تفريغ مقطع : الحكمة من اختصاص الله للأشهر الحُرُم بالحُرمة
((الحكمة
من اختصاص الله للأشهر الحُرُم بالحُرمة))
النبيُّ
–صلى الله عليه وعلى
آله وسلم- لمَّا حجَّ حجةَ الوداع، وخطب الناسَ في يومِ مِنَى، كان مما قاله
النبيُّ –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم-: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ
يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرْض، الأشهُرُ الحُرُمُ أَرْبَعَة: ذُو الْقِعْدَةِ،
وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)).
فجعلَ
اللهُ –ربُّ العالمين-
الأشهرَ الحُرُم ثلاثةً سَرْدًا وواحدًا فَرْدًا، فأَمَّا الحكمةُ في هذا التقسيمِ
على هذه الطريقة؛ فالعلماءُ يقولون: إنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- إنما حَرَّمَ هذه
الأشهرَ من أجلِ مناسكِ الحجِّ والعُمرة، فاللهُ –ربُّ العالمين- لمَّا جعلَ الحجَّ
بمناسكهِ في شهرِ اللهِ –تبارك وتعالى-
المُحَرَّمِ ((ذي الحِجَّةِ))؛ اللهُ -ربُّ العالمين-
جعل قبله شهرًا مُحَرَّمًا وبعدَهُ شَهْرًا مُحَرَّمًا، حتى يأتيَ الناسُ من
الآفاقِ قاصدينَ بيتَ اللهِ الحرام آمنينَ على أنفسِهم ورواحلِهم وأزواجِهم
وأموالِهم.
ثم
إذا ما فَرَغوا مِن مناسكِ الحجِّ في ذي الحِجَّةِ وأرادوا القُفولَ إلى ديارِهم
التي منها أتَوا؛ كانت عندهُم من الوقتِ فُسْحَةٌ من أجلِ أن يعودوا إلى ديارِهم
في أمنٍ وأمانٍ واطمئنان.
فجعل
اللهُ –ربُّ العالمين- قبلَ
الشهرِ الذي فيه المناسك شهرًا مُحَرَّمًا؛ وهو شهر اللهِ –ربِّ العالمين-
المُحَرَّمِ: ((ذو القِعْدَةِ))، ثم تأتي المناسكُ
بتمامِها وجُملتِها في شهر ((ذي الحِجَّة))، ثم إذا ما فَرَغَ الناسُ مِنْ مناسكِهم،
أَمِنوا على أنفسِهم بتحريمِ اللهِ –ربِّ
العالمين- للقتال؛ بل بظُلْمِ النفسِ في المعاصي، التي تكونُ بين العبدِ وربِّهِ،
أَمِنوا على أنفسِهم شهرًا من أجلِ أنْ يعودَ كلٌّ إلى دارهِ آمِنًا على نَفْسِهِ
ومَالِهِ.
ثم
يأتي شهرُ اللهِ –ربِّ العالمين- الفرد:
((رَجَب))، يأتيَ مُفردًا هكذا من أجلِ
الزيارةِ والاعتمار، بعيدًا عما فرضَ اللهُ –ربُّ العالمين- من أمرِ المناسكِ
في شهر ذي الحِجَّة، فإذا أراد رَجُلٌ أنْ
يزورَ بيتَ اللهِ الحرام في خلالِ العام؛ جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- له شهرًا في وسطِ
العام هو رَجب، بعيدًا عن شهورِ مناسكِ الحجِّ ذَهَابًا وأداءً وإيابًا؛ مِنْ
أَجْلِ أنْ يزورَ بيتَ اللهِ الحرام وأنْ يعتمرَ للهِ –ربِّ العالمين-.
ولمَّا
كان أمرُ العُمرةِ غيرَ أمرِ الحجِّ، جَعَلَ اللهُ –ربُّ العالمين- للزيارةِ
والاعتمارِ شهرًا واحدًا؛ لأنَّ الإنسانَ يُمكنُ أنْ يأتيَ من أطرافِ الجزيرةِ
ويعود في هذه المُدَّة؛ لأنَّ العمرة لا تحتاج زمانًا مرتبطًا بمكانٍ كما هو
الشأنُ في مناسك الحج، فيمكن للعبد أن يأتيَ من أطرافِ الجزيرة من أجلِ أنْ يزورَ
بيتَ اللهِ الحرام وأنْ يعتمرَ لله –ربِّ
العالمين-، ثم لا يمكثُ في مكةَ قليلًا ولا كثيرًا، ثم ينقلبُ بعد ذلك إلى أهلهِ
آمنًا على مالهِ ونفسهِ وزادهِ وعتادهِ.
جعل
اللهُ –ربُّ العالمين- الأشهر
الحُرُم بهذه الصورة في التقسيم؛ مِن أجلِ حِكمٍ لا يعلمُها إلا اللهُ –ربُّ العالمين-؛ منها
ما أخبرَنا عنه العلماءُ –رحمةُ الله عليهم-
فيما مضى ذِكرُه.
اللهُ
–ربُّ العالمين- بحكمته
البالغة عَلِمَ من أمرِ جزيرة العرب ما عَلِم؛ بعِلْمِهِ الذي تنكشف به المعلومات،
فالعالَمُ كلُّه أمام عِلمِ اللهِ -ربِّ
العالمين- مكشوفٌ دفعةً واحدة؛ لا ماضيَ ولا حاضرَ ولا مستقبل؛ بل كلُّه مكشوفٌ
لدى اللهِ –ربِّ العالمين- معلومٌ
لديه كأنه وقعَ عند البشرِ من حيثُ اليقين؛ بل أشَدُّ؛ لأنه اللهُ –ربُّ العالمين-.
اللهُ
–ربُّ العالمين- يعلمُ
بسابقِ عِلْمِهِ أنَّ العربَ لن يَكفُّوا عن العصبيةِ والحَميَّةِ والقتال، فلمَّا
أنْ أرسلَ اللهُ –ربُّ العالمين-
إبراهيم –عليه السلام-، وأمره
برفعِ القواعد من البيت؛ حرَّمَ اللهُ –ربُّ
العالمين- ما حرَّم من أمرِ هذه الأشهرِ المُحَرَّمة، فهي حُرُمٌ من أيامِ إبراهيم
وإسماعيل منذ أذَّنَ إبراهيمُ –عليه السلام- في
الناسِ بالحَجِّ.
أمَّنَ
اللهُ –ربُّ العالمين-
الطريقَ للحُجَّاج والزائرين والمُعتمرين؛ لأنَّ العربَ كانوا أهلَ عصبيةٍ وأهلَ
حَميَّةٍ جاهليةٍ فيما قبل الإسلام، وكانوا يعتمدون على السَّلبِ والنهبِ والسطوِ
والغزو،ويأكلون من أرزاقٍ تُدفعُ إليهم عن طريقِ أسنَّةِ الرِّماحِ وشباتِ السيوف، فجعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- هذه
الأشهر مُحَرَّمًا فيها القتال، حتى يتمكن الناس من زيارةِ بيتِ اللهِ الحرام
حُجَّاجًا وزائرين ومعتمرين، وحتى تنقطعَ حُجةَ الخَلْقِ أجمعين.
وجَعَلَ
اللهُ –ربُّ العالمين- من
المكانةِ للأشهر الحُرُمِ في قلوبِ العربِ من الجاهليين، الذين كانوا لا يدينونَ
بدينٍ صحيح، ولا يتَّبِعونَ في الجُملةِ فطرةً مستقيمة، جعلَ اللهُ –ربُّ العالمين- من
الفطرةِ في تقديرِ هذه الأشهر أنَّ الرجلَ من العربِ كان يَلْقَى قاتِلَ أبيه
وقاتِلَ أخيه في الأشهرِ الحُرُمِ؛ فلا يُهيِّجُهُ ولا يُزعجُهُ ولا يرفعُ إليه
نظرًا بحِدَّة؛ لأنَّ اللهَ –ربَّ العالمين- حرَّمَ
القتالَ في هذه الأشهر، وجعلهُ حرامًا مُحَرَّمًا، فقدَّرَت العربُ ذلك بأمرِ
اللهِ –رب العالمين- الكونيِّ
وبقايا دينِ إبراهيم –عليه السلام-، الذي
كان الحنيفية السَّمحة ملَّةَ أبينا إبراهيم –نسأل اللهَ –تبارك وتعالى- أن
يُحييَنا عليها، على الإسلامِ دينِ مُحمدٍ –صلى الله عليه وسلم- وأن
يُميتَنَا عليها وأنْ يحشرنا بين يديه عليها إنه على كلِّ شيءٍ قدير-.
التعليقات
مقاطع قد تعجبك