((الْخُطَبُ الْمِنْبَرِيَّةُ
فِي
التَّوْحِيدِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ))
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
((حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَالتَّوْحِيدُ أَسَاسُ دِينِنَا، وَهُوَ مَبْنَى عَقِيدَتِنَا، وَنَحْنُ أَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى أَنْ نَتَعَلَّمَهُ، وَإِلَى أَنْ نَتَدَارَسَهُ، وَأَنْ نُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ، وَأَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ.
التَّوْحِيدُ -عِبَادَ اللهِ-: مَصْدَرُ وَحَّدَ يُوَحِّدُ تَوْحِيدًا، أَيْ: جَعَلَهُ وَاحِدًا.
وَسُمِّيَ دِينُ الْإِسْلَامِ تَوْحِيدًا؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ وَأَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لَا نَظِيرَ لَهُ، وَاحِدٌ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَعِبَادَتِهِ لَا نِدَّ لَهُ.
إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَنْقَسِمُ تَوْحِيدُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهِيَ مُتَلَازِمَةٌ.
تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْمُلْكِ: وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكُهُ، وَخَالِقُهُ، وَرَازِقُهُ، وَأَنَّهُ الْمُحْيِي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَيَنْفَعُ وَيَضُرُّ، وَيَتَفَرَّدُ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ.
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُقِرُّونَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالضَّحَّاكِ وَنَحْوِهِمْ : ((أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْرِفُونَ اللهَ وَيَعْرِفُونَ رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ وَقَهْرَهُ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَهُ وَيُخْلِصُونَ لَهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعِبَادَاتِ: كَالْحَجِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَالذَّبْحِ، وَالنَّذْرِ، وَالدُّعَاءِ وَقْتَ الِاضْطِرَارِ؛ فَكَانُوا يُخْلِصُونَ وَقْتَ الِاضْطِرَارِ، وَيَعْبُدُونَ اللهَ الْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ إِذَا اضْطُرُّوا، فَإِذَا كَشَفَ عَنْهُمُ الضُّرَّ؛ أَشْرَكُوا بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْرَهُ)).
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعْنِي: صَرْفَ جَمِيعِ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ.
فَهِمَ الْكُفَّارُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))!!
فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَعْنِي: لَا حَاكِمَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَاكِمِيَّةِ -كَمَا يَقُولُ الْقُطْبِيُّونَ-!!
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا مُبْدِعَ إِلَّا اللهُ، أَوْ لَا خَالِقَ إِلَّا اللهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَالُوهُ!!
وَهَذَا كُلُّه انْحِرَافٌ عَنِ الْجَادَّةِ فِي فَهْمِ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَلَالٌ مُبِينٌ.
((مَعْنَى الْعِبَادَةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ إِصْلَاحَ الْعَقِيدَةِ هُوَ وَظِيفَةُ الْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ -فِي التَّشْرِيعِ وَمَا حَوْلَهُ- إِنَّمَا يَعُودُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى يَصِيرَ الْمَرْءُ عَابِدًا لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَاطِنًا وَظَاهِرًا، حَالًا وَفَعَالًا، نُطْقًا وَقَوْلًا؛ حَتَّى يَصِيرَ عَابِدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيمَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ.
فَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
إِذَنْ؛ الْحَيَاةُ كُلُّهَا عِبَادَةٌ، كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ .. كُلُّ ذَلِكَ هُوَ الْعِبَادَةُ.
أَمَرَنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نَصْرِفَ ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ.
إِذَنْ؛ تَنْصَرِفُ الْحَيَاةُ بِجَمِيعِ نَشَاطَاتِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ؛ فَلَهُ الْكَمَالُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
خَلَقَ وَحْدَهُ، لَمْ يُشَارِكْهُ أَحَدٌ فِي الْخَلْقِ، وَيَرْزُقُ وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي الرِّزْقِ، وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي التَّدْبِيرِ؛ إِذَنْ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ وَحْدَهُ، وَصَرْفُهَا لِغَيْرِهِ أَظْلَمُ الظُّلْمِ.
فَأَظْلَمُ الظُّلْمِ: الشِّرْكُ، صَرْفُ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ.
فَالْمُشْرِكُ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ، وَالشِّرْكُ هُوَ أَظْلَمُ ظُلْمٍ كَانَ وَيَكُونُ.
((تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ))
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَّا لِصَرْفِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ، جَاءَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ.
أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيًا إِلَى صَرْفِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
الْقَوْمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَانُوا يُحِبُّونَ اللهَ، وُيَحِبُّونَ مَعَهُ سِوَاهُ!!
الْحُبُّ فِي اللهِ وَللهِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، وَالْحُبُّ مَعَ اللهِ شِرْكٌ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَكَانُوا يُحِبُّونَ مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِبُّونَ اللهَ؛ لِقَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّونَ فِيهِ أَوْ لَهُ.
هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانَتْ لَهُمْ عِبَادَاتٌ: كَانُوا يَحُجُّونَ، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): ((أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَبُّونَ، يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ؛ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، مَلَكْتَهُ وَمَا مَلَكَ)).
فَكَانُوا يُلَبُّونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُشْرِكُونَ فِي التَّلْبِيَةِ.
هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ جَاءَهُمُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ مُحَمَّدٌ ﷺ، فَدَعَاهُمْ إِلَى صَرْفِ الْعِبَادَةِ للهِ، فَفَهِمُوا مُرَادَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا خُلَّصًا، وَالْعَرَبِيَّةُ كَانَتْ سَلِيقَتَهُمْ؛ فَفَهِمُوا مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
فَقَالُوا: ((أَنَدَعُ آلِهَتَنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا لِعِبَادَةِ إِلَهٍ وَاحِدٍ؟!!: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
إِذَنْ؛ فَهِمُوا مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَأَنَّ مَعْنَاهَا: ((لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ))، مَعْنَاهَا: ((إِفْرَادُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ)).
الْيَوْمَ؛ سَلْ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَصِبُونَ مِنْ أَجْلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -بِزَعْمِهِمْ-، مِنْ أُولَئِكَ الزَّاعِقِينَ النَّاهِقِينَ بِكُلِّ سَبِيلٍ، وَقُلْ لَهُمْ: مَا مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؟!!
وَلَنْ يُجِيبَكَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْإِجَابَةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي عَرَفَهَا الْمُشْرِكُونَ الْأَوَّلُونَ.
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): لَا مَأْلُوهَ -أَيْ: لَا مَعْبُودَ- بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، عَرَفُوا ذَلِكَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ .. عَرَفُوهُ، وَأَنْكَرُوهُ وَرَدُّوهُ!! {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ الْيَوْمَ فِي الدِّينِ -فَضْلًا عَنْ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ وَرَاءَهُمْ-، هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))!!
فَمَا قِيمَةُ امْرِئٍ؛ الْمُشْرِكُونَ الْأَوَّلُونَ يَعْرِفُونَ مِنْ حَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَعْرِفُ؟!!
لِأَنَّ الدِّينَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، عَلَى كَلِمَةِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، عَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ، وَلِأَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَنَبَّأَ الْأَنْبِيَاءَ.
وَلِأَجْلِهَا نُصِبَتْ سُوقُ الْجِهَادِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.
وَمِنْ أَجْلِهَا يُقِيمُ السَّاعَةَ، وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ مِنْ أَمَامَ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ؛ كُلُّ هَذَا لِأَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أَيْ: إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي، وَهُوَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.
هَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ، مَبْنِيٌّ عَلَى إِخْلَاصٍ فِي التَّأَلُّهِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-: مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ؛ يَنْبَنِي عَلَى إِخْلَاصِ الْعِبَادَاتِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَتُصْرَفُ كُلُّهَا للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا يُجْعَلُ فِيهَا شَيْءٌ لِغَيْرِهِ: لَا لِمَلَكٍ مُقَـرَّبٍ، وَلَا لِنَبِيٍّ مُرْسَلٍ؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا.
هَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
هَذَا التَّوْحِيدُ -يَعْنِي: تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ، يَعْنِي: تَوْحِيدَ الْعِبَادَةِ- ، هُوَ أَوَّلُ الدِّينِ وَآخِرُهُ، وَبَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَآخِرُهَا.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))؛ فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ: الْمَأْلُوهُ الْمَعْبُودُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْخَشْيَةِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا التَّوْحِيدِ خُلِقَتِ الْخَلِيقَةُ، وَأُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَبِهِ افْتَرَقَ النَّاسُ إِلَى مُؤْمِنِينَ وَكُفَّارٍ، وَسُعَدَاءَ أَهْلِ جَنَّةٍ، وَأَشْقِيَاءَ أَهْلِ نَارٍ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ.
أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ الْأَمْرُ بِهَذَا التَّوْحِيدِ الْعَظِيمِ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
{اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} : هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ.
((أَوَّلُ دَعْوَةِ الْمُرْسَلِينَ: الدَّعْوَةُ إِلَى تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ))
هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِى أَكْرَمَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، مَبْنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ الَّذِى أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ، أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23].
فَهَذَا دَعْوَةُ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْدَ حُدُوثِ الشِّرْكِ.
وَقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
وَقَالَ صَالِحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
وَقَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
وقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وَقَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ -لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَقُولُ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا يَزَلْ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدُ -لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ-، فَهَذَا كَانَ فِي فَتْرَةِ الْمُوَادَعَةِ بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ.
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا هِيَ: ((دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ)).
وَكَانَ هَذَا وَاضِحًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ الْمَدْعُوِّينَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَفَهِمُوا الدَّعْوَةَ.
الْيَوْمَ الدُّعَاةُ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَفْهَمُ الْمَدْعُوُّونَ مِنْهُمْ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ؛ يُهَوِّمُونَ بِهِمْ فِي أَوْدِيَةٍ سَحِيِقَةٍ، وَفِي ضَلَالَاتٍ عَمِيقَةٍ، وَلَا يَفْهَمُ الْمَدْعُوُّ إِلَامَ يَدْعُوهُ الدَّاعِي!!
أَوَّلُ شَيْءٍ: دَعْوَةٌ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ -هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ-، فَلَمْ يَبْدَؤُوا أَقْوَامَهُمْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ هَذَا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
لَا بُدَّ مِنْ صَرْفِ الْعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، هَذِهِ دَعْوَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَقَدْ فَهِمَهَا الْمُشْرِكُون، كَانَتْ وَاضِحَةً مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، مُنْذُ دَعَاهُمْ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهِمُوا مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ.
وَهَذَا دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ لَمَّا يَزَلْ عَلى شِرْكِهِ لَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ هِرَقْلَ، فَسَأَلَهُ: ((إِلَامَ يَدْعُوكُمْ صَاحِبُكُمْ؟)).
فَقَالَ: يَقُولُ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ)).
وَبِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْن)) : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ؛ قَالَ لَهُ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى».
هَذَا التَّوْحِيدُ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَيْكَ، وَآخِرُ وَاجِبٍ عَلَيْكَ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْكَ فِيمَا بَيْنَهُمَا.
أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْعَبْدُ الْإِسْلَامَ هُوَ هَذَا التَّوْحِيدُ، وَآخِرُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الدُّنْيَا؛ قَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ)) . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ﷺ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
((الْقُرْآنُ كُلُّهُ دَاعٍ إِلَى تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ كُلَّ الْإِفْصَاحِ، وَأَبْدَأَ فِيهِ وَأَعَادَ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ الْأَمْثَالَ؛ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى هَذَا التَّوْحِيدِ.
يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ: ((تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ))؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَالتَّألُّهِ، وَأَشَدِّ الْمَحَبَّةِ للهِ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِخْلَاصَ الْعِبَادَةِ.
وَيُسَمَّى بِـ ((تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ)) لِذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 11-12].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.. إِلَى أَنْ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}.
إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.. إِلَى قَوْلِهِ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} [الزمر:64-66]. إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
فَكُلُّ هَذِهِ السُّوَرِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى هَذَا التَّوْحِيدِ وَالْأَمْرِ بِهِ، وَالْجَوَابِ عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمُعَارَضَاتِ، وَذِكْرِ مَا أَعَدَّ اللهُ لِأَهْلِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَا أَعَدَّ لِمَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
وَكُلُّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؛ بَلْ كُلُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ دَاعِيَةٌ إِلَى هَذَا التَّوْحِيدِ، شَاهِدَةٌ بِهِ، مُتَضَمِّنَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللهِ تَعَالى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ -وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ-؛ فَذَاكَ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا، مُتَضَمِّنٌ لَهُ.
وَإِمَّا دُعَاءٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، أَوْ أَمْرٌ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَنَهْـيٌ عَنْ مُخَالَفَاتٍ؛ فَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ مُسْتَلزِمٌ لِلنَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُتَضَمِّنٌ لَهُمَا أَيْضًا.
وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ إِكْرَامِهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ.
وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحُلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْوَبَالِ؛ فَهُوَ جَزَاءُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.
وَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ .
فَأَخْبَرَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ -وَهِيَ الْأَعْمَالُ-، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ: عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، وَالْإِخْلَاصِ فِي ذَلِكَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ))
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ يَجِبُ إِخْلَاصُهَا للهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ؛ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ.
وَمِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ: الْمَحَبَّةُ: مَنْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْمَحَبَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ مِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا للهِ، وَمِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ اللهِ.
أَمَّا ((الْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ))؛ فَلَا تَصْلُحُ إِلَّا للهِ.
وَأَمَّا ((الْمَحَبَّةُ الْجِبِلِّيَّةُ الْفِطْرِيَّةُ))؛ فَإِنَّها تَكُونُ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَيْضًا؛ بِمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ أَبَاهُ، وَيُحِبُّ ابْنَهُ، وَيُحِبُّ أَهْلَهُ، وَيُحِبُّ مَالَهُ وَدَارَهُ وَوَطَنَهُ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْمَحَابِّ.
فَهَذِهِ الْمَحَابُّ مِنَ الْمَحَابِّ الْفِطْرِيَّةِ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُنَازِعُ الْخَلْقَ فِيهَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ: أَلَّا تَتَقَدَّمَ هَذَهِ الْمَحَابُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
إِذَنْ؛ فَالنِّزَاعُ لَيْسَ فِي (الْحِبِّيَّةِ)، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي (الْأَحَبِّيَّةِ)، فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يُنْكِرُ عَلَيْكَ أَنْ تُحِبَّ أَبَاكَ، وَأَنْ تُحِبَّ امْرَأَتَكَ، وَوَلَدَكَ، وَأَخَاكَ وَأُخْتَكَ، وَأَنْ تُحِبَّ أَرْضَكَ وَدِيَارَكَ وَمَالَكَ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ لَا نِزَاعَ فِيهِ؛ بَلْ إِنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ مَغْرُوسٌ فِي الْفِطْرَةِ، جَعَلَهُ اللهُ جِبِلَّةً فِي الْخَلْقِ، فَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ.
النِّزَاعُ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَحْبُوبُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ اللهِ، أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يُسَلَّمُ لَكَ.
إِذَنْ؛ فَالنِّزَاعُ فِي الْأَحَبِّيَّةِ، لَا فِي الْحِبِّيَّةِ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.. إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165- 167].
*التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَتَصْحِيحُ أَخْطَاءٍ شَائِعَةٍ!!
مِنَ الْعِبَادَاتِ: التَّوَكُّلُ: فَلَا يُتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللهِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
{وَعَلَى اللهِ فَليَتَوكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].
التَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللهِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْغَيْرُ: شِرْكٌ أَصْغَرُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَلَّا يُتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَى اللهِ.
التَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ فَاشٍ؛ بَلْ إِنَّكَ لَتَسْمَعُهُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْجَهَلَةِ يَقُولُ لَكَ: ((أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَيْكَ وَعَلَى اللهِ!!))؛ فَيُثْبِتُ لَكَ توَكُّلًا يُقَدِّمُهُ عَلَى تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ!!
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ تَنْدِيدًا -أَيْ: إِثْبَاتَ نِدٍّ للهِ- أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ: ((مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ))؛ فَجَعَلَهُ تَنْدِيدًا؛ فَقَالَ ﷺ: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟)) .
فَإِذَا قُلْتَ: ((مَا شَاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلَانٌ))؛ فَهَذَا تَنْدِيدٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا كَذَلِكَ؛ فَكَيْفَ بِالتَّوَكُّلِ؟!!
وَكَيْفَ بِتَقْدِيمِ تَوَكُّلِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ عَلَى تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟!!
الْأَمْرُ كَبِيرٌ؛ بَلْ كَبِيرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ؛ مَنْ لَقِيَ رَبَّهُ مُشْرِكًا عَذَّبَهُ بِالنَّارِ، وَأَبَّدَهُ فِيهَا؛ فَلَا خُرُوجَ لَهُ مِنْهَا أَبَدًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَقِيدَةِ.. فِي مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ؛ خَاصَّةً مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ، عَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّرَهُ.
تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ؛ يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْرِفَهُ مَعْرِفَةَ تَحْقِيقٍ، وَأَنْ يَعْتَقِدَهُ، وَأَنْ يُحَوِّلَهُ إِلَى وَاقِعٍ يَعِيشُهُ؛ وَإِلَّا تَوَرَّطَ فِي الشِّرْكِ تَوَرُّطًا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.
*مِنَ الْعِبَادَاتِ -أَيْضًا- الْخَوْفُ:
*وَالْخَوْفُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
*النَّوْعُ الْأَوَّلُ: خَوْفٌ طَبْعِيٌّ غَرِيزِيٌّ: كَخَوْفِ الْإِنْسَانِ مِنَ السَّبُعِ، وَخَوْفِ الْإِنْسَانِ مِنَ النَّارِ وَالْغَرَقِ؛ هَذَا لَا يُلَامُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ.
الْخَوْفُ الطَّبْعِيُّ الَّذِي هُوَ مَرْكُوزٌ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَفِي الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، هَذَا لَا يُلَامُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18].
لَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْخَوْفُ سَبَبًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ؛ كَانَ حَرَامًا.
*النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوْفِ: خَوْفُ الْعِبَادَةِ: أَنْ يَخَافَ أَحَدًا يَتَعَبَّدُ بِالْخَوْفِ لَهُ، أَنْ يَخَافَهُ خَوْفَ عِبَادَةٍ، وَيَتَعَبَّدَ بِالْخَوْفِ لَهُ؛ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا للهِ، وَصَرْفُهُ إِلَى غَيْرِ اللهِ شِرْكٌ أَكْبَرُ.
*الثَّالِثُ: خَوْفُ السِّرِّ:
فَلَا يُخَافُ خَوْفَ السِّرِّ إِلَّا مِنَ اللهِ.
وَمَعْنَى خَوْفِ السِّرِّ: أَنْ يَخَافَ الْعَبْدُ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالى أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ -وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ-، فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ لِلنَّفْعِ والضُّرِّ فِي غَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
هَلْ هَذَا وَاقِعٌ؟!!
وَاقِعٌ بِكَثْرَةٍ!!
بَعْضُ النَّاسِ يَعْتَقِدُ فِيمَنْ يَدَّعِيهِمْ أَوْلِيَاءَ، أَوْ يَعْتَقِدُ فِيهِمُ الْوَلَايَةَ، أَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالْكَشْفِ -بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْرِفُ السِّرَّ وَمَا أَخْفَى الْعَبْدُ فِي ضَمِيرِهِ، أَوْ مَا فَعَلَهُ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ-.
فَيَقَعُ هَذَا فِي الْمَعْصِيَةِ، يَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ بِعَيْنِ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ اللهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ وَلَا يَخَافُ، فَإِذَا خَرَجَ وَوَجَدَ مَنْ يَعْتَقِدُ فِيهِ الْكَشْفَ؛ خَافَهُ خَوْفَ السِّرِّ، وَخَشِيَ أَنْ يَفْضَحَهُ، فَإِذَا رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ؛ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ -بِزَعْمِهِ- ، وَسَيُخَاطِبُهُ بِهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَحِيدُ عَنْ طَرِيقِهِ!!
هَذَا خَوْفُ السِّرِّ: أَنْ يَخَافَ الْعَبْدُ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالى أَنْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ -وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ-؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ فِي غَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مَعَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107].
*وَمِنَ الْعِبَادَاتِ: الرَّجَاءُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ؛ كَمَنْ يَدْعُو الْأَمْوَاتَ أَوْ غَيْرَهُمْ، رَاجِيًا حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ جِهَتِهِمْ، فَهَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ.
وَمَعْنَى أَنَّهُ شِرْكٌ أَكْبَرُ: أَنَّهُ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لَا يَرْجُونَ إِلَّا اللهَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجُو عَبْدٌ إِلَّا رَبَّهُ)).
وَمِنَ الْعِبَادَاتِ: الصَّلَاةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالسُّجُودُ، وَالرُّكُوعُ.
وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ: سَوَاءٌ كَانَ طَلَبًا لِلشَّفَاعَةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَطَالِبِ.
*وَمِنَهَا: الذَّبْحُ، وَمِنْهَا: النَّذْرُ.
*وَمِنْهَا: الطَّوَافُ؛ فَلَا يُطَافُ إِلَّا بِبَيْتِ اللهِ.
وَمِنْهَا: التَّوْبَةُ؛ فَلَا يُتَابُ إِلَّا إِلَى اللهِ.
بَعْضُهُمْ يُتَوِّبُونَهُ لِغَيْرِ اللهِ، فَيَأْخُذُونَهُ عِنْدَ الضَّرِيحِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْلِقُوا لَهُ شَعْرَهُ؛ فَيَتُوبُ إِلَى الشَّيْخِ.. يَتُوبُ إِلَى الْوَلِيِّ!!
وَالتَّوْبَةُ إِنَّمَا تَكُونُ للهِ وَحْدَهُ!
مِنَ الْعِبَادَاتِ: الِاسْتِعَاذَةُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ، وَالِاسْتِغَاثَةُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ.
فَمَنْ أَشْرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ مَخْلُوقٍ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْخَالِقِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ أَوْ غَيْرِهَا؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ.
وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ إِنَّما تُذْكَرُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ عُبَّادِ الْقُبُورِ صَرَفُوهَا لِلْأَمْوَاتِ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالى، أَوْ أَشْرَكُوا بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وبَيْنَهُمْ فِيهَا؛ وَإِلَّا فَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ.. مَنْ صَرَفَهُ لِغَيْرِ اللهِ، أَوْ شَرَكَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِيهِ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36].
وَ{شَيْئًا}: نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْـيِ؛ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.
{ولا تُشرِكُواْ بِهِ شَيئًا}.
هَذَا الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ هُوَ الَّذِي كَفَّرَ اللهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبَاحَ بِهِ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَنِسَاءَهُمْ؛ وَإِلَّا فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْخَالِقُ، الرَّازِقُ، الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ؛ وَإِنَّمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا.
أَتَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَمَضْمُونُهُ: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ.. لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيُّ مُرْسَلٌ؛ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ.
قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
كَانُوا يَجْعَلُونَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا للهِ، وَيَجْعَلُونَ لِلْآلِهَةِ مِثْلَ ذَلِكَ؛ فَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِنَ الَّذِي للهِ إِلَى الَّذِي لِلْآلِهَةِ؛ تَرَكُوهُ لِلْآلِهَةِ، وَقَالُوا: اللهُ غَنِيٌّ!!
وَإِذَا صَارَ شَيْءٌ مِنَ الَّذِي لِلْآلِهَةِ إِلَى الَّذِي للهِ تَعَالَى رَدُّوهُ، وَقَالُوا: اللهُ غَنِيٌّ، وَالْآلِهَةُ فَقِيرَةٌ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ..} [الأنعام: 136].
هَذَا بِعَيْنِهِ مَا يَفْعَلُهُ عُبَّادُ الْقُبُورِ؛ بَلْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجْعَلُونَ لِلْأَمْوَاتِ نَصِيبًا مِنَ الْأَوْلَادِ!!
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُتَسَنِّنِينَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمِنَ الْمُوَحِّدِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.