حدث في رمضان
الجمعة 10 من رمضان 1431هـ ، الموافق 20-8-2010م.
إِنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ
بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ
اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا
إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.
أَمَّا
بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل
عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا
كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عليكمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
[الأحزاب:70].
فَإِنَّ
أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،
وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي
النَّارِ.
أَمَّا
بَعْدُ:
فإنَّ شهرَ
رمضان هو شهرُ الأحداثِ الجِسام والانتصارات العِظام، ومِن أكبرِ الأحداثِ التي
شَهِدَها العالَمُ إنْ لم يكُن أكبرَها: ما كان من بدءِ نزولِ الوحي على رسولِ
الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقد
بدأ ذلك النزول في شهرِ رمضان، وكان النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- قد اعتاد في رمضان من كلِّ عام أنْ يذهب إلى غارِ حِراء بمكةَ؛ من
أجلِ أنْ يتحنثَ اللياليَ ذواتِ العدد، وكان يأخذُ معه -صلى الله
عليه وعلى آله وسلم- ما تيسرَ من زاد.
فإذا قضى –صلى الله
عليه وآله وسلم- وطرَهُ من تلك الخَلوةِ في الغار، ونَفِذَ ما معه من الزاد؛ نزلَ
إلى أهلِهِ بمكة ليتزودَ مرةً أخرى، حتى أَذِنَ اللهُ –تبارك
وتعالى- أنْ يبدأَ نزولُ الوحيِ على رسولِ الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-، وجاء جبريلُ إلى النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم- وهو في غارِ حِراء؛ ونُبِّئَ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- بقولِهِ تعالى: ﴿اقرأ﴾، وكان
أمرًا عظيمًا لم يَشْهَدْهُ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم-، ولا هو بالمعهودِ في حياةِ الناس.
وفوجئ
النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- بما كان،
ونزلَ من الغارِ ترتعدُ فرائصُهُ، وهوَّنت خديجةُ الطاهرةُ البرَّة على الرسولِ –صلى الله
عليه وآله وسلم- ما كان، مُقْسِمَةً باللهِ –جلَّ وعلا-
أنَّ اللهَ لا يُخزيه أبدًا، مُستدلةً على ذلك بما كان من كريمِ الخصالِ وعظيمِ
الفَعال الذي كان النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- عليه من الخُلُقِ الحَسَن، ومما كان يأتي به –صلى الله
عليه وآله وسلم- من المَكرُمات:
«والله لا
يُخزيكَ اللهُ أبدًا»، ثم أَخَذَتْ رسولَ اللهِ –صلى الله
عليه وآله وسلم- إلى ابنِ عمِّها ورقةَ بنِ نَوفل، فقصَّ الرسولُ –صلى الله
عليه وآله وسلم- ما كان.
فقال ورقة –وكان شيخًا
كبيرًا قد عميَ وقرأ في كُتُبِ أهلِ الكتاب، وكان منتظرًا مَقدمَ النبي الخَاتم-،
فلمَّا قصَّ عليه الرسولُ –صلى الله
عليه وآله وسلم- ما كان.
قال: «قُدوسٌ
قدوس، إنه الناموسُ الذي كان ينزلُ على موسى، يَا لَيْتَنِي كنتُ فِيهَا جَذَعًا،
أمَا إني لو كنتُ حيًّا إذ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ؛ لنصرتُكَ نصرًا مؤزَّرًا».
فقال النبيُّ
–صلى الله عليه وآله وسلم-: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟».
فَقَالَ: «ما جاءَ أحدٌ قومَهُ بمِثْلِ ما
أتيتَ به إلَّا عُوديَ».
ثم لم يَنْشِبْ حتى مات، ومضى الوحيُ
متتابعًا.
أنزلَ اللهُ –تبارك وتعالى- القرآنَ في شهرِ رمضان،
وبدأ الوحيُ المعصومُ الذي غيَّرَ اللهُ –تبارك وتعالى- بهَدْيِهِ الدنيا،
وأخرجَ به الناسَ من الظُّلماتِ إلى النور، بدأ في شهر رمضان: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185].
و﴿إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾ [القدر: 1].
فهذانِ موضعان دلَّ فيهما ربُّنا –تبارك وتعالى- على أنَّ «القرآنَ أُنزلَ على النبي –صلى الله عليه وسلم-
بدءاً في شهرِ رمضان» وهذا الحدثُ الفريدُ في تاريخِ البشريةِ كلِّها كان فارقًا
بين عهدين؛ بين ما قبلَ الوحي المُنَزَّلِ على رسولِ الله –صلى الله
عليه وآله وسلم- وما بعدَ ذلك؛ لأن الرسالةَ الخَاتمة؛ لأن رسالة الرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم- هي آخرُ رسالاتِ اللهِ –تبارك
وتعالى- إلى أهلِ الأرض.
والرسولُ –صلى الله
عليه وآله وسلم- أرسلَهُ اللهُ إلى الناسِ كافة في عمومِ الزمانِ والمكانِ، وإلى
الجِنِّ كذلك، فهذا حدَثُ الأحداثِ في تاريخِ البشرية؛ نُبِّئَ خيرُ البرية –صلى الله
عليه وآله وسلم- وبدأ نزولُ الوحي في رمضان.
والنبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- في السنةِ العاشرةِ من البَعثة تُوفيَ عمُّهُ وتُوفيت زوجُهُ
خديجةُ –رضي اللهُ تبارك وتعالى عنها-، وضاقت
مكةُ بالدعوة، وأجمعَ أهلُها على الكُفرِ والشركِ ومعاداة الرسولِ –صلى الله
عليه وآله وسلم-، فخرجَ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- يتلمسُ مجالًا جديدًا لتفتحَهُ الدعوةُ بنورِها، ولتُنشرَ فيه هدايةُ
اللهِ –تبارك وتعالى-، فخرجَ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- إلى الطائف؛ وعُظْمُ أهلِها مِن ثقيف، وعرضَ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- الدعوةَ على ثلاثةٍ من سادتِها؛ وهُم: عبدُ يَالِيلَ بْنُ عمروٍ
وأَخَوَاهُ حبيبٌ ومسعود، فكانوا بين مُكَذِّبٍ وساخر.
قال أحدُهم
للنبي –صلى الله عليه وآله وسلم-: «إنه
يُمزِّقُ أستارَ الكعبة إنْ كان اللهُ –تبارك
وتعالى- قد أرسلَه».
وقال
الآخَرُ: «إنْ كان اللهُ –تبارك
وتعالى- قد أرسلَكَ؛ فأنت أجَلُّ في عيني من أنْ أُكلِّمَك، وإنْ كنتَ تكذبُ على
اللهِ –تبارك وتعالى- فأنت أقلُّ من أنْ
أُكلِّمَك، فلا أُكلِّمُك على كلِّ حال».
وأمَّا
الثالثُ؛ فقال للرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم-: «ألم يجد الله –تبارك
وتعالى- غيرَكَ ليُرسلَه؟!!».
وأَبَى اللهُ
–تبارك وتعالى- وقد سلطوا عليه الغِلمان والسفهاء، فحذفوه
بالحجارةِ حتى دُمِّيَت عَقِبُهُ –صلى الله
عليه وآله وسلم-.
والتجأ إلى
ظِلِّ حائطٍ لعتبةَ وشَيْبَة ولدي ربيعة وقد عَطَفَتْهُمَا عليه الرَّحِم، فأرسلا
عدَّاسًا -وكان غلامًا لهما نصرانيًا- بقِطفٍ من عِنب، وأَبَى اللهُ –تبارك
وتعالى- إلَّا أنْ يقعَ الاعتذارُ للرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم- قبل أن يُبارح، فذهبَ عدَّاسٌ بالعنبِ إلى النبي –صلى الله
عليه وسلم-، فلمَّا أهوى إليه الرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم-؛ قال: «بسم الله».
فقال
عدَّاسٌ: هذا شيءٌ لم أسمعهُ قطُّ من أهلِ هذه الأرض.
فقال له
النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم-: «من أين
أنت يا عدَّاس؟»
فقال: مِن
نِينَوَى.
قال: «من
بلدِ الرجلِ الصالح يونس بن متَّى؟»
فقال: وما يدريك
بيونس؟
قال: «هو
أخي، كان نبيًّا وأنا نبي –صلى الله
عليه وآله وسلم-».
فأهوى
عدَّاسٌ على رأسِهِ ويديه وقدميه مُقَبِّلًا، وعاد إلى سيديه؛ فقالا: ويحكَ يا
عدَّاس، ما هذا الذي صنعتَ مع الرجل؟
قال: إنه ليس على
ظهرِ الأرضِ أحدٌ هو خيرٌ منه –صلى الله
عليه وآله وسلم-.
كذَّبت ثقيف،
وقد ذهب النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الطائفِ
داعيًا؛ فلقيتهُ بكلِّ سوء؛ حتى قالت عائشةُ –رضي الله
عنها- للنبي –صلى الله عليه وسلم-: هل وجدتَ من
قومِك يومًا قطُّ كان أشدَّ عليك من يومِ أُحُد؟
قال: «لقد
لقيتُ من قومِك، وأشدُّ ما كان من ذلك لمَّا ذهبتُ إلى الطائفِ لدعوةِ ثقيفٍ إلى
دينِ اللهِ –تبارك وتعالى-، فكان منهم
ما هو معلوم، قال: فذهبتُ مغمومًا فلم أستفق إلَّا بقرنِ الثعالب، فسمعتُ
حِسًّا في السماء، فإذا هو جبريلُ يقول: يا مُحمد، إنَّ اللهَ –تبارك
وتعالى- قد عَلِمَ ما قال لك قومُك وما صنعوا، وقد أرسل إليك مَلَكَ الجبال، فإنْ
شئتَ أنْ يُطْبِقَ عليهم الأخشبَيْن فَعَلَ.
فقال: لا،
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
ومرَّت
الأيامُ في طريقها، وفَتَحَ اللهُ –تبارك
وتعالى- مكةَ على النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم- والمسلمين، وكان ذلك في شهر رمضان من السنةِ الثامنة من الهجرة،
ودخل النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- مكةَ ظافرًا
ومنتصرًا وعابدًا للهِ-تبارك وتعالى- خاشعًا ومُنيبًا، وطاف بالبيتِ، وكان في
جَوفِ الكعبةِ صنمٌ لقريش من عقيقٍ أحمر، وقد كُسِرت يدُهُ اليُمنى؛ فجعلوا مكانها
يدًا من ذهب، وكان كبيرَ آلهتِهم، وهو هُبَل.
فأمر النبيُّ
–صلى الله عليه وآله وسلم- بالأصنامِ فجُمِعت خارجَ البيت
بعد أن طاف –صلى الله عليه وسلم- ومعه رُمحٌ قصير،
فكان يطعن برُمحِهِ –صلى الله عليه وسلم- في أعينِ
الأصنامِ وفي أوجهِها؛ فتَخِرُّ تحت قدميه –صلى الله
عليه وآله وسلم-، «وكان في رمضان هذا الحَدَثُ
العظيم، وهو تحطيمُ الأصنام، حُطِّمَت الأصنامُ في رمضان»، أمرَ
النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- بها فأُخرجت
خارجَ البيت، ثم أُضرمت فيها النيران، وفي السنةِ نفسِها أرسلَ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- مَن هدمَ مَناة والعُزَّى وسُواعًا.
وفي السنةِ
التاسعة وفدت ثقيفٌ على رسولِ الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-، وكان النبيُّ –صلى الله
عليه وسلم- قد حاصرها قبلُ فأعيت المسلمين؛ لأنها بمُرتفعٍ من الأرض وهي في حصونٍ
شاهقة، وهي في قلاعٍ حصينة، وقُتلَ من أصحابِ النبيِّ –صلى الله
عليه وسلم- بعضهُم؛ فدُفِنَ خارجَ الطائفِ.
وأمَّا عروةُ
بن مسعودٍ الثقفيّ -وكان سيَّدَ ثقيف-؛ فإنه لَحِقَ النبيَّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- مؤمنًا به ومُسلمًا لربِّ العالمين، ثم عاد فعرضَ الإسلامَ على
قومِهِ؛ فأَبَوا ولم يُطيعوه، فوصَّى إذا ما مات أنْ يُدفنَ مع الشهداءِ من أصحاب
مُحمدٍ –صلى الله عليه وآله وسلم-خارجَ ديارِ
قومِهِ، وقد كان.
وراجعت ثقيفٌ
نفسَها، ودَبَّ الإيمانُ إلى قلوبِها، فجاءت إلى النبيِّ –صلى الله عليه
وسلم- بوفدِها في السنةِ التاسعةِ من هجرةِ النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم-، وكانت قد التمست من الرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم- أنْ يُبقي عليها صنمَها ثلاثةَ أعوامٍ كاملات، وصنمُها اللات،
وكانت ثقيفٌ قد صنعت له كعبةً يُحَجُّ إليها وتُزار، وتُقرَّبُ عندها للهِ
القرابين، فأبَى الرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم-، فمازالوا يراجعون النبيَّ –صلى الله
عليه وسلم- سنةً سنة، وهو يأبَى عليهم –صلى الله
عليه وسلم-، فاستمهلوه شهرًا؛ فأَبَى أنْ يمهلَهم أجلًا مُسَمَّى، فسألوه ألَّا
يهدم اللات على أيديهم، فأرسل النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- أبا سفيان والمغيرةَ بن شُعبة لهدمِ اللات بديارِ ثقيفٍ بالطائف،
فلمَّا طلعوا على ثقيفٍ؛ خرجن النساءُ حُسَّرًا، قد حسرنَ عن شعورهن ورؤوسهن وهُن
يندبن ويبكينَ وينعينَ أزواجهن أنْ أسلموا إلهتهن وموطنَ عِزِّهن، وهُن يَلطمنَ
ويندبنَ ويبكين.
وقال
المغيرةُ –رضي الله عنه- لأبي سفيان –رضي الله
عنه-: ألا أُضحككَ من ثقيفٍ؟
قال: بلى.
فأخذ
المغيرةُ –رضي اللهُ عنه- مِعولَهُ، فأقبلَ على
اللات، فضربَ ضربةً واحدةً، ثم خرَّ على وجهِهِ هيئةَ المصعوق، وتعالت صيحةُ
الفرحِ الماجنِ من ثقيف، والنساءُ يصخبن، وجاء إلى المغيرةِ وقد أكبَّ على وجهِهِ
مَن يقول: ويحك، أرأيتَ ما صنعَت بك اللاتُ، ألم نُنذرك؟ هكذا تفعلُ بشانئيها.
فقام
المغيرةُ ضاحكًا من ثقيف، وأخذَ مِعولَهُ فأقبلَ عليها حتى هدمها فسوَّاها بالأرض –رضي اللهُ
تبارك وتعالى عنه-.
حاربت رسولَ الله –صلى
الله عليه وآله وسلم- وآذَتهُ، ثم جاءت منيبةً إلى ربِّها –تبارك
وتعالى- ولا موطن للثأرِ ولا مَحلَّ له، وإنما هي الدعوةُ لدينِ الإسلامِ العظيم.
النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- دخل مكةَ في السنةِ الثامنةِ من الهجرة فاتحًا
وظافرًا –صلى الله عليه وآله وسلم-، وعلَا صوتُ الأذانِ يعلن أنَّ اللهَ أكبر، أنَّ
اللهَ –جلَّ وعلا- أكبرُ من كلِّ شيء، وأكبرُ من كلِّ أحد، وأكبرُ من الأعرافِ
والتقاليد، وأكبرُ من الدنيا وما فيها، يعلنها بلالٌ –رضي
اللهُ تبارك وتعالى عنه- فوق الكعبةِ المُشرفة.
وكان
النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- لمَّا غدرت قريشٌ وخاست بعهدِها فنقضته؛ قد سار
إليها –صلى الله عليه وآله وسلم- في جموعِ المؤمنين المسلمين من صحابتِهِ –رضي
اللهُ عنهم أجمعين-، ودخل مكةَ –صلى الله عليه وآله وسلم- في الكتيبةِ الخضراء وهي
شاكَّةٌ في حديدها لا يبدو منهم سوى أُعينِهم،
وكان أبو سفيان قد خرجَ لينظر، فرأى في ليلةٍ ليلاء النارَ وقد أُوقدت، وقال
قائلُهم: هذه نارُ خُزاعة، جاءت لتثأرَ لقتلاها من قُريش، فقال أبو سفيان: خُزاعةُ
أقلُّ وأذلُّ من أن تكونَ هذه نارَها، ثم تبين بعد أنها نيرانُ الجُندِ من أصحابِ
مُحمد –صلى الله عليه وآله وسلم-.
وأمرَ النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- العباس، وكان قد جاء مُعلنًا إسلامَهُ وهو –رضوان
الله عليه- قد جاء خَلفَهُ بأبي سفيان على بغلةِ النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم-، واشتدَّ عمرُ –رضي الله عنه- في أثرِهِ يقولُ: أبو سفيان عدو الله، لا
نجوتُ إنْ نجا، حتى دخلَ العباسُ على رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-، فقال: لن يُسَارَّ النبيَّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- اليوم أحدٌ دوني، واستوثقَ لأبي سفيان في المواثيق، وأمرَهُ
النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- بأنْ يكونَ معه عند الثَّنيَّة ليشهدَ جُندَ
الحقِّ –جُندَ الرحمن- في سيرِهم لفتحِ مكةَ التي استعصت على دعوةِ الإسلام لتدينَ
بدعوةِ اللهِ ربِّ العالمين وتخضعَ لهدايةِ النبي –صلى الله
عليه وسلم- إياها إلى الصراط
المستقيم.
وكان عمرُ –رضي الله عنه- يراجعُ العباسَ –رضي الله
عنه- حتى قال له العباس: «لو كان من قومِك ما فعلت ما تفعلُ يا عُمَر –يعني
ما يفعلُهُ بإزاءِ أبي سفيان».
فقال عُمر: «على رِسْلِك يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمتَ كان
أحبَّ إليَّ من إسلامِ الخطابِ لو كان أسلم؛ لأن إسلامَك أحبُّ إلى رسول الله من
إسلامِ أبي، فإسلامُك أحبُّ إليَّ من إسلامِ أبي لو كان أسلم».
ووقف العباسُ بأبي سفيان ليشهدَ الجُندَ –جُند
الحقِّ- في مسيرتِهم الظافرة، وفي رَكْبِهم المبارك، وكلما مرَّ قومٌ؛ دلَّهُ
العباسُ عليهم ونسبه إليهم، حتى مرَّ رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم- في المهاجرين والأنصار، فقال أبو سفيان للعباس: «يا عباس؛ لقد
أصبحَ مُلك ابن أخيك اليوم عظيمًا».
فقال: «ويحك يا أبا سفيان؛ إنها النبوة».
يعني: أمَا آن لك أن تفيءَ إلى الحق، وأن تنظرَ إلى الأمورِ بعينِ الرعاية،
وأنْ تجعلَ الأمورَ على وضعِها الذي ينبغي أن تكونَ عليه غيرَ معكوسة؟!
إنها النبوة، وليست بمُلكٍ كما تقول، وشرح الله –تبارك
وتعالى صدرَه، وحَسُنَ إسلامُهُ –رضي الله
تبارك وتعالى عنه-.
«فتحَ اللهُ ربُّ العالمين مكةَ
على النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه في شهر رمضان، وحطِّمَت الأصنام»، ثم أرسلَ النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- في السنة التاسعة مَن هدمَ
اللات، وخَلَت الجزيرةُ من شِركها، وأقفرت الديارُ من أصنامها، وعُبِدَ اللهُ ربِّ
العالمين وحدَهُ لا شريك له.
في
السنةِ الثانيةِ من هجرة الرسولِ –صلى الله
عليه وآله وسلم- نَمَا إلى عِلمِ النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم- أنَّ أبا سفيان في عيرٍ عظيمة وقافلةٍ كبيرة ومالٍ وفير ورزقٍ
غزير قد خرج إلى الشام، فخرج النبيُّ –صلى الله
عليه وسلم- أو أرسل، فلم يُدرك، ثم نما إلى عِلمِهِ بعدُ أنَّ أبا سفيان قافلٌ
بالقافلةِ، فأراد الرسولُ –صلى الله عليه وسلم- أنْ يستطلعَ الأمر، وأرسلَ رجلين
على بعيرين مما يُعلفُ بعلائفِ يثرب؛ فخرجا، وأمَّا أبو سفيان؛ فقد كان أريبًا
حصيفًا، فذهب إلى مجديٍّ فسأله: هل رأيتَ ما يُريب؟
قال: لا، غيرَ أني رأيتُ رجلين قد أناخا بعيريهما في هذا
الموضع.
فذهبَ
أبو سفيان، ففتَّ البَعْرَ؛ فوجدَ النوى –نوى
يثرب-، فقال: هذه والله علائفُ يثرب، وإنَّ مُحمدًا لنا لبالمرصاد، وأرسل إلى
قُريش أن أدركوا عيرَكم، وخالفَ هو إلى ساحلِ البحرِ فنجَى، وندبَ الرسولُ –صلى
الله عليه وآله وسلم- أصحابَه للخروجِ للعيرِ لا للنفير، فخرجَ معه ثلاثُ مائة
وبضعة عشر رجلًا من الصحابةِ –رضي الله عنهم- جُلُّهم من الأنصار، ولم يعزم عليهم في
الخروج، وما ظنَّ الذين تخلفوا أنَّ النبيَّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- يجدُ قتالًا، ولو ظنوا ذلك ما تخلفَ عنه واحد، ولفَدَوه بأرواحِهم
–رضوان الله عليهم، وصلى الله وسلم وبارك عليه-
.
خرج النبيُّ –صلى الله عليه وآله وسلم- ليتعرضَ للعير، ليردَّ بعضَ ما
سُلِبَ مما نهبت قريش واستولت عليه، لأنها لم تُبقِ لأحدٍ من المسلمين شيئًا، حتى
قال الرسول–صلى الله عليه وآله وسلم- لمَّا نزلَ مكةَ فاتحًا؛ فلم يجد مكانًا ينزلُ
فيه، وقد قيل له: فلتنزل في دارك ودار أبيك.
فقال –صلى الله عليه وسلم-: «وهل أبقى لنا عقيلٌ من دار؟!».
فلم يكن له بمكةَ دار –صلى الله وسلم وبارك عليه-، فنزلَ عند أُمِّ هانئ.
النبيُّ –صلى
الله عليه وآله وسلم- إنما خرجَ ليردَّ بعضَ ما سُلِب من ثروات قريش التي
نَهَبت من المسلمين، وما كان في هذا من عاب، وما على المسلمين في فِعْلِهِ من
تثريب، وإنما هو ردٌّ لبعضِ الحقِّ السليب، وأَبَى اللهُ –تبارك
وتعالى- إلَّا أن يلقى النفيرَ وألَّا يلقى العِير ومعه هذه الثُّلَّةُ المباركةُ
من أصحابِهِ –رضوان الله عليهم أجمعين-.
نزلَ النبيُّ
–صلى الله عليه وآله وسلم- بدرًا، وأمَّا قُريشٌ؛ فإنها
أعدت عُدَّتَها وجاءت للقاء رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-، فأدركهم البشير؛ أرسله أبو سفيان: أنَّ اللهَ قد نَجَّى عيرَكم
وحفظَ عليكم أموالَكم، فلا تخرجوا للقاء مُحمدٍ وحزبه –صلى الله
عليه وآله وسلم-.
فقال فرعون
هذه الأمة أبو جهل: «والله لا
نعود حتى ننزل بدرًا، حتى نوقدَ النيران وننحرَ الجُزُر، وتعزفَ علينا القِيان،
وحتى تسمعَ بنا العرب، فما يزالون في هيبةٍ منَّا أبدًا».
وأَبَى اللهُ
–تبارك وتعالى- إلَّا أنْ تسمعَ بهم العرب؛ بل أَبَى
اللهُ إلَّا أنْ تسمعَ بهم الدنيا إلى يومِ يُبعثون، وبدلَ أن ينحروا الجُزُر؛
نُحِروا هُم، وبدلَ أنْ تعزفَ عليهم القِيان؛ ناحت عليهم النوائح، وبدلَ أن يوقدوا
النيران؛ أُوقدت لهم النيران: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ
وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].
أَبَوا أنْ
يعودوا، وعَلِمَ رسولُ اللهِ –صلى الله
عليه وآله وسلم- بما كان، واستشار أصحابَه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، وهو يقول: «ألا
تشيرون عليَّ أيها الناس؟»
فقام سعدُ بن
معاذٍ –رضي الله عنه-؛ فقال: «كأنك
تعنينا يا رسول الله»؛ لأن النبيَّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- في بيعة العقبة لم يشترط عليهم حمايتَهُ خارجَ المدينة، فأرادَ أن يستوثق، وكان عبءُ
المعركةِ إنْ وقعت سيكونُ على كواهلِ الأنصارِ لكثرةِ العدد، ثم هُم لم يُعطوا
العهدَ والميثاقَ للنبي –صلى الله
عليه وسلم- في البيعة بحمايته خارج مدينته –صلى الله
عليه وآله وسلم-، فأراد أن يستوثق.
فقام سعدٌ
فقال: «كأنك تعنينا يا رسول الله».
فقال النبيُّ
–صلى الله عليه وسلم-: «أجل».
فقال سعدٌ –رضي الله
عنه-: «يا رسول الله؛ والله لو استعرضت بنا هذا البحرَ
فخُضتهُ؛ لخُضناهُ خَلفك، امضِ لِمَا تُحب يا رسول الله، فوالله إنَّا لصُدُقٌ عند
اللقاء، ووالله إنَّا لشجعان في الحروب....إلى آخر ما قال»، فدعا له رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-.
«ووقع ذلك في شهرِ رمضان».
ودائمًا
تكونُ الأحداثُ على هذا النحو، فسادٌ يستشري في العالَمِ، ومفسدون يتسلطون على
أقواتِ الناسِ وأرزاقِهم وعلى مستقبلِهم وحياتِهم، يُبدِّلون وجهَ الحياةِ
المُشرق، ويستعبدون الخَلْقَ من دونِ اللهِ -تبارك وتعالى-، ويركبون أكتافَ الناس
بغيرِ موجبٍ ولا حق، ثم تأتي إرادةُ التغيير لا إرادة التدمير: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
وكانت
فرقانًا في تاريخِ العالَمِ كلِّهِ، فُرقانًا بين عهدٍ مضى وعهدٍ بقي، لا يعلمُ
إلا الله متى ينقضي، كانت فرقانًا كما وصفَها اللهُ ربُّ العالمين ووصف يومها، في
السابعَ عشر من شهر رمضان في السنةِ الثانيةِ من هجرة النبي –صلى الله
عليه وآله وسلم- ودارت رحى الحربِ الضَّروس بين رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم- ومعه ثلاثُ مائة وبضعة عشر رَجُلًا مِن أصحابِهِ، وما معهم إلا
القليلُ من الظَّهر، فكان الثلاثةُ والأكثرُ يتعاقبون على البعيرِ الواحد مرحلةً
ومرحلةً ومرحلة، ثم فليمض البعيرُ هانئًا مرحلة رحمةً وشفقة وعدلًا لا جَورَ فيه
ولا ظُلم يلحقُهُ، وبهِ ينصرُ اللهُ ربُّ العالمين الناس.
دارت رحى
المعركة بين هذه الثُّلةِ المباركة من أصحابِ رسولِ اللهِ –صلى الله
عليه وآله وسلم- وألفٍ من المشركين، خرجوا للقاءِ، وخرجوا للنزالِ، وأمَّا أصحابُ
رسولِ الله –صلى الله عليه وآله وسلم-؛ فإنما
خرجوا للعيرِ ولم يخرجوا للنفير وما اتخذوا للأمرِ عُدَّة، وما أعدُّوا له
أُهْبَة، وإنما خرجوا خروجًا يسيرًا لم يعزم فيه رسولُ الله عليهم أنْ يخرجوا، ولا
أنْ يكونوا على استعدادٍ لحرب، ومع ذلك نَصَرَهم اللهُ ربُّ العالمين؛ لأن اللهَ –تبارك
وتعالى- هو ناصرٌ حِزبَهُ، وهو الذي يُعْلِي كلمتَهُ، وهو الذي يرفعُ رايةَ
الحقِّ، وهو الذي يُعِزُّ مَن نصره؛ لأن اللهَ –تبارك
وتعالى- ناصرٌ مَن نصرَه، والرسول –صلى الله
عليه وآله وسلم- يضرعُ إلى ربِّهِ ويتوجهُ مُبتهلًا إلى اللهِ ربِّ العالمين
بالدعاء: «اللهم إنْ تَهلِك هذه العِصابة –يعني
أصحابَهُ-؛ فلن تُعبدَ في الأرض».
والكفار
يستفتحون: «اللهم على أقطعِنا للرَّحِمِ، وعلى آتانا بما لا نعرف،
وعلى أبعدِنا من الحقِّ دينًا»، يستفتحُ بذلك المشركون الكافرون، ويستفتحُ به
فرعونُ هذه الأمة، ولك أنْ تعجبَ العجبَ كلَّهُ من هذا الذي يقول هذا الرجل!!
فمَن الذي
قطعَ الرَّحم؛ أهو أم رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-؟!
ومَن الذي هو
أهدى سبيلًا وأقومُ قِيلًا؛ أهو أم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؟!
ومَن هو الذي
هو أسَدُّ دِعايةً والذي هو أقومُ سبيلًا؛ أهو أم رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-؟!
نَصرَ الله
ربُّ العالمين جُندَه، وأعزَّ حزبَهُ، و«نصرَ
اللهُ ربُّ العالمين المسلمين في بدرٍ» فذبحوهم ذبحًا، وأسروا منهم
سبعين، وعادوا ظافرينَ مُظفَّرين، وعادت قريشٌ تندِبُها نوادبُها وتنوحُ عليها
نوائحُها، وتبكي دمًا، وأعزّ اللهُ ربُّ العالمين نبيَّهُ –صلى الله
عليه وسلم- والمسلمين معه.
وقع ذلك
كلُّهُ في شهرِ رمضان.
و«في رمضانَ من السنةِ الخامسةِ من الهجرة كان النبيُّ –صلى
الله عليه وآله وسلم- والصحابة يَحفرونَ الخندقَ»؛ استعدادًا
لِمَا يكونُ من قدومِ قريشٍ وأحلافِها غازيةً مدينةَ رسول الله –صلى الله
عليه وآله وسلم-، وأمَّا غزوةُ الخندقِ نفسُها؛ فقد وقعت في شوال من السنةِ
عينِها.
وأمَّا ما
كان من الاستعدادِ بحفرِ الخندقِ، والرسولُ يحملُ في ذلك الترابَ على عاتقِهِ
بنفسِهِ، وهو أشرفُ خَلْقِ الله، وأحبُّ الخَلْقِ إلى اللهِ –صلى الله
عليه وآله وسلم- حياطةً لدينِهِ ونُصرةً لربِّهِ –تبارك
وتعالى-؛ فنصرَهُ اللهُ ربُّ العالمين:
«وَالله
لَوْلا أنتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا
تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ
سَكِـــــينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا».
والنبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- بينهم يحفزُهم إلى الحقِّ وعملِ الخير؛ حتى ردَّ اللهُ –تبارك
وتعالى- كيدَ المشركين في نحورِهم، والله غالبٌ على أمرِه ولكنَّ أكثرَ الناس لا
يعلمون
في شهر رمضان
وقعت أحداثٌ جِسام.
في «السنةِ الحاديةِ والتسعين؛ فتحَ اللهُ ربُّ العالمين
الأندلس على المسلمين، وكان طارقٌ –رحمه
الله- مُرسلًا من قِبَلِ موسى بن نُصَير، ففتحَ اللهُ ربُّ العالمين فَتْحَهُ».
وكانت خطةُ
المسلمين أنْ يكونَ البحرُ الأبيضُ المتوسط بُحيرةً إسلامية، فذهبوا غازين إلى
قُبرص، ثم كانوا مريدين على نيةِ الإصعاد؛ من أجلِ أنْ يكونوا ذاهبين في غربِ
أوربا، ثم فليلقَهُم مَن يأتي مُشَرِّقًا من قِبَلِ الأندلس بعد غزو فرنسا، وكانوا
على مشارفِ جنوبِها؛ إلَّا أنَّ لم يشأ لها الهداية، فظلَّت سادرةً في كُفرِها وفي
عمايَتِها وفي ضلالِها وشِركِها، ولم يأذن لها ربُّنا –تبارك
وتعالى- بخير.
فتحَ اللهُ
ربُّ العالمين على المسلمين أفريقيةَ في شمالِها جميعِهِ؛ حتى جازوا العُدوةَ إلى
بلادِ الأندلس، ففتحوها بكلمةِ التوحيدِ –كلمةِ لا إله
إلَّا الله-.
في شهرِ
رمضان وقعت الأحداثُ الجِسام.
في «شهرِ رمضان في سنةِ اثنتين وسبعمائة من هجرةِ الرسول –صلى
الله عليه وآله وسلم- كانت «موقعةُ مَرْجِ
الصُّفَّر» أو «موقعة شَقْحَب» التي كان فيها الناصرُ محمد بن قلاوون والخليفةُ
المستكفي بالله، وكان معهما شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه
اللهُ تعالى رحمةً واسعة-»، فبدَّدوا جموعَ التتار، ومزَّقوهم
كلَّ مُمَزَّق، ونَصَرَ اللهُ ربُّ العالمين المسلمين نصرًا عزيزًا مؤزَّرًا.
وقبلَ ذلك
فتحَ اللهُ ربُّ العالمين على المسلمين فتحًا عظيمًا، في «عينِ جالوت» نصرَ اللهُ –تبارك
وتعالى- المسلمين على التتار؛ فانحسرت موجةُ الهمجيةِ والفوضى على صخرةِ الإسلامِ
العظيمة بجُندِ الشامِ وجُندِ مِصر، فبدَّدوهم كلَّ مُبَدَّد، وشتَّتوهم كلَّ
مُشَتَّت، ومزَّقوهم كلَّ مُمَزَّق، ومَن نجا من القتلِ أُسِر، ثم كان بعدُ عبدًا
ذليلًا، فحسَرَ اللهُ –تبارك
وتعالى- تلك الموجة، وكلُّ ذلك كان واقعًا في رمضان تحت رايةِ الإسلام.
لم
يُنصرُ المسلمون أبدًا إلَّا تحتَ رايةِ الإسلامِ العظيم، ولم يكُن المعنى في هذا
كلِّهِ: أنه إذا تسلطت طائفةٌ من المُفسدين؛ مِن المشركينَ الضالين على مقاليدِ
الأمرِ في الأمة؛ أنْ تصيرَ الأمةُ كلُّها مِن المفسدين المجرمينَ الضالين، بل
كانت الأمةُ تحافظُ على نقائِها، ثم يذهبُ هذا الخَبَثُ بعيدًا إذا ما عَلَى
صَوْتُ الإسلام، وإذا ما رُفِعت رايةُ التوحيد، وكذلك الشأنُ دائمًا أبدًا.
حتى في آخرِ
ما شَهِدَ المسلمون في هذا العصر «في سنةِ ثلاثٍ وتسعين وثلاثمائةٍ وألف من هجرة رسول الله –صلى
الله عليه وآله وسلم- في مثل هذا اليوم من شهر رمضان في العاشرِ منه، في هذا الشهر
وفي ذلك اليوم «10 من رمضان 1393»، وهو موافقٌ للسادسِ من الشهرِ العاشرِ مِن سنةِ
ثلاثٍ وسبعينَ وتسعمائة وألف من التاريخِ النصرانيِّ «6/10/1973»، لمَّا
رُفِعَت رايةُ التوحيد وعَلَت كلمةُ التكبير؛ نَصَرَ اللهُ ربُّ العالمين
المسلمين.
ولم يُنصروا
إلَّا بالإسلامِ العظيم، ولن يُنصرَ المسلمون في أيِّ بُقعةٍ من بِقاعِ الأرض، ولن
تكونَ لهم شَوْكَة، ولن تُسمعَ لهم كَلِمَة، ولن تُرفعَ لهم راية إلَّا بالإسلامِ
العظيم، وبالتوحيدِ الكريم.
نسألُ اللهَ
أنْ يردَّنا والأمةَ كلَّها إلى الحقِّ ردًّا جميلًا، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
وصلى الله
وسلم على نبينا مُحمدٍ وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعين.
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ
أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَليه وآلهِ وسَلَّم- صَلَاةً
وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَواليين إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فقد صام داودُ بن أبي هند أربعين سنة، لم يعلم بذلك
أهلُهُ ولا أحد، كان يأخذُ غداءَهُ ويخرجُ من بيتِهِ قاصدًا السوق، وكان خزَّازًا،
فيتصدقُ بالطعامِ على المساكين، ثم يذهبُ إلى السوق، فيظنُّ أهلُ السوقِ أنه قد
أكلَ في بيتِهِ، ويظنُّ أهلُ بيتِهِ أنه قد أكلَ في السوق، حتى إذا ما كان
بالعَشِّيِّ؛ رجعَ فأفطرَ في بيتِهِ؛ لم يعلم بصيامِهِ أهلُ بيتِهِ ولا أحدٌ من
الناس –رحمةُ اللهِ عليه-.
قال أميرُ المؤمنين في الحديثِ سُفيانُ الثوري –رحمه
الله تعالى-: «البكاءُ
على عشرةِ أجزاء، فتسعةُ أجزاءٍ لغيرِ الله، وجزءٌ واحدٌ للهِ ربِّ العالمين
خالصًا، فإذا جاء الجزءُ الذي هو لله كلَّ سنةٍ مرة؛ فوالله إنه لكثير».
وعن عونِ بن عِمارة: قال سمعتُ هشامًا الدستوائي –رحمه
اللهُ رحمةً واسعة- يقول:
«واللهِ لا أستطيع أنْ أقول أنِّي ذهبتُ يومًا أطلبُ الحديثَ –حديثِ
رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم- لله».
يتهم نيَّتَهُ، وهو من كبارِ المُحَدِّثين، ومن جبالِهم
الشامخة وأطوادِهم الراسخة –رحمةُ اللهِ عليه-، يقول: والله لا أستطيع –مُقسِمًا
من غير اضطرارٍ ومن غيرِ حِنْث- يقول: «واللهِ لا أستطيع أنْ أقول أنِّي ذهبتُ
يومًا أطلبُ الحديثَ –حديثَ رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم- لله»، يتهمُ
نيَّتَهُ.
قال الإمامُ الذهبيُّ –رحمهُ
اللهُ- مُعَلِّقًا:
«وأنا والله»، أي: لا أستطيعُ أنْ أقول أني طلبتُ العلمَ يومًا لله؛ لأنه لا
يستطيعُ أنْ يجزمَ بشيءٍ من ذلك، لا يعلمُ الغيبَ المطويَّ في الضمائرِ المكنونَ
في السرائرِ أحدٌ إلَّا الله، فالدوافعُ تشتبه، والمسالكُ تختلط، والمرءُ لا
يستطيعُ أن يضعَ يدَهُ على حقيقةِ نيَّتِهِ، والرسول –صلى
الله عليه وآله وسلم- قد عَلَّمَ الأمة أنْ تُخلصَ للهِ –تباركَ
وتعالى- وأن تجتنبَ الرياء.
«في مِثْلِ هذا اليوم من
سنةِ ثلاثٍ وتسعين وثلاثمائةٍ وألف من هجرة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- «10 من رمضان
1393هـ» ردّ اللهُ –تبارك
وتعالى- على المسلمين عامة وعلى المصريين وجُندِ الشامِ خاصة بعضَ الكرامةِ
السليب، وأعزَّ اللهُ –تبارك وتعالى- دينَه، ونصرَ جُندَهُ لمَّا فاءَ الناسُ
إلى الحقِّ ورجعوا إليه، وكان الذين على الأمرِ قبلُ قد عاثوا في الأرضِ فسادًا،
وتحولت سهامُهم إلى نحورِ أبناء شعبِهم، فساموهم الخَسْف، وأذلُّوهم، وشَرَّدوهم
كلَّ مُشَرَّد، وأنزلوا بهم سوءَ العذاب، أَبَى اللهُ –تبارك
وتعالى- إلَّا أنْ يُريَهم بعضَ الذي وعدَهم، وأوعدَهم به في هذه الحياة.
أَبَى اللهُ –تبارك وتعالى-
إلَّا أنْ يشربوا كأسًا مُتْرَعة من الذُّلِّ في الحياة، واللهُ –تبارك
وتعالى- على كلِّ شيءٍ قدير.
وكانوا لسوءِ التدبير قد صاحوا بكلِّ فَجٍّ أنهم سوف
يُلقونَ اليهودَ في البحر، وأنها شِرذمةٌ قليلةٌ مُستضعفة لا يُؤبَهُ لها، وأنها
لا تثبُتُ على النفخِ لا على الجلادِ والحرب، ثم دُفِعَ بالجيشِ المصريِّ وجُندُهُ
من خيرِ أجنادِ الأرض؛ ما هُزِموا مِن خَوَرٍ ولا ضعف، وإنما يُؤتَون بالغدرِ
ويَؤخَذون بالخيانة، كانوا قد دفعوا بالجيشِ الباسلِ إلى الصحراءِ المكشوفة، كأنما
يُرهبون عدوَّهم، وكأنما يستدرُّونَ العطفَ من أممِ الأرض؛ مخافةَ أنْ يحيقَ
بالشِرذمةِ الطاغيةِ من يهود سوءُ العذاب، هكذا قدَّروا؛ لأن الغوايةَ كانت سادرة،
ولأن تحويلَ المجتمع من دينِهِ ومِن هُويَّتِهِ الأصيلة كان مُرَتَّبًا
ومُنَظَّمًا –ألا ساء ما كانوا يعملون-.
وأَبَى اللهُ إلَّا أنْ يحفظَ على أرضِ الكِنانةِ
دينَها، وعلى أبنائِهم إسلامَهم، وأنْ يُعِزَّهم اللهُ –تبارك
وتعالى- بدينِ الإسلامِ العظيم، وتحطمت الأسطورةُ أسطورةُ الشعب الذي يدُهُ طولَى،
فمهما أرادَ أنْ يصلَ بيدِهِ إليه وصل.
أرادَ اللهُ –تبارك وتعالى-
أنْ يُحَطِّمَ أسطورةَ الجيشِ الذي لا يُقهر، فسِيمَ العذاب، وسار كالدجاج لا يجدُ
مأوى وقد عدَت عليه السِّباع، ونصرَ اللهُ ربُّ العالمين المصريينَ وجُندَ الشام نصرًا
مُؤزَّرًا، وحاقَ بيهود ما كانوا يُوعَدون، ولها أخواتٌ إذا عادَ المسلمون إلى
دينِ الحق، وفاءوا إلى طريقِ الرُّشد، ورفعوا راية التوحيد «لا إله إلَّا الله
مُحمدٌ رسول الله».
وكذبَ مَن قال: «إنَّ يهودَ لم تكُن تخشى المسلمين بعد النَّكبةِ»،
فهذا وَهْمُ واهمٍ وخيالُ عابث، إنما كانوا منهم على الرَّهبة، والدليلُ: ما كان،
فهذا مانعٌ مائيٌّ عظيم؛ سُلِّطَت عليه أنابيبُ النَّابَالْمْ، حتى إذا ما بدأ
المصريون في العبورِ لذلك المانعِ المائيِّ؛ اشتعلت القناة نارًا، فأعدُّوا ذلك،
ثم أعدُّوا السَّدَّ التُّرابيَّ، واجتيازُهُ لا يكونُ إلَّا بشِبْهِ معجزة تأتي
من قِبَلِ مَن هو على كلِّ شيءٍ قدير إلى ما وراء ذلك من «خط بارليف». ووضعوا
العسكريةَ على المحَكِّ لينظرَ العالَمُ كلُّهُ إلى هذا الجُند المسلمِ من أرضِ
الكنانة، وقد صَدَّ قَبلُ أمواجَ الهمجيةِ التترية، وأمواجَ الفوضى الصليبية،
وكلَّ غازٍ أرادَ أنْ يعبُرَ إلى ديارِ الإسلامِ؛ تحطَّمَ على صخرةِ هذه الأُمَّةِ
المباركةِ، وبسواعِدِ أبنائِها، تُحَرِّكُها عَزَمَاتُ إيمانِها بقلوبِها، بأنه لا
إله إلا الله، وأننا إنما نَدُورُ على أحدِ أَمْرَيْنِ، وهُمَا حُسْنَيَانِ مَعًا:
إِمَّا النصرُ وإمَّا الشهادةُ، فَجَازُوا تلك الموانِعَ كُلَّها، ولم يَقِفْ في
وَجْهِهم شيءٌ، ولا صَدَّهُمْ عن بُغْيَتِهِمْ.
في مِثْلِ هذا اليومِ نَصَرَ اللهُ رَبُّ العالمينَ
جُنْدَه، وصار إخوانُ القِرَدَةِ والخنازيرِ كَعَجُوزٍ تَلْطِمُ مُوَلْوِلَةً،
تَسْتَجْدِي أُمَمَ الكفرِ العَتادَ والسلاحَ والمئونةَ، وهؤلاء يَرْفَعُونَ
شِعَارًا واحدًا: «اللهُ أكبر».
اللهُ أكبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ.
اللهُ أكبرُ مِنْ مَوَانعِ الماءِ وموانِعِ التُّرَابِ
وسَوَاتِرِهَا.
اللهُ أكبرُ مِنْ كُلِّ خَطِّ دفاعٍ.
اللهُ أكبرُ مِنَ الطائراتِ والدَّبَّابَاتِ والمدَافِعِ
والصَّوَارِيخ.
اللهُ أكبرُ مِنْ كُلِّ عادٍ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.
اللهُ أكبرُ مِنْ أُمَمِ الكفرِ كلِّها، فكان النصرُ،
وهو درسٌ مطروحٌ كان في مِثْلِ هذا اليومِ، وما زال درسًا مَطْروحًا إلى اليوم،
وسَيَظَلّ.
عندما تَحِيدُ الأُمَّةُ عن منهاجِ النبوة، عندما
يَصِيرُ المجتمعُ مُسْتَنْقَعًا كبيرًا تَرْتَعُ فيه نَوَازِعُ الرَّذِيلَةِ،
وتَنْطَلِقُ فيه الشهواتُ مِنْ عُقُلِهَا، ولا تجد فيه مكانًا تَحْمِي فيه سمعَك
وبصرَك، ولا تحمي فيه من الفتنِ نفسَك؛ حتى المساجد أَفْسَدُوها، وعَدَوْا عليها
فخَرَّبُوها، وجعلوا فيها مِنْ أهلِ الجهلِ مَنْ جَهَلُوا، ومِنْ أهلِ الحزبيةِ
مَنْ أَفْسَدُوا على الناسِ دينَهم، فصارت كمساجِدِ ضِرَار، لا يَجِدُ المرءُ فيها
بُغْيَتَهُ، ولا يَلْقَى فيها سَكِينَتَهُ، ولا تَسْتَقِرُّ فيها رُوحُهُ على قَرَارٍ!!
وَقَعَ ما وَقَعَ؛ مِنْ تَغْيِيبٍ لِدينِ الإسلامِ
العظيم، ثم أراد اللهُ –تبارك وتعالى- بالنَّكْبَةِ أنْ يَخْرُجَ الناسُ مِنْ
نداءِ باطلٍ بقولِ قائلِهم: «أَمْجَادْ يَا عَرَبْ أَمْجَادْ»!! إلى قول: «اللهُ
أكبر»؛ فبِهَا نُنْصَرُ إذا ما حققناها في النفوسِ والضمائِرِ والقلوبِ، وكانت
واقعًا يُعَاشُ في الحياةِ.
كانت موقعةً مِنَ المواقِعِ الظَّافِرَةِ، تُعِيدُ إلى
العالَمِ نَسَائِمَ الماضي البعيد، نَسَائِمَ يومِ بدر، نسائِمَ يومِ عينِ جالوت،
تُعِيدُ إلى الأمةِ نَسَائِمَ تُرَطِّبُ القلوبَ وتَحْنُو على الأَفْئِدَةِ؛
لِيَعْلَمَ
الناسُ أنَّ اللهَ على كل شيء قدير، وأنه لا يُعْجِزُه أحدٌ ولا يُعْجِزُه شيءٌ،
ولَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلَّابِ.
نَصَرَ اللهُ ربُّ العالمينَ جُنْدَه، وكانت الأمةُ –وكنا
حاضِرِيها- على قلبِ رَجُلٍ واحدٍ، وتَعْجَبُ كيف زالت الأحقادُ في لحظةٍ
واحدةٍ؟!!
كيف انْمَحَقَت الأحسادُ في ثانِيَةٍ أو أَقَلَّ منها؟!!
كيف صار الناسُ قَلْبًا واحدًا نابضًا يَضْرَعُ إلى
اللهِ بِأَكُفِّ ضَرَاعَةٍ نَقِيَّةٍ تَقِيَّةٍ، لا سارقةٍ، ولا غاصبةٍ، ولا
مُرْتَشِيَةٍ، ولا مُلَوَّثَةٍ بدماءِ تعذيبِ البَشَرِ، وإنما هي خاضعةٌ للهِ
نَقِيَّةٌ، وهي ذليلةٌ للهِ تَقِيَّةٌ؟!!
كيف تَحَوَّلَ المجتمعُ كُلُّه في لحظةٍ واحدةٍ إلى قلبٍ
تَقِيٍّ نابِضٍ بالصدقِ ورُوحٍ مُوَحِّدَةٍ ناطقةٍ بالحق؟!!
كيف تَكَاتَفَ الناسُ؟!!
كيف تَآزَرَ الناسُ؟!!
كيف تَكَاتَفَ الناسُ وتَآزَرُوا وتَعَاوَنُوا
وتَعَاضَدُوا؟!!
كيف فَزِعوا جميعًا إلى اللهِ لِيَنْصُرَ جُنْدَه، وكان
الجُنْدُ بينَ النَّكْبَةِ والنصرِ، قد رُبُّوا على معرفةِ الحقِّ، وسارت فيهم
دعاةٌ يَدْعُونَهُمْ إلى دينِ الهدى وإلى دينِ الحقِّ الذي جاء به رسولُ الله –صلى
الله عليه وسلم-، فعَلَّمُوهم مَعَانِيَ الجهادِ، وعَرَفُوا معنى الشهادةِ وحلاوةَ
الاستشهاد، ولم يكونوا ممن يقاتِلُ عن أرضٍ بلا هُوِيَّةٍ، وإنما هي أرضٌ
إسلاميةٌ، إذا مات مُدَافِع عنها فقد مات شهيدًا، فهي أرضُ الإسلامِ.
هي هذه الكِنَانَةُ...كنانةُ اللهِ في أرضِه.
الصَّخْرَةُ التي تَتَحَطَّمُ عليها أمواجُ الغُزَاةِ
بفضلِ الله، وهم مِنْ أَرَقِّ الناسِ قلوبًا، ومِنْ أَخْشَعِهم نفوسًا، ومِنْ
أَتْقَاهُمْ أفئدةً إذا عَرَفُوا الحقَّ ولَزِمُوه، وقد وَصَّى بهم رسولُ الله –صلى
الله عليه وآله وسلم-، ولم يكنْ ذلك خاصًّا بِقُطْرٍ ولا شَعْبٍ، وإنما هو
لِعُمومِ الأمةِ بجميعِ أجناسها، وبكل الناطقين بِلُغَتِهِمْ يَشْهَدُونَ آخِرَ
أنه «لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله»، وكان نَصْرًا عَزِيزًا.
هو درسٌ يُسْتَلْهَمُ.
وحَادَ مَنْ حَادَ بَعْدُ؛ حتى حُرِقَ الحَرَمُ
الإبراهيميُّ، واعْتُدِيَ على المُصَلِّينَ فيه في شهرِ رمضان!!
فإنْ شئتَ أنْ تَجْعَلَ سِجِلَّيْنِ؛ واحدًا للانتصاراتِ
في رمضان، وآخَرَ للانْكِسَاراتِ في رمضان؛ فاصْنَعْ؛ ولكنْ ما هو العاملُ
المشْتَرَكُ بينَ هذين الأَمْرَيْنِ؟
هو: إذا تَمَسَّكْتُمْ بِدِينِ الله نُصِرْتُم، وإذا
خَفَّتْ قَبْضَتُكُم على دينِ ربِّكم؛ كُسِرْتُمْ وهُزِمْتُم، ولن يعودَ إليكم
مجدُكم ولن يحترمَكم العالَمُ.....واحترامُه لكم مطلوب؛ لأنهم إن لم يحترموكم؛ فلن
يَسْمَعُوا دعوتَكم، وأنتم أمةٌ داعيةٌ إلى التوحيدِ، إلى الإسلامِ العظيم، ليس
لكم قيمةٌ إلا بهذا، فقَيمَتُكم بإسلامِكم.
قِيمتُكم بدينِكم.
قِيمَتُكم بتوحيدِكم.
فإذا نظرتَ في السِّجِلَّيْنِ معًا؛ وَجَدْتَ العاملَ
المشْتَرَكَ.
ولم يكنْ في الأحداثِ التي مرت إلا قليلًا إلا المعنى
القائم؛ وهو أنه ليس معنى أن تكونَ طُهْمَةٌ فاجرةٌ....وأنْ تكونَ جماعةٌ
ناكرةٌ....وأنْ تكونَ عصابةٌ مُفْسِدَةٌ قد تَحَكَّمَتْ في شيء؛ ليس معنى ذلك أنْ
تَصِيرَ الأمةُ كلُّها فاجرةً، وأنْ تصيرَ الأمةُ كلُّها فاسدةً مفسدةً، وإنما
تحافِظُ الأمةُ على نقائِها؛ وإنْ فَسَدَ مَنْ فَسَدَ، وإنما يُفْرَزُ مِنَ
الأُمَّةِ بَعْدُ مَنْ يُعْلِي اللهُ –تبارك وتعالى-
به الرايةَ، ويُثَبِّتُ اللهُ –تبارك وتعالى- مَنْ شاء على الحقِّ بالحق، وهو على كل
شيء قدير.
أسأل الله –جَلَّتْ قدرتُهُ
وتَقَدَّسَتْ أسماؤُه- أنْ يَرُدَّنَا والمسلمينَ أجمعين إلى الحق ردًّا جميلًا.
اللهم رُدَّنَا والمسلمينَ جميعًا إلى الحق ردًّا
جميلًا، وأَحْسِنْ ختامَنَا أجمعين.
اللهم أَحْسِنْ ختامَنَا أجمعين.
اللهم أَحْسِنْ ختامَنَا أجمعين.
اللهم
جَنِّبْ وطنَنا وجميعَ أوطانِ المسلمينَ مُضِلَّاتِ الفتن؛ ما ظَهَرَ منها وما
بَطَنَ، وطَهِّرْ وطَنَنا وجميعَ أوطانِ المسلمينَ مِنَ الكفرِ والكافرينَ،
والشركِ والمشركينَ، والخيانةِ والخائنينَ، والفسادِ والمفسدينَ، والبدعةِ
والمبتدعينَ يا رَبَّ العالمينَ، ويا أكرمَ الأكرمينَ، ويا ذا القوةِ المتين.
وصلى الله
وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.