((تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ.. دُرُوسٌ وَعِبَرٌ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((حَدَثُ تَحْويلِ القِبْلَةِ))
فَفِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ؛ نَزَلَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ.
عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ.
فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ؛ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَ الذي مَاتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لم نَدْرِ ما نَقولُ فيهم، فَأَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143])). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ؛ فَقَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ فَصَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا».
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقَال ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَصُرِفَتْ فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ».
((الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ))
*مِنْ دُرُوسِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: بَيَانُ شَرَفِ مَكَّةَ، وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا:
فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ:
*بَيَانٌ لِمَكَانتِهِ، وَتَمَيُّزِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ؛ فَهُوَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَمُنْطَلَقُ الرِّسَالَةِ، وَمَهْوَى الْأَفْئِدَةِ، وَمَقْصِدُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ.
وَهُوَ قِبْلَتُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَدْ شَرَّفَهُ اللهُ -جَلَّ شَأْنُهُ- بِهَذَا الشَّرَفِ الَّذِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
*فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى مَكَّةَ تَأْكِيدٌ لِوَسَطِيَّةِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ جُغْرَافِيًّا فِي سَبَبِ اخْتِيَارِ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ؛ لِتَكُونَ مُنْطَلَقًا لِلرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، هَذِهِ الْجَزِيرَةُ وَسَطُ الْعَالَمِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: 92].
*تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ امْتِحَانٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ:
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ كَانَ للهِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِي تَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ، وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالْمُنَافِقِينَ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة: 142، 143].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مُعْجِزَةٍ، وَتَسْلِيَةٍ، وَتَطْمِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاعْتِرَاضٍ وَجَوَابِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَصِفَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَصِفَةِ الْمُسَلِّمِ لْحُكْمِ اللهِ ودِينِهِ.
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَعْتَرِضُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يُضَيِّعُونَهَا، وَيَبِيعُونَهَا بِأَبْخَسِ ثَمَنٍ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ)).
فَالْمُسْلِمُون قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَقَالُوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران:7] وَهُمُ الَّذِينَ هَدَى اللهُ، وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَالُوا : كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا؛ يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِنَا، وَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهَا الْحَقُّ.
وَأَمَّا الْيَهُودُ؛ فَقَالُوا: خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا؛ لَكَانَ يُصَلِّى إِلَى قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَقَالُوا: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، إِنْ كَانَتِ الْأُولَى حَقًّا؛ فَقَدْ تَرَكَهَا، وَإنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَقَّ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ.
وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السُّفَهَاءِ، وَكَانَت كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ شَأْنُهُ-: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: من الآية143].
وَكَانَتْ مِحْنَةً مِنَ اللهِ امْتَحَنَ بِهَا عِبَادَهُ؛ لِيَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
*مِنْ دُرُوسِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: وَحْدَةُ الْأُمَّةِ:
عباد الله! لَقَدْ كَانَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ دَلَالَتُهُ وَعَلَامَتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّنَا أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، رَبُّهَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ، وَهَدَفُهَا وَاحِدٌ: إِقَامَةُ دِينِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ عَلَى خَلْقِ اللهِ، تَعْبِيدُ الْخَلْقِ لِلْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ، هَذَا هَدَفُهَا، تَعْبُدُ رَبَّهَا وتُعَبِّد الْخَلْقَ لَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهِيَ مُتَمَيِّزَةٌ فِي هَذَا كُلِّهِ.
*وَمِنَ الْحِكَمِ الْعَظِيمَةِ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَرَسُولُهُمْ خَيْرُ الرُّسُلِ ﷺ، وَكِتَابُهُمْ خَيْرُ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لَهَا، وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا؛ فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُمْ خَيْرَ الْقِبَلِ.
*وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ الْجِهَةَ لَا تَكُونُ قِبْلَةً إِلَّا إِذَا وَجَّهَ اللهُ النَّاسَ شَطْرَهَا.
*وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
*وَمِنَ الْحِكَمِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: تَحْقِيقُ رَجَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ إِذْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُوَلِّيَهُ اللهُ شَطْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بُعِثَ هُوَ ﷺ لِتَجْدِيدِ مِلَّتِهِ ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَصِيحَةٌ لِجَمَاعَاتٍ ضَالَّةٍ تُكَفِّرُ أَهْلَ الْقِبْلَةِ!!))
فَعَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ...
مِنَ الْآفَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا: تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ كَاتِّبَاعِ الظَّنِّ، أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي رَدِّ عُدْوَانِهِ إِلَى حَدِّ تَكْفِيرِهِ بِلَا مُسَوِّغٍ، أَوْ جَعْلِ كَبَائرِهِ نَوَاقِضَ لِإِيمَانِهِ.
فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ؛ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ».
وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا- عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ إِلَّا حَارَ -أَيْ: رَجَعَ- عَلَيْهِ».
وَقَالَ ﷺ: «مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ؛ فَهُوَ كَقَتْلِهِ».
عَلَى هَذَا؛ فَيَنْبَغِي لِلنَّاصِحِ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يَتَجَنَّبَ أَعْرَاضَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».
وَإِنَّمَا كَانَ إِثْمُ التَّكْفِيرِ عَائِدًا عَلَى صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُكَفَّرُ أَهْلًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ فِي «النَّصِيحَةِ»: ((أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ ابْنَ سِيرِينَ الدَّيْنُ، وَحُبِسَ بِهِ؛ قَالَ: إِنِّي أَعْرِفُ الذَّنْبَ الَّذِي أَصَابَنِي هَذَا؛ عَيَّرْتُ رَجُلًا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُفْلِسُ».
فَابْتُلِيَ بِالدَّيْنِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَسَرَهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ وَفَاءً وَلَا أَدَاءً، فَحُبِسَ بِسَبَبِهِ؛ وَلِكِنَّهُ لِتَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ وَخَوْفِهِ مِنَ اللهِ؛ يَعْلَمُ قِلَّةَ ذُنُوبِهِ، فَعَلِمَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُصِيبَ بِمَا أُصِيبَ بِهِ.
فَيَقُولُ: ((إِنِّي لَأَعْرِفُ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي: عَيَّرْتُ رَجُلًا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُفْلِسُ)).
هَذَا؛ فَكَيْفَ بِالْوُقُوعِ فِي الْأَعْرَاضِ؟!!
فَكَيْفَ بِفَرْيِهَا فَرْيَ الْأَدِيمِ؟!!
فَكَيْفَ بِالتَّخْوِينِ؟!!
فَكَيْفَ بِالْوُقُوعِ عَلَى النَّاسِ وُقُوعَ الصَّاعِقَةِ؟!!
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فَاشٍ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
كَيْفَ بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ بِجَعْلِهِمْ كُفَّارًا وَمُرْتَدِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟!!
كَلِمَةٌ قَالَهَا صَاحِبُهَا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمْ يَنْسَهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ غَافِلِينَ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يَلُوكُ كَلِمَةَ (يَا كَافِرُ) الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ (يَا مُفْلِسُ)؛ يَلُوكُهَا بِلِسَانِهِ صَبَاحَ مَسَاءَ؟!!
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرًا وَهُوَ مُجَاوِرٌ بِمَكَّةَ، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي فِهْرٍ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُشْرِكًا؟
فَقَالَ: مَعَاذَ الله، وَفَزِعَ لَذَلِكَ.
فَقَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَافِرًا؟
قَالَ: لَا».
وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ, حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ؛ انْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ, وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ».
قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؛ الرَّامِي، أَوِ الْمَرْمِيُّ؟
قَالَ: «بَلِ الرَّامِي».
فَوَا حَسْرَتَاهُ عَلَى مَا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ، وَوَا خَوْفَاهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ تَحَلُّلِ عُرَاهَا، وَتَبَدُّدِ أَسْبَابِ قُوَاهَا، وَتَمَزُّقِهَا، حَتَّى تَصِيرَ نَهْبًا لِلْأُمَمِ، كَمَا قَالَ ﷺ: «تَتَدَاعَى عَلَيْهَا الأُمَمُ، كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»!!
فَوَا خَوْفَاهُ مِنْ وُقُوعِ السُّوءِ عَلَيْهَا، وَمِنْ تَمَزُّقِ أَمْرِهَا، وَتَبَدُّدِ أَحْوَالِهَا، وَتَبَدُّلِ أَسْبَابِهَا؛ حَتَّى تَصِيرَ بِحَيْثُ تَلْقَى عِقَابَ رَبِّهَا!!
تَمَسَّكُوا بِعُرَى دِينِكُمْ.
يَا أَهْلَ الْقِبْلَةِ؛ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اخْتَارَ لَكُمْ أَجَلَّ الْقِبَلِ وَأَعْظَمَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْكُمْ أَعْظَمَ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أَجَلَّ وَأَكْرَمَ الْكُتُبِ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَاكُمْ، فَجَعَلَكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ فَحَقِّقُوا الْخَيْرِيَّةَ فِيكُمْ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ؛ نَجَوْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا؛ فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.
اتَّقُوا اللهَ فِي أُمَّتِكُمْ.. فِي دِينِكُمْ!!
اتَّقُوا اللهَ فِي قِبْلَتِكُمْ!!
لَا تَتَشَرْذَمُوا!!
وَلَا تَتَشَظَّوْا!!
تَمَاسَكُوا وَتَلَاحَمُوا!!
وَكُونُوا جَمِيعًا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ كَمَا وَصَفَكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ أُمَّتَنَا، وَأَنْ يُدِيمَ عَلَى بَلَدِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَى دُوَلِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلِّهَا بِالْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ التَّخَالُفِ، وَالْمُشَاقَّةِ، وَالْمُنَازَعَةِ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.