عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ


عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ

وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ أَجَلِّ الْأَحَادِيثِ -وَكُلُّهَا جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ-، بَيَّنَ فِيهِ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الحَدِيثِ المُوحَى بِهِ عَنْ طَرِيقِ جِبْرِيلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّ الإِنْسَانَ مَا عَاشَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى المَوْتَ كِفَاحًا.

 وَقَدْ غَيَّبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِلْمَهُ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].

فَالإِنْسَانُ لَا يَعْلَمُ النِّهَايَةَ: أَيْنَ تَكُونْ، وَلَا مَتَى تَكُونُ، وَلَا كَيْفَ تَكُونُ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اِسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ هَذَا وَحْدَهُ، وَهُوَ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الخَمْسَةِ الَّتِي اِسْتَأْثَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِعِلْمِهَا، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهَا مَلَكًا مُقَرَّبًا، وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا.

فَالمَرْءُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُشْفِقًا؛ ((عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ))، وَعَجَبًا لِمَنْ تُقَرِّبُهُ أَنْفَاسُهُ مِنْ نِهَايَتِهِ كَالْجَوَادِ الَّذِي يَعْدُو فِي مِضْمَارِهِ إِلَى قَصَبِ سَبْقِهِ!!

فَمَا مِنْ نَفَسٍ إِلَّا وَهُوَ مُقَرِّبٌ لِلنِّهَايَةِ نَفَسًا، وَمَا مِنْ لَحْظَةٍ تَمُرُّ إِلَّا وَهِيَ مُقَرِّبَةٌ إِلَى الْقَبْرِ لَحْظَةً، فَكَيْفَ بِالْأَيَّامِ؟!! فَكَيْفَ بِالْأَعْوَامِ وَالدُّهُورِ تَتَطَاوَلُ عَلَى المَرْءِ لَا يَرْعَوِي وَلَا يَتُوبُ؟!!

فَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ الْإِنْسَانَ مَهْمَا عَاشَ لَا بُدَّ أَنْ يَلْقَى المَوْتَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَلْقَاهُ المَوْتُ.

وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَلَكَ المَوْتِ -وَكَانَ يَأْتِي كِفَاحًا- إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَأَرْجَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى مُوسَى، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ المَوْتَ لَا بُدَّ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: ((ضَعْ يَدَكَ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ، فَمَا مِنْ شَعْرَةٍ تَكُونُ تَحْتَ يَدِكَ إِلَّا وَلَكَ بِهَا سَنَةٌ)).

قَالَ: ((ثُمَّ مَاذَا بَعْدُ؟))

قَالَ: ((ثُمَّ المَوْتُ)).

قَالَ: ((فَالْآنَ)).

لِأَنَّ المَرْءَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى نِهَايَتِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَى غَايَتِهِ، وَالمَوْتُ آتٍ لَا مَحَالَةَ؛ ((يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ))، وَأَمَّا الَّذِي يُحَبُّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَارَقَ أَبَدًا فَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

 

 إِنْ أَحْبَبْتَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ مُؤْنِسُكَ فِي الحَيَاةِ، يُزِيلُ وَحْشَتَكَ، وَيُفَرِّجُ كُرْبَتَكَ، وَيَكْشِفُ هَمَّكَ، وَيَرْفَعُ غَمَّكَ، وَيَحْنُو عَلَيْكَ، وَيُوَصِّلُ كُلَّ مَحَبَّةٍ وَمَكْرُمَةٍ إِلَيْكَ.

كُلُّ هَذَا وَأَكْثَرُ إِذَا مَا أَحَبَّكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالشَّأْنُ أَنْ يُحِبَّكَ، وَلَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّهُ، لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ أَنْ تُحَبَّ.

 فَالْكُلُّ يَدَّعِي المَحَبَّةَ لِلرَّبِّ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ كُلَّ الشَّأْنِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ تُطِيعَ رَسُولَ اللهِ، وَأَنْ تَتَّبِعَ خَلِيلَ اللهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عِمْران: 31].

فَالشَّأْنُ كُلُّ الشَّأْنِ أَنْ يُحِبَّكَ، لَيْسَ الشَّأْنُ أَنْ تُحِبَّهُ، فَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ المَحَبَّةَ وَلَا يُحَبُّونَ!!

((وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ)): فَلْتُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِمَنْ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ وَمِنَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا بُدَّ أَنْ تُفَارِقَهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَكَ، وَأَمَّا الَّذِي لَنْ يُفَارِقَكَ أَبَدًا إِذَا مَا أَحَبَّكَ وَأَحْبَبْتَهُ بِصِدْقٍ، فَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، هُوَ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَحُولُ، وَلَا يَزُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

المصدر: وماذا بعد رمضان؟

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَمْكِينُ اللهِ لِلْأَنْبِيَاءِ بِتَحْقِيقِهِمُ التَّوْحِيدَ
  آدَابُ الِاسْتِئْذَانِ
  مَوْتُ الْمُسْلِمِ دِفَاعًا عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ
  الْمُقَارَنَةُ بَيْنَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: السَّعْيُ فِي تَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  رَمَضَانُ.. كَيْفَ نَحْيَاهُ؟
  مَعْرَكَةُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ ضِدَّ الْإِرْهَابِ
  عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ
  الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ
  لَيْلَةُ النِّصْفِ لَيْلَةُ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُوَحِّدِينَ
  الْعُمُرُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ
  ضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَى نَظَافَةِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَلَاقَتُهُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ
  مَنَاسِكُ الْحَجِّ كَأَنَّكَ تَرَاهَا
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان