((تَعْظِيمُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَدَعْوَةُ الْخَوَارِجِ لِلتَّوْبَةِ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((اصْطِفَاءُ اللهِ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ لِلتَّعْظِيمِ))
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَصْطَفِي مِنَ الْأَزْمِنَةِ مَا يَشَاءُ، وَيَصْطَفِي مِنَ الْأَمْكِنَةِ مَا يَشَاءُ، وَمِنَ الْبَشَرِ مَا يَشَاءُ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا يَشَاءُ -يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكَمُ مَا يُرِيدُ-.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَكَوَّرَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَكَوَّرَ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ، وَقَضَى فِي النَّاسِ أَجْمَعِينَ بِمَا هُوَ حَقٌّ وَخَيْرٌ.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نِظَامًا لِلْعَالَمِ يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَهُ -أَيْ: عَدَدَ الشُّهُورِ-.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَهُ فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ: أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي كِتَابِ الْمَقَادِيرِ.
جَعَلَ عِدَّةَ الشُّهُورِ: أَيْ عَدَدَ الشُّهُورِ قَائِمًا عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، إِلَّا أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يَصْطَفِي مِنَ الْأَزْمِنَةِ مَا يَشَاءُ؛ اخْتَصَّ مِنْ هَذِهِ الْأَشْهُرِ أَرْبَعَةً جَعَلَهَا حُرُمًا.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَشْهُرَ حُرُمًا؛ لَا يَجُوزُ فِيهَا الْقِتَالُ بِحَالٍ.
بَلْ إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَظَّمَ فِيهَا الذُّنُوبَ، فَمَنْ أَتَى فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ -الَّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ- مَنَ أَتَى فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِذَنْبٍ ضَاعَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْعُقُوبَةَ.
كَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ أَمْكِنَةً شَرِيفَةً، مَنْ صَلَّى فِيهَا وَذَكَر اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيهَا؛ ضَاعَفَ اللهُ لَهُ الْمَثُوبَةَ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِرَادَةَ لِلْإِلْحَادِ بِظُلْمٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ذَنْبًا عَظِيمًا يَسْتَوْجِبُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25]
فَمُجَرُّدُ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الْإِلْحَادِ -أَيْ إِلَى الْمَيْلِ بِالظُّلْمِ- فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُسْتَوْجِبٌ لِإِذَاقَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ؛ كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
فَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ مُعَظَّمَةَ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِيهَا؛ فَقَدْ أَتَى بِمَا أَوْجَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ أَتَى فِيهَا بِمَا يَشِينُ وَظَلَمَ فِيهَا نَفْسَهُ كَمَا حَذَّرَ مِنْ ذَلِكَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُضَاعِفُ لَهُ الْعُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ.
((الْحِكْمَةُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ بِالْحُرْمَةِ))
النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَخَطَبَ النَّاسَ فِي يَوْمِ مِنَى، كَانَ مِمَّا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرْض، الأشهُرُ الحُرُمُ أَرْبَعَة: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ثَلَاثَةً سَرْدًا، وَوَاحِدًا فَرْدًا؛ فَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ فَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا حَرَّمَ هَذِهِ الْأَشْهُرَ؛ مِنْ أَجْلِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا جَعَلَ الْحَجَّ بِمَنَاسِكِهِ فِي شَهْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُحَرَّمِ «ذِي الْحِجَّةِ»، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ قَبْلَهُ شَهْرًا مُحَرَّمًا وبعدَهُ شَهْرًا مُحَرَّمًا؛ حَتَّى يَأْتِيَ النَّاسُ مِنَ الْآفَاقِ، قَاصِدِينَ بَيْتَ اللهِ الْحَرَامَ، آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَرَوَاحِلِهِمْ، وَأَزْوَاجِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ.
ثُمَّ إِذَا مَا فَرَغُوا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادُوا الْقُفُولَ إِلَى دِيَارِهِمُ الَّتِي مِنْهَا أَتَوْا؛ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْوَقْتِ فُسْحَةٌ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودُوا إِلَى دِيَارِهِمْ فِي أَمْنٍ وَأَمَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَبْلَ الشَّهْرِ الَّذِي فِيهِ الْمَنَاسِكُ شَهْرًا مُحَرَّمًا؛ وَهُوَ شَهْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُحَرَّمُ: «ذُو الْقِعْدَةِ».
ثُمَّ تَأْتِي الْمَنَاسِكُ بِتَمَامِهَا وَجُمَلَتِهَا فِي شَهْرِ «ذِي الْحِجَّةِ».
ثُمَّ إِذَا مَا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ مَنَاسِكِهِمْ، أَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلْقِتَالِ؛ بَلْ بِظُلْمِ النَّفْسِ فِي الْمَعَاصِي الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، أَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَهْرًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ كُلٌّ إِلَى دَارِهِ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ.
ثُمَّ يَأْتِي شَهْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْفَرْدُ: «رَجَب»، يَأْتيَ مُفْرَدًا هَكَذَا؛ مِنْ أَجْلِ الزِّيَارَةِ وَالِاعْتِمَارِ، بَعِيدًا عَمَّا فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَشْهُرَ الْحُرُم بِهَذِهِ الصُّورَةِ فِي التَّقْسِيمِ؛ مِنْ أَجْلِ حِكَمٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ مِنْهَا مَا أَخْبَرَنَا عَنْهُ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- فِيمَا مَضَى ذِكْرُهُ.
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْمَكَانَةِ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي قُلُوبِ الْعَرَبِ مِنَ الْجَاهِلِيِّينَ، الَّذِينَ كَانُوا لَا يَدِينُونَ بِدِينٍ صَحِيحٍ، وَلَا يَتَّبِعُونَ فِي الْجُمَلَةِ فِطْرَةً مُسْتَقِيمَةً.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْفِطْرَةِ فِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ؛ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ كَانَ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَقَاتِلَ أَخِيهِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَلَا يُهيِّجُهُ، وَلَا يُزْعِجُهُ، وَلَا يَرْفَعُ إِلَيْهِ نَظَرًا بِحِدَّةٍ؛ لأنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ حَرَّمَ الْقِتَالَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ، وَجَعَلَهُ حَرَامًا مُحَرَّمًا.
((لَا تَظْلِمُوا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَنْفُسَكُمْ!))
عِبَادَ اللهِ! قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
فَفَضَّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَشْهُرَ، وَنَهَى عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إِذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةٌ، فَيُضَاعِفُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الْعِقَابَ بِالْعَمَلِ السَّيِّءِ، كَمَا يُضَاعِفُ فِيهِ الثَّوَابَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَمَنْ أَطَاعَ اللهَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ، لَيْسَ ثَوَابُهُ كَمَنْ أَطَاعَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَلَالِ فِي الْبَلَدِ الْحَلَالِ.
وَمَنْ عَصَى اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَيْسَ كَمَنْ عَصَاهُ فِي الْبَلَدِ الْحَلَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَلَالِ.
فَالْحَسَنَاتُ تُضَاعَفُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ فَاضِلَيْنِ، وَالسَّيِّئَاتُ تَعْظُمُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَاضِلَيْنِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].
وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
فَبَيَّنَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ تُضَاعَفُ فِي الزَّمَانِ الْفَاضِلِ، كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَةَ تُضَاعَفُ فِي الْمَكَانِ الْفَاضِلِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ كَبِيرٌ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((اخْتَصَّ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ جَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَجَعَلَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ)) .
وَتُغَلَّظُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- الدِّيَّةُ بِالْقَتْلِ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ -عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ-، وَذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِعِظَمِ هَذَا الزَّمَانِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
لَيْسَ الَّذِي يُطِيعُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ كَالَّذِي يُطِيعُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الْمَفْضُولِ وَالْمَكَانِ الْمَفْضُولِ.
وَلَيْسَ الَّذِي يَعْصِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَفِي الْمَكَانِ الَّذِي رَفَعَ اللهُ قَدْرَهُ وَذِكْرَهُ، لَيْسَ مَنْ يَعْصِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي ذَلِكَ، كَالَّذِي يَعْصِي اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّمَانِ الْمَفْضُولِ وَالْمَكَانِ الْمَفْضُولِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَكْمَلَ لَكُمُ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةَ، وَمِنْ تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ أَنْ تُعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ، وَأَنْ تُقَدِّرُوا مَا أَعْلَى اللهُ قَدْرَهُ، وَأَنْ تَحْتَرِمُوا شَعَائِرَ اللهِ، وَأَنْ تُعَظِّمُوهَا، وَأَلَّا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَإِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ)).
وَاسْتَدَارَ الْمَكَانُ، فَيُهِلُّ النَّاسُ مِنْ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالنُّسُكُ يَقَعُ كَمَا وَقَعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ يَقُولُ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ)) .
فَيُعَظِّمُ نَبِيُّنَا ﷺ مَا أَمَرَ اللهُ بِتَعْظِيمِهِ، يُعَظِّمُ الْحَجَرَ، يَسْتَلِمُهُ، يُقَبِّلُهُ، يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَرْجُمُ النُّصُبَ هُنَالِكَ؛ إِعْلَانًا وَإِيذَانًا بِأَنَّ الْأَمْرَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يُفَضِّلُ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، كَمَا يُفَضَّلُ بَلَدًا عَلَى بَلَدٍ، كَمَا يُفَضِّلُ زَمَانًا عَلَى زَمَانٍ، كَمَا يُفَضِّلُ إِنْسَانًا عَلى الْأَنَاسِيِّ، وَيَرْفَعُ قَدْرَهُ بِتَقْوَاهُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-، وَيُفَضِّلُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا يَجْعَلُ فَوْقَ نَبِيِّهِ أَحَدًا ﷺ.
فَأَعَادَ الْأَمْرَ إِلَى نِصَابِهِ ﷺ..
فَهَذَا دِينُكُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، فَخُذُوهُ سَمْحًا غَضًّا طَرِيًّا كَمَا نَزَلَ بِهِ أَمِينُ الْوَحْيِ، وَمُقَدَّمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَمِينِ رَبِّنَا فِي أَرْضِهِ وَمُقَدَّمِ الرُّسُلِ وَالْخَلَائِقِ مُحَمَّدٍ ﷺ.. كَمَا نَزَلَ بِهِ أَمِينُ السَّمَاءِ عَلَى أَمِينِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مُحَمَّدٍ غَضًّا طَرِيًّا، لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ.
تَمَسَّكُوا بِهِ!
وَاعْمَلُوا بِهِ!
وَاعْتِقُدُوا مَا اعْتَقَدَ نَبِيُّكُمْ ﷺ!
وَاعْمَلُوا مَا عَمِلَ!
وَدَعُوا مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا عَنْهُ زَجَرَ!
وَخُذُوا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ تُفْلِحُوا!
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وَدَعْوَةُ الْخَوَارِجِ لِلتَّوْبَةِ))
فَعَلَى أَهْلِ التَّكْفِيرِ وَالتَّفْجِيرِ.. عَلَى الْمُنْحَرِفِينَ الَّذِينَ ضَلُّوا السَّبِيلَ أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
هَذِهِ فُرْصَةٌ.. رُبَّمَا لَمْ يَشْهَدُوهَا بَعْدُ، فَلْيَغْتَنِمُوهَا!!
أَمَا وَاللهِ إِنَّا لَأَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ.
إِنَّنَا نَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَتَابِ.. إِلَى كَفِّ الْأَيْدِي عَنْ أَبْشَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنِ الْوُلُوغِ فِي دِمَائِهِمْ.. عَنِ التَّكْفِيرِ، وَالتَّفْجِيرِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَالتَّدْمِيرِ.. عَنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِفْسَادِ الْبِلَادِ، وَقَتْلِ الْعِبَادِ.
نَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَتَابِ، وَنُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْهُمْ فِي آنٍ.
فَأَحْدِثُوا للهِ تَوْبَةً -عِبَادَ اللهِ- فِي هَذَا الشَّهْرِ الْحَرَامِ الْعَظِيمِ، عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا؛ إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ! اتَّقُوا اللهَ فِي أَنْفُسِكُمْ!
اتَّقُوا اللهَ فِي دِينِكُمْ!
اتَّقُوا اللهَ فِي بِلَادِكُمْ!
اتَّقُوا اللهَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ المُسْلِمَةِ الَّتِي يُرْفَعُ فِيهَا الأَذَانُ، وَتُقَامُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ، وَيُصْدَعُ فِيهَا بِالسُّنَنِ!!
اتَّقُوا اللهَ!
لَا تُضَيِّعُوا المَوْجُودَ مِنْ أَجْلِ البَحْثِ عَنِ الْمَفْقُودِ؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مُغَامَرَاتٌ لَيْسَتْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ بَلَدَنَا وَجَمِيعَ بُلْدَانِ المُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.