يَذْكُرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ؛ ذَكَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي نَفْسِهِ, وَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي مَلَأٍ؛ ذَكَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ.
*لَعْنُ النَّبِيِّ ﷺ الدُّنْيَا؛ مُسْتَثْنِيًا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ:
عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي الذِّكْرِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الذِّكْرَ هُوَ مَنْشُورُ الْوَلَايَةِ الْأَكْبَرُ, وَلَا طَرِيقَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُفْضِي إِلَيْهِ هُوَ أَوْسَعُ مِنْ إِدَامَةِ وَإِدْمَانِ ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ إِلَّا مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ, مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ, وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا)) .
فَالدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَطْرُودَةٌ عَنِ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُنْذُ خَلَقَهَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهَا, وَهِيَ لَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَنَاحَ بَعُوضَةٍ, ((هِيَ مَلْعُونَةٌ, مَلْعُونٌ مَا فِيهَا -كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ- إِلَّا ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالَاهُ, وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا)).
فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ اللَّعْنَةِ, وَقَرَّبَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
*الذَّاكِرُونَ اللهَ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذِّكْرَ مُوَصِّلًا إِلَى أَكْبَرِ الْخَيْرِ, وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَمْرًا كَبِيرًا: ((أَنَّ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ -عِنْدَمَا تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الرُّؤُوسِ, وَيَكُونُ النَّاسُ فِي الْعَرَقِ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى مَا يُغَطِّي قَدَمَيْهِ -إِلَى كَعْبَيْهِ-.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ إِلَى وَسَطِهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ عَرَقُهُ قَدْ أَلْجَمَهُ إِلْجَامًا؛ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ, وَالشَّمْسُ دَانِيَةٌ مِنَ الرُّؤُوسِ, وَالنَّاسُ فِي الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْهَمِّ فِي الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ.
وَمَعَ ذَلِكَ يَقُولُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: ((هُنَالِكَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ.. قَالَ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) .
*الْأَذْكَارُ غِرَاسُ الْجَنَّةِ:
النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّهُ: ((لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَيَتَدَبَّرُونَ فِي آلَائِهِ، وَنِعَمِهِ، وَعَطَايَاهُ؛ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ, وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَنْ عِنْدَهُ)) .
بَلْ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَلِيلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا لَقِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ، قَالَ لَهُ: ((يَا مُحَمَّدُ؛ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ -وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ-, وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ -الْجَنَّةُ طَيِّبَةُ التُّرْبَةُ؛ لِأَنَّ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ- عَذْبَةُ الْمَاءِ -لِأَنَّ مَاءَ الْجَنَّةِ وَالْأَنْهَارَ الَّتِي تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ لَا يُمْكِنُ وَصْفُ مَا هِيَ عَلَيْهِ مَنَ الْحَلَاوَةِ وَالْعُذُوبَةِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ-.
وَأَنَّهَا -أَيِ: الْجَنَّةَ- قِيعَانٌ -جَمْعُ قَاعٍ: وَهِيَ الْأَرْضُ الْفَلَاةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ, لَا شَجَرَ فِيهَا وَلَا بِنَاءَ-.
يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ وَهُوَ يُخْبِرُ النَّبِيَّ ﷺ؛ لِيُخْبِرَنَا: ((يَا مُحَمَّدُ؛ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ, وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ -أَرْضٌ فَلَاةٌ، لَا بِنَاءَ فِيهَا وَلَا شَجَرَ-، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللهِ, وَالْحَمْدُ للهِ, وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَاللهُ أَكْبَرُ)) .
فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ -إِذَا قَالَ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُسْلِمَةُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ-: ((سُبْحَانَ اللهِ, وَالْحَمْدُ للهِ, وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَاللهُ أَكْبَرُ))؛ غُرِسَتْ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نَخْلَةٌ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
فَغِرَاسُ الْجَنَّةِ -وَهِيَ قِيعَانٌ -أَيْ: أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ فَلَاةٌ-: أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا الذِّكْرِ الْعَظِيمِ: ((سُبْحَانَ اللهِ, وَالْحَمْدُ للهِ, وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, وَاللهُ أَكْبَرُ)).
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَعَلَقَّ عَلَيْهِ-: ((سُبْحَانَ اللهِ!! كَمْ ضَيَّعْنَا مِنْ نَخْلٍ فِي الْجَنَّةِ!!)).
فَهَذِهِ الْأَذْكَارُ الْعَظِيمَةُ يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى كَلِمَاتٍ قَلَائِلَ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ, حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ, ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ, سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)) .
*مِنَ الْأَذْكَارِ: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ:
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يُفَرِّجُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْكُرُبَاتِ, وَيَرْفَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا كُلَّ مَا يُحِيطُ بِالْمَرْءِ مِنْ سَحَائِبِ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ, وَتَتَنَزَّلُ بِهَا رَحَمَاتُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَيَكْفِي اللهُ الْإِنْسَانَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا أَهَمَّهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ؛ كَمَا قَالَ الصَّحَابِيُّ لِلرَّسُولِ ﷺ: أَجْعَلُ دُعَائِي كُلَّهُ صَلَاةً وَسَلَامًا عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((إِذَنْ؛ تُكْفَى هَمَّكَ, وَيُغْفَرَ لَكَ ذَنْبُكَ)) .
((إِذَنْ؛ تُكْفَى هَمَّكَ)): لَوْ أَنَّكَ صَلَّيْتَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ كَثِيرًا؛ يَكْفِيكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَمَّكَ, فَلَا تَجِدُ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا شَيْئًا يَمَسُّكَ, وَيَرْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكُرُوبَ, وَيُزِيلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْهُمُومَ, وَيَكْشِفُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْغُمُومَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ.
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ الرَّاجِينَهُ -سُبْحَانَهُ-, وَإِنَّمَا يُعْطِيهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْجَنَّةَ وَزِيَادَةً: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وَالزِّيَادَةُ: هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْجَنَّةِ.
*الذِّكْرُ حِصْنٌ لِلْعَبْدِ مِنَ الشَّيْطَانِ:
إِنَّ الذِّكْرَ -كَمَا بَيَّنَ لَنَا الرَّسُولُ ﷺ - يُحَرِّزُ الْإِنْسَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الصَّبَاحِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ مَنْ قَالَهَا مِئَةَ مَرَّةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ -فِي الصَّبَاحِ, وَهِيَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّبَاحِ, وَمِنْ أَذْكَارِ الْمَسَاءِ أَيْضًا-؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الذِّكْرَ حِرْزًا لَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ)).
فَكَأَنَّهُ دَخَلَ فِي حِصْنٍ وَتَحَصَّنَ بِهِ، فَلَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيئًا فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ، ((فَتَكُونُ لَهْ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ, وَلَا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ؛ إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَهُ، أَوْ زَادَ علَيْهِ)).
((الذِّكْرُ هُوَ بَابُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ))
الْغَرِيبُ -عِبَادَ اللهِ- أَنَّ الذِّكْرَ لَا يُكَلِّفُ الْإِنْسَانَ شَيْئًا, هُوَ أَهْوَنُ الْعِبَادَاتِ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِفَةُ, لَا يُكَلِّفُ الْمَرْءَ شَيْئًا, لَا هُوَ بِالَّذِي يُكَلِّفُ الْإِنْسَانَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمَالِ, فَمَا هُوَ بِعِبَادَةٍ مَالِيَّةٍ, وَلَا يُكَلِّفُ الْإِنْسَانَ شَيْئًا مِنَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ, فَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَدَنِيَّةٍ مَحْضَةٍ, بِمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَذْكُرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَلْبِهِ.
وَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذِّكْرَ عَلَى جَمِيعِ الْحَالَاتِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، وَفِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا قَدْ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ أَنْ يُذْكَرَ اسْمُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ؛ كَالْحُشُوشِ, وَبَيْتِ الْخَلَاءِ, وَمَا أَشْبَهَ, فَهَذِهِ الْأَمَاكِنُ النَّجِسَةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّاهِرُ الطَّيِّبُ.
وَمَعَ ذَلِكَ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ حَتَّى وَهُوَ فِي بَيْتِ الْخَلَاءِ بِقَلْبِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَبِّهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
الذِّكْرُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْهُ عَبْدٌ يَعْرِفُ قِيمَتَهُ.
الذِّكْرُ هُوَ بَابُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ, وَهُوَ مَحَلُّ الْوُصُولِ الْأَكْرَمِ, وَهُوَ مَنْشُورُ السَّعَادَةِ الْمَنْشُورُ دَائِمًا وَأَبَدًا, لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى خَيْرٍ بِسِوَاهُ؛ حَتَّى الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- كَانُوا يُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَيَفْتَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَبِهِمْ فُتُوحًا لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا إِلَّا اللهُ.
*حَالُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- مَعَ الذِّكْرِ:
مَشْهُورٌ جِدًّا أَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-, وَكَانَ فِي جِلَادٍ، وَفِي صِرَاعٍ بِالسَّيْفِ, كَانَ يُحَارِبُ بِسَيْفِهِ, وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ, وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ, وَلَا يَكَادُ يَجِدُ ثَانِيَةً وَاحِدَةً مِنَ الزَّمَانِ مُتَفَرِّغًا فِيهَا لِشَأْنِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ -رَحِمَهُ اللهُ- كَانَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ عَلَى بَابِ غُرْفَتِهِ الَّتِي هِيَ بَيْتُ كُتُبِهِ -أَيْ: مَكْتَبَتُهُ-, وَمِنْ كَثْرَةِ انْشِغَالِهِ بِالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيبِ, وَالتَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ, وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْعِلْمِ, كَانَ الطَّعَامُ يَظَلُّ عَلَى بَابِ الْحُجْرَةِ, وَرُبَّمَا لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي يَلِي -رَحِمَهُ اللهُ-!!
يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ؛ بَلْ كَانَ الثَّوْبُ يَظَلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَزَوِّجًا -رَحِمَهُ اللهُ-, فَكَانَتْ خِدْمَتُهُ لَا تَلْزَمُ أَحَدًا بِصُورَةٍ ضَرُورِيَّةٍ, فَكَانَ الثَّوْبُ يَظَلُّ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ أَنْ يَخْلَعَهُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُغْسَلَ وَيُنَظَّفَ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَمَعَ ذَلِكَ, مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ وَالْعَنَاءِ, وَمَا كَانَ فِيهِ -رَحِمَهُ اللهُ- مِنَ الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ, وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ, وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ, وَالسَّعْيِ بِالْخَيْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ نَصِيحَةِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ, وَمِنَ الْأَخْذِ عَلَى يَدِ الْعَامَّةِ الْمَسَاكِينِ؛ حَتَّى لَا يَتَوَرَّطُوا فِي الشِّرْكِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ كَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ كَثِيرَ الذِّكْرِ جِدًّا.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -تِلْمِيذُهُ الْهُمَامُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا-: ((كُنْتُ أُصَلِّي الصُّبْحَ مَعَ شَيْخِي -شَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ--، فَيَظَلُّ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الصُّبْحَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ فِي ذِكْرٍ، وَدُعَاءٍ، وَإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- )).
إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ!! لَا يَتَحَرَّكُ مِنْ مَوْضِعِهِ, يَظَلُّ فِي ذِكْرٍ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
عِبَادَةٌ سَهْلَةٌ مُيَسَّرَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُوَفَّقُ إِلَيْهَا إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ؛ لِأَنَّ: مَا يُكَلِّفُكَ الذِّكْرُ؟!! وَالْمَرْأَةُ -أَيْضًا- فِي بَيْتِهَا، مَا الَّذِي يُكَلِّفُهَا الذِّكْرُ؟!!
إِنَّهَا لَا تَطْبُخُ بِلِسَانِهَا, وَإِنَّهَا لَا تَكْنُسُ بِلِسَانِهَا, وَإِنَّهَا لَا تَغْسِلُ بِلِسَانِهَا!! وَلَكِنْ لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ؛ مَعَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَعْطَاهَا فُسْحَةً لِلِّسَانِ؛ إِلَّا أَنَّهُنَّ يَا لَيْتَهُنَّ يَسْكُتْنَ, وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمْنَ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ, وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ, وَالشِّرْكِ بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ, وَالصُّرَاخِ وَالْعَوِيلِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ, وَتَجِدُ أَشْيَاءَ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ -إِلَّا عِنْدَ مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُنَّ-.
مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الذِّكْرِ لَوْ أَنَّ اللهَ وَفَّقَ إِلَيْهَا امْرَأَةً -عَلَى كَثْرَةِ مَا عِنْدَهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَطِيعُ فِيهِ أَنْ تَصْرِفَهُ فِي الذِّكْرِ؛ حَتَّى عِنْدَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ-؛ لَكَانَتْ مِنَ السَّابِقَاتِ, إِلَّا أَنَّهُ لَا يُوَفَّقُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا الْمُوَفَّقُونَ, عَلَى يُسْرِهِ، وَعَلَى بَسَاطَتِهِ, وَعَلَى عَدَمِ تَكْلِفَتِهِ الْإِنْسَانَ شَيْئًا, بَلْ عَلَى عَظِيمِ عَطَائِهِ فِي الْمُقَابِلِ.
كَانَ الشَّيْخُ يَظَلُّ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ فِي ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَيَّ يَقُولُ: يَا بُنِيَّ! هَذِهِ غَدْوَتِي, وَلَوْ لَمْ أَتَغَدَّ الْغَدَاءَ لَذَهَبَتْ قُوَّتِي)).
فَالسِّرُّ فِي مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النُّصْرَةِ, وَالسِّرُّ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ التَّأْيِيدِ, وَالسِّرُّ فِيمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَطَاءِ الْبَاهِرِ, وَالتَّغْيِيرِ لِلْمُنْكَرَاتِ, وَإِقَامَةِ سُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْكَوْنِ؛ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
يُكْثِرُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْحَبْسَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ كَانَ الْمَحَابِيسُ الَّذِينَ يَأْتِي أَوَانُ وَزَمَانُ الْإِفْرَاجِ عَنْهُمْ يَرْفُضُونَ الْخُرُوجَ مِنَ السِّجْنِ, وَيَقُولُونَ: نَظَلُّ فِي السِّجْنِ مَعَ الشَّيْخِ؛ لِأَنَّ السِّجْنَ تَحَوَّلَ إِلَى مَدْرَسَةٍ عِلْمِيَّةٍ لِذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- , وَالْإِقْبَالِ عَلَى دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فَكَانَ الْمَحَابِيسُ مِمَّا وَجَدُوا مِنْ لَذَّةِ الذِّكْرِ, وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ, وَبَهْجَةِ الْعِلْمِ, وَأَثَرِ الْعِلْمِ فِي النُّفُوسِ؛ بِتَغْيِيرِ النَّفْسِ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ السُّوءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالْبَهْجَةِ, وَالْإِحْسَاسِ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ, وَالْجَمَالِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كَوْنِهِ؛ كَانُوا يَرْفُضُونَ أَنْ يَخْرُجُوا، وَأَنْ يُفَارِقُوا الشَّيْخَ, يَقُولُونَ: بَلْ نَحْنُ مَعَ الشَّيْخِ!!
آنَ أَوَانُ الْإِفْرَاجِ؛ فَاخْرُجُوا إِلَى الْحُرِّيَّةِ!!
يَقُولُونَ: الْحُرِّيَّةِ هَاهُنَا, فِي الْخَارِجِ حَبْسٌ وَسِجْنٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا هُنَا؛ فُحُرِّيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ!!
فَهَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الْجَلِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُيَسَّرًا, وَمِنَ الْحُجَجِ الَّتِي يُقِيمُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْنَا؛ لِأَنَّ الْأَنْفَاسَ الَّتِي نَتَنَفَّسُهَا إِنَّمَا هِيَ فِي النِّهَايَةِ خَزَائِنُ.
سَتَأْتِي أَنْفَاسُنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَةِ الْخَزَائِنِ -تَمْثِيلًا-, وَهَذِهِ الْخَزَائِنُ مَهْمَا وَجَدْتَ فِيهَا مِنْ خِزَانَةٍ فَارِغَةٍ فَهِيَ الْحَسْرَةُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَنْدَمُونَ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَمَا يَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا جَعَلَ الْحَيَاةَ مَبْنِيَّةً عَلَى قَاعِدَةِ الْمَنْفَعَةِ, فَالْكَائِنُ الْإِنْسَانِيُّ لَا يَبْحَثُ إِلَّا عَمَّا فِيهِ مَنْفَعَتُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْفَعَةً أُخْرَوِيَّةً, أَمْ كَانَتْ مَنْفَعَةً دُنْيَوِيَّةً؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا فِي ذَلِكَ حَظًّا وَنَصِيبًا.
((ذِكْرُ اللهِ فِي خِتَامِ رَمَضَانَ))
عِبَادَ اللهِ؛ لَقَدْ شَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي خِتَامِ شَهْرِكُمْ هَذَا عِبَادَاتٍ تَزِيدُكُمْ مِنَ اللهِ قُرْبًا، وَتَزِيدُ فِي إِيمَانِكُمْ قُوَّةً، وَفِي سِجِلِّ أَعْمَالِكُمْ حَسَنَاتٍ.
مِنْهَا: أَنْ شَرَعَ اللهُ لَكُمُ التَّكْبِيرَ عِنْدَ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَيَبْدَأُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البَقَرَة: 185] .
وَالتَّكْبِيرُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِيدَيْنِ، وَصِفَتُهُ: أَنْ يَقُولَ المسْلِمُ: ((اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الْحَمْدُ)) .
وَقَدْ وَرَدَتْ صِيَغٌ لِلتَّكْبِيرِ سِوَى هَذِهِ الصِّيغَةِ.
وَيُسَنُّ جَهْرُ الرِّجَالِ بِالتَّكْبِيرِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَالْبُيُوتِ؛ إِعْلَانًا بِتَعْظِيمِ اللهِ، وَإِظْهَارًا لِعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَحَمْدِهِ.
وَيُسِرُّ بِهِ النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُنَّ مَأْمُورَاتٌ بِالتَّسَتُّرِ، وَالْإِسْرَارِ بِالصَّوْتِ.
وَمَا أَجْمَلَ حَالَ النَّاسِ وَهُمْ يُكَبِّرُونَ اللهَ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا فِي كُلِّ مَكَانٍ عِنْدَ انْتِهَاءِ شَهْرِ صَوْمِهِمْ!!
يَمْلَؤُونَ الْآفَاقَ تَكْبِيرًا، وَتَحْمِيدًا، وَتَهْلِيلًا، يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ، وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ! .
((أَقْبِلُوا عَلَى ذِكْرِ اللهِ!))
عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ فِي بَيْتِهِ مَسْجِدًا, أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ فِي بَيْتِهِ وَلَوْ أَمْتَارًا؛ تَكُونُ خَاصَّةً بِالصَّلَاةِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ, وَقِيَامِ اللَّيْلِ, وَذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
يَخْلُو فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ بِرَبِّهِ دَاعِيًا مُنِيبًا مُتَبَتِّلًا بَعِيدًا عَنِ الْأَصْوَاتِ الْمُلْهِيَةِ, وَالْمَرَائِي الدَّاعِيَةِ إِلَى تَشَتُّتِ الْخَاطِرِ، وَتَبَلْبُلِ الْفِكْرِ, فَيَكُونُ مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ, وَالصَّلَاةِ، وَالْإِنَابَةِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ, فَمُقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَهْوَنِ الْأُمُورِ وَأَيْسَرِهَا إِذَا يَسَّرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَيْسَ فِيهِ بَذْلُ مَالٍ, وَلَيْسَ فِيهِ بَذْلُ مَجْهُودٍ, وَلَيْسَ فِيهِ تَكَلُّفٌ بِشَيْءٍ يَجِدُ الْمَرْءُ فِيهِ الْعَنَتَ وَالْمَشَقَّةَ, وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَسَّرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, فَالسَّعِيدُ مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَائِلًا رَبَّهُ أَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ هَذَا الْأَصْلَ الْكَبِيرَ؛ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ؛ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ.
وَلَكِنْ مَعَ هَذَا التَّيْسِيرِ الْعَظِيمِ لَا تَجِدُ مَنْ يُوَفَّقُ إِلَيْهِ إِلَّا الْقَلِيلُ, أَوْ إِلَّا النَّادِرُ, وَالنَّاسُ في غَفْلَةٍ يَعْمَهُونَ, فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.