دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ

دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ

«دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ»

جمعٌ وترتيبٌ مِن خُطَبِ الشيخِ العلَّامة:

أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.

*حَدَثُ تَحْويلِ القِبْلَةِ.

*قِبْلَةُ المُسْلِمِينَ خَيْرُ القِبَلِ وَعِظَمُ شَرَفِ مَكَّةَ.

*الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ.

 *الحِكْمةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ.

*فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ يَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِ أَهْلِ القِبْلَةِ وَيُكَفِّرُونَهُم بِغَيْرِ حَقٍّ.

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حَدَثُ تَحْويلِ القِبْلَةِ))

فَفِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ؛ نَزَلَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ.

عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلَّى إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوْ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ، قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ؛ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وكَانَ الذي مَاتَ علَى القِبْلَةِ قَبْلَ أنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ البَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا، لم نَدْرِ ما نَقولُ فيهم، فَأَنْزَلَ اللهُ جَلَّ وعلا-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143].

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «بَيْنَمَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ؛ فَقَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُرْآنًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فتَوَجَّهُوا إِلَى الْكَعْبَةِ».

مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ «كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَزَلَتْ: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144].

فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً، فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ-:

«وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا؛ فَصَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا».

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.

وَقَال ابْنُ إِسْحَاقَ: «وَصُرِفَتْ فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ».

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ فِي السَّمَاءِ يَرْجُو ذَلِكَ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: ﴿قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 143].

وَذَلِكَ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ.

وَكَانَ للهِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِي تَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ، حِكَمٌ عَظِيمَةٌ، وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالْمُنَافِقِينَ.

فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ؛ فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَقَالُوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران:7] وَهُمُ الَّذِينَ هَدَى اللهُ، وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ؛ فَقَالُوا : كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا؛ يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِنَا، وَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهَا الْحَقُّ.

وَأَمَّا الْيَهُودُ؛ فَقَالُوا: خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا؛ لَكَانَ يُصَلِّى إِلَى قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَقَالُوا: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، إِنْ كَانَتِ الْأُولَى حَقًّا؛ فَقَدْ تَرَكَهَا، وَإنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَقَّ؛ فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ.

وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السُّفَهَاءِ، وَكَانَت كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ-: ﴿وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾ [البقرة: من الآية143]، وَكَانَتْ مِحْنَةً مِنَ اللهِ امْتَحَنَ بِهَا عِبَادَهُ؛ لِيَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ.

وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لِمَ سُمُّوا الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ؟

قَالَ: مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ الْقِبْلَتَيْنِ جَمِيعًا؛ فَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ».

وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ: مَنْ أَدْرَكَ الْبَيْعَةَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ».

وَفِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ تَرَى سُرْعَةَ مُبَادَرَةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ- إِلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِ الرَّسُولِ ﷺ، فَالْخَبَرُ يَبْلُغُهُمْ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، فَيَسْتَدِيرُونَ وَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَعِنْدَمَا أَتَى رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ؛ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ؛ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ، إِذَا بِهِمْ يُبَادِرُونَ بِالتَّحَوُّلِ إِلَى الْقِبْلَةِ الْجَدِيدَةِ مِنْ دُونِ سُؤَالٍ أَوِ اسْتِفْسَارٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُؤْمِنِ؛ الِاتِّبَاعُ والتَّمَسُّكُ بِالْعَمَلِ بِالنَّصِّ فَوْرَ بُلُوغِهِ لَهُ مَعَ الْمُبَادَرَةِ إِلَيْهِ؛ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ لَهُ الْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَمْ تَظْهَرْ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ-: «فَحَيْثُمَا وَجَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ تَوَجَّهْنَا، فَالطَّاعَةُ فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَلَوْ وَجَّهَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ إِلَى جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ فَنَحْنُ عَبِيدُهُ، وَفِي تَصَرُّفِهِ، وَخُدَّامُهُ، حَيْثُمَا وَجَّهَنَا تَوَجَّهْنَا».

وَالتَّمْهِيدُ لِلْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَبْلَ حُصُولِهِ يُلْحَظُ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ-: «وَكَانَ أَمْرُ الْقِبْلَةِ وَشَأْنُهَا عَظِيمًا؛ وَطَّأَ سُبْحَانَهُ قَبْلَهَا أَمْرَ النَّسْخِ، وَبَيَّنَ قُدْرَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَنّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالتّوْبِيخِ لِمَنْ تَعَنَّتَ رَسُولَ اللّهِ ﷺ، وَلَمْ يَنْقَدْ لِأَوَامِرِهِ، وَجَعَلَ كُلَّ هَذَا تَوْطِئَةً وَمُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ».

كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ فُرْصَةً لِأَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ لِإِثَارَةِ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِأَجْلِ هَذَا ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ أَسْلَمَ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «بَلَغَنِي أَنَّ أُنَاسًا مِمَّنْ أَسْلَمَ رَجَعُوا، فَقَالُوا: مَرَّةً هَاهُنَا, وَمَرَّةً هَاهُنَا».

وَفِتْنَةُ إِثَارَةِ الشُّبُهَاتِ لَا تَزَالُ حَيَّةً، يُحَاوِلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ خِلَالِهَا صَدَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ عَنْ هَذَا الدِّينِ، وَالشُّبُهَاتُ تُدْفَعُ بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي يُبْطِلُ كَيْدَ الْأَعْدَاءِ.

هَذِهِ الْقِبْلَةُ الَّتِي هَدَى هَذِهِ الْأُمَّةَ لَهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِهِمْ، وَهُمْ أَهْلُهَا؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ الْأُمَمِ، كَمَا اخْتَارَ لَهُمْ أَفْضَلَ الرُّسُلِ وَأَفْضَلَ الْكُتُبِ، وَأَخْرَجَهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، وَخَصَّهُمْ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ، وَمَنَحَهُمْ خَيْرَ الْأَخْلَاقِ، وَأَسْكَنَهُمْ خَيْرَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرَ الْمَنَازِلِ، وَمَوْقِفَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرَ الْمَوَاقِفِ.

وَفِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: 142] آيَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ إِذْ تَضَمَّنَتِ الْإِخْبَارَ عَنْ أَمْرٍ غَيْبِيٍّ، فَالْإِتْيَانُ بِالسِّينِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ بِهِ، وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ.

((قِبْلَةُ المُسْلِمِينَ خَيْرُ القِبَلِ وَعِظَمُ شَرَفِ مَكَّةَ))

فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْمُسْلِمِينَ أَيْنَمَا كَانُوا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ: بَيَانٌ لِمَكَانتِهِ، وَتَمَيُّزِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ؛ فَهُوَ مَهْبِطُ الْوَحْيِ، وَمُنْطَلَقُ الرِّسَالَةِ، وَمَهْوَى الْأَفْئِدَةِ، وَمَقْصِدُ الْمُسْلِمِينَ فِي حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ، وَهُوَ قِبْلَتُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَدْ شَرَّفَهُ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ- بِهَذَا الشَّرَفِ الَّذِي لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.

فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى مَكَّةَ تَأْكِيدٌ لِوَسَطِيَّةِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ جُغْرَافِيًّا فِي سَبَبِ اخْتِيَارِ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ؛ لِتَكُونَ مُنْطَلَقًا لِلرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، هَذِهِ الْجَزِيرَةُ وَسَطُ الْعَالَمِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: 92].

وَهَذَا الِاخْتِيَارُ يَعْنِي أَنْ تَكُونَ مَكَّةُ مُنْطَلَقَ تَحْدِيدِ الْجِهَاتِ؛ لَكِنَّنَا -وَا أَسَفَاهُ!!- تَابَعْنَا الْمُسْتَعْمِرِينَ مِمَّنِ احْتَلَّ أَرْضَنَا، وَاحْتَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عُقُولَنَا وَأَرْوَاحَنَا وَأَفْئِدَتَنَا، وَتَلَقَّيْنَا مُصْطَلَحَاتِهِمْ، وَسَلَّمْنَا لَهُمْ، وَلَوْ فَكَّرْنَا قَلِيلًا؛ لَأَدْرَكْنَا الْمَعَانِيَ الْحَقِيقِيَّةَ لِكَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ، وَأَنَّهَا لَا ارْتِبَاطَ لِهَا بِوَاقِعِنَا، وَلَا بِتَارِيخِنَا، يَقُولُونَ مَثَلًا: الشَّرْقُ الْأَدْنَى، وَالشَّرْقُ الْأَقْصَى، وَالشَّرْقُ الْأَوْسَطُ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَعْمِرَ الْأُورُبِّيَّ اعْتَبَرَ نَفْسَهُ فِي مَرْكَزِ الْأَرْضِ، فَأَطْلَقَ هَذَا التَّوْزِيعَ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْقِعِهِ هُوَ، وَجَارَيْنَاهُ نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، وَنَسِينَا أَنَّنَا هُنَا نَحْنُ الْوَسَطُ، وَنَحْنُ الْمَرْكَزُ، وَأَنَّ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةَ الْمَكَانِيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ تَحْدِيدُ الْجِهَاتِ مِنْهَا، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي وَقْتِ قُوَّةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَعِزَّتِهَا، أَمَّا الْآنَ وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِبُقْعَتِهَا إِلَّا أَنْ يُقَالَ عَنْهَا: الشَّرْقُ الْأَوْسَطُ.

النَّبِيُّ ﷺ اخْتَارَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ خَيْرَ الْقِبَلِ، وَالْمُسْلِمُونَ هُمْ أَهْلُ الْقِبْلَةِ، يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، فِي صَلَاتِهِمْ وَعِنْدَ مَمَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ فِي قُبُورِهِمْ يُوَجَّهُونَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، فَهِيَ قِبْلَةُ الْمُسْلِمِينَ أَمْوَاتًا وَأَحْيَاءً؛ فَعَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ.

((الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَّا-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة: 142، 143].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:

((قَدِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى مُعْجِزَةٍ، وَتَسْلِيَةٍ، وَتَطْمِينِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاعْتِرَاضٍ وَجَوَابِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَصِفَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَصِفَةِ الْمُسَلِّمِ لْحُكْمِ اللهِ ودِينِهِ.

فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَعْتَرِضُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَصَالِحَ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يُضَيِّعُونَهَا، وَيَبِيعُونَهَا بِأَبْخَسِ ثَمَنٍ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْمُعْتَرِضِينَ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ.

 وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ نَحْوَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ؛ لِمَا للهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكَمِ الَّتِي سَيُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا، وَكَانَتْ حِكْمَتُهُ تَقْتَضِي أَمْرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ صَرَفَهُمْ عَنْهُ؟

 وَفِي ذَلِكَ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَشَرْعِهِ، وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَسَلَّاهُمْ، وَأَخْبَرَ بِوُقُوعِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَقَعُ مِمَّنِ اتَّصَفَ بِالسَّفَهِ، قَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْحِلْمِ وَالدِّيَانَةِ؛ فَلَا تُبَالُوا بِهِمْ؛ إِذْ قَدْ عُلِمَ مَصْدَرُ هَذَا الْكَلَامِ، فَالْعَاقِلُ لَا يُبَالِي بِاعْتِرَاضِ السَّفِيهِ، وَلَا يُلْقِي لَهُ ذِهْنَهُ.

وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْتَرِضُ عَلَى أَحْكَامِ اللهِ إِلَّا سَفِيهٌ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ، وَأَمَّا الرَّشِيدُ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ؛ فَيَتَلَقَّى أَحْكَامَ رَبِّهِ بِالْقَبُولِ وَالِانْقِيَادِ وَالتَّسْلِيمِ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [سورة الأحزاب: 36]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [سورة النساء: 65]، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ -يَعْنِي: مَا وَقَعَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ مِنْ أُولَئِكَ-؛ لِأَنَّهُمْ سُفَهَاءُ، قَدْ كَانَ فِي قَوْلِهِ {السُّفَهَاءُ} مَا يُغْنِي عَنْ رَدِّ قَوْلِهِمْ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَعَ هَذَا لَمْ يَتْرُكْ هَذِهِ الشُّبْهَةَ حَتَّى أَزَالَهَا، وَكَشَفَهَا، مِمَّا سَيَعْرِضُ لِبَعْضِ الْقُلُوبِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ} لَهُمْ مُجِيبًا: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: فَإِذَا كَانَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ مِلْكًا للهِ، لَيْسَ جِهَةٌ مِنَ الْجِهَاتِ خَارِجَةً مِنْ مُلْكِهِ، وَمَعَ هَذَا يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَمِنْهُ: هِدَايَتُكُمْ إِلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ مِلَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يَعْتَرِضُ الْمُعْتَرِضُ بِتَوْلِيَتِكُمْ قِبْلَةً دَاخِلَةً تَحْتَ مِلْكِ اللهِ؟!!

  لَمْ تَسْتَقْبِلُوا جِهَةً لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، فَهَذَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ وَهُوَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَهِدَايَتِهِ وَإِحْسَانِهِ؛ أَنْ هَدَاكُمْ لِذَلِكَ؟!! فَالْمُعْتَرِضُ عَلَيْكُمْ مُعْتَرِضٌ عَلَى فَضْلِ اللهِ؛ حَسَدًا لَكُمْ وَبَغْيًا.

وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مُطْلَقًا، وَالْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ؛ فَإِنَّ الْهِدَايَةَ وَالضَّلَالَ لَهُمَا أَسْبَابٌ أَوْجَبَتْهُمَا حِكْمَةُ اللهِ وَعَدْلُهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ بِأَسْبَابِ الْهِدَايَةِ الَّتِي إِذَا أَتَى بِهَا الْعَبْدُ؛ حَصَلَ لَهُ الْهُدَى، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}.

ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِهِدَايَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُطْلَقًا، بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ، وَذَكَرَ مِنَّةَ اللهِ عَلَيْهَا، فَقَالَ:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} عَدْلًا خِيَارًا، وَمَا عَدَا الْوَسَطَ؛ فَأَطْرَافٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخَطَرِ، فَجَعَلَ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا فِي كُلِّ أُمُورِ الدِّينِ:

وَسَطًا فِي الْأَنْبِيَاءِ بَيْنَ مَنْ غَلَا فِيهِمْ -كَالنَّصَارَى-، وَبَيْنَ مَنْ جَفَاهُمْ -كَالْيَهُودِ-؛ بِأَنْ آمَنُوا بِهِمْ كُلِّهِمْ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِذَلِكَ.

وَوَسَطًا فِي الشَّرِيعَةِ؛ لَا تَشْدِيدَاتِ الْيَهُودِ وَآصَارَهُمْ، وَلَا تَهَاوُنَ النَّصَارَى.

وَفِي بَابِ الطَّهَارَةِ وَالْمَطَاعِمِ؛ لَا كَالْيَهُودِ الَّذِينَ لَا تَصِحُّ لَهُمْ صَلَاةٌ إِلَّا فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَلَا يُطَهِّرُهُمُ الْمَاءُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٌ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا كَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُنَجِّسُونَ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُونَ شَيْئًا؛ بَلْ أَبَاحُوا مَا دَبَّ وَدَرَجَ.

بَلْ طَهَارَةُ هَذِهِ الْأُمِّةِ أَكْمَلُ طَهَارَةٍ وَأَتَمُّهَا، وَأَبَاحَ اللهُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ؛ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ، وَالْمَنَاكِحِ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الدِّينِ أَكْمَلُهُ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ أَجَلُّهَا، وَمِنَ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُهَا.

وَوَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ؛ مَا لَمْ يَهَبْهُ لِأُمَّةٍ سِوَاهَا؛ فَلِذَلِكَ كَانُوا {أُمَّةً وَسَطًا} كَامِلِينَ مُعْتَدِلِينَ؛ لِيَكُونُوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بِسَبَبِ عَدَالَتِهِمْ، وَحِكْمَتِهِمْ، وَحُكْمِهِمْ بِالْقِسْطِ، يَحْكُمُونَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ؛ فَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَهُوَ مَقْبُولٌ، وَمَا شَهِدَتْ لَهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِالرَّدِّ فَهُوَ مَرْدُودٌ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة البقرة: 143].

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا {إِلا لِنَعْلَمَ} أَيْ: عِلْمًا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ؛ وَإِلَّا فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْأُمُورِ قَبْلَ وُجُودِهَا؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا؛ لِتَمَامِ عَدْلِهِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عِبَادِهِ، بَلْ إِذَا وُجِدَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، أَيْ: شَرَعْنَا تِلْكَ الْقِبْلَةَ؛ لِنَعْلَمَ وَنَمْتَحِنَ {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} وَيُؤْمِنُ بِهِ، فَيَتِّبَعُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَأْمُورٌ مُدَبَّرٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَتِ الْكُتُبُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ، فَالْمُنْصِفُ الَّذِي مَقْصُودُهُ الْحَقُّ؛ مِمَّا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِيمَانًا وَطَاعَةً لِلرَّسُولِ.

وَأَمَّا مَنِ انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْحَقِّ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ كُفْرًا إِلَى كُفْرِهِ، وَحَيْرَةً إِلَى حَيْرَتِهِ، وَيُدْلِي بِالْحُجَّةِ الْبَاطِلَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى شُبْهَةٍ لَا حَقِيقةَ لَهَا.

{وَإِنْ كَانَتْ} يَعْنِي: صَرْفَكَ عَنْهَا {لَكَبِيرَةً} أَيْ: شَاقَّةً {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، فَعَرَفُوا بِذَلِكَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَشَكَرُوا، وَأَقَرُّوا لَهُ بِالْإِحْسَانِ)).

فِي رِسَالَةِ ((الْقِبْلَةِ)):

كَانَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ امْتِحَانًا امْتَحَنَ اللهُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَهْلَ الْكِتَابِ، وَالْمُشْرِكِينَ.

وَكَثُرَ لَغَطُ السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَخَاضُوا فِي لَغْوٍ كَثِيرٍ؛ مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[سورة البقرة: 142].

وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ؛ بِدَلِيلِ حَرْفِ الِاسْتِقْبَالِ الَّذِي صُدِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ ﴿سَيَقُولُ؛ لِيُثَبِّتَ بِهَا أَقْدَامَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَرْبِطَ بِهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلِيُهَيِّئَهُمْ لِاسْتِقْبَالِ هَذَا الْإِرْجَافِ بِالصَّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ، وَلُيَلَقِّنَهُمُ الْجَوَابَ الَّذِي يَدْفَعُونَ بِهِ فِي صُدُورِ هَؤُلَاءِ الْمَارِقِينَ.

 ((الحِكْمةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ))

وَلَقَدْ كَانَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ:

1- مِنْهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَرَسُولُهُمْ خَيْرُ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّهُ -صلى الله عليه وآله وسلم- خَاتَمُهُمْ، وَبِرِسَالَتِهِ تَمَّ بِنَاءُ الدِّينِ الَّذِي وَضَعَ كُلُّ رَسُولٍ سَابِقٍ لَبِنَةً فِي هَيْكَلِهِ، حَتَّى تَمَّ عَلَى يَدَيْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُهُمْ خَيْرُ الْكُتُبِ؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لَهَا، وَمُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا؛ فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُمْ خَيْرَ الْقِبَلِ.

وَخَيْرُ الْقِبَلِ: هِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكًا وَهُدَىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.

2- وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ الْجِهَةَ لَا تَكُونُ قِبْلَةً إِلَّا إِذَا وَجَّهَ اللهُ النَّاسَ شَطْرَهَا، فَكُلُّ جِهَةٍ وَجَّهَ اللهُ النَّاسَ شَطْرَهَا فَهِيَ قِبْلَةٌ، وَلَا فَضْلَ لِجِهَةٍ عَلَى أُخْرَى فِي ذَاتِهَا؛ وَلَكِنَّ الْجِهَةَ تَفْضُلُ غَيْرَهَا بِاخْتِيَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.

3- وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَوَلَّى  الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ بِشَهَادَتِهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ لِيُثْبِتَ أَنَّهُ خَيْرُ الْمَسَاجِدِ، وَلِيَدْحَضَ حُجَّةَ الْمُعَانِدِينَ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾[سورة البقرة: 150].

4- وَمِنَ الْحِكَمِ: أَنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْأُمَّةِ الَّتِي تُعَدُّ شَرِيعَتُهَا مُتَّصِلَةً بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمُجَدِّدَةً لَهَا: أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهَا هِيَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ؛ لِتَتِمَّ لَهَا الْهِدَايَةُ ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.

5- وَمِنَ الْحِكَمِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِامْتِحَانِ لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ الْإِيمَانِ يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ اعْتِرَاضٍ، وَلَا تَرَدُّدٍ، وَلَا إِنْكَارٍ؛ وَلَكِنَّ ضَعِيفَ الْإِيمَانِ يُسَاوِرُهُ الشَّكُّ، وَتَعْبَثُ بِعَقْلِهِ الظُّنُونُ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الرِّدَّةِ، وَيَدْفَعُهُ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْإِسْلَامِ ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ﴾.

 

6- وَمِنَ الْحِكَمِ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ: تَحْقِيقُ رَجَاءِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ إِذْ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُوَلِّيَهُ اللهُ شَطْرَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ؛ لِأَنَّهُ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بُعِثَ هُوَ -صلى الله عليه وسلم- لِتَجْدِيدِ مِلَّتِهِ ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.

7- وَمِنَ الْحِكَمِ: بَيَانُ أَنَّ الْبِرَّ لَا يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ تَوْلِيَةِ الْوَجْهِ شَطْرَ جِهَةٍ خَاصَّةٍ؛ فَمَدَارُ الْإِيمَانِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة: 177].

8- وَمِنَ الْحِكَمِ: بَيَانُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ الْقِبْلَةَ؛ يَكُونُ اتِّبَاعُ غَيْرِهَا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَانْصِرَافًا عَنِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ هِيَ الْحَقُّ ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ﴾ [سورة البقرة: 144]..

9- وَمِنَ الْحِكَمِ: تَصْدِيقُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ كُتُبُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ.

((فَلْيَتَّقِ اللهَ أَقْوَامٌ يَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِ أَهْلِ القِبْلَةِ وَيُكَفِّرُونَهُم بِغَيْرِ حَقٍّ))

عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ...

الْبَلَاءُ مَوْكُولٌ بِالْمَنْطِقِ، وَاللِّسَانُ مَرْكَبٌ خَطِرٌ مِنْ مَرَاكِبِ الْعَطَبِ، وَقَدْ حَذَّرَنَا اللهُ شَرَّهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ مَسْئُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا قَالَهُ فِي الدُّنْيَا؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].

مِنَ الْآفَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا: تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ كَاتِّبَاعِ الظَّنِّ، أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي رَدِّ عُدْوَانِهِ إِلَى حَدِّ تَكْفِيرِهِ بِلَا مُسَوِّغٍ، أَوْ جَعْلِ كَبَائرِهِ نَوَاقِضَ لِإِيمَانِهِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 94].

فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ؛ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ».

وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ إِلَّا حَارَ -أَيْ: رَجَعَ- عَلَيْهِ».

وَقَالَ ﷺ: «مَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ؛ فَهُوَ كَقَتْلِهِ».

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ الْجَامِعِ»، وَغَيْرِهِ.

عَلَى هَذَا؛ فَيَنْبَغِي لِلنَّاصِحِ لِنَفْسِهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يَتَجَنَّبَ أَعْرَاضَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ»: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ».

وَإِنَّمَا كَانَ إِثْمُ التَّكْفِيرِ عَائِدًا عَلَى صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُكَفَّرُ أَهْلًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ فِي «النَّصِيحَةِ» أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ ابْنَ سِيرِينَ الدَّيْنُ، وَحُبِسَ بِهِ؛ قَالَ: «إِنِّي أَعْرِفُ الذَّنْبَ الَّذِي أَصَابَنِي هَذَا؛ عَيَّرْتُ رَجُلًا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُفْلِسُ».

فَابْتُلِيَ بِالدَّيْنِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَسَرَهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ وَفَاءً وَلَا أَدَاءً، فَحُبِسَ بِسَبَبِهِ؛ وَلِكَنَّهُ لِتَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ وَخَوْفِهِ مِنَ اللهِ؛ يَعْلَمُ قِلَّةَ ذُنُوبِهِ، فَعَلِمَ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أُصِيبَ بِمَا أُصِيبَ بِهِ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَأَعْرِفُ السَّبَبَ الَّذِي لِأَجْلِهِ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي: عَيَّرْتُ رَجُلًا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُلْتُ لَهُ: يَا مُفْلِسُ.

هَذَا؛ فَكَيْفَ بِالْوُقُوعِ فِي الْأَعْرَاضِ؟!

فَكَيْفَ بِفَرْيِهَا فَرْيَ الْأَدِيمِ؟!

فَكَيْفَ بِالتَّخْوِينِ؟!

فَكَيْفَ بِالْوُقُوعِ عَلَى النَّاسِ وُقُوعَ الصَّاعِقَةِ؟!

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فَاشٍ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.

كَيْفَ بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؛ بِجَعْلِهِمْ كُفَّارًا وَمُرْتَدِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟!!

كَلِمَةٌ قَالَهَا صَاحِبُهَا مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمْ يَنْسَهَا؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ غَافِلِينَ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يَلُوكُ كَلِمَةَ (يَا كَافِرُ) الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ (يَا مُفْلِسُ)؛ يَلُوكُهَا بِلِسَانِهِ صَبَاحَ مَسَاءَ؟!!

عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرًا وَهُوَ مُجَاوِرٌ بِمَكَّةَ، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي فِهْرٍ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُشْرِكًا؟

فَقَالَ: مَعَاذَ الله، وَفَزِعَ لَذَلِكَ.

فَقَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَافِرًا؟

قَالَ: لَا».

رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَأَحْمَدُ مُخْتَصَرًا، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي «صِفَةِ النِّفَاقِ» بِنَحْوِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ».

وَعَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ: رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ, حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ؛ انْسَلَخَ مِنْهُ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ, وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ».

قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ؛ الرَّامِي، أَوِ الْمَرْمِيُّ؟

قَالَ: «بَلِ الرَّامِي».

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي «التَّارِيخِ»، وَابْنُ حِبَّانَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَوَا حَسْرَتَاهُ عَلَى مَا آلَ إِلَيْهِ الْحَالُ، وَوَا خَوْفَاهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ تَحَلُّلِ عُرَاهَا، وَتَبَدُّدِ أَسْبَابِ قُوَاهَا، وَتَمَزُّقِهَا، حَتَّى تَصِيرَ نَهْبًا لِلْأُمَمِ، كَمَا قَالَ ﷺ: «تَتَدَاعَى عَلَيْهَا الأُمَمُ، كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا».

فَوَا خَوْفَاهُ مِنْ وُقُوعِ السُّوءِ عَلَيْهَا، وَمِنْ تَمَزُّقِ أَمْرِهَا، وَتَبَدُّدِ أَحْوَالِهَا، وَتَبَدُّلِ أَسْبَابِهَا؛ حَتَّى تَصِيرَ بِحَيْثُ تَلْقَى عِقَابَ رَبِّهَا.

تَمَسَّكُوا بِعُرَى دِينِكِمْ.

يَا أَهْلَ الْقِبْلَةِ؛ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اخْتَارَ لَكُمْ أَجَلَّ الْقِبَلِ وَأْعْظَمَهَا، وَأَرْسَلَ إِلَيْكُمْ أَعْظَمَ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ أَجَلَّ وَأَكْرَمَ الْكُتُبِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اصْطَفَاكُمْ، فَجَعَلَكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ فَحَقِّقُوا الْخَيْرِيَّةَ فِيكُمْ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ؛ نَجَوْتُمْ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا؛ فَإِلَى اللهِ الْمُشْتَكَى، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.

اتَّقُوا اللهَ فِي أُمَّتِكُمْ...فِي دِينِكُمْ.

اِتَّقُوا اللهَ فِي قِبْلَتِكُمْ.

لَا تَتَشَرْذَمُوا، وَلَا تَتَشَظَّوْا.

تَمَاسَكُوا وَتَلَاحَمُوا، وَكُونُوا جَمِيعًا كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ كَمَا وَصَفَكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

انْظُرِي يَا رِيَاحُ ذَا الْقَبَسَ الْوَهْـــ                  هَاجَ قَدْ رَاوَغَ الْفَنَاءَ اقْتِدَارَا

عَاشَ تَحْتَ الْأَطْبَاقِ دَهْرًا فَدَهْرًا                         يَتَلَوَّى بِثِقْلِهِنَّ انْبِهَارَا

كُلَّمَا رَامَ مَنْفَذًا رَدَّدَتْهُ                               فِي ظَلَامِ الْأَعْمَاقِ يَعْنُو صَغَارَا

لَمْ يَزَلْ دَائِبًا يُنَقِّبُ مُلْتَا                             عًا وَيَحْتَالُ فِي صَفَاهَا احْتِفَارَا

صَدَعَ الصَّخْرَةَ المُلَمْلَمَةَ الْكُبْــــ           رَى وَأَسْرَى حَتَّى نَمَا فَاسْتَطَارَا

وَرَأَى نُورَهُ فَجُنَّ مِنَ الْفَرْ                                حَةِ أَعْمَى رَأَى الظَّلَامَ نَهَارَا

أَيُّ شَيْءٍ هَـــذَا؟ وَمَا ذَاكَ؟ بَلْ هَا                  ذَا وَزَاغَتْ لِـحَاظُهُ اسْتِكْبَارَا

قَدْ رَأَى عَالَمًا مَهُولًا مِنَ الْمَجْـــ        هُولِ غَشَّاهُ نُورُهُ فَاسْتَنَارَا

لَيْسَ يَدْرِي: أَهُمْ عِدًى أَمْ صَدِيقٌ؟              أَ يُبِينُونَ لَوْ أَرَادَ حِوَارَا؟

أَمْ صُمُـــوتٌ لَا يَنْطِقُــونَ ازْدِرَاءً             لِغَرِيبٍ عَنْهُمْ أَسَاءَ الْجِوَارَا؟

وَاغِلٌ يَعْتَدِي يُسَـــــائِــلُ عَنْ أَسْـ                      رَارِ خَلْقٍ أَجَلَّ مِنْ أَنْ تُثَارَا

كَيْفَ غَرَّتْهُ نَفْسُهُ؟كَيْفَ ظَنَّ الْـ                   غَيْبَ يُلْقِي لِثَامَهُ وَالْخِمَارَا؟

أَمَلٌ بَاطِلٌ فَلَوْ أَسْفَرَ الْغَيْـــ                        بُ لَأَعْمَى بِنُورِهِ الْأَنْوَارَا

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ أُمَّتَنَا، وَأَنْ يُدِيمَ عَلَى بَلَدِنَا الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَى دُوَلِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلِّهَا بِالْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ التَّخَالُفِ، وَالْمُشَاقَّةِ، وَالْمُنَازَعَةِ.

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ
  بِنَاءُ الْأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ الْقَوِيَّةِ وَحِمَايَتُهَا
  حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى البعثة
  الشِّتَاءُ.. أَحْكَامٌ وَآدَابٌ وَمَحَاذِير
  حَيَاةُ النَّبِيِّ ﷺ أُنْمُوذَجٌ تَطْبِيقِيٌّ لِصَحِيحِ الْإِسْلَامِ
  جريمة تكفير المجتمعات الإسلامية
  الْحَمْدُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  فَضَائِلُ الِاسْتِغْفَارِ
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ
  الدِّينُ وَالْوَطَنُ مَعًا.. بِنَاءٌ لَا هَدْمَ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان