((عِبَادَاتُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَبِيُّنَا ﷺ الْأُسْوَةُ فِي كُلِّ خَيْرٍ))
فَإِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ لَنَا فِي نَبِيِّنَا ﷺ أُسْوَةً، وَقُدْوَةً، وَنُمُوذَجًا، وَمِثَالًا.
وَلَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ ابْنُ أُنْثَى حُفِظَتْ أَحْوَالُهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، جَلِّيَّةً وَخَفْيًّةً فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ سِوَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَهَذَا لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَلَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الدَّلَالَاتِ الْقَاطِعَاتِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِ، وَصِدْقِهِ فِيْمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ إِذْ يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ بِقَلِيلٍ مِنَ الْتَّأَمُّلِ أَنْ يُحْصَيَ أَحْوَالَ نَبِيِّهِ ﷺ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنَا فِي نَبِيِّنَا ﷺ صُوْرَةً تَفْصِيلِيَّةً؛ لِمَا يَنْبَغِي أَنْ نَأْخُذَ بِهِ أَنْفُسَنَا مِنَ الْعِبَادَةِ فِي الْمَوَاسِمِ الْشَّرِيفَةِ، وَالْأَيَّامِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا خَلْقَهُ، فَضَاعَفَ فِيهَا الْأَجْرَ، وَأَجْزَلَ فِيْهَا الْمَثُوبَةَ.
((إِدْرَاكُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ))
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ مَنَّ عَلَيْنَا فَمَدَّ فِي أَعْمَارِنَا، وَقَدْ أَظَلَّتْنَا أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ وَسَاعَاتٌ جَلِيلَةٌ، إِنَّهَا أَيَّامُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهِيَ بِدَايَةُ نِهَايَةِ الشَّهْرِ الْعَظِيمِ.
وَصِيَامُ رَمَضَانَ مَا يَزَالُ يَرْتَقِي بِالنَّفْسِ فِي مَدَارِجِ الكَمَالِ؛ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّائِمُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ؛ لِعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ، وَلِجَمْعِيَّةِ القَلْبِ عَلَى سَيِّدِهِ وَمَولَاهُ، وَلِلفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ، وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى فِي عُلَاهُ.
((عِبَادَاتُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ فِي لَمْحَةٍ عَابِرَةٍ، وَلَكِنَّهَا مُفَصَلَّةٌ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ -يَعْنِي مِنْ أَيَّامِ الْعَامِ-)).
فَكَيْفَ كَانَ اجْتِهَادُهُ ﷺ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ الْشَّرِيفِ؟
تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَشَدَّ مِئْزَرَهُ)).
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ؛ بِإِشَاعَةِ جَوٍّ مِنْ أَجْوَاءِ الْإِيمَانِ اللَّطِيْفِ فِي أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَنْهُنَّ-.
وَبِذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ فِي بَيْتِ كُلِّ مُسْلِمٍ يُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ؛ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ.
وَلَا يُعَارِضُ هَذَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَفِيهَا: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَا قَامَ لِلَّهِ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى يُصْبِحَ)) ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْقِيَامِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي حَالِ صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا تِلَاوَةٌ، وَمُدَارَسَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَذِكْرٌ لِلرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، وَتَبَتُّلٌ وَتَفَكُّرٌ.
حَتَّى إِنَّ الْنَّبِيَّ ﷺ -كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهِيَ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ- قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ لَوْ عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ، مَاذَا أَقُولُ؟
فَاخْتَارَ النَّبِيُّ ﷺ -لِلْحَبِيبَةِ بِنْتِ الْحَبِيبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- اخْتَارَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ دُعَاءً جَامِعًا، قَالَ: ((قَولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
الرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بِطُولِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَا شَاءَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يُصَلِّيَ.
((يُوقِظُ أَهْلَهُ)): وَيُشِيعُ جَوًّا مِنْ أَجْوَاءِ الْإِيمَانِ اللَّطِيفِ، حَتَّى لَيَكَادَ الْمَرْءُ يُبْصِرُ كَفَّهُ فِي ظُلُمَاتٍ مِنْ فَوْقِهَا ظُلُمَاتٌ؛ لِأَنَّ الْأَبْيَاتَ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُنِيرَةً بِأَنْوَارِ الْإِيمَانِ.
((مِنْ عِبَادَاتِ النَّبِيِّ ﷺ فِي رَمَضَانَ: مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ فِي رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ يَتَلَّقَى الْوَحْيَ مِنْ رَبِّ الْعِزَّةِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْزِلُ بِآيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ السَّمَاءِ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
فَمُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَخْصُوصَةِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ.
((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي رَمَضَانَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّنَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا ﷺ عَرَضَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ)).
فَمُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.
((مِنْ عِبَادَاتِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ: الِاعْتِكَافُ))
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ﷺ مُسَافِرًا فِي جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ لِغَزْوٍ، لِالْتِمَاسِ مَرْضَاةِ اللهِ.
فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، دَلَّ عَلَيْهَا كِتَابُ رَبِّنَا، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
وَالْمَقْصِدُ الْأَجَلُّ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِلْعُكُوفِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ؛ لِالْتِمَاسِ الْأَجْرِ بِتَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ مَآسِيهَا وَمَبَاهِرِهَا، بِكُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ وَطَلَبِ الْآخِرَةِ.
فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْلُو بِرَبِّهِ فِي مُعْتَكَفِهِ، كَانَ يُضْرَبُ لَهُ خِبَاءٌ هُنَالِكَ، فَلَا كَلَامَ، لَيْسَ الِاعْتِكَافُ سَمَرًا، وَلَيْسَ الِاعْتِكَافُ مُعْتَلَفًا، إِنَّمَا هُوَ مُعْتَكَفٌ لَا مُعْتَلَفٌ!!
وَإِنَّمَا يَتَقَلَّلُ الْعَبْدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنَ الطَّعَامِ واَلشَّرَابِ جِدًّا إِنِ اسْتَطَاعَ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ دَلَّنَا عَلَى الْوِصَالِ فِيهِ، فَقَالَ: ((مَنْ كَانَ مُوَاصِلًا فَلْيُوَاصِلْ إِلَى السَّحَرِ))؛ يَعْنِي فَلْيَدَعِ الْفُطُورَ جَانِبًا، ثُمَّ فَلْيَكُنْ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ عِنْدَ السَّحَرِ الْأَعْلَى سُحُورَا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَيَقُولُ -لِأَنَّهُ هُوَ كَانَ يَطْوِي الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِي صَائِمًا، لَا يَطْعَمُ شَيْئًا وَلَا يَشْرَبُهُ- وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: ((لَسْتُمْ كَهَيْئَتِي، أَنَا أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي)) ﷺ.
اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ لَنَا هَذِهِ الْعِبَادَةَ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ؛ قُرْبَةً إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَقَرُّبًا.
ثُمَّ خَلْوَةٌ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِمُرَاجَعَةِ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ أَخْطَاءٍ بَلْ مِنْ خَطِيَّاتٍ، مَا كَانَ هُنَالِكَ عَلَى مَدَى الْعَامِ مِنْ تَقْصِيرٍ وَقُصُورٍ، مِنْ كَسَلٍ وَفُتُورٍ؛ بِإِقْبَالٍ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنَثْرٍ لِلرُّوحِ بِجَنَبَاتِهَا عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْ أَصْلِحْنِي لَا يَقْدِرُ عَلَى إِصْلَاحِي إِلَّا أَنْتَ، وَغَيِّرْ مِنْ حَالِي إِلَى ضَرْبِ الصَّلَاحِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِيَدِي إِلَيْهِ إِلَّا أَنْتَ.
يُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ طَالِبًا الْعَفْوَ، وَلَا يَطْلَبُ الْعَفْوَ إِلَّا مُقَصِّرٌ مُذْنِبٌ، فَهُوَ اعْتِرَافٌ مُسَبَّقٌ: ((اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)).
((الِاجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ لِإِدْرَاكِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))
فالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَخُصُّ الْعَشْرَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْوَانِ مِنْ أَلْوَانِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قَالَ فِيهَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِنَّهُ أَنْزَلَ فِيهَا كِتَابَهُ الْمَجِيدَ، وَإِنَّهُ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
وَعَجَّبَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَعَظَّمَ وَفَخَّمَ مِنْ شَأْنِهَا، فَتَسَاءَلَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر: ٢].
وَالسُّؤَالُ هَا هُنَا سُؤَالٌ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، فَعَظَّمَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنْ قَدْرِهَا، وَأَعَلَى مِنْ شَرَفِهَا، وَدَلَّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا لَدَيْهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ؛ إِذْ تَتَنَزَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ مَعَ رُوحِ الْقُدُسِ، ثُمَّ هِيَ سَلَامٌ -بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
لَا يَكُونُ لِعَبْدٍ فِيهَا مِنْ إِقْبَالٍ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا أَحَاطَ بِهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غُفْرَانٌ، وَتَنَزَّلَ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نُورٌ وَبُرْهَانٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ حُرِمَ خَيْرُهَا فَقَدْ حُرِمَ)).
((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وَلَا تَخْتَصُّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِلَيْلَةٍ مُعيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ، بَلْ تَنْتَقِلُ، فَتَكُونُ فِي عَامٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، وَفِي عَامٍ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا...تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُه ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».
قَالَ الْحَافِظُ فِي «الفَتْحِ»: «الْأَرْجَحُ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ»».
فَالْأَرْجَحُ عَلَى حَسَبِ دَلَالَاتِ النُّصُوصِ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ؛ فَلَيْسَتْ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا، تَكُونُ ثَابِتَةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ وَلَكِنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا هُوَ زُبْدَةُ الْعَامِ، وَمَا يَتَمَخَّضُ عَنْهُ الْعَامُ مِنَ الْخَيْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ فِي الْأَوْتَارِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُكْرِمَنَا بِشُهُودِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا فِيهَا مِنَ الْخَالِصِينَ الْمُخْلِصِينَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْإِقْبَالُ عَلَى اللهِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْعَشْرِ))
فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ -عَبْدَ اللهِ- فَجَدِّدْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَوْبَةً؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ لَا تَلْقَى الْعَشْرَ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا، حَتَّى يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ، وَلَا تَدْرِي لَعَلَّهَا آخِرُ عَشْرٍ تَلْقَاهَا فِي رَمَضَانَ فِي عُمُرِ الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَى وَجْهَ رَبِّكَ الْكَرِيمِ.
إِذَنْ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى هَذَا الْمَوْسِمِ تَائِبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُنِيبًا، جَدِّدْ للهِ عَزْمًا، أَقْبِلْ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِقْبَالًا.
خَلِّ الذُّنُوبَ جَانِبًا، وَضَعِ الدُّنْيَا تَحْتَ الْأَقْدَامِ مَوْطِئًا، ثُمَّ أَقْبِلْ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ، فَفَرِّغْ وِجْهَةَ الْقَلْبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاطْرَحْ نَفْسَكَ عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِ سَيِّدِكَ.
قُلْ: يَا سَيِّدِي أَصْلَحْنِي، يَا سَيِّدِي غَيِّرْنِي، يَا سَيِّدِي عَافِنِي وَاعْفُ عَنِّي، وَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا وَصَفَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَخْبَرَ عَنْهُ: ((حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ)).
لَا بُدَّ أَنْ يَضَعَ فِي يَدَيْكَ شَيْئًا، وَعَطَاءُ الْكَرِيمِ عَلَى قَدْرِ كَرَمِهِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ، عَطَاؤُهُ كَلَامٌ، وَعَذَابُهُ كَلَامٌ، وَنَعِيمُهُ كَلَامٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ.
فَسُبْحَانَ رَبِّي، سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ!!
أَقْبِلْ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْعَشْرِ، جَدِّدْ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَزْمًا عَلَى مَتَابٍ صَحِيحٍ بِعَزْمٍ أَكِيدٍ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمَا كَانَ هُنَالِكَ.
((الْإِقْبَالُ عَلَى الْعَشْرِ بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا))
عَبْدَ اللهِ! رُدَّ الْمَظَالِمَ قَبْلَ بَدْءِ الْعَشْرِ حَتَّى يَقْبَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْكَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَيْكَ أَنْ تَتَقَلَّلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ جِدًّا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ مَا يَدْخُلُ بَطْنُهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا!!
وَإِنَّهُ لَا يَحْجِزُ الْعَبْدَ عَنِ الْإِحْسَاسِ بِقِيمَةِ مَا يَسْمَعُ مِنْ كَلَامِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمِنْ مَوَاعِظِ نَبِيِّهِ ﷺ وَهِدَايَتِهِ إِلَّا مَا يَتَرَاكَمُ هُنَالِكَ مِنَ الْأَخْلَاطِ عَلَى تَلَافِيفِ مُخِّهِ، وَمَا يَحْجُبُ وَجْهَ قَلْبِهِ، وَيُغَيِّبُ عَنَّا صَفْحَةَ عَقْلِهِ مَعَ فُؤَادِهِ.
((الْإِقْبَالُ عَلَى الْعَشْرِ بِتَخْلِيَةِ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِهِ))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ دَخَلَ الْعَشْرُ بِغِلٍّ وَحِقْدٍ وَحَسَدٍ، وَعِنْدَهُ مِنَ الضِّغْنِ وَالضَّغِينَةِ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا يُلَوِّثُ نَهْرًا؛ لَا تَظُنَّنَّ أَنَّهُ يَتَحَصَّلُ فِي الْمُنْتَهَى عَلَى شَيْءٍ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ»..
إِنَّمَا الصَّوْمُ مَعْنًى بِأَمَانَةٍ يَنْبَغِي أَنْ تُؤَدَّى؛ هُوَ حِفْظُ الْقَلْبِ عَنْ سُوءِ خَطَرَاتِهِ، وَعَنْ وَارِدِ مُعْوَجِّ إرَادَاتِهِ وَوَارِدَاتِهِ.
هُوَ إِقَامَةٌ لِلْقَلْبِ عَلَى السَّوِيَّةِ بِالْمَنْهَجِ؛ حَتَّى يَكُونَ مُشَاهِدًا لِرَبِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَاهِدًا فَلْيَكُنْ مُرَاقِبًا، كَمَا فِي مَقَامَيِ الْإِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ الْعَدْنَانُ ﷺ، قَالَ ﷺ: ((الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
ثُمَّ ضَبْطٌ لِتِلْكَ الْجَوَارِحِ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بِسَمْعٍ لَا يَسْمَعُ إِلَّا خَيْرًا، وَبِبَصَرٍ لَا يُبْصِرُ إِلَّا خَيْرًا، وَبِيَدٍ لَا تَمْتَدُّ إِلَّا إِلَى مَعْرُوفٍ، وَبِرِجْلٍ لَا تَسْعَى إِلَّا إِلَى بِرٍّ وَخَيْرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُلْقِي الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِ رَبِّهِ.
وَمَنْ أَدَامَ الطَّرْقَ فَحَرِيٌّ أَنْ تُفَتَّحَ لَهُ الْأَبْوَابُ، وَرَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ- حَيِيٌّ كَرِيمٌ سِتِّيرٌ، يَسْتَحْيِي أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدُهُ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبِتَيْنِ.
فَاللهم بَلِّغْنَا الْعَشْرَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى خَيْرِ حَالٍ تُحِبُّهَا وَتَرْضَاهَا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
اللهم بَلِّغْنَا الْعَشْرَ، وَاجْعَلَهُ مُنْسَلِخًا عَنَّا مَغْفُورًا لَنَا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، مُبَارَكًا لَنَا فِي سَعْيِنَا، مَغْفُورًا لَنَا ذَنْبَنَا؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ .