«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الأول»
«رَمَضاَنُ شَهْرُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«خَصَائِصُ شَهْرِ رَمَضَانَ»
فَرَمَضَانُ هو الشَّهْرُ الذي خَصَّهُ اللهُ –جلَّ وَعَلَا- بِنُزُولِ القُرْآنِ فيه؛ بَل كَمَا ثَبَتَ عن النبيِّ–صلى الله عليه وآله وسلم-: فَإِنَّ التَّوْرَاةَ والإنجيلَ والزَّبُورُ وكذلك القرآنُ المَجِيدُ؛ كلُّهَا نَزَلَت في شَهْرِ رَمَضَان، فهذا الشهرُ خَصَّهُ اللهُ ربُّ العالمين بنزولِ الوحي المَعْصُومِ فيه؛ هدايةً للناسِ، وفُرْقَانًا بَيْنَ الحقِّ والباطلِ، ونِبْرَاسًا يُنِيرُ دَيَاجِيرَ ظُلْمَةِ المَرْءِ في سَعيِهِ في هذه الحياةِ بِكُلِّ ما فيها من الآلامِ والأحزانِ، وبكُلِّ ما فيها من الهمومِ والغمومِ والأنكادِ، وبكلِّ ما فيها من المخاطرِ والمكائدِ –من مكائدِ النَّفْسِ والشيطانِ والكُفارِ والمُجرمين، وكُلِّ صَادٍّ عن سبيلِ ربِّ العالمين-.
فهذا الشهرُ خَصَّهُ اللهُ ربُّ العالمين بخصائصَ باهرة، وأنزلَ فيه الآياتِ المُبهرة، وجعلَ اللهُ ربُّ العالمين فيه رُكنًا من أركانِ دينِ الإسلامِ العظيم، وهو الصيام، كما في حديثِ ابن عمر –رضي اللهُ عنهما- في «الصحيحين» عن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
وفي شهرِ رمضانَ بَعَثَ اللهُ ربُّ العالمين نبيَّهُ الخاتمَ مُحمدًا –صلى الله عليه وآله وسلم- برسالةِ الإسلامِ العظيمِ إلى الناسِ كافة، وهو خاتَمُ النبيين والمُرسلين –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
في شهرِ رمضان مع ما فيه من الصلاةِ بالقيام، مع ما فيه من إحسانِ الصيام، ومِن تلاوةِ القرآنِ والذِّكْرِ والجُودِ والعطاءِ والبِرِّ، بكُلِّ ما فيه من الخِصال؛ إذا ما فُعِلَت إيمانًا واحتسابًا؛ يكونُ الشهرُ مُكَفِّرًا لِمَا بينه وبينَ الشهرِ الذي بعدهُ، كما قال الرسولُ ﷺ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ». والحديثُ عند مسلمٍ في «الصحيح».
إنَّ العبدَ الصالحَ يستقبلُهُ ويدومُ على ذلك، يستقبلُهُ بالتوبةِ النَّصوحِ ويدومُ عليها، وبعزيمةٍ صادقةٍ يدومُ عليها؛ على أنْ يغتنمَهُ، وألَّا يُضيِّعَ منه شيئًا، وعلى الإنسانِ أنْ يجتهدَ في شَغْلِ الأوقاتِ بالأعمالِ الصالحات؛ لأنه لا يدري أَيَدُورُ العامُ دَورتَهُ حتى يكونَ من أهلِ الصيامِ مِن قَابِلٍ، أم يكونُ مُغيَّبًا تحت طبقاتِ التراب؟
فذلك غَيْبٌ لا يعلمهُ إلا الله، وعلى المرءِ السعيُ، وبَذْلُ المجهودِ فيما آتاهُ اللهُ ربُّ العالمين من الأسبابِ، راجيًا من اللهِ –جلَّ وعلا- القَبول.
«حُسْنُ الخُلُقِ مِنْ كُبْرَى غَايَاتِ دِينِنَا»
حَصَرَ النبيُّ ﷺ الغايةَ مِن البعثةِ المحمديةِ في تمامِ صالحِ الأخلاقِ، فقالَ ﷺ: «إنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلَاقِ».
أخرجَهُ البخاريُّ في «الأدبِ»، والحاكمُ، وأحمدُ، وصححَهُ الشيخُ أحمد شاكر والشيخُ الألبانيُّ وغيرُهُما.
فلا عَجَبَ إذن أنْ يكونَ حُسْنُ الخُلُقِ غايةَ الغاياتِ في سَعْيِ العَبدِ لاستكمالِ الصفاتِ على أساسٍ مِن التوحيدِ المَكينِ، وثابتِ الإخلاصِ واليقين.
وقد كان إمامُ الأنبياءِ ﷺ في «حُسْنِ الخُلُقِ» على القمةِ الشامخةِ، وفوقَ الغايةِ والمُنتهى، فكان كما قال عنه ربُّهُ –عزَّ وجلَّ-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
وهو ﷺ مع ذلك لا يَنْفَكُّ يدعو ربَّهُ في قيامِ الليلِ بقولِهِ: «اللهم اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ، فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئِهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ». رواهُ مسلمٌ عن عليٍّ –رضي اللهُ عنه-.
يطلبُ مِن ربِّهِ أنْ يُرشدَهُ لصوابِ الأخلاقِ، ويُوفِّقَهُ للتخلُّقِ به، وأنْ يصرفَ عنه قبيحَ الأخلاقِ ومذمومَ الصفاتِ، ويُبعِدَ ذلك عنه، مع أنهُ ﷺ على خُلُقٍ عظيمٍ، ومع أنَّ خُلَقَهُ القرآنُ الكريمُ.
أخبر سعدُ بن هشام بن عامرٍ أنه سألَ عائشةَ –رضي اللهُ عنها-، فقال: «قلتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ». رواه مسلم.
ومعنى أنَّ خُلُقَهُ القرآنُ أنه يعملُ به، ويقفُ عند حدودِهِ، ويتأدبُ بآدابِهِ، ويعتبرُ بأمثالِهِ وقَصَصِهِ، ويتدبرُهُ، ويُحسِنُ تلاوتَهُ.
وإذا كان النبيُّ ﷺ مِن حُسنِ الخُلُقِ بهذه المثابةِ، وهو –مع ذلك- يسألُ الهدايةَ لأحسنِ الأخلاقِ، ويستعيذُ مِن سيِّئِهَا، فكيفُ يصنعُ مَن خُلُقُهُ إلى خُلُقِ النبيِّ ﷺ كقطرةٍ في بحرٍ أو دون ذلك؟!!
وكلُّ إنسانٍ -لا محالة- يجهلُ الكثيرَ مِن عيوبِ نَفْسِهِ، فإذا جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مجاهدةٍ حتى تَرَكَ فواحشَ المعاصي، فربما ظنَّ بنفسِهِ أنه قد هذَّبَ نفسَهُ، وصَفَّى أخلاقَهُ، وحسَّنَ خُلُقَهُ، واستغنى عن المجاهدةِ، واستنامَ إلى حُسنِ ظنِّهِ بنفسِهِ واتَّبَعَ هَوَاهُ.
«رَمَضَانُ شَهْرُ الصِّيَامِ وَمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ»
قَالَ ابنُ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللهُ-: «إنَّ الصيام هو لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا؛ إيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَهُوَ سِرٌّ -أي الصيامُ- بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَه وَشَرَابَه وَشَهْوَتَه مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الخلقُ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصّوْمِ.
وللصومِ تأثيرٌ عجيب في حفظِ الجوارحِ الظاهرة والقُوى الباطنة، وحِمْيَتِها عن التخليطِ الجالبِ لها الموادَّ الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغِ الموادِّ الرديئةِ المانعةِ لها مِن صِحتِها، فالصومُ يحفظُ على القلبِ والجوارح صِحَّتَها، ويُعيدُ إليها ما اسْتَلَبَتْهُ منها أيدي الشهوات، فهو من أكبرِ العَوْنِ على التقوى.
كما قال اللهُ -جلَّ وعلا-: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وقال النبيُّ ﷺ: «الصَّوْمُ جُنَّة».
«احْذَر مُجَالَسَةَ الفَارِغِينَ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ»
واحْذَر مَجَالِسَ الفَارِغِينَ، وَاحْفَظ لِسَانَكَ مِن الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ وَفَاحِشِ القَوْلِ، واحْبِس لِسَانَكَ عن كلِّ ما يُغْضِبُ اللهَ، وَأَلْزِم نَفْسَكَ الكلامَ الطَّيِّبَ الجَمِيلَ، وَليَكُن لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ، وهي فرصةٌ لِلتزَوُّدِ مِن الطاعةِ والتَّفَرُّغِ للعبادةِ، وقد لا تَتَكَرَّرُ الفرصةُ؛ بَل قد تَمُوتُ قَبْلَ أَنْ تَعُودَ الفُرَصُ.
وَاعْلَم أَنَّ كلَّ يومٍ يَعِيشُهُ المُؤمِنُ فهو غَنِيمَةٌ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا في هذا الشهرِ مِن عُتَقَائِهِ مِن النَّارِ، وَأَنْ يُوَفِّقنَا فيه لِمَا كَلَّفَنَا به وَنَدَبَنَا إليه نَبِيُّنَا ﷺ، وأنْ يَجْعَلَ ذلك على النَّحْوِ الذي يُرْضِيه، وَأَنْ يُحْسِنَ خِتَامَنَا أَجْمَعِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ