((فَضْلُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَصِحَّةُ الْمُعْتَقَدِ))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((صِحَّةُ الْمُعْتَقَدِ وَسَلَامَةُ الْمِنْهَاجِ))
فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟
قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»
قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.
قَالَ: «مَنْ أَنَا؟».
قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ.
قَالَ: «اعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ سَأَلَهَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ؛ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ لِلْعَلِيِّ الْغَفَّارِ، وَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ -سَائِلًا إِيَّاهَا عَنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهَا- قَالَ: ((أَيْنَ اللهُ؟)).
قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).
ثُمَّ سَأَلَهَا الرَّسُولُ ﷺ عَنْ أَصْلِ الِاتِّبَاعِ، وَعَنِ الْمِنْهَاجِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَهُ الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ، فَقَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)).
وَهِيَ تَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ بِشَخْصِهِ وَبِصِفَتِهِ، فَتَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَتَعْرِفُ حَقَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْرِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَالْتِزَامِ طَرِيقَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ، وَالسَّيْرِ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْتِزَامِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ.
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ، وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمُ زُهْدُهُ، وَلَا وَرَعُهُ، وَلَا بُعْدُهُ عَنِ الدَّنَايَا، وَلَا تَنَزُّهُهُ -فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ- مِنَ الْخَطَايَا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمِنْهَاجِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ، عَظِيمَ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ.
لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ قَائِمًا عَلَى مِنْهَاجِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَرَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُبَيِّنُ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ جِئْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا -يَعْنِي بِمَا يُقَارِبُ مِلْءَ الْأَرْضِ خَطَايَا وَآثَامًا وَذُنُوبًا وَمُوبِقَاتٍ- ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لَأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً)) .
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ صَحِيحًا فِي اعْتِقَادِهِ، غَيْرَ مُلَوَّثٍ بِشِرْكٍ، بَعِيدًا عَنِ التَّدَنُّسِ بِأَيِّ أَمْرٍ يَثْلَمُ اعْتِقَادَهُ -وَلَوْ بِثُلْمَةٍ يَسِيرَةٍ- أَوْ يَخْدِشُ سَوَادَ حَدَقَةِ عَيْنِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَرْسَلَ إِخْوَانَهُ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، هِيَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
((التَّوْحِيدُ وَذِكْرُ اللهِ رُوحُ الْحَجِّ))
لَقَدْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لِحِكَمٍ جَلِيلَاتٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ فِي ثَنَايَا وَتَضَاعِيفِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَظَ بِعَيْنِ الرِّعَايَةِ، وَأَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُ الْتِفَاتًا صَحِيحًا، أَلَا وَهُوَ: ذِكْرُ اللهِ.
أَنْ يُكَبِّرَ النَّاسُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يُعَظِّمُوا أَمْرَهُ، وَأَنْ يَلْتَزِمُوا النَّهْجَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عَبْدَهُ وَنَبِيَّهُ ﷺ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَجِيجَ إِذَا مَا أَفَاضُوا أَنْ يَذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا، بَلْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ مَبْنِيًّا عَلَى إِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَوْحِيدِهِ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِهِ، وَإِعْلَاءِ أَمْرِ دِينِهِ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ جَمِيعًا؛ لِكَيْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]، ((قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)) .
وَأَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ فِي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ، بَلْ فِي جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ بِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَمُكَوِّنُ الْكَائِنَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا أَذِلَّاءَ مُخْبِتِينَ مُنِيبِينَ خَاضِعِينِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ مَا أَظْهَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ فِي بَيَانِ وَكَشْفِ حَالِ رَسُولِهِ ﷺ.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: ١٩].
فَهَذَا مَقَامُ الدَّعْوَةِ.
{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: ٢٣].
فَهَذَا مَقَامُ التَّحَدِّي.
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: ١].
فَهَذَا مَقَامُ إِظْهَارِ عُلُوِّ النَّبِيِّ ﷺ.
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْعَتُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الشَّرِيفِ وَهَذَا الْوَصْفِ الْمُنِيفِ -بِهَذَا الْوَصْفِ وَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ- إِذْ هُوَ أَعْبَدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ ﷺ.
لَمْ يَسْتَفِزَّهُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ خَطْبٌ يُخْرِجُهُ -وَلَوْ قِيدَ أُنْمُلَةٍ- عَنْ إِطَارِ الْعُبُودِيَّةِ، فِي مَقَامِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى، وَفِي مَقَامِ الْمِنْحَةِ الْجُلَّى، وَقَدْ أَظْهَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَفَتَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْفَتْحَ الْأَكْبَرَ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ فِي الْكَتِيبَةِ الْخَضْرَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْحَدِيدُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَفَارِقِ الرُّؤُوسِ إِلَى أَخْمَصِ الْأَقْدَامِ.
دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ مُتَوَاضِعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ذَلِيلًا لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، مُنِيبًا وَخَاشِعًا وَمُسْتَكِينًا، وَقَدْ أَحْنَى رَأْسَهُ بِصَدْرِهِ حَتَّى كَانَتْ لِحْيَتُهُ تَمَسُّ مَعْرَفَةَ بَغْلَتِهِ؛ تَوَاضُعًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِخْبَاتًا .
وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لَمَّا قَالَ: «يَا أَبَا سُفْيَانَ، اليَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ)).
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِرَسُول اللَّهِ ﷺ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: «مَا قَالَ؟»
قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: «كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ». الحديث.
لَا يَسْتَفِزُّهُ حَالٌ بِحَالٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا أَمْرُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمٌ بِهِ، لَا يَقُومُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ بِمُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا يَقُومُ مُحَمَّدٌ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ ﷺ، كَمَا أَنَّهُ يَقُومُ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ الْخُلُقُ الْعَظِيمُ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ﷺ.
وَهَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِذَا مَا كَانَ بِبَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ رَكَضَ رَكْضًا شَدِيدًا، يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ ﷺ حَتَّى لَتَتَكَشَّفَ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَصْعَدُ يَسْتَقْبِلُ يَدْعُو رَبَّهُ مُنِيبًا ﷺ بِحِلْمِهِ وَتَوَاضُعِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِمَقَامِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- .
عِنْدَمَا أَرَادَ الْعَبَّاسُ أَنْ يَسْقِيَهُ مِمَّا لَا يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ؛ لِأَنَّ الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ يَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالنَّاسُ طَبَقَاتٌ، وَالنَّاسُ أَحْوَالٌ وَأَشْكَالٌ، وَضُرُوبٌ وَأَلْوَانٌ، فَأَرَادَ أَنْ يُبْعِدَ مَا يَسْقِي بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَنِ الْوُرُودِ الْعَامِّ بِحِيَاضِهِ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: «اسْقُونَا مِمَّا تَسْقُونَ مِنْهُ النَّاسَ» ﷺ .
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ أَبَدًا: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَوِيَّ الْمِنْهَاجِ، سَوِيَّ الْقَصْدِ بِالْقَصِّ عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ عَمَلٌ أَبَدًا، وَلَا يَجِدُ الْمَرْءُ حَلَاوَةَ الدِّينِ، وَلَا يَجِدُ الْمَرْءُ لَذَّةَ الْيَقِينِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ.
وَأَمَّا إِذَا مَا أَخَذَ بِأَلْوَانِ الِاعْتِقَادِ عَلَى أَيِّ مَنْحًى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَنْحَى عَلَى مِنْهَاجِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ مُبْتَعِدًا عَنِ الرَّبِّ الْعَلِيِّ الْأَجَلِّ، وَلَا تَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعِبَادَةِ وَشِدَّتُهَا عَنِ اللهِ إِلَّا بُعْدًا.
((فَضْلُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ))
إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا عَلَى لِسَانِهِ ﷺ فَضْلَ مَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْهُ يَرْفَعُهُ- قَالَ: قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ)).
قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ)).
فَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فَضْلَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَلْوَانَ الطَّاعَاتِ، وَضُرُوبَ الْخَيْرَاتِ، وَصُنُوفَ التَّقَرُّبِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ.
يُحِبُّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الطَّاعَاتِ، وَيُعْلِي قَدْرَ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَوْقَاتِ فِي سَائِرِ الْعَامِ.
((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ)).
((أَجَلُّ عِبَادَاتِ الْعَشْرِ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالتَّوْبَةُ))
إِنَّ أَجَلَّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْعَشْرِ أَنْ يَتُوبَ.. أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللهِ مُنْسَلِخًا مِنْ إِهَابِ الذُّنُوبِ؛ رَاجِعًا بِالْوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ بِإِعْلَانِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ.
فَهِيَ الْوِلَادَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ الَّتِي يَدْفَعُ فِيهَا رَحِمٌ بِشَيْءٍ مِنْ مُضْغَةٍ مِنْ لَحْمٍ وَعَظْمٍ وَعَصَبٍ، لَا تَكَادُ تَكُونُ شَيْئًا، بَلْ هِيَ كَأَنَّمَا هِيَ أَمْشَاجٌ.
ثُمَّ مَا تَزَالُ تَرْتَقِي حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ رَحِمِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الْآخِرَةِ بِالْوِلَادَةِ الثَّانِيَةِ؛ بِإِعْلَانِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ، وَتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ ﷺ، بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتُوبُهَا الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّ سَيْفَ الْمَنِيَّةِ مُعَلَّقٌ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَكَأَنَّ كَأْسَ الْمَوْتِ الدَّائِرِ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ مِمَّنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ، سَرْعَانَ مَا يَتَجَرَّعُهُ، وَسَرْعَانَ مَا يَرْتَشِفُ مِنْهُ قَطَرَاتِ الْمَوْتِ.
فَإِذَا مَا جَاءَ الْمَوْتُ، وَضَرَبَ ضَرْبَتَهُ، فَصَارَ مَا لِلسَّمَاءِ لِلسَّمَاءِ، وَصَارَ مَا لِلْأَرْضِ لِلْأَرْضِ بَعْدَ حِينٍ يَصِيرُ مَوَاطِئَ الْأَقْدَامِ، يَصِيرُ مُمْتَهَنًا، يَصِيرُ تُرَابًا، يَصِيرُ رَغَامًا، يَصِيرُ لَا شَيْءَ! ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلَّ أَحَدٍ، وَيُقِيمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ.
يَتُوبُ الْمَرْءُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ بِإِعْلَانِ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَلِيِّ الْمَجِيدِ، وَبِتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ ﷺ، بِأَخْذِ الْأَمْرِ بِالْجِدِّ الَّذِي لَا لَعِبَ فِيهِ، وَلَا هَزْلَ، بِأَخْذِ الْأَمْرِ بِالْعَزِيمَةِ الَّتِي لَا تُنْقَضُ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَرَاءِ الْقَصْدِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعْطِي عَلَى النِّيَّةِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعَمَلِ إِذَا مَا صَلُحَتْ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صَاحِبُ الْمَنِّ وَالْحَوْلِ، وَالطَّوْلِ وَالْجُودِ، يَهَبُ مَا يَشَاءُ مَنْ يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ وَقْتَمَا يَشَاءُ، وَأَيْنَمَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مَانِعَ لِأَمْرِهِ، بَلْ أَمْرُهُ نَافِذٌ، وَحُكْمُهُ مَاضٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
النَّبِيُّ ﷺ جَاءَنَا بِالدِّينِ الْقَيِّمِ، بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، عَقِيدَةٌ صَحِيحَةٌ، وَمِنْهَاجٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَا يَنْفَعُ عَبْدًا -أَبَدًا- زُهْدٌ وَلَا وَرَعٌ وَلَا إِقْلَاعٌ عَنْ ذَنْبٍ، وَلَا بُعْدٌ عَنْ خَطِيَّةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمُعْتَقَدِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سَوِيَّ الْمِنْهَاجِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَضَى بِذَلِكَ وَقَدَّرَهُ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا مَنْصُوبَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَرْوَاحًا إِلَى رَحَمَاتِهِ مَصْبُوبَةً.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَرْوَاحًا.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ جَسَدًا مُتَحَرِّكًا عَلَى مُقْتَضَى يَقِينِ قَلْبٍ وَطَاعَةِ رُوحٍ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْجَسَدُ مُخْبِتًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَصِيرُ الْجَسَدُ مُنِيبًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
يُرِيدُ رَبُّنَا تَقْوَى الْقُلُوبِ.
فَاللهم ارْزُقْنَا تَقْوَى الْقُلُوبِ يَا سِتِّيرَ الْعُيُوبِ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، وَيَا ذَا الْقُوَّةِ الْمَتِين.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((سُنَّةٌ مَهْجُورَةٌ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ!))
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْأَيَّامَ خَيْرَ أَيَّامِ الْعَامِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ مُحَمَّدٌ ﷺ.
خَيْرُ أَيَّامِ الْعَامِ.. أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ هِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ؛ يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَكَانَتِ الْعَشْرُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى مَنْ سَبَقَنَا مِنْ عُلَمَائِنَا -بَدْءًا مِنْ صَحَابَةِ نَبِيِّنَا ﷺ، مُرُورًا بِالتَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ، وَأَتْبَاعِ تَابِعِيهِمْ، وَالْأَئِمَّةِ، وَمَنْ تَلَا مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا- إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ أَقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ؛ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْمَزِيدَ.
وَكَانُوا يَتَوَخُّونَ فِيهَا سُنَّةَ الرَّسُولِ ﷺ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ -يَعْنِي: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ- فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ -يَعْنِي: فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ- فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعَرِهِ -لَا مِنْ إِبِطِهِ، وَلَا مِنْ عَانَتِهِ، وَلَا مِنْ شَارِبِهِ- فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعَرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّيَ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ جَعَلَهَا سُنَّةً مَسْنُونَةً.
((اجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَاتِ فِي الْعَشْرِ!))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَالذِّكْرُ: تَهْلِيلًا وَتَحْمِيدًا وَتَسْبِيحًا وَتَكْبِيرًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ.
وَيَدْخُلُ فِيهِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَبَثُّهُ وَإِذَاعَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الصِّيَامُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ، وَمَا أَشْبَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ فَيَدْخُلُ الصِّيَامُ.
فَيُسْتَحَبُّ الصَّوْمُ فِي تِسْعِ ذِي الْحِجَّةِ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَأَنْ تَأْتِيَ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ فِيْهِ غَايَةَ الْجُهْدِ كَمَا كَانَ الْسَّابِقُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَ.
فَهَذِهِ فُرْصَةٌ قَدْ لَا تَعُودُ، إِنْ مَضَتْ قَدْ لَا تَعُودُ، وَالْعَبْدُ دَائِمًا عَلَى وَجَلٍ مِنْ غَدِهِ، لَا يَدْرِي أَتُشْرِقُ عَلَيْهِ شَمْسُهُ أَوْ تَأْتِي وَهُوَ فِي ظَلَامِ رَمْسِهِ؟
وَاللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَسْأَلُ أَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ، وَأَنْ يَتَغَمَّدَنَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٌ.