((الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-))
إِنَّ الْأَوْلَادَ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي يُعْطِي الْعِبَادَ مِنَ الْأَوْلَادِ مَا يَشَاءُ.
فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَهَبُ لَهُ إِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهَبُ لَهُ ذُكُورًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُزَوِّجُهُ -أَيْ: يَجْمَعُ لَهُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا-، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49].
مِنْ خَلْقِ اللهِ خَلْقُ الذُّرِّيَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ ضِمْنَ نِظَامِ التَّنَاسُلِ.
يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا؛ فَلَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ؛ فَلَا يُولَدُ لَهُ أُنْثَى، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا؛ فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا؛ لَا يُولَدُ لَهُ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].
دَعَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: رَبِّ هَبْ لِي وَلَدًا مِنْ ذُرِّيَّتِي يَكُونُ صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ، يَبْلُغُ أَوَانَ الْحُلُمِ.
فَأَجَبْنَا دَعْوَتَهُ، وَبَشَّرْنَاهُ بِابْنٍ يَتَحَلَّى بِالْعَقْلِ، وَالْأَنَاةِ، وَضَبْطِ النَّفْسِ، وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ، فَوَلَدَتْ هَاجَرُ الْغُلَامَ الْحَلِيمَ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَهَذَا زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَأَلَ اللَّهَ وَلَدًا ذَكَرًا صَالِحًا، يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ وَلِيًّا مِنْ بَعْدِهِ، وَيَكُونُ نَبِيًّا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَوْلَادِ.
وَمِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعَبْدِهِ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا صَالِحًا، جَامِعًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَامِدِ الشِّيَمِ، فَرَحِمَهُ رَبُّهُ وَاسْتَجَابَ دَعْوَتَهُ.
فَبَشَّرَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى يَدِ الْمَلَائِكَةِ بِيَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَمَّاهُ اللَّهُ لَهُ (يَحْيَى)، وَكَانَ اسْمًا مُوَافِقًا لِمُسَمَّاهُ: يَحْيَا حَيَاةً حِسِّيَّةً، فَتَتِمُّ بِهِ الْمِنَّةُ، وَيَحْيَا حَيَاةً مَعْنَوِيَّةً وَهِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِالْوَحْيِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 4-7].
قَالَ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وَإِنِّي خِفْتُ أَقَارِبِي وَعَصَبَتِي أَلَّا يُحْسِنُوا خِلَافَتِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، فَيُفْسِدُوا فِي مَرَاكِزِ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا أَجِدُ فِيهِمْ رَجُلًا صَالِحًا مُؤَهَّلًا لِأَنْ يَكُونَ وَارِثًا مُحَافِظًا عَلَى شَرَائِعِ الدِّينِ وَتَعْلِيمَاتِهِ.
وَكَانَتِ امْرَأَتِي فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ؛ فَأَعْطِنِي مِنْ مَحْضِ فَضْلِكَ الْوَاسِعِ، وَقُدْرَتِكَ الْبَاهِرَةِ وَارِثًا مِنْ ذُرِّيَّتِي، وَمُعِينًا يَتَوَلَّانِي.
يَرِثُ الْعِلْمَ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِ الدِّينِ مِنْ بَعْدِي، وَيَرِثُ -مِنْ بَعْضِ آلِ يَعْقُوبَ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- النُّبُوَّةَ وَالْعِلْمَ، وَاجْعَلْهُ رَبِّ بَرًّا تَقِيًّا كَثِيرَ الرِّضَا عَنْكَ فِيمَا تَجْرِي بِهِ مَقَادِيرُكَ، مَرْضِيًّا عِنْدَكَ قَوْلًا وَفِعْلًا.
فَاسْتَجَابَ اللهُ -تَعَالَى- دُعَاءَهُ؛ فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا! إِنَّا لِعَظِيمِ رُبُوبِيَّتِنَا نُبَشِّرُكَ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ اسْمُهُ يَحْيَى، لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ بِاسْمِهِ، وَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ شَبِيهًا فِي صِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ.
* وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ يَدْعُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ قُرَنَائِنَا -مِنْ أَصْحَابٍ وَزَوْجَاتٍ- وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ -أَيْ: تَقَرُّ بِهِمْ أَعْيُنُنَا-.
دُعَاءٌ لِأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فِي صَلَاحِهِمْ؛ فَإِنَّهُ دُعَاءٌ لِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا جَعَلُوا ذَلِكَ هِبَةً لَهُمْ، فَقَالُوا: هَبْ لَنَا.
بَلْ دُعَاؤُهُمْ يَعُودُ إِلَى نَفْعِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ بِصَلَاحِ مَنْ ذُكِرَ يَكُونُ سَبَبًا لِصَلَاحِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ وَيَنْتَفِعُ بِهِمْ.
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ تَكُونَ أَزْوَاجُهُمْ وَذُرِّيَّاتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.
وَبِذَلِكَ تَمْتَلِئُ قُلُوبُهُمْ سُرُورًا، وَيَكُونُوا قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَيَطْمَحُونَ إِلَى الِارْتِقَاءِ إِلَى دَرَجَاتِ الْأَبْرَارِ وَالْمُحْسِنِينَ، حَتَّى يَكُونُوا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى.
المصدر:حُقُوقُ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ