((مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
((مَعْنَى تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ))
فَمَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ -عِبَادَ اللهِ-؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الشِّرْكِ مُوجِبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ يَرْجُو ذَلِكَ وَيَطْمَعُ فِيهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُحَقِّقَ التَّوْحِيدَ فِي حَيَاتِنَا.
وَحَقَّقَ التَّوْحِيدَ: أَيْ هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ، وَخَلَّصَهُ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي؛ فَخَلَّصَ تَوْحِيدَهُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ الَّذِي يُنَافِي التَّوْحِيدَ وَيُضَادُّهُ، وَمِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ الَّذِي يُنَافِي كَمَالَهُ، وَمِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُكَدِّرُ التَّوْحِيدَ فَتُنْقِصُهُ وَتُضْعِفُهُ.
تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ: تَخْلِيصُهُ مِنَ الشِّرْكِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَقِّقَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19].
الثَّانِي: الِاعْتِقَادُ؛ فَإِذَا عَلِمْتَ وَلَمْ تَعْتَقِدْ وَاسْتَكْبَرْتَ؛ لَمْ تُحَقِّقِ التَّوْحِيدَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الْكَافِرِينَ: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
الثَّالِثُ: الِانْقِيَادُ؛ فَإِذَا عَلِمْتَ وَاعْتَقَدْتَ وَلَمْ تَنْقَدْ؛ لَمْ تُحَقِّقِ التَّوْحِيدَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35-36].
فَإِذَا حَصَلَ هَذَا وَحَقَّقَ التَّوْحِيدَ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ مَضْمُونَةٌ لَهُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللهُ؛ لِأَنَّ هَذَا حِكَايَةُ حُكْمٍ ثَابِتٍ شَرْعًا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ؛ فَإِنَّنَا نَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللهُ.
((صِفَاتُ مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ تَحْقِيقًا كَامِلًا))
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120].
الْأُمَّةُ: الْقُدْوَةُ، وَالْإِمَامُ، وَمُعَلِّمُ الْخَيْرِ؛ وَهَذَا مِنْ بَعْضِ مَعَانِيهَا.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا}.
{قَانِتًا}: دَائِمَ الطَّاعَاتِ لِرَبِّهِ، وَالْقُنُوتُ: هُوَ دَوَامُ الطَّاعَةِ للهِ.
فَارَقَ الْمُشْرِكِينَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْبَدَنِ، وَأَنْكَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ فَكَانَ حَنِيفًا.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59]؛ أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
وَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
تَحْقِيقٌ وَاجِبٌ: وَهُوَ تَصْفِيَتُهُ وَتَخْلِيصُهُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ وَالْأَصْغَرِ، وَالْبِدَعِ، وَالْمَعَاصِي؛ وَهَذَا مَقَامُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: وَهُمُ الَّذِينَ فَعَلُوا الْوَاجِبَاتِ، وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ.
وَتَحْقِيقٌ مَنْدُوبٌ: هُوَ أَنْ يُضِيفَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ: فِعْلَ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَرْكَ الْمَكْرُوهَاتِ وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ؛ وَهَذَا مَقَامُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ.
مَنْ حَقَّقَ التَّوْحِيدَ -يَعْنِي هَا هُنَا: التَّحْقِيقَ الْمَنْدُوبَ-؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
التَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
تَحْقِيقٌ وَاجِبٌ، لَا بُدَّ أَنْ تُصَفِّيَ تَوْحِيدَكَ، وَأَنْ تُخَلِّصَهُ مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ، وَالْأَصْغَرِ، وَمِنَ الْبِدَعِ، وَمِنَ الْمَعَاصِي؛ هَذَا وَاجِبٌ عَلَيْكَ، هَذَا لَازِمٌ لَكَ، هَذَا لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ.
وَأَمَّا التَّحْقِيقُ الْمَنْدُوبُ: فَأَنْ تُضِيفَ إِلَى هَذَا التَّحْقِيقِ الْوَاجِبِ: فِعْلَ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَرْكَ الْمَكْرُوهَاتِ، وَكَذَلِكَ تُضِيفُ إِلَيْهِ تَرْكَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ؛ فَهَذا مَقَامُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ.
صِفَاتُ إِمَامِ الْمُوَحِّدِينَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَمَا وَصَفَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ-: وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِفَاتٍ عَالِيَةٍ، هِيَ الْغَايَةُ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
وَهِيَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قُدْوَةٌ وَإِمَامٌ فِي الْخَيْرِ؛ لِتَكْمِيلِهِ مَقَامَ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، وَأَنَّهُ مُدَاوِمٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَنَّهُ مَائِلٌ عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ؛ فَفَارَقَ الْمُشْرِكِينَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْبَدَنِ، وَأَنْكَرَ -مَعَ الْمُفَارَقَةِ عَلَيْهِمْ- مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
فَهُوَ مَائِلٌ -أَيْ: حَنِيفٌ- مَائِلٌ عَنِ الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَا فِي الْقَوْلِ، وَلَا فِي الْعَمَلِ، وَلَا فِي الِاعْتِقَادِ، بَلْ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَفَارَقَهُمْ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
وَأَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَثْنَى عَلَى إِمَامِ الْحُنَفَاءِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَدْ أَثْنَى اللهُ سُبحَانَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ، أَعْظَمُهَا: السَّلَامَةُ مِنَ الشِّرْكِ صَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ}؛ أَيْ: لَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، بَلْ يُوَحِّدُونَهُ.
فَمَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ؛ فَقَدْ بَلَغَ النِّهَايَةَ فِي تَحْقِيِق التَّوْحِيدِ الْمُوجِبِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟
قَالَ: قُلْتُ أَنَا، ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ.
قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ؟
قَالَ: قُلْتُ: ارْتَقَيْتُ.
فَقَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟
قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدَّثَناهُ الشَّعْبِيُّ.
قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟
قَالَ: قُلْتُ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الحُصَيْبِ؛ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ أَوْ حُمَةٍ)).
فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ.
عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ -أَيْ: سَقَطَ- الْبَارِحَةَ؟
قَالَ: قُلْتُ: أَنَا.
سَقَطَ هَذَا الْكَوْكَبُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَالصَّالِحُونَ إِذَا كَانُوا مُسْتَيْقِظِينَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ، فَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي عِبَادَةٍ للهِ وَذِكْرٍ.
فَلَمَّا قَالَ: أَنَا -يَعْنِي: أَنَا رَأَيْتُ الْكَوْكَبَ الَّذِي سَقَطَ الْبَارِحَةَ-، خَشِيَ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ فِي عِبَادَةٍ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، وَلَكِنِّي لُدِغْتُ: يَعْنِي: الَّذِي كَانَ حَامِلًا لِي عَلَى الِاسْتِيْقَاظِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ مِنَ اللَّيْلِ أَنِّي قَدْ لُدِغْتُ، لَا أَنِّي كُنْتُ مُتَهَجِّدًا بِصَلَاةٍ لِرَبِّي -جَلَّ وَعَلَا-.
يَحْرِصُونَ عَلَى قُلُوبِهِمْ؛ حَتَّى لَا يَتَسَلَّلُ الرِّيَاءُ إِلَيْهَا، وَهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا!!
قَالَ: وَلَكِنِّي لُدِغْتُ.
قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ -يَعْنِي: لَمَّا لُدِغْتَ-؟
قَالَ: ارْتَقَيْتُ -أَيْ: طَلَبْتُ مَنْ يَرْقِينِي بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَدْعِيَةِ النَّبَوِيَّةِ-.
قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟
قَالَ: حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ.
قَالَ: وَمَا حَدَّثَكُمْ؟
قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ.. )).
وَالْعَيْنُ: إِصَابَةُ الْعَائِنِ -أَيِ: الْحَاسِدِ- غَيْرَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَتَؤَثِّرُ فِيهِ -بِإِذْنِ اللهِ-.
قَالَ: ((لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ)).
وَالْحُمَةُ: لَدْغُ ذَوَاتِ السُّمُومِ، كَالْعَقْرَبِ.
قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ؛ أَيْ: فَعَلَ أَمْرًا حَسَنًا مَنْ أَخَذَ بِمَا بَلَغَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَعَمِلَ بِهِ.
فَكَانَ السَّلَفُ حَرِيصِينَ عَلَى الْإِخْلَاصِ.
الَّذِي يَرَوْنَهُ مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، لَا يَعُدُّونَهُ عَادَةً، بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا مَا يَنْبَغِي عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَخُسُوفِ الْقَمَرِ، أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمَا مِنْ آيَاتِ اللهِ الْبَاهِرَةِ؛ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ؛ لِيَهْرَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ.
ظَهَرَ ذَلِكَ فِي تَسَاؤُلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟
فَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَا؛ وَخَافَ أَنْ يَظُنَّ الْحَاضِرُونَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي؛ فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ، فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ إِيهَامَ الْعِبَادَةِ -كَعَادَةِ السَّلَفِ فِي حِرْصِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ-، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لُدِغَ، فَأَوْجَبَ لَهُ اللَّدْغُ الِاسْتِيْقَاظَ.
قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ.
وَلَكِنْ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعُه الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ؛ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ.. )).
((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ -قِيلَ: عُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَقِيلَ: فِي الْمَنَامِ-؛ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ -الرَّهْطُ: مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى السَّبْعَةِ- وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ؛ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ -أَيْ؛ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ النَّاسِ-؛ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي، فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَى ﷺ وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ، فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمَّتُكَ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ)).
ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللهِ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟» فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ ﷺ: «أَنْتَ مِنْهُمْ».
ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
وَقَوْلُهُ: خَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ؛ أَيْ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانٌ لِفَضِيلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَدْ عُرِضَتِ الْأُمَمُ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ؛ فَرَأَى أَنَّ أُمَّتَهُ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ-، وَذَلِكَ بَعْدَمَا رَأَى قِلَّةَ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ.
سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَرْقُونَ، أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَرْقِيَهُمْ.
فَمَا هُوَ حُكْمُ طَلَبِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْغَيْرِ -مَا حُكْمُ الِاسْتِرْقَاءِ-؟
حُكْمُ الِاسْتِرْقَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ يُفَوِّتُ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي كَمَالَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَمَّا إِذَا رَقَاهُ غَيْرُهُ فَلَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَرْقِيَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يَرْقِيَهُ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رَقَتْ رَسُولَ اللهِ، بَلْ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَقَى النَّبِيَّ ﷺ، وَرَقَى النَّبِيُّ ﷺ مَنْ رَقَاهُ مِنْ أُمَّتِهِ.
إِذَنْ؛ فَالْمَسْأَلَةُ تَدُورُ عَلَى الطَّلَبِ -أَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرْقِيَهُ-، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْهُ فَلَا عَلَيْهِ.
وَلَكِنَّ طَلَبَ الرُّقْيَةِ مِنَ الْغَيْرِ جَائِزٌ؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ: ((لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ))؛ أَيْ: لَا رُقْيَةَ أَوْلَى وَأَشْفَى مِنْ رُقْيَةِ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ.
وَهَذَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرُّقْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ يُنَافِي كَمَالَ التَّوَكُّلِ.
هُوَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، وَلَكِنَّهُ يُنَافِي كَمَالَ التَّوَكُّلِ؛ فَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَرْكِ الِاسْتِرْقَاءِ؛ لِقُوَّةِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
الصَّحَابَةُ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى الْخَيْرِ، كَانُوا سَبَّاقِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، تَبَاحَثُوا فِي صِفَاتِ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ أَلْفًا، الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونُوا مِنِهُمْ.
وَأَمَّا صِفَاتُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ولَا عَذَابٍ، فَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ:
الصِّفْةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ ((لَا يَسْتَرْقُونَ)): أَيْ لَا يَطْلُبُونَ مَنْ يَرْقِيهِمْ؛ لِقُوَّةِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللهِ، وَلِعِزَّةِ نُفُوسِهِمْ عَنِ التَّذَلُّلِ لِغَيْرِ اللهِ.
وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُمْ يَرْقُونَ أَنْفُسَهُمْ، أَوْ يَرْقِيهِمْ غَيْرُهُمْ بِغَيْرِ طَلَبِهِمْ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: ((لَا يَكْتَوُونَ)): أَيْ؛ لَا يَسْأَلُونَ غَيْرَهُمْ أَنْ يَكْوُوهُمْ بِالنَّارِ؛ تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ.
وَالِاسْتِرْقَاءُ وَالِاكْتِوَاءُ جَائِزَانِ، وَلَكِنَّ تَرْكَهُمَا أَفْضَلُ، وَأَكْمَلُ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: ((وَلَا يَتَطَيَّرُونَ)): أَيْ؛ لَا يَتَشَاءَمُونَ بِالطُّيُورِ، وَلَا بِالشُّهُورِ، وَلَا بِنَحْوِهِمَا؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَكَذَا الْأَلْبَانِيُّ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: ((وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)): يَعْتَمِدُونَ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، مَعَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ.
التَّوَكُّلُ لَا يَكُونُ تَوَكُّلًا حَقِيقِيًّا إِلَّا مَعَ فِعْلِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَكُونُ تَوَكُّلًا إِلَّا بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ؛ وَهَذَا خَطَأٌ مَحْضٌ، بَلْ فِيهِ اتِّهَامٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ سَيِّدُ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ لَا يُغْفِلُ الْأَسْبَابَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ لِلتَّوْحِيدِ لَا يُبَاشِرُونَ الْأَسْبَابَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ: كَالِاكْتِوَاءِ، وَالِاسْتِرْقَاءِ، مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا؛ لِكَمَالِ تَوَكُّلِهِمْ عَلَى اللهِ.
وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي الَّتِي لَا كَرَاهَةَ فِيهَا: كَأَنْ يَرْقِيَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ، أَوْ يَسْتَشْفِيَ بِالْعَسَلِ أَوِ الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ وَنَحْوِهَا، أَوِ الْأَدْوِيَةِ الْحَدِيثَةِ؛ فَلَيْسَ تَرْكُهُ مَشْرُوعًا؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((تَدَاوُوا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَإِذَا نَظَرْتَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: رَأَيْتَ فِيهِ لَائِحًا حُسْنَ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَإِنَّ عُكَّاشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنْتَ مِنْهُمْ)).
وَقَدْ قُتِلَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ شَهِيدًا فِي حُرُوبِ الرِّدَّةِ، وَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، قَالَ: ((أَنْتَ مِنْهُمْ)).
ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ: أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا، فَقَالَ: ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ))؛ خَشْيَةَ أَنْ يَطْلُبَهَا مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا، فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ الَّذِي لَا يَكْسِرُ قَلْبَهُ، وَلَا يُكَدِّرُ خَاطِرَهُ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)).
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ سَدَّ بِهَذَا الْجَوَابِ الْبَابَ؛ حَتَّى لَا يَقُومَ غَيْرُهُ، فَيَقُولَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَيَقُولَ: لَسْتَ مِنْهُمْ؛ فَتَبْدُو أُمُورٌ لَا يَحْسُنُ إِبْدَاؤُهَا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي هَذِهِ الْمَقُولَةِ: أَتَى بِمَا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ ﷺ، وَرِعَايَتِهِ لِخَوَاطِرِ أَصْحَابِهِ، فَأَجَابَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ بَعْدَمَا سَأَلَهُ عُكَّاشَةُ.. أَجَابَهُ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَافِيَةٍ بِالْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهَا كَسْرٌ لِخَاطِرِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
((فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ: أَدِّ مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ!))
قَالَ ﷺ: ((وَيَأْتِي النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ!!))؛ أَيْ: لَمْ يَتْبَعْهُ مِنْ قَوْمِهِ أَحَدٌ!!
يَأْتِي نَبِيٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَانَ قُدْوَةً سُلُوكِيَّةً، وَكَانَ قَائِمًا بِالتَّبْلِيغِ عَلَى الْوَجْهِ، وَكَانَ مَعْصُومًا، مُوحًى إِلَيْهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ وَلَا يُقَصِّرُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ أَحَدٌ!!
أَمَّا أَنْتَ فَإِنَّكَ إِذَا دَعَوْتَ النَّاسَ فَقَلَّ مَنْ يَسْتَجِيبُ لِمَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، أَخَذَ الْحُزْنُ بِأقْطَارِ قَلْبِكَ، وَرُبَّمَا يَئِسْتَ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ)).
وَرَأَى النَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَمَعَهُ الرَّهْطُ -مِنْ الثَلَاثَةِ إِلَى التِسْعَةٍ-؛ فَهَؤُلَاءِ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ، أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَبَلَّغُوا أَقْوَامَهُمْ، وَكَانُوا قُدْوَةً سُلُوكِيَّةً، وَكَانُوا مَعْصُومِينَ، وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي الْبَلَاغِ وَالدَّعْوَةِ، وَمَع ذَلِكَ فَهَذِهِ ثَمَرَةُ دَعْوَتِهِمْ، فَكَانَ مَاذَا؟
لَا شَيْءَ! أَدِّ مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ.
وَهَذَا مِنْ حَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ، أَنْتَ تَدْعُو إِلَى اللهِ؛ لِأَنَّ اللهَ كَلَّفَكَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى مَا عَلِمْتَهُ، فَأَنْتَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَيْهِ، لَا يَسَعُكُ إِلَّا هَذَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [سورة العصر].
{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا}: عَلِمُوا الْعِلْمَ بِدَلِيلِهِ.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: وَعَمِلُوا بِهِ.
{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: دَعَوْا إِلَيْهِ.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: صَبَرُوا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُفْلِحًا إِلَّا إِذَا حَقَّقَها، الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنْهَا هُوَ: التَّوَاصِي بِالْحَقِّ: وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، أَنْتَ مُكَلَّفٌ بِهَذَا: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ؛ فَأَنْتَ تَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَا عَلَّمَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْعِلْمِ، إِلَى قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ.
وَتَدْعُو النَّاسَ بِهَذَا الْعِلْمِ وَإِلَيْهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ: بِالرِّفْقِ، وَالْحِلْمِ، وَاللِّينِ، مَعَ الشِّدَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا؛ يَعْنِي أَنْ تَكُونَ عَلَى قَدَمِ نَبِيِّكَ ﷺ.
لِمَاذَا تَفْعَلُ ذَلِكَ؟
لِأَنَّ اللهَ كَلَّفَكَ، أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ مِنْكَ، فَإِنِ اسْتَجَابَ النَّاسُ؛ فَهَذَا مَحْضُ فَضْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا فَلَا عَلَيْكَ، وَلَنْ يُحَاسِبَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ -إِذَا كُنْتَ مُحْسِنًا مُصِيبًا- عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكَ أَحَدٌ، بَلْ دَلَّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَمَنْ هُوَ فَوْقَكَ، فَقَالَ: ((وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ!!)).
هَلْ سَيُحَاسِبُهُ اللهُ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَةِ قَوْمِهِ؟
حَاشَا؛ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى، أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ الْقَائِلِينَ:
نَحْنُ أُمَّةُ التَّوْحِيدِ وَتَشْغَلُونَ النَّاسَ بِهِ؟!!))
فَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ -مِمَّنْ لَمْ يَفْتَحِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَيْنَ بَصِيرَتِهِ عَلى الْهُدَى وَالنُّورِ، أَوْ كَان مُنْغَمِسًا فِي الْحِزْبِيَّاتِ الْعَفِنَةِ-: تَشْغَلُونَ النَّاسَ بِغَيْرِ طَائِلٍ، هَذِهِ أُمَّةُ التَّوْحِيدِ وَلَنْ يَكُونَ فِيهَا شِرْكٌ!!
إِنَّ هَذَا مِنَ الْوَهْمِ.. بَلْ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي النُّصُوصَ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ.
وَأَضْرِبُ لَكَ مِثَالًا: الشِّرْكُ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ؛ الشِّرْكُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ، الشِّرْكُ أَكْبَرُ مِنَ الزِّنَا، وَمِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، الشِّرْكُ أَكْبَرُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ.
لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَتَى إِلَيْنَا الْآنَ، فَأَخْبَرَ بِأَنَّ فُلَانًا فِي دَارِهِ -وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ- قَدْ عَكَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ -يَأْتِي بِفَاحِشَةٍ-، فَإِنَّ الْقَوْمَ يَنْتَفِضُونَ: يَأْتِي بِالْفَاحِشَةِ وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ؟!! لَقَدْ هَانَتِ الْحَيَاةُ!! يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبِي!!
فَإِذَا صَمَّتْنَاهُمْ وَقَامَ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، فَقَالَ: دُونَكُمْ، سَوْفَ أَعْلَمُ لَكُمْ عِلْمَهُ، وَآتِيكُمْ بِخَبَرِهِ.
وَانْتَظَرَ الْقَوْمُ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ، يَأْتِي الْفَاحِشَةَ!! مَا الَّذِي جَرَى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؟!!
انْتَظَرُوا عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ خَبَرَهُ، فَجَاءَ الَّذِي ذَهَبَ مُسْتَبْشِرًا مُتَهَلِّلَ الْوَجْهِ يَقُولُ: أَبْشِرُوا لَيْسَ الْأَمْرُ كَما قِيلَ، وَلَيْسَ هُنَالِكَ فَاحِشَةٌ وَلَا شَيْءَ، وَإِنَّمَا الرَّجُلُ قَدْ ذَبَحَ ذَبِيحَةً لِلْجِنِّ فِي دَارِهِ حَتَّى لَا يُؤْذُوهُ؛ يَتَهَلَّلُ الْقَوْمُ وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ!!
مَعَ أَنَّ هَذَا أَكْبَرُ مِنَ الزِّنَا؛ هَذَا شِرْكٌ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ، هَذَا شِرْكٌ أَكْبَرُ؛ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شِرْكٌ مُخْرِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا بِالاتِّفَاقِ، وَمَع ذَلِكَ فَالنَّاسُ يَسْتَهِينُونَ بِمِثْلِ ذَلِكَ!!
هَذَا أَمْرٌ كَبِيرٌ.. النَّاسُ اخْتَلَّتْ مَوَازِينُهُمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.
ثُمَّ يَقُولُ قَائِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ: تَشْغَلُونَ النَّاسَ!!
نَشْغَلُ النَّاسَ بِالْأَصْلِ، هَذَا أَصْلُ الْأُصُولِ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمُوهُ، وَأَن يَبُثُّوهُ وَيُذِيعُوهُ.
يَنْبَغِي أَنْ تَتَعَلَّمَ الْأُمَّةُ تَوْحِيدَ رَبِّهَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ بِذَلِكَ خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ ﷺ.
وَهَذِهِ الْأُمَّةُ مَا تَمَيَّزَتْ إِلَّا بِهَذَا، إِنَّمَا تَمَيَّزَتْ بِتَوْحِيدِ اللهِ، بِنَبْذِ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ فَمَلَّكَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ رِقَابِ الْأُمَمِ، وَإِذَا وَقَعَ شِرْكٌ عَاقَبَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَمِنَ الْعُقُوبَةِ: الْهَزِيمَةُ؛ فَتُهْزَمُ أَمَامَ أَحَطِّ خَلْقِ اللهِ؛ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَشُذَّاذِ الْآفَاقِ، وَيُسَلِّطُهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا عَلَّلَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- انْكِسَارَ الْمُسْلِمِينَ أَمَامَ التَّتَارِ.
فَقَدْ قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّمَا انْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُزِمُوا أَمَامَ التَّتَارِ؛ لِأَنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِالْمَقْبُورِينَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَرُدَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- التَّتَارَ الْمُعْتَدِينَ، فَلَاذُوا بِالْقُبُورِ، وَاسْتَغَاثُوا بِالْمَقْبُورِينَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ بِهِمُ الْهَزِيمَةَ)).
قَالَ: ((كَانُوا يَقُولُونَ: يَا خَائِفِينَ مِنَ التَّتَر = لُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَر!!
فَكَسَرَهُمُ التَّتَارُ!
ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ التَّتَارِ، وَكَانَتْ هَزِيمَةُ التَّتَارِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مَاحِقَةً، وَكَفَّ اللهُ شَرَّهُمْ وَخَضَدَ شَوْكَتَهُمْ؛ لِأَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ يَدْعُونَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ، وَيَجْمَعُونَ قُلُوبَ الْخَلْقِ عَلَى تَوْحِيدِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُفَهِّمُونَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُ الْمُشْرِكِينَ.
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ هَذَا الشِّرْكِ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، نَصَرَهُمُ اللهُ نَصْرًا مُظَفَّرًا، وَقَدْ كَانَ.
فَتَجِدُ مَنْ يَقُولُ: لَا نَحْتَاجُ إِلَى بَسْطِ أُمُورِ التَّوْحِيدِ وتَعَلُّمِهَا وَتَعْلِيمِهَا!!
فَمَاذَا نَتَعَلَّمُ إِذَنْ إِنْ لَمْ نَتَعَلَّمِ التَّوْحِيدَ؟!!
بَلْ نَدُورُ مَعَ التَّوْحِيدِ حَيْثُ دَارَ، وَنُنْفِقُ فِيهِ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي، وَنَعْكُفُ عَلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ.
وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُقِيمَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ يُحَقِّقَنَا بِهِ، وَأَنْ يُمِيتَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ دَلَّ عَلَيْهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ ﷺ.
لَنْ تَذُوقَ طَعْمَ الْحَيَاةِ -أَعْنِي: الْحَيَاةَ الْحَقَّةَ-، لَنْ تَذُوقَ طَعْمَهَا، وَلَنْ تَعْرِفَ قِيمَةَ الْوُجُودِ حَتَّى تَكُونَ مُوَحِّدًا؛ لِأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ، رَأَيْتَ الْكَوْنَ كُلَّه عَابِدًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ الْكَوْنُ كُلُّهُ مُسَبِّحٌ بِحَمْدِ رَبِّهِ، سَاجِدٌ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالَّذِي يَشِذُّ عَنِ هَذَا: الثَّقَلَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ حَمَّلَهُمَا الْأَمَانَةَ، أَمَانَةَ التَّكْلِيفِ بِـ ((افْعِلْ، وَلَا تَفْعَلْ))، وَكَانَتْ لَهُمَا الْمَشِيئَةُ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُمْ يُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ.
((جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَثَمَرَاتِهِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْفَرْضُ الْأَعْظَمُ عَلَى جَمِيعِ الْعَبِيدِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَهُ مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمُتَنَوِّعَةِ مِثْلَ مَا لِلتَّوْحِيدِ.
فَإِنَّ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَفَضَائِلِهِ.
وَمِنْ أَجَلِّ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَمْنَعُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، إِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ مِنْهُ أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَإِذَا كَمُلَ فِي الْقَلْبِ مَنَعَ دُخُولَ النَّارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَتَكْفِيرُهَا إِلَّا مِنْ بَعْضِ فَضَائِلِ التَّوْحِيدِ وَآثَارِهِ.
وَالتَّوْحِيدُ هُوَ السَّبَبُ الْأَعْظَمُ لِتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَدَفْعِ عُقُوبَتِهِمَا، وَهُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ لِنَيْلِ رِضَا اللَّهِ وَثَوَابِهِ.
وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ.
وَجَمِيعُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مُتَوَقِّفَةٌ فِي قَبُولِهَا وَفِي كَمَالِهَا، وَفِي تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهَا عَلَى التَّوْحِيدِ، فَكُلَّمَا قَوِيَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ كَمُلَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ وَتَمَّتْ.
وَالتَّوْحِيدُ يُسَهِّلُ عَلَى الْعَبْدِ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَيُسَلِّيهِ عَنِ الْمُصِيبَاتِ، فَالْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي إِيمَانِهِ وَتَوْحِيدِهِ تَخِفُّ عَلَيْهِ الطَّاعَاتُ لِمَا يَرْجُو مِنْ ثَوَابِ رَبِّهِ وَرِضْوَانِهِ، وَيَهُونُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَعَاصِي؛ لِمَا يَخْشَى مِنْ سُخْطِهِ وَعِقَابِهِ.
وَمَتَى كَمُلَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَلْبِ حَبَّبَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْإِيمَانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَجَعَلَهُ مِنَ الرَّاشِدِينَ، فَالتَّوْحِيدُ يُخَفِّفُ عَنِ الْعَبْدِ الْمَكَارِهَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ، وَبِحَسَبِ تَكْمِيلِ الْعَبْدِ لِلتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ يَكُونُ تَلَقِّيهِ لِلْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ بِقَلْبٍ مُنْشَرِحٍ وَنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، وَتَسْلِيمٍ وَرِضًا بِأَقْدَارِ اللَّهِ الْمُؤْلِمَةِ.
وَالتَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ رِقِّ الْمَخْلُوقِينَ، وَالتَّعَلُّقِ بِهِمْ، وَخَوْفِهِمْ، وَرَجَاءِهِمْ، وَالْعَمَلِ لِأَجْلِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْعِزُّ الْحَقِيقِيُّ وَالشَّرَفُ الْعَالِي.
وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِزِّ وَالشَّرَفِ، وَحُصُولِ الْهِدَايَةِ وَالتَّيْسِيرِ لِلْيُسْرَى، وَإِصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّسْدِيدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَدْفَعُ عَنِ الْمُوَحِّدِينَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، يَدْفَعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ إِلَيْهِ، وَالِاطْمِئْنَانِ بِذِكْرِهِ، وَالشِّرْكُ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُحَقِّقُونَ التَّوْحِيدَ تَحْقِيقًا, وَأَنْ يُقِيمَنَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَنَا عَلَيْهِ, وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ سَيِّدِ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ ﷺ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.