((الْخُطَبُ الْمِنْبَرِيَّةُ
فِي
التَّوْحِيدِ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ))
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
((أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ.. تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ!))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((التَّوْحِيدُ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ))
فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا؛ لِنَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ, وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ, وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ, وَلِأَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ؛ فَلِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِأَجْلِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ هَذَا كُلُّهُ.
عِبَادَ اللهِ! التَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ, وَأَوَّلُ أَوَامِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَوَجَّهَ بِهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَوَّلِ أَمْرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَأَرْسَلَ لِأَجْلِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ لِأَجْلِهِ الْكُتُبَ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَحَدٍ أَخَلَّ بِهِ عَمَلًا.
((التَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا وَفِطْرَةً))
إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْ خَلْقِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَذُرِّيَّتِهِ هِيَ: عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وَآدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَبُو الْبَشَرِ وَحَوَّاءُ أُمُّهُمْ، وَقَدْ كَانَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَحِينَ أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ عَلِمَا أَنَّ لَهُمَا رَبًّا يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ؛ فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ قَائِلَيْنِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
وَقَدْ أَخَذَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى آدَمَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَكَذَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ فِي صُلْبِ أَبِيهِمْ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172-173].
وَذُرِّيَّةُ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَدِينُونَ بِالتَّوْحِيدِ الْخَالِصِ طِيلَةَ عَشَرَةِ قُرُونٍ، حَتَّى حَدَثَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَبَعَثَ اللهُ تَعَاَلى إِلَيْهِمْ نُوحًا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
وَكُلَّمَا انْحَرَفَتِ الْبَشَرِيَّةُ عَنِ التَّوْحِيدِ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ، تَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَدْعُو إِلَى نَبْذِ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا رَسُولَهُ ﷺ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ تَارِيخًا، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَشَرِ فِطْرَةً؛ يَعْنِي أَصْلَ الْخِلْقَةِ، وَهِيَ مَا أَوْجَدَ اللهُ عَلَيْهِ النَّاسَ ابْتِدَاءً مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَوْحِيدِهِ.
فَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مُنْذُ أَوْجَدَ الْبَشَرَ فَطَرَهُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِهِ خَالِقًا وَمَعْبُودًا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ مُنْذُ كَانُوا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ.
وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَمَرَ رَسُولَهُ ﷺ -وَأُمَّتُهُ دَاخِلَةٌ في الْخِطَابِ- أَمَرَهُمْ: أَنْ يُقِيمُوا وُجُوهَهُمْ وَيُخْلِصُوا دِينَهُمْ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
وَقَدْ أَخْبَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: أَنَّهُ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، مُوَحِّدِينَ مُسْلِمِينَ مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْحَقِّ قَابِلِينَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا، حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ فِي الذَّرِّ.
أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ مُهَيَّأً لِلْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ)).
إِنَّ الْفِطْرَةَ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْفِطْرَةُ تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّ اللهَ رَبُّهُ وَخَالِقُهُ؛ فَلَابُدَّ أَنْ يَصْرِفَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزقًا لَّكُم فَلَا تَجعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
فَالْإِنْسَانُ إِذَا آمَنَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ، وَهُوَ الرَّزَّاقُ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَأَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَيْهِ، بِيَدِهِ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ.
فَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَعْبُودُ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَخْضَعَ لَهُ قَلْبُهُ؛ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَذُلًّا، وَخَوْفًا وَخَشْيَةً وَتَوَكُّلًا؛ إِذْ كَيْفَ يَعْبُدُ أَوْ يَخَافُ أَوْ يُحِبُّ مَحَبَّةَ عِبَادَةٍ، أَوْ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
فَلْنَعْرِفْ هَذَا مَعْرِفَةً صَحِيحِةً -عِبَادَ اللهِ-: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا مُوَحِّدِينَ وَأَنْشَأَنَا عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ.
لَقَدْ كَانَتِ الْبَشَرِيَّةُ الْأُولَى عَلَى الْإِسْلَامِ طِيلَةَ عَشَرَةِ قُرُونٍ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}.[البقرة: 213]. قَالَ: ((كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ)).
فَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَصْلُ الْبَشَرِيَّةِ، مُنْذُ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَتَّى وَقَعَ الشِّرْكُ فِي قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
فَأَوَّلُ شِرْكٍ وَقَعَ فِي الْخَلِيقَةِ هُوَ: شِرْكُ قَوْمِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَسَبَبُ كُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ دِينَهُمْ هُوَ غُلُوُّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، فَمَعْبُودَاتُهُمْ الَّتِي عَكَفُوا عَلَيْهَا وَتَعَصَّبُوا لَهَا وَقَالُوا عَنْهَا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسرًا} [نوح: 23].
هِيَ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ؛ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ.
إِذَنْ؛ الشِّرْكُ طَارِئٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ الْأَصْلُ، وَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِهِ؛ لِأَنَّنَا بِذَلِكَ نَعُودُ إِلَى مَا فَطَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، مُوَحِّدِينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حُنَفَاءَ، مُقِرِّينَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَكَمَالِ الْأَسْمَاءِ ِوَالصِّفَاتِ.
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَقْبَلُ مِنْكَ الصَّلَاةَ إِلَّا إِذَا أَتَيْتَ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُقِرَّ أَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ عَمَلًا وَلَا قَوْلًا وَلَا اعْتِقَادًا حَتَّى تَأْتِيَ بِشَرْطِ التَّوْحِيدِ.
((مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَأَقْسَامُهُ))
التَّوْحِيدُ -عِبَادَ اللهِ-: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
*تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْخاَلِقُ الرَّزَّاقُ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُحْيِي ويُمِيتُ.
*وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَالذَّبْحِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَا أَشْبَهَ.
*وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: وَهُوَ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْآخَرِ؛ فَمَنْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنْهَا وَلَمْ يَأْتِ بِالْآخَرِ؛ لَمْ يَكُنْ مُوَحِّدًا.
وَقَدِ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.[مريم:65].
فَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا} هَذَا: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.
{فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ} هَذَا: تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ أَوْ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ.
{هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا} هَذَا: تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَفَرُّدُ اللهُ تَعَالَى بِالرُّبُوبِيَّةِ مَعْنَاهُ: تَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ.
وَتَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ مَعْنَاهُ: تَفَرُّدُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالتَّأَلُّهِ وَالتَّعَبُّدِ، فَهُوَ إِفْرَادُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْعِبَادَةِ بِأَلَّا تَكُونَ عَبْدًا لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ؛ لَا تَعْبُدُ مَلَكًا وَلَا نَبِيًّا وَلَا وَلِيًّا وَلَا شَيْخًا وَلَا حَجَرًا وَلَاَ شَجَرًا، لَا تَعْبُدُ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ.
وَتَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِكَمَالِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: تَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْمُثْلَى.
وَلَا يَتِمُّ إِفْرَادُهُ تَعَالَى بِمَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ؛ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا تَجْعَلَ للهِ مَثِيلًا فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِإِثْبَاتِ جَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ؛ قَالَ تَعَالَى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
فَطَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ عَلَى هَذَا، وَهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ اللهَ هُوَ خَالِقُ الْخَلْقِ وَرَازِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، حَتَّى أَبُو جَهْلٍ كَانَ يُقِرُّ بِهَذَا: {وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، {وَلَئِن سَأَلتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
فَهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْ مَعْبُودَاتِهِمْ يَخْلُقُ شَيْئًا، أَوْ يَرْزُقُ أَحَدًا، أَوْ يُحْيِي أَوْ يُمِيتُ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُشْرِكُونَ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَ اللهِ مَعَ اللهِ، وَهُمْ يُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَقَّفُونَ فِي التَّوْحِيدِ عِنْدَ إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ مَالِكُهُمْ ورَازِقُهُمْ، وَأَنَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ثُمَّ يَصْرِفُونَ بَعْضَ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا أَمْرٌ يُسَاوِي الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ؛ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَحَلَّ اللهُ دِمَاءَ الْمُشْرِكِينَ وَأَمْوَالَهُمْ لِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ التَّوْحِيدَ، وَأَنْ نَصْبِرَ عَلَى تَعَلُّمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغِيظُ الشَّيْطَانَ شَيْءٌ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَّى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ فِيهَا الْخُصُومَةَ؛ وَلِذَلِكَ تَنْزِلُ السَّكِينَةُ فِي مَجَالِسِ تَعْلِيمِ التَّوْحِيدِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ أَوِ الْعِبَادَةِ.. مَعْنَاهُ وَأَهَمِّيَّتُهُ))
فَإِنَّ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ هُوَ مَقْصُودُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ.
واللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ الْمُرْسَلِينَ لِأَجْلِ هَذَا النَّوْعِ, وَاتَّخَذُوا تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ سُلَّمًا مِنْ أَجْلِ الْإِقْرَارِ بِاسْتِحْقَاقِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَقْوَامِهِمْ كَانَتْ مِنْ أَجْلِ هَذَا التَّوْحِيدِ، تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ.
الْمَرْءُ لَا يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ إِلَّا بِقَوْلِ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))..
الْكَافِرُ يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ بِهَا، وَمَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا، أَوَّلَ مَفْرُوضٍ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَعْبُدُوهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَشْهَدُوا لَهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِلَهِيَّةِ، وَبِاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
وَالْإِلَهُ بِمَعْنَى: الْمَأْلُوهِ، وَالْمَأْلُوهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ.
وَقَدْ عَرَّف الْعُلَمَاءُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْأُلُوهِيَّةِ أَوِ الْعِبَادَةِ بِأَنَّهُ: إِفْرَادُ اللهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَنَفْيُ الْعِبَادَةِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى كَائِنًا مَنْ كَانَ فَهَذَا هُوَ تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ.
وَمَنْزِلَةُ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ عَظِيَمةٌ جِدًّا؛ فَهَذَا التَّوْحِيدُ هُوَ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ مِنْ أَجْلِهِ أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وَهَذَا التَّوْحِيدُ أَنْزَلَ اللهُ بِهِ الْكُتُبَ وَلِأَجْلِهِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مَعْنَاهَا: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.
فَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعِبَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَى عَابِدِهِ، فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
((تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ فَإِنِّي أُحِبُّ لَكُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي))
تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ -عِبَادَ اللهِ- فَإِنِّي أُحِبُّكُمْ فِي اللهِ؛ لِذَا أُرِيدُ لَكُمْ مَا أُرِيدُ لِنَفْسِي، وَأُحِبُّ لَكُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي.
سَتَجِدُونَ الْحَيَاةَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالنَّظْرَةَ إِلَيْهَا قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَسَتَخْرُجُ مِنَ التَّشْوِيشِ، سَتَخْرُجُ مِنَ الْفَوْضَى الْفِكْرِيَّةِ إِلَى السَّلَامِ النَّفْسِيِّ، وَالسَّلَامِ الْعَقْلِيِّ، وَالسَّوَاءِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ.
أَمَّا إِذَا ظَلَّ الْأَبْعَدُ بَعِيدًا عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ مَا يَزَالُ قَلِقًا، وَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ، وَأَنْ يُحَقِّقَ فِينَا التَّوْحِيدَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ دُعَاةِ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُوَحِّدِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.