((أَثَرُ الْإِيمَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ))
لَقَدْ ضَرَبَ لَنَا مَنْ جَاءَ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الْأَمْثَالَ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ:
هَذَا رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الصُّدُقِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ مِنْ أَصْبَرِ الْخَلْقِ، يُحَوِّلُونَ الْكَلَامَ وَاقِعًا عَمَلِيًّا، وَيُحَوِّلُونَ الْإِيمَانَ إِلَى حَيَاةٍ فَوَّارَةٍ مَوَّاجَةٍ بِالْعَمَلِ، زَاخِرَةٍ هَادِرَةٍ بِذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ وَمِن نَتَائِجِهِ.
هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، هُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّا نَسَبُهُ وَحَسَبُهُ، وَأَمَّا أَصْلُهُ وَفَصْلُهُ فَبَاهِرٌ زَاخِرٌ وَلَا مَزِيدَ.
فَأَمَّا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ؛ فَإِنَّهُ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ وَحَوَارِّيُّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَمَّا أُمُّهُ فَـ(ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ) أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا وَعَلَى أُمِّهَا وَعَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّنَا أَجْمَعِينَ-.
أَمَّا أَسْمَاءُ؛ فَهِيَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الصَّبْرِ، وَهِيَ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، لَمَّا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِيهَا فِي الْغَارِ، فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَجْعَلُهُ عِصَامًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَحْمِلَ فِيهِ زَادَ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرَابَهُ، فَأَخَذَتْ نِطَاقَهَا، وَهُوَ ذَلِكَ الَّذِي تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ وَسَطَهَا، فَجَعَلَتْهُ بِثِنْتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَتِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُعَلَّقًا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَجَعَلَتْ عَلَى وَسَطِهَا الثَّانِيَ، فَسُمِّيَتْ بِـ(ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ).
أَسْمَاءٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهِيَ تُحَوِّلُ الْإِيمَانَ حَقِيقَةً وَاقِعِيَّةً، وَقَدْ أَصَابَهَا الضُّرَّ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، وَسَلَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا حَبِيبَتَيْهَا وَأَصَابَهَا الْعَمَى، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُبْصِرَةً بِبَصِيرَتِهَا، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُشَاهِدَةً بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهَا.
لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهَا وَلَدُهَا عَبْدُ اللهِ قَبْلَ الْمَوْقِعَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَوَصَّتْهُ مَا وَصَّتْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَذَهَبَ قَتِيلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَعَلَّقَهُ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوسًا مَصْلُوبًا، وَأَمَّا هِيَ فَاحْتَسَبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَتْ صَابِرَةً حَتَّى لَقِيَتْ رَبَّهَا -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَمَّا جَدَّتُهُ لِأَبِيهِ فَهِيَ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَهَذَا الرَّجُلُ بَاذِخٌ مِنْ طَرَفَيْهِ، جَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَأَبُوهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَجَدَّتُهُ لِأَبِيهِ صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
رَزَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْبَعَةً مِنَ الْوَلَدِ؛ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ (زَيْنَ الْمَوَاكِبِ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَهَائِهِ وَجَمَالِهِ مَثَلًا مَضْرُوبًا حَتَّى لُقِّبَ بِـ(زَيْنِ الْمَوَاكِبِ).
وَكَانَ عُرْوَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عِلْمَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَتَّى اشْتَفَّهُ، وَإِنَّهُ لَيَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ: ((لَوْ مَاتَتِ الْيَوْمَ؛ لَمَا أَسِفْتُ عَلَى حَدِيثٍ هُوَ عِنْدَهَا))؛ مِنْ كَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ عَلَيْهَا، وَسُؤُالِهِ إِيَّاهَا، وَحَمْلِهِ لِلْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهَا إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ دَعْوَةً لِعُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ لِكَيْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ دِمْشَقَ حَاضِرَةَ الْخِلَافَةِ، وَاصْطَحَبَ عُرْوَةُ مَعَهُ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ، وَهِشَامًا وَلَدَهُ وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ فَأَكْثَرَ، فَـ(هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ) طَرِيقٌ مَعْلُومَةٌ، وَسَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ، وَمَعْلَمٌ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ بَاهِرٌ.
اصْطَحَبَ عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مَعَهُ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ وَهِشَامًا، فَتَحَصَّلَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَصْرِهِ، فَأَكْرَمَ وِفَادَتَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ إِحْسَانًا كَامِلًا، وَأَمَّا عُرْوَةُ ؛ فَقَدْ أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ شَيْئًا آخَرَ؛ لِكَيْ يَضْرِبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمِثَالَ لِلْأَجْيَالِ اللَّاحِقَةِ، وَإِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ.
أَمَّا عُرْوَةُ فَإِنَّهُ اشْتَكَى رِجْلَهُ مُنْذُ رَحِيلِهِ، حَتَّى كَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ فِي قَصْرِهِ، وَمَا زَالَتِ الْعِلَّةُ تَشْتَدُّ بِالْوَجَعِ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَّرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى (أَبِي الْحَكَمِ)، وَهُوَ طَبِيبُهُ النَّصْرَانِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا فَارِعَ الطُّولِ، مَشْبُوحَ الْعِظَامِ، قَدْ ذَهَبَ الصَّلَعُ بِشَعْرِ رَأْسِهِ إِلَّا شَعَرَاتٍ بِيضٍ بِجَانِبَيْهِ، وَأَمَّا لِحْيَتُهُ فَقَدْ طَالَتْ وَهِيَ كَثَّةٌ فَلَوْ ضَرَبَتْهَا الرِّيحُ لَطَارَتْ بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ تَسْبِقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِحْيَتُهُ، حَتَّى كَانَ هُنَالِكَ عِنْدَ عُرْوَةَ وَفِي الْمَجْلِسِ مَنْ فِيهِ؛ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
وَقَامَ الطَّبِيبُ النَّصْرَانِيُّ أَبُو الْحَكَمِ لِفَحْصِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ قَرَّرَ قَرَارًا رَهِيبًا، قَالَ: إِنَّهَا الْأَكِلَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْأَطِبَّاءِ الْيَوْمَ (الْغَرْغَرِينَة)، وَهَذِهِ إِذَا مَا اسْتَشْرَتْ فِي عُضْوٍ بِدَائِهَا؛ تَآكَلَ وَتَأَكَّلَ مِنْهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ بَتْرِهَا مِنْ فَوْقِهَا مِمَّا هُوَ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ: هِيَ الْأَكِلَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَتْرِهَا.
سَبَقَ هَذَا الْحَدَثَ؛ أَنَّ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ كَانَ هُنَالِكَ فَوْقَ سَطْحِ دَارٍ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تُشْرِفُ عَلَى إِسْطَبْلٍ بِهِ جِيَادُهُ، فَمَا زَالَ نَاظِرًا مُتَطَلِّعًا حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهُ، فَوَقَعَ هُنَالِكَ بَيْنَ الْجِيَادِ، فَرَمَحَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ، فَقَضَى عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الْهَرَجُ فِي الْجِيَادِ، فَمَا زَالَتْ ثَائِرَةً تَرُوحُ وَتَجِيءُ عَلَى جَسَدِهِ حَتَّى فَصَلَتْ رَأْسَهُ عَنْهُ.
وَكَانَ هَذَا الْحَدَثُ بِمَعْزِلٍ عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ نَزَلَتْ بِهِ الْمُصِيبَةُ فِي جَسَدِهِ، وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ قَالَ لِلطَّبِيبِ: دُونَكَ.
فَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَا بُدَّ أَنْ نَسْقِيَكَ خَمْرًا.
فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخٍ سُوءٍ، إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِحَرَامِ اللهِ عَلَى عَافِيَتِهِ، وَإِنَّا لَا نَتَوَصَّلُ إِلَى مَا نُرِيدُ مِنَ الرَّاحَةِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ الْمَسْلُوكَةِ الْخَائِضَةِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
قَالَ: فَإِذَنْ؛ لَا بُدَّ أَنْ نَسْقِيَكَ الْمُرْقِدَ.
وَهُوَ شَيْءٌ كَالْمُخَدِّرِ، إِذَا مَا تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ ذَهَبَ عَنْهُ وَعْيَهُ، حَتَّى يُلِمَّ بِهِ هَذَا الْبَتْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا مَخَافَةٍ عَلَيْهِ، إِذْ يَتَفَزَّزُ وَيَتَفَزَّعُ، وَرُبَّمَا نَدَّتْ مِنْهُ حَرَكَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْبَتْرِ بِآلَاتِهِ الْبِدَائِيَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأُصِيبَ فِي مَوْضِعٍ صَحِيحٍ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَقِفْ نَزْفُ الدَّمِ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَتْرِ الْعُضْوِ الْمُصَابِ، وَيَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَا يُحْمَدُ عُقْبَاهُ.
فَقَالَ: فَنَسْقِيكَ الْمُرْقِدَ.
قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا أُحِبُّ أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنِّي عَنِّي إِلَّا وَأَنَا حَامِدٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، شَاكِرٌ لَهُ، وَأَنَا مُصَلٍّ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ؛ حَتَّى أَتَحَصَّلَ عَلَى تَمَامِ الْأَجْرِ مِنْ ذَلِكَ، وَاللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.
فَأُتِيَ بِالطَّسْتِ، وَمُدَّتْ رِجْلُ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَوْقَ الطَّسْتِ، وَأَتَى أَبُو الْحَكَمِ بِآلَاتِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْشَارًا طَوِيلًا دَقِيقًا صَقِيلًا، يَضْحَكُ الشُّعَاعُ فِيهِ، فَاسْتَلَّهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَفَحَصَهُ، حَتَّى إِذَا مَا رَضِيَهُ، أَقْبَلَ عَلَى الرِّجْلِ الصَّحِيحَةِ مِنْ عِنْدَ الرُّكْبَةِ بَلْ مِنْ فَوْقِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ يُعْمِلُ مِنْشَارَهُ فِي اللَّحْمِ الْحَيِّ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْعَظْمِ الْحَيِّ يَنْشُرُهُ نَشْرًا، وَعُرْوَةُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: ((سُبْحَانَ اللهُ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).
وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُومُ بِنَشْرِ رِجْلِهِ مِنَ الْعَظْمِ الْحَيِّ، حَتَّى فَصَلَهَا، فَأُخِذَتْ نَاحِيَةً، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَفُورُ كَأَنَّمَا يَنْبَثِقُ مِنْ يَنْبُوعِ دَمَوِيٍّ حَيٍّ أَحْمَرَ قَانِيًا، وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُو وَجْهَ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ أَثَرِ النَّزْفِ، وَإِنَّ الْعَرَقَ لِيَتَصَبَّبَ مِنْهُ شَآبِيبَ، يَمْسَحُ ذَلِكَ بِكَفَّيْهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ ذِكْرِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ جِيءَ بِمَغَارِفَ فِيهَا زَيْتٌ يَغْلِي، قَدْ أُحْمِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ النَّارِ، فَصُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ عَلَى تِلْكَ الْقَدَمِ الَّتِي قَدْ قُطِعَتْ، يَعْنِي عَلَى الْبَاقِي مِنْهَا عَلَى آثَارِهَا، صُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ فِي غَلَيَانِهِ، فِي تَوَهُّجِهِ، فِي نَارِهِ، صُبَّ عَلَى آثَارِ ذَلِكَ الْجُرْحِ، وَعَلَى بَقَايَا ذَلِكَ النَّزْفِ، وَعَلَى آثَارِ تِلْكَ الْعِظَامِ الْمَنْشُورَةِ، صُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ وَالرَّجُلُ مُتَصِلٌّ بِرَبِّهِ يَذْكُرُ وَيَدْعُو، وَيَأْلَمُ وَلَا يَشْكُو، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا، وَالْأَمْرُ يَتَنَزَّلُ بِالسَّكِينَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحُضُورُ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفَّيْهِ، وَعَلَا النَّشِيجُ بِالْبُكَاءِ وَكَانَتْ مَنَاحَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّقُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، لَا يَبْكِي وَلَا يَشْكُو، وَإِنَّمَا هُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَعْطَى هُوَ الَّذِي أَخَذَ، وَلِأَنَّ الَّذِي مَنَحَ هُوَ الَّذِي مَنَعَ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ مُتَأَلِّقَةٌ قَائِمَةٌ، وَهَذَا الرَّجُلُ الطَّبِيبُ النَّصْرَانِيُّ يَرَى هَذَا الْهَوْلَ كُلَّهُ، وَلَا يَرَى لَهُ فِي نَفْسِ عُرْوَةَ مِنْ أَثَرٍ يُذْكَرُ، يَقُولُ: أَمَا وَاللهِ إِنَّهُ لِتِمْثَالٍ مِنَ الصَّبْرِ فِي إِيهَابِ رَجُلٍ، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ.
وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ فَإِنَّ الزَّيْتَ الْمَغْلِيَّ لَمَّا جُعِلَ عَلَى رِجْلِهِ بَعْدَ أَنْ بُتِرَتْ لِأَجْلِ أَنْ يُوقَفَ النَّزِيفُ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ الدَّمُ بِغَلَيَانِهِ وَفَوَرَانِهِ وَثَوْرَتِهِ، حَتَّى لَا يَمُوتَ نَزْفًا بَعْدَ أَنْ كَادَ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الْأَكِلَةِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهَا هُوَ هَذَا الْعُضْوُ الْمُصَابُ قَدْ أُبْعِدَ نَاحِيَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْجَسَدُ لِيَمُوتُ مِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى، إِنَّمَا كَانَتِ الْأُولَى سَبَبًا فِيهَا وَمُؤَدِّيَةً إِلَيْهَا.
وَأَمَّا رِجْلُهُ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْهُ، فَإِنَّ الرِّجَالَ لِيُبْعِدُونَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَأَمَّا هُوَ فَأَخَذَتْهُ غَاشِيَةٌ فَأُغْشِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لِيَأْخُذُ فِي ذِكْرِهِ وَهُوَ فِي غَاشِيَتِهِ، وَهُوَ فِي إِغْمَائِهِ مُتَصِلٌّ بِرَبِّهِ، حَتَّى إِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَأَفَاقَ، لَمَحَ رَجُلًا يَخْرُجُ بِرِجْلِهِ الَّتِي بُتِرَتْ، فَقَالَ: دُونَكَ، هَلُمَّ إِلَيَّ، فَجَاءَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ رِجْلَهُ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَرَّبَهَا مِنْهُ فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي حَمَلَنِي عَلَيْكِ إِنَّهُ لِيَعْلَمُ أَنِّي مَا سِرْتُ عَلَيْكِ إِلَى سُوءٍ قَطُّ، وَإِنَّي لِأَحْتَسِبُكِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خُذُوهَا فَوَارُوهَا.
وَأَمَّا هُوَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَابِرًا، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ صَابِرًا، هَذَانِ أَمْرَانِ لَيْسَ لَهُمَا مِنْ ثَالِثٍ، وَصَبْرُ عُرْوَةَ صَبْرُ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَا، يَنْظُرُ إِلَى قَدَمِهِ الَّتِي فُصِلَتْ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اللهم إِنْ كُنْتَ قَدْ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ!!))
لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا أُخِذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ -وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ شَيْئًا وَلَا يَفْرِضُ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْطِي وَيَهَبُ، وَالَّذِي يَجُودُ وَيَتَفَضَّلُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
((فَلَمْ يَلْتَفِتِ الرَّجُلُ إِلَى مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْتَفَتَ إِلَى مَا بَقِيَ لَدَيْهِ))، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ زَوَالِ بَعْضِ النِّعَمِ.
وَهَذَا مَا قَالَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِرَجُلٍ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، فَذَهَبَ يَشْكُو إِلَى عَالِمٍ كَانَ هُنَالِكَ رَبَانِيٍّ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَالَ: إِنِّي قَدْ ضُيَّقَ عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ، وَأَنَا مِنْ بَعْدُ وَمِنْ قَبْلُ مُصَلٍّ مُزَكٍّ مُتَصَدِّقٌ، وَأَنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى دِينِ رَبِّي -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ مِمَّنْ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَمِمَّنْ لَا يُطِيعُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَمْرٍ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ نَهْيٍ، وَمِمَّنْ قَدْ مَرُّوا فِي الْحَيَاةِ وَإِنَّ حِبَالَهُمْ لَعَلَى غَوَارِبِهِمْ، يَسِيرُونَ فِيهَا سَيْرَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ!!
إِنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَصْفَتُ مِنْ حَالِهِمْ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ وَلَا يَأْتُونَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْبَاطِلَ يُجَامِعُونَهُ وَيُوَاقِعُونَهُ وَيُضَاجِعُونَهُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ!!
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَعْمَى وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟
فَأَخَذَ الرَّجُلُ يُفَكِّرُ فِي الْأَمْرِ، وَمَا هِيَ إِلَى طَرْفَةُ الْعَيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا حَتَّى قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِئَةُ أَلْفٍ وَأَنِّي كُنْتَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ.
فَقَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَصَمَّ لَا تَسْمَعُ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟
فَقَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مَشْلُولَ الْيَدَيْنِ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مَشْلولَ الرِّجْلَيْنِ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَبْكَمَ لَا تَنْطِقُ وَلَكَ مِئَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: يَا هَذَا، للهِ عِنْدَكَ نِعَمٌ بِخَمْسِ مِئَةِ أَلْفٍ، وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يَغْذُوكَ وَيَكْسُوكَ وَيَكْلَؤُكَ وَيَرْعَاكَ، وَيَحْمِيكَ، وَيُعْطِيكَ، فَاذْهَبْ فَأَدِّ مَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ، ثُمَّ طَالِبْ رَبَّكَ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّ!!
وَالْأَصْلُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَهِيَ فَوْقَ أَنْ تُقَدَّرَ بِمَالٍ، وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِمَّنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُسْكَةً مِنْ عَقْلٍ أَوْ ذَرَّةً مِنْ نُهَى.
وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقَاعِدَةَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا تَبَقَّى وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا ذَهَبَ، وَيَقُولُ: اللهم إِنْ كُنْتَ قَدْ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ، فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ...
فَقَدْ أَبْقَيْتَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى، وَأَبْقَيْتَ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ وَالنُّطْقَ وَالْعَقْلَ، وَأَبْقَيْتَ الْيَدَيْنِ، وَأَبْقَيْتَ الْقُوَّةَ، وَأَبْقَيْتَ الْعَافِيَةَ، فَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَعِنْدَئِذٍ يَأْتِي إِلَيْهِ النَّاعِي فَيَقُولُ: عَزَاءَكَ أَبَا عَبْدِ اللهِ.
فَيَقُولُ: وَمَا ذَلِكَ! إِنَّ رِجْلِي قَدْ احْتَسَبْتُهَا عِنْدَ اللهِ؟
فَيَقُولُ ذَلِكَ النَّاعِي: إِنَّ نُعَزِّيكَ فِي زَيْنِ الْمَوَاكِبِ.
قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟
قَالَ: كَانَ هُنَالِكَ فَوْقَ سَطْحٍ يُشْرِفُ عَلَى إِسْطَبْلِ خُيُولِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَقَعَ فَرَمَحَتْهُ حَتَّى مَاتَ -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ-.
فَمَا كَانَ مِنْ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- إِلَّا أَنْ قَالَ: ((اللهم إِنْ كُنْتَ قَدْ ابْتَلَيْتَ فِي وَلَدٍ فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَبْنَاءٍ)).
لَمْ يَنْظُرْ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- إِلَّا مَا سُلِبَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَّا مَا تَبَقَّى لَدَيْهِ، فَكَانَ مِنْهُ هَذَا الْحَمْدُ وَهَذَا الشُّكْرُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ دَمَ رِجْلِهِ لَيَرْقَأَ بَعْدُ، وَإِنَّ دَمَ رِجْلِهِ وَذَلِكَ الَّذِي يَكُوُنُ مِنْ آثَارِ الْجُرْحِ مِنْ سَوَائِلِهِ مَا زَالَ يَنِزُّ مِنْ رِجْلِهِ بَعْدُ، وَإِنَّ رَائِحَةَ الشِّوَاءِ لِلْحْمِ الْحَيِّ، وَإِنَّ الزَّيْتَ الْمَغْلِيَّ مَا زَالَ يَعْمَلُ فِي رِجْلِهِ عَمَلَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
ثُمَّ لَمَّا حُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ -مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ-، وَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ يُعَزُّونَهُ، كَانَ مِمَّا قِيلَ لَهُ فِي الْعَزَاءِ عَنْ رِجْلِهِ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا، وَعَنْ بَدَنِهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَاللهِ مَا كُنَّا نُعِدُّكَ لِلصِّرَاعِ وَلَا نُعِدُّكَ لِلسِّبَاقِ، وَلَقْدْ أَبْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْكَ مَا نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَللهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَهُوَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].
وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ وَابْنُ الْجَمُوحِ كَانَ مَا كَانَ مِنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا يَضْرِبُ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ فَيُطِنُّهَا فَيُطِيحُ بِهَا، كَمَا تَخْرُجُ النَّوَاةُ مِنْ تَحْتِ الرَّحَى بِسِفَالِهَا.
وَيَأْتِي عِكْرَمَةُ فَيَضْرِبُهُ عَلَى عَاتِقِهِ فَيُطِنُّ ذِرَاعَهُ إِلَّا جِلْدَةً تَظَلُّ الذِّرَاعُ مُمْسِكَةً فِي الْجَسَدِ بِسَبَبِهِا، يَقُولُ: قَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهِيَ كَذَلِكَ -يَعْنِي ذِرَاعَهُ- مَا زَالَتْ مُمْسِكَةً بِجِلْدَةٍ فِي جَسَدِهِ لَمْ تَنْفَصِلْ عَنْ جَسَدِهِ بَعْدُ، قَالَ: فَآذَتْنِي!!
يُقَاتِلُ عَامَّةَ يَوْمِهِ وَهِيَ كَذَلِكَ تَرُوحُ وَتَجِيءُ كَبِنْدُولِ السَّاعَةِ تَتَحَرَّكُ كَمَا قَدَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا، لَمْ تَعُدْ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ سَيْطَرَةٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْهُ إِرَادَةٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهَا عَلَى حَسَبِ قَدَرِ رَبِّهَا فِيهَا؛ تَرُوحُ وَتَجِيءُ، قَالَ: فَآذَتْنِي.
فَمَا تَظُنُّهُ فَاعِلًا؟
أَيْنَ تَذْهَبُ تِلْكَ الْأَعْصَابُ الْحَامِلَاتُ لِلْأَلَمِ إِلَى الْمُخِّ تُتَرْجِمُ بِمَرَاكِزِهَا فِيهِ عَنْ ذَلِكَ الْأَلَمِ الْمُفْظِعِ الَّذِي يَذْهَلُ مِنْهُ الْعَقْلُ إِذَا مَا زَادَ، يَصِلُ الْأَلَمُ أَحْيَانًا بِالْجَسَدِ الْحَيِّ إِلَى مَرْحَلَةِ الذُّهُولِ، فَيَذْهَلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَاتِهِ حَتَّى يَغِيبَ وَهُوَ غَيْرُ غَائِبٍ، وَحَتَّى يُغَيَّبَ وَهُوَ حَاضِرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِسَّ شَيْئًا وَلَا يُدْرِكُ مِمَّا حَوْلَهُ أَمْرًا، مَا هُوَ هَذَا الْأَلَمُ عِنْدَئِذٍ؟
وَهَذَا رَجُلٌ تُؤْذِيهِ ذِرَاعُهُ وَقَدْ أَمْسَكَتْ بِجَسَدِهِ بِجِلْدَةٍ؛ فَمَا يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؟
قَالَ: فَقَاتَلْتُ عَامَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ آذَتْنِي، قَالَ: فَوَضَعْتُهَا تَحْتَ رُكْبَتِي أَوْ قَالَ تَحْتَ قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ.
ثُمَّ يَتَمَطَّى فَيَفْصِلُهَا وَيَعُودُ إِلَى الْمَعْرِكَةِ مِنْ أَجْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أَيْنَ الْأَلَمُ؟!
يَسْتَعْلِي بِرُوحِهِ فَوْقَ الْأَلَمِ!!
وَآخَرُ يَأْتِيهِ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ بِغَدْرٍ وَمَا كَانَ مُوَلِّيًّا، وَمَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ حَتَّى فِي جَاهِلِيِّتِهِ يَخْشَى أَنْ يَأْتِيَهُ رُمْحٌ مِنْ خَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَلِّي الْأَدْبَارَ حَتَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
هَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ يَأْتِيهِ رُمْحٌ غَادِرٌ مِنْ خَلْفِهِ، وَهَا هُوَ يَخْرُجُ بِنَصْلِهِ مِنْ أَمَامَ، هَا هُوَ يَخْرُجُ شَيْئًا فَشَيْئًا، هَا هُوَ يَأْتِي يَدْفَعُهُ الْغِلُّ وَيُزْجِيهِ الْحِقْدُ، وَهَا هُوَ يَبْزَغُ مِنْ اللَّحْمِ الْحَيِّ شَيْئًا فَشَيْئًا كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الْعَطْشَى لِتَسْتَقْبِلَ مَاءَ السَّمَاءِ، كَمَا تَتَشَقَّقُ الْأَرْضُ الَّتِي أَصَابَهَا الْغَيْثُ عَنِ النَّبْتِ الْأَخْضَرِ يَتَرَعْرَعُ بِالنَّمَاءِ.
هَا هُوَ صَدْرُهُ يَنْفَجِرُ شَيْئًا فَشَيْئًا، هَا هُوَ سَهْمٌ مِنَ النَّارِ تَتَلَظَّى بِهِ الْجُنُوبُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَهَا هُوَ النَّصْلُ يَخْرُجُ حَادًّا ثَقِيلًا، وَهَا هِيَ الدِّمَاءُ تَنْبَثِقُ مُنْفَجِرَةً مِنْ أَمَامَ، أَيَنْكَفِئُ عَلَى أَلَمِهِ أَمْ يَسْتَعْلِيَ فَوْقَ أَلَمِهِ؟!!
هَا هُوَ وَالدَّمُ يَنْبَثِقُ كَالنَّافُورَةِ مِنْ أَمَامَ يَحْفِنُ، هَكَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ الْمُوحِي الْجَلِيلِ؛ يَحْفِنُ الدِّمَاءَ الْمُنْبَثِقَةَ الْمَوَّارَةَ الْفَوَّارَةَ بِكَفَيْهِ وَيُلْقِي بِهَا جِهَةَ السَّمَاءِ يَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
أَيُّ إِيمَانٍ؟!!
أَيُّ إِيمَانٍ هَذَا وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!
وَفِي الْمُقَابِلِ مَا هُوَ إِيمَانُنَا نَحْنُ، وَمَا هُوَ الْيَقِينُ؟!!
أَيُّ إِيمَانٍ وَأَيُّ اسْتِعْلَاءٍ وَأَيُّ يَقِينٍ؟!!
جِدٌّ مَا فِيهِ هَزْلٌ، وَيَقِينٌ مَا فِيهِ شَكٌّ، وَاسْتِعْلَاءٌ مَا فِيهِ سُفُولٌ، وَأَمَّا نَحْنُ فَمَنْ نَكُونُ وَمَا نَكُونُ؟!!
أَلَا إِنَّ النَّاظِرَ فِي أَحْوَالِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، يَعْلَمُ أَيْنَ يَكْمُنُ السِّرُّ، السِّرُّ بَيْنَ عِزِّهِمْ وَذُلِّنَا.
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَعْلَوْا وَتَسَفَّلْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُعْطُوا وَحُرِمْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَزُّوا وَذَلَلْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ انْتَصَرُوا وَهُزِمْنَا!!
السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ عَاشُوا وَمِتْنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ!!
هَذَا السِّرُّ إِنَّمَا يَكْمُنُ فِي هَذَا الْجِدِّ الْجَادِّ وَالْبُعْدِ عَنِ الْهَزْلِ الْهَزِيلِ.
إِنَّهُمْ قَدْ عَادُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ يَسْتَمِدُّونَ مِنَ اللهِ الْمَعُونَةَ وَالنُّصْرَةَ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُنْزِلُ السَّكِينَةَ عَلَى هَذِهِ الْقُلُوبِ الْمُؤْمِنَةِ.
فَاللهم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ فَهِّمْنَا حَقِيقَةَ الدِّينِ، وَأَذِقْنَا حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:الْإِيمَانُ وَآثَارُهُ فِي الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ