أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ

أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ

((أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مُشَاهَدَةُ النِّعْمَةِ وَمُطَالَعَةُ عَيْبِ النَّفْسِ))

فَإِنَّ الْعَاقِلَ خَصْمُ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ خَصْمُ أَقْدَارِ رَبِّهِ، الْعَاقِلُ إِذَا أُصِيبَ بِمَا لَا يُحِبُّ اتَّهَمَ نِيَّتَهُ، أَوِ اتَّهَمَ عَمَلَهُ، أَوِ اتَّهَمَهُمَا مَعًا، وَأَمَّا الْجَاهِلُ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ إِذَا أُصِيبَ بِمَا لَا يُحِبُّ؛ حَمَلَ عَلَى أَقْدَارِ رَبِّهِ، وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ لَا نِيَّتَهُ وَلَا عَمَلَهُ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ فِي حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِسَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ-: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي)).

((أَبُوءُ)) يَعْنِي: أُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ؛ فَأَعْتَرِفُ وَأُقِرُّ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأُشَاهِدُ حُصُولَ الْمِنَّةِ، وَأُقِرُّ وَأَعْتَرِفُ بِذَنْبِي، فَأَعْتَرِفُ وَأُقِرُّ بِحُصُولِ التَّقْصِيرِ مِنَ النَّفْسِ وَوُقُوعِهَا فِيمَا لَا تُحِبُّهُ وَلَا تَرْضَاهُ، كَذَا عَلَّمَنَا النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ.

((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))

وَالنَّاسُ فِي أَعْمَالِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتُوا فِيهَا بِشَرْطَيْنِ: بِالْإِخْلَاصِ، وَالْمُتَابَعَةِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ابْتَلَاهُمْ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وَلَمْ يَقُلْ: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَكْثَرُ عَمَلًا.

وَقَدْ فَسَّرَ ذَلِكَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقَالَ: ((أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ)).

وَالْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا إِذَا كَانَ خَالِصًا وَصَوَابًا:

وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ للهِ.

وَالصَّوَابُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ الَّذِي لِأَجْلِهِ ابْتَلَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِهَذَا الْأَمْرِ نَفْسِهِ، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].

فَخَلَقَ اللهُ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ وَالِاسْتِخْرَاجِ لِمَا فِي الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ، وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَالزِّينَةِ وَالْمَتَاعِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ؛ جَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ خَالِصًا للهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

* فَالْقِسْمُ الْمُوَفَّقُ -وَهُوَ أَعْلَى الْأَقْسَامِ-: الَّذِي أَخْلَصَ الْعَمَلَ للهِ، وَأَخْلَصَ الْمُتَابَعَةَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهَؤُلَاءِ يَدُورُونَ مَعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ حَيْثُمَا دَارَا، وَهَؤُلَاءِ يُخْلِصُونَ الْعَمَلَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا يَجْعَلُونَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَشْرَكَ بِرَبِّهِ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الرَّجلُ يُقاتِلٌ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً؛ فَأَنَّى ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟)). فَسُئِلَ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَعَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَعَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟

فَقَالَ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)).

فَمَنْ مَحَّصَ الْعَمَلَ خَالِصًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قُبِلَ مِنْهُ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَتَوَفَّرَ الشَّرْطُ الثَّانِي مَضْمُومًا إِلَيْهِ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِيمَا يَأْتِي وَمَا يَدَعُ، مُتَأَسِّيًا بِنَبِيِّهِ ﷺ فِي عَمَلِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ هُوَ أَجَلُّ الْأَقْسَامِ وَأَعْلَى الْأَقْسَامِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُوَفَّقُ الَّذِي وَفَّقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَأَخْلَصَ وَاتَّبَعَ، وَلَمْ يُشْرِكْ وَلَمْ يَبْتَدِعْ، فَهَذَا أَجَلُّ الْأَقْسَامِ طُرًّا وَأَعْلَاهَا قَدْرًا.

* وَيُقَابِلُهُ قِسْمٌ آخَرُ -هُوَ أَحَطُّهَا وَأَدْنَاهَا-: وَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي لَا إِخْلَاصَ وَلَا مُتَابَعَةَ، فَلَا هُوَ الَّذِي يُخْلِصُ الْعَمَلَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا هُوَ الَّذِي يُتَابِعُ النَّبِيَّ الْأَمِينَ ﷺ، وَهَؤُلَاءِ يَخْبِطُونَ فِي شَهَوَاتِهِمْ، وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ مُرَادٍ إِلَّا مَا يُلَائِمُ خَبِيثَ طَبْعِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُخْلِصُونَ وَلَا يَتَّبِعُونَ، وَهُمْ يُقَابِلُونَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ الشَّرِيفَ، وَهُمْ بِأَحَطِّ الْمَنَازِلِ وَأَقَلِّ الدَّرَكَاتِ.

* وَقِسْمٌ يُخْلِصُ فِي الْعَمَلِ؛ وَلَكِنَّهُ يُفَرِّطُ فِي مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ كَالْمُتَفَقِّرَةِ وَالْجُهَّالِ مِنَ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ، فَهَؤُلَاءِ يُخْلِصُونَ فِي قَصْدِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ الْمَأْمُونَ فِي عَمَلِهِمْ وَقَوْلِهِمْ، فَيَأْتُونَ بِالْمُبْتَدَعَاتِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَهِيَ مَرْدُودَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اخْتَلَّ فِيهَا الشَّرْطُ الثَّانِي مِنْ شَرْطَيْ قَبُولِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهُوَ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَؤُلَاءِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ عَمَلُهُمْ وَذِكْرُهُمْ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)) يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ لَا يَقْبَلُهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَهَذَا قِسْمٌ يُفْنِي الْأَعْمَارَ فِي الْعَمَلِ، وَفِي مُحَاوَلَةِ الْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ أَوْفَقُ عَلَى حَسَبِ هَوَاهُ، وَعَلَى مُقْتَضَى جَهْلِهِ، لَا عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

* وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ: فَقِسْمٌ يَأْتِي بِالْأَعْمَالِ عَلَى وَفْقِ الْمُتَابَعَةِ؛ وَلَكِنَّهُ يُرَائِي بِهَا النَّاسَ، وَلَا يُخْلِصُ فِيهَا لِرَبِّ النَّاسِ؛ كَأَهْلِ الرِّيَاءِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ لِأَجْلِ النَّاسِ، وَلَا يَعْمَلُونَ لِأَجْلِ رَبِّ النَّاسِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَؤُلَاءِ عَمَلُهُمْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ -أَيْضًا-؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ)).

وَالْعَمَلُ الْخَالِصُ لَا يَكُونُ خَالِصًا إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْتَخْرِجَ شَرْطَيِ الْقَبُولِ مِنْ هَذَا النَّصِّ -أَيْضًا-: ((إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا)).

وَإِذَنْ؛ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَلَا يَكُونُ خَالِصًا إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، ((وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ))، وَهَذَا هُوَ الْإِخْلَاصُ.

فَالنَّاسُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَهَذَا تَقْسِيمٌ نَافِعٌ جِدًّا، وَهُوَ -كَمَا تَرَى- شَرْعِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ -كَمَا تَرَى- ضَرُورِيٌّ بَدَهِيٌّ، يَسْتَخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ كَمَا يَدُلُّهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ.

فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ -بِتَوْفِيقِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-- فِي أَعْلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِالدُّونِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا بِذَلِكَ فَقَالَ: ((فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ))؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَرَقِّيًا فِي مَدَارِجِ السَّالِكِينَ إِلَى أَعْلَى مَا يَكُونُ مِنْ مَدَارِجِهِمْ؛ لِيَحْظَى بِرِضْوَانِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَبِرِضَائِهِ عَنْهُ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَحِينَئِذٍ فَالْفَوْزُ وَالْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ؛ وَإِلَّا فَلَا يَلُومَنَّ امْرُؤٌ إِلَّا نَفْسَهُ!

هَذَا التَّقْسِيمُ نَافِعٌ مَعْرِفَتُهُ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَظَ بِعَيْنِ الرِّعَايَةِ وَبِبَصَرِ الْبَصِيرَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ حَيْثُ هُوَ، فَيُشَخِّصُ حَالَتَهُ أَوَّلًا؛ فِي أَيِّ قِسْمٍ أَنْتَ؟!

أَفِي هَذَا الْقِسْمِ الْعَالِي الَّذِي لَهُ الْقَدْرُ الْعَالِي عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؟!
أَمْ قَدْ تَدَنَّى بِهِ الْحَالُ، وَصَارَ إِلَى الدَّرْكِ الْهَابِطِ وَالْحَمْأَةِ الْمُنْتِنَةِ؟!

أَمْ هُوَ يَأْتِي بِإِخْلَاصٍ لَا مُتَابَعَةَ مَعَهُ؟!

أَمْ هُوَ يَأْتِي بِمُتَابَعَةٍ لَا إِخْلَاصَ مَعَهَا؟!

مَنْ أَنْتَ؟!

مَنْ تَكُونُ؟!

وَأَيْنَ أَنْتَ؟!

وَأَيْنَ تَكُونُ؟!

فَلْتُجِبْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَبِّكَ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ!

((أَقْسَامُ الْأَنْفُسِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ))

وَلْتَعْلَمْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ- أَنَّ الْأَنْفُسَ قَدْ قُسِّمَتْ أَقْسَامًا؛ فَالْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- قَدْ قَسَّمَ الْأَنْفُسَ أَقْسَامًا كَمَا فِي ((الْمَدَارِجِ))، فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَأَمَّا مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ؛ فَمَشْهَدُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَيَوَانِ إِلَّا فِي اعْتِدَالِ الْقَامَةِ وَنُطْقِ اللِّسَانِ!)).

إِنَّ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ مَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ إِلَّا بِاعْتِدَالِ الْقَامَةِ وَالْمَنْطِقِ، مِنَ الْإِنْسَانِ مَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ إِلَّا بِاعْتِدَالِ قَامَتِهِ وَنُطْقِ لِسَانِهِ، وَأَمَّا لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ فَدُونَكَ -وَذَكَرَ الْأَقْسَامَ -رَحِمَهُ اللهُ-- فَقَالَ: ((فَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ كَلْبِيَّةٌ، لَوْ صَادَفَ جِيفَةً تُشْبِعُ أَلْفَ كَلْبٍ لَوَقَعَ عَلَيْهَا وَحَمَاهَا مِنْ سَائِرِ الْكِلَابِ، وَنَبَحَ كُلَّ كَلْبٍ يَدْنُو مِنْهَا، فَلَا تَقْرَبُهَا الْكِلَابُ إِلَّا عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ وَغَلَبَةٍ، وَلَا يَسْمَحُ لِكَلْبٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَهَمُّهُ شِبَعُ بَطْنِهِ مِنْ أَيِّ طَعَامٍ اتَّفَقَ؛ مَيْتَةٍ أَوْ مُذَكًّى، خَبِيثٍ أَوْ طَيِّبٍ، وَلَا يَسْتَحِي مِنْ قَبِيحٍ، إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، إِنْ أَطْعَمْتَهُ بَصْبَصَ بِذَنَبِهِ وَدَارَ حَوْلَكَ، وَإِنْ مَنَعْتَهُ هَرَّكَ وَنَبَحَكَ.

وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ حِمَارِيَّةٌ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِلْكَدِّ وَالْعَلَفِ، كُلَّمَا زِيدَ فِي عَلَفِهِ زِيدَ فِي كَدِّهِ، أَبْكَمُ الْحَيَوَانِ وَأَقَلُّهُ بَصِيرَةً؛ وَلِهَذَا مَثَّلَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِهِ مَنْ حَمَّلَهُ كِتَابَهُ فَلَمْ يَحْمِلْهُ مَعْرِفَةً وَلَا فِقْهًا وَلَا عَمَلًا، وَمَثَّلَ بِالْكَلْبِ عَالِمَ السُّوءِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَفِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ أَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا)).

نَفْسٌ كَلْبِيَّةٌ؛ فَهَذِهِ نَفْسٌ مُسْتَحْوِذَةٌ، وَهَذِهِ نَفْسٌ خَبِيثَةٌ، وَالْكَلْبُ يَقَعُ عَلَى الْجِيفَةِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا أَلْفُ كَلْبٍ دُونَهُ لَكَفَتْهُمْ جَمِيعًا؛ وَلَكِنَّهُ يَحْمِي جِيفَتَهُ هَذِهِ عَنْ إِخْوَانِهِ مِنَ الْكِلَابِ، فَمَا يَزَالُ يَنْبَحُهُمْ وَيَهِرُّهُمْ دَافِعًا إِيَّاهُمْ وَمُدَافِعًا لَهُمْ حَتَّى يَسْتَحْوِذَ عَلَى جِيفَتِهِ وَحْدَهُ، فَهَذَا فِيهِ مِنَ الْخُبْثِ مَا فِيهِ، وَهَذَا إِنْ أَطْعَمْتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْكَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُطْعِمْهُ نَبَحَكَ وَهَرَّكَ، وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِعَالِمِ السُّوءِ الْمَثَلَ بِهِ، {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} [الأعراف: 176].

فَنَفْسٌ كَلْبِيَّةٌ تُرِيدُ الِاسْتِحْوَاذَ وَالِاسْتِئْثَارَ بِالشَّهَوَاتِ وَحْدَهَا، وَمَا تَزَالُ تُدَافِعُ دُونَ الْجِيَفِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَرْذُولِ الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- حَتَّى تَسْتَبْشِعَ الْأَنْفُسُ السَّلِيمَةُ ذَلِكَ اسْتِبْشَاعًا.

وَنَفْسٌ حِمَارِيَّةٌ؛ وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا الْمَثَلَ بِمَنْ حَمَلَ الْأَسْفَارَ فَلَمْ يَزْدَدْ بِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا، وَلَمْ يَزْدَدْ بِهَا تَطْبِيقًا وَعَمَلًا، فَضَرَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَثَلَ بِالْحِمَارِ فِي حَمْلِهِ الْأَسْفَارَ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَلَمْ يَحْمِلُوهُ الْحَمْلَ الَّذِي يُرِيدُهُ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ، أَنْ يَكُونَ سُلُوكًا وَمِنْهَاجًا، وَأَنْ يَكُونَ تَطْبِيقًا وَعَمَلًا، وَأَنْ يَتَحَوَّلَ النَّصُّ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى وَاقِعٍ يُعَاشُ، وَإِلَى حَيَاةٍ تُسْلَكُ بِمِنْهَاجِهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَحْمَدِ خَلْفَ النَّبِيِّ أَحْمَدَ ﷺ.

نَفْسٌ حِمَارِيَّةٌ؛ وَهِيَ أَبْلَدُ مَا تَكُونُ، وَهِيَ أَثْقَلُ مَا تَكُونُ؛ فَإِنَّ فِي صَوْتِهَا مَا فِي صَوْتِهَا مِنَ النُّكْرِ، وَفِي بَلَادَتِهَا مَا فِي بَلَادَتِهَا مِنَ النُّكْرِ، وَهَذِهِ تُطْعَمُ وَتُعْلَفُ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَزْدَادَ كَرْبًا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَزِيدَهَا عَالِفُهَا وَمُطْعِمُهَا عَمَلًا وَمَشَقَّةً، فَمَا تَزَالُ فِي دَأَبِهَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ وَتُقْضَى.

نَفْسٌ حِمَارِيَّةٌ!

((وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ سَبُعِيَّةٌ غَضَبِيَّةٌ، هِمَّتُهُ الْعُدْوَانُ عَلَى النَّاسِ، وَقَهْرُهُمْ بِمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ قُدْرَتُهُ، طَبِيعَتُهُ تَتَقَاضَى ذَلِكَ كَتَقَاضِي طَبِيعَةِ السَّبُعِ لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ)).

وَنَفْسٌ سَبُعِيَّةٌ تَسْتَمْرِئُ الْعُدْوَانَ عَلَى الْآخَرِينَ، وَلَا تَكُفُّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ دَيْدَنُهَا وَمِنْهَاجُهَا وَعَمَلُهَا فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهَا؛ طَعْنًا بِاللِّسَانِ، وَطَعْنًا بِالسِّنَانِ، وَطَعْنًا بِالْبَنَانِ، لَا تَكُفُّ عَنْ ذَلِكَ وَلَا تَرْعَوِي، نَفْسٌ سَبُعِيَّةٌ كَأَنَّمَا فُطِرَتْ عَلَى الْعُدْوَانِ وَالِافْتِرَاسِ، لَا تَكُفُّ عَنْهُ، وَلَا عَنْهُ تَحِيدُ!

((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَبْعُهُ طَبْعُ خِنْزِيرٍ، يَمُرُّ بِالطَّيِّبَاتِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهَا، فَإِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ عَنْ رَجِيعِهِ قَمَّهُ، وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ يَسْمَعُ مِنْكَ، وَيَرَى مِنَ الْمَحَاسِنِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ الْمَسَاوِئِ، فَلَا يَحْفَظُهَا، وَلَا يَنْقُلُهَا، وَلَا تُنَاسِبُهُ، فَإِذَا رَأَى سَقْطَةً أَوْ كَلِمَةً عَوْرَاءَ وَجَدَ بُغْيَتَهُ وَمَا يُنَاسِبُهَا، فَجَعَلَهَا فَاكِهَتَهُ وَنُقْلَهُ)).

وَنَفْسٌ خِنْزِيرِيَّةٌ هِيَ أَقْذَرُ مَا تَكُونُ، تَدَعُ الطَّيِّبَاتِ، وَتُقْبِلُ عَلَى الْخَبَائِثِ، تَدَعُ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَلَا تَجِدُ لَذَّتَهَا وَلَا تُحَقِّقُ ذَاتَهَا إِلَّا فِيمَا حَرَّمَ اللهُ!

نَفْسٌ خِنْزِيرِيَّةٌ تَتَقَمَّمُ الْفَضَلَاتِ، تَتَقَمَّمُ النَّجَاسَاتِ، لَا تَعْرِفُ الطُّهْرَ وَلَا الطَّهَارَاتِ، وَإِنَّمَا هَذَا طَبْعُهَا وَتِلْكَ جِبِلَّتُهَا، فَلَا تَحِيدُ عَنْهَا وَلَا عَنْهَا تَرِيمُ.

((وَمِنْهُمْ مَنْ نَفْسُهُ فَأْرِيَّةٌ، فَاسِقٌ بِطَبْعِهِ، مُفْسِدٌ لِمَا جَاوَرَهُ، تَسْبِيحُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَهُ لِلْفَسَادِ)).

وَنَفْسٌ فَأْرِيَّةٌ كَأَنَّمَا جُبِلَتْ عَلَى الْفِسْقِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْفَأْرَةِ: ((هِيَ الْفُوَيْسِقَةُ))، فَكَأَنَّمَا الْفِسْقُ طَبْعُهَا، لَا تَحِيدُ عَنْهُ، وَلَا تَعْرِفُ الْحَيَاةَ إِلَّا مَمْزُوجَةً بِهِ.

نَفْسٌ فَأْرِيَّةٌ تَسْعَى لِلْهَلَاكِ وَلِلْإِفْسَادِ، وَلَا تُرَاعِي وَلَا تُرَاقِبُ، وَلَا تَرْقُبُ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.

((وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ عَلَى طَبِيعَةِ الطَّاوُسِ، لَيْسَ لَهُ إِلَّا التَّطَوُّسُ وَالتَّزَيُّنُ بِالرِّيشِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ)).

وَنَفْسٌ طَاوُسِيَّةٌ، كَالطَّاوُسِ يَنْتَفِخُ بِرِيشِهِ وَأَلْوَانِهِ وَزِينَتِهِ، وَلَيْسَ تَحْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ.

عَدَّدَ الْإِمَامُ الْأَنْفُسَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.

وَالْمَرْءُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي التَّقْسِيمِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ!

وَقَالَ: ((وَأَحْمَدُ طَبَائِعِ الْحَيَوَانَاتِ طَبَائِعُ الْخَيْلِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْحَيَوَانَاتِ نُفُوسًا، وَأَكْرَمُهَا طَبْعًا، وَكَذَلِكَ الْغَنَمُ، وَكُلُّ مَنْ أَلِفَ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ اكْتَسَبَ مِنْ طَبْعِهِ وَخُلُقِهِ، فَإِنْ تَغَذَّى بِلَحْمِهِ كَانَ الشَّبَهُ أَقْوَى؛ فَإِنَّ الْغَاذِيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى)).

أَفْضَلُ النُّفُوسِ مَنْ كَانَ عَلَى النَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ كَالْخَيْلِ؛ فَإِنَّ فِيهَا مِنَ الْبَرَكَةِ مَا فِيهَا، وَإِنَّ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا فِيهَا.

فَهَذِهِ الْأَنْفُسُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهَا، وَأَنْ يَعْرِفَهَا مُحْصِيًا إِيَّاهَا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي نَفْسِهِ؛ أَفِي طَبْعِهِ مِنْ هَذِهِ الطِّبَاعِ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ؟!

أَفِي ذَاتِهِ مِنْ هَذِهِ الدَّنَايَا مَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ؟!

أَيْنَ هُوَ؟!

مَنْ أَنْتَ؟!

وَمَنْ تَكُونُ؟!

وَأَيْنَ أَنْتَ؟!

وَأَيْنَ تَكُونُ؟!

فَلْتَتَأَمَّلْ، وَاللهُ يَحْفَظُكَ!

((ثَمَرَةُ التَّعَلُّقِ بِاللهِ وَخُطُورَةُ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهِ))

النَّاسُ يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَعَلَّقُوا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ انْقَطَعَ بِهِ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].

تَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُ عَلَائِقِهِمْ بِغَيْرِ رَبِّهِمْ، وَتَقَطَّعَتْ لَهُمْ أَسْبَابُ عَلَائِقِهِمْ بِغَيْرِ رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَكُلُّ مَنْ تَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- انْقَطَعَ بِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَكَائِنًا مَا يَكُونُ، أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ.

وَأَمَّا مَا كَانَ للهِ فَإِنَّهُ يَدُومُ وَيَتَّصِلُ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ لِغَيْرِ اللهِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ وَيَنْفَصِلُ.

فَلْيُحَرِّرِ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَلْيَتَأَمَّلْ!

  ((أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ!))

إِنَّ الْمُسْلِمَ غَالٍ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِدِينِهِ، بِعَقِيدَتِهِ، بِعِبَادَتِهِ، بِأَخْلَاقِهِ،

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لحجرات: 13].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالْمَجْمُوعَةُ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَ النَّاسِ أُخُوَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَجَعَلْنَاكُمْ جُمُوعًا عَظِيمَةً وَقَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةً؛ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِلتَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّعَالِي بِالْأَحْسَابِ، إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.

إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِظَوَاهِرِكُمْ، وَيَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ، خَبِيرٌ عَلَى سَبِيلِ الشُّهُودِ وَالْحُضُورِ بِبَوَاطِنِكُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارَكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى زَادَكُمْ إِلَى مَعَادِكُمْ.

وَعَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)).

وَكَانَ ﷺ يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلا دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذَا؟! أَرْسِلْنِي)). فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَعَلَ لا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ، يَقُولُ: ((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟)).

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِذَنْ -وَاللهِ- تَجِدُنِي كَاسِدًا)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ))، أَوْ قَالَ: ((أَنتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ)). هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ.

وَأَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي ((شَرْحِ السُّنَّةِ))، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ زَاهِرٍ نَفْسِهِ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَصَحَّحَ الْحَدِيثَ الشَّيْخُ نَاصِرٌ أَيْضًا -رَحِمَهُ اللهُ-.

((أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا))، وَهُوَ زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ الْأَشْجَعِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((فَيُجَهِّزُهُ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ))؛ يَعْنِي: مِنَ الْحَضَرِ، حَيْثُ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ((إِلَى الْبَادِيَةِ))؛ يَعْنِي: يُعْطِيهِ عِنْدَ عَزْمِهِ الْعَوْدَةَ إِلَى الْبَادِيَةِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطُّرَفِ وَالْمُسْتَحْسَنَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْحَاضِرَةِ، وَلَا تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ، فَيُعْطيِهِ مَا يُعِينُهُ وَمَا يَزِيدُ عَلَى كِفَايَةِ أَهْلِهِ؛ رَدًّا لِهَدِيَّتِهِ.

((وَكَانَ يَهْدِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ))؛ أَيْ: جَرَتْ عَادَتُهُ أَنَّهُ يَهْدِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ مَا يُوجَدُ بِالْبَادِيَةِ مِنْ ثِمَارٍ وَنَبَاتٍ وَدُهْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَتَوَفَّرُ فِي الْحَضَرِ.

((وَكَانَ زَاهِرٌ رَجُلًا دَمِيمًا))؛ يَعْنِي: قَبِيحَ الصُّورَةِ، كَرِيهَ الْمَنْظَرِ، مَعَ كَوْنِهِ سَلِيمَ الطَّوِيَّةِ، مَلِيحَ الْمَخْبَرِ.

((وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ))؛ أَيْ: فِي السُّوقِ.

((فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ))؛ أَيْ: أَدْخَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَيْهِ تَحْتَ إِبِطَيْ زَاهِرٍ، وَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَالرَّجُلُ -أَيْ: زَاهِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- لَمْ يَرَهُ.

((فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟! أَرْسِلْنِي))؛ أَيْ: أَطْلِقْنِي.

((فَالْتَفَتَ))؛ أَيْ: فَنَظَرَ بِبَعْضِ بَصَرِهِ.

((فَجَعَل لَا يَأْلُو))؛ يَعْنِي: لَا يُقَصِّرُ.

((مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ))؛ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ؛ فَالْمَعْنَى: فَشَرَعَ لَا يُقَصِّرُ فِي إِلْصَاقِ ظَهْرِهِ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ.

((قَالَ: فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ...))؛ أَيْ: أَنَسٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: ((فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ عَرَفَهُ))؛ فَكَرَّرَ أَنَّهُ عَرَفَهُ مَرَّةً أُخْرَى؛ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الِالْتِصَاقَ مَنْشَؤُهُ مَعْرِفَتُهُ بِالنَّبِيِّ ﷺ لَيْسَ غَيْرُ.

فَلَمَّا عَرَفَهُ، جَعَلَ لَا يُقَصِّرُ فِي إِلْصَاقِ ظَهْرِهِ بِصَدْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟!!)): هَذَا حَضٌّ لِزَاهِرٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنَ اللهِ، بِبَذْلِ نَفْسِهِ فِيمَا يُرْضِي اللهَ، أَوْ: دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ.

وَأَمَّا عَرْضُهُ لِلْبَيْعِ، فَإِنَّمَا هُوَ مُزَاحٌ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ؛ يَعْنِي: مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ حَضٌّ لِزَاهِرٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ مِنَ اللهِ، بِبَذْلِهَا فِيمَا يُرْضِي اللهَ، أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ.

وَالْعَرْضُ لِلْبَيْعِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِلْمُزَاحِ فَقَطْ.

الرَّاجِحُ فِي الْقَوْلَيْنِ هُوَ أَنَّهُ عَبْدٌ أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ.

((مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟!!))؛ الَّذِي أَخْلَصَ دِينَهُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَقَالَ زَاهِرٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِذَنْ -وَاللهِ- تَجِدُنِي كَاسِدًا))؛ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: تَجِدُنِي رَخِيصًا، سِلْعَةٌ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهَا مُشْتَرٍ.

مَحَلُّ الْقَسَمِ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ زَاهِرٍ: خَوْفُ زَاهِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ كَاسِدًا عِنْدَ اللهِ، فَهُوَ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ سِلْعَةً بَائِرَةً كَاسِدَةً عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ: ((لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ)). أَوْ قَالَ: ((أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ))؛ أَكَّدَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ بِخَاسِرٍ، وَلَا كَاسِدٍ، وَأَنَّهُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ ذُو قِيمَةٍ عِنْدَ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَلَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ إِلَّا الْمَعْصُومُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ))؛ أَتَى بِهَذَا التَّعْبِيرِ الْمُعْجِزِ الْبَلِيغِ؛ إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ، أَنْتَ يَا زَاهِرُ تُوَفِّرُ عَلَيْنَا عَنَاءَ الْحُصُولِ عَلَى بَعْضِ احْتِيَاجَاتِنَا مِنَ الْبَادِيَةِ، وَنَحْنُ -أَيْضًا- نَفْعَلُ مَعَكَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِاحْتِيَاجَاتِكَ مِنَ الْحَضَرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، نُقَابِلُ الْهَدِيَّةَ بِالْهَدِيَّةِ، وَلَيْسَ كَلَامُ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ مَعْنَى الْمَنِّ بِالْعَطِيَّةِ، كَمَا فَهِمَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَمْ يَسْبُرْ غَوْرَ عِبَارَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَكِنْ هَذَا إِرْشَادٌ وَتَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ إِلَى مُقَابَلَةِ الْهَدِيَّةِ بِمِثْلِهَا أَوْ خَيْرٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ، وَمِنَ التَّخَلُّقِ بِالْمُجَامَلَةِ، وَفِيهِ تَطْيِيبٌ لِلْخَوَاطِرِ.

((تَجِدُنِي كَاسِدًا))، لَا يَرْغَبُ فِيَّ أَحَدٌ.

قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ وَسِيمًا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ النَّاسِ، وَلَيْسَ بِوَسِيمٍ وَلَا وَجِيهٍ عِنْدَ اللهِ، زَاهِرٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُخْبِرُهُ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُ مُرْتَفِعُ الْأَجْرِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَمْ يَكُنْ جَمِيلًا، كَانَ دَمِيمًا كَمَا فِي الْخَبَرِ، كَانَ قَبِيحَ الشَّكْلِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَكِنَّهُ كَانَ وَجِيهًا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ لِلَّهِ، وَحُبِّهِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ غَالٍ عِنْدَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِعَقِيدَتِهِ وَتَقْوَاهُ: حَدِيثُ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بَأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((الْعُتُلُّ)): الْغَلِيظُ الْجَافِي.

وَ ((الْجَوَّاظُ)): هُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ، وَقِيلَ: الضَّخْمُ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَقِيلَ: الْقَصِيرُ الْبَطِينُ.

وَعَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ((مَا رَأَيُكَ فِي هَذَا؟)).

فَقَالَ: ((رَجُلٌ مِنْ أَشْرافِ النَّاسِ، هَذَا -وَاللَّهِ- حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ)).

فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)).

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: ((حَرِيُّ)) أَيْ: حَقِيقٌ.

وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ، فَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمَا: إِنَّكِ الْجَنَّةُ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا)).  رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

((الْمُسْلِمُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ بِصِحَّةِ عَقِيدَتِهِ))

إِنَّ أَعْظَمَ مَا يُعْلِي الْمُسْلِمَ عِنْدَ اللهِ صِحَّةُ عَقِيدَتِهِ، وَسَلَامَةُ مِنْهَاجِهِ، الْمُسْلِمُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَالٍ بِاسْتِقَامَةِ عَقِيدَتِهِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))  بِسَنَدِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ؛ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ.

قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟)).

قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»

قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).

قَالَ: «مَنْ أَنَا؟».

قَالَتْ: ((أَنْتَ رَسُولُ اللهِ)).

قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ سَأَلَهَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ؛ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ لِلْعَلِيِّ الْغَفَّارِ، وَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ -سَائِلًا إِيَّاهَا عَنْ صِحَّةِ اعْتِقَادِهَا- قَالَ: ((أَيْنَ اللهُ؟)).

قَالَتْ: ((فِي السَّمَاءِ)).

ثُمَّ سَأَلَهَا الرَّسُولُ ﷺ عَنْ أَصْلِ الِاتِّبَاعِ، وَعَنِ الْمِنْهَاجِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَهُ الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ، فَقَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)).

وَهِيَ تَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ بِشَخْصِهِ وَبِصِفَتِهِ، فَتَعْرِفُ الرَّسُولَ ﷺ، النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَتَعْرِفُ حَقَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْرِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَالْتِزَامِ طَرِيقَتِهِ، وَالْقَصِّ عَلَى أَثَرِهِ، وَالسَّيْرِ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْتِزَامِ أَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَقَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ.

لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ، وَلَا يَنْفَعُ الْمُسْلِمَ زُهْدُهُ، وَلَا وَرَعُهُ، وَلَا بُعْدُهُ عَنِ الدَّنَايَا، وَلَا تَنَزُّهُهُ -فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ-  مِنَ الْخَطَايَا إِذَا لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمِنْهَاجِ، سَلِيمَ الْمِنْهَاجِ، عَظِيمَ الِاتِّبَاعِ لِلنَّبِيِّ ﷺ.

لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ قَائِمًا عَلَى مِنْهَاجِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَرَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يُبَيِّنُ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ جِئْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا -يَعْنِي: بِمَا يُقَارِبُ مِلْءَ الْأَرْضِ خَطَايَا وَآثَامًا وَذُنُوبًا وَمُوبِقَاتٍ-، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)).

لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ صَحِيحًا فِي اعْتِقَادِهِ، غَيْرَ مُلَوَّثٍ بِشِرْكٍ، بَعِيدًا عَنِ التَّدَنُّسِ بِأَيِّ أَمْرٍ يَثْلَمُ اعْتِقَادَهُ وَلَوْ بِثُلْمَةٍ يَسِيرَةٍ، أَوْ يَخْدِشُ سَوَادَ حَدَقَةِ عَيْنِ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ أَرْسَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَرْسَلَ إِخْوَانَهُ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ؛ مِنْ أَجْلِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ هِيَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).

وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا:

* التَّوْحِيدُ: وَالتَّوْحِيدُ شَرْعًا: إِفْرَادُ اللهِ -تَعَالَى- بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].

- فَتَفَرُّدُهُ -تَعَالَى- بِالرُّبُوبِيَّةِ؛ أَيْ: تَفَرُّدُهُ- تَعَالَى- بِالْخَلْقِ، وَالْمُلْكِ، وَالتَّدْبِيرِ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]: لَا لِغَيْرِهِ، فَالْخَلْقُ هَذَا هُوَ، وَالْأَمْرُ هُوَ كَلَامُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَتَدْبِيرُهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189]

- وَتَفَرُّدُهُ -تَعَالَى- بِالْأُلُوهِيَّةِ؛ أَيْ: تَفَرُّدُهُ- تَعَالَى- وَحْدَهُ بِالتَّأَلُّهِ وَالتَّعَبُّدِ، فَهُوَ إِفْرَادُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْعِبَادَةِ؛ لِئَلَّا تَكُونَ عَبْدًا لِغَيْرِهِ -سُبْحَانَهُ-، لَا تَعْبُدُ مَلَكًا، وَلَا نَبِيًّا، وَلَا وَلِيًّا، وَلَا شَيْخًا، وَلَا حَجَرًا، وَلَا شَجَرًا، لَا تَعْبُدُ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ.

وَالْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ اللهَ مُنْفَرِدٌ بِالْأُلُوهِيَّةِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ مَوْضُوعُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ؛ لِأَنَّهُ الْأَسَاسُ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ، وَبِدُونِ تَحَقُّقِهِ لَا تَصِحُّ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ حَصَلَ ضِدُّهُ، وَهُوَ الشِّرْكُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّوْحِيدِ هُوَ أَوَّلُ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْعَبْدِ، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151].

- وَتَفَرُّدُهُ -تَعَالَى- بِكَمَالِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ أَيْ: تَفَرُّدُهُ- تَعَالَى- بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْمُثْلَى، فَأَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كَامِلَةٌ، لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

وَلَا يَتِمُّ إِفْرَادُهُ -تَعَالَى- بِمَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ، وَذَلِكَ بِأَلَّا تَجْعَلَ لِلَّهِ مَثِيلًا فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِإِثْبَاتِ جَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا: الْإِيمَانُ، وَالْإِسْلَامُ، وَأُصُولُهُمَا الْكُلِّيَّةُ:

الْإِسْلَامُ مَعْنَاهُ: الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْخُلُوصُ مِنَ الشِّرْكِ.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125].

فَالْإِسْلَامُ يَشْمَلُ الدِّينَ كُلَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

وَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ؛ فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ بِالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ عَنِ الدِّينِ: ((الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)).

وَأَمَّا الْإِيمَانُ: فَهُوَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، وَيَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ قَوْلًا وَعَمَلًا؛ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، فَسَمَّى الصَّلَاةَ كُلَّهَا إِيمَانًا، وَهِيَ جَامِعَةٌ لِعَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ.

وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْجِهَادَ، وَقِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَصِيَامَ رَمَضَانَ وَقِيَامَهُ، وَأَدَاءَ الْخَمْسِ، وَغَيْرَهَا؛ جَعَلَهَا جَمِيعًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟))، قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))، وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ؛ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وَفِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

وَقَالَ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ؛ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِيهِ؛ فَكَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10-11] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27].

* وَمِنَ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ: أَرْكَانُ الْإِيمَانِ بِأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ:

وَأَسْمَاءُ اللهِ -تَعَالَى- إِنْ دَلَّتْ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَعَدِّدِ تَضَمَّنَتْ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ:

أَحَدُهَا: ثُبُوتُ ذَلِكَ الِاسْمِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

الثَّانِي: ثُبُوتُ الصِّفَةِ الَّذِي تَضَمَّنَهَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

الثَّالِثُ: ثُبُوتُ حُكْمِهَا وَمُقْتَضَاهَا.

مِثَالُ ذَلِكَ: السَّمِيعُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ السَّمِيعِ اسْمًا لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَإِثْبَاتَ السَّمْعِ صِفَةً لَهُ، وَإِثْبَاتَ حُكْمِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ؛ وَهُوَ أَنَّهُ يَسْمَعُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1].

وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وَصْفٍ غَيْرِ مُتَعَدِّدٍ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ ذَلِكَ الِاسْمِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَالثَّانِي: ثُبُوتُ الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

مِثَالُ ذَلِكَ: الْحَيُّ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الْحَيِّ اسْمًا لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِثْبَاتَ الْحَيَاةِ صِفَةً لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَطَرِيقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي إِثْبَاتِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى- وَصِفَاتِهِ: أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ فِي كِتَابِ اللهِ، أَوْ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ هُوَ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَيُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيفَ الْمُحَرِّفِينَ مَبْنِيٌّ عَلَى سُوءِ فَهْمٍ، أَوْ سُوءِ قَصْدٍ؛ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذَا أَثْبَتُوا تِلْكَ النُّصُوصَ أَوْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا؛ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِلتَّمْثِيلِ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَدْ يَكُونُونَ مِمَّنْ لَمْ يَفْهَمُوا هَذَا الْفَهْمَ؛ وَلَكِنَّهُ سُوءُ قَصْدٍ فِي تَفْرِيقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا: عُلُوُّ اللهِ عَلَى الْخَلْقِ، وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ:

فَنَعْرِفُ رَبَّنَا بِأَنَّهُ عَلِيٌّ أَعْلَى بِكُلِّ مَعْنًى وَاعْتِبَارٍ؛ عُلُوَّ الذَّاتِ، وَعُلُوَّ الْقَدْرِ وَالصِّفَاتِ، وَعُلُوَّ الْقَهْرِ، وَأَنَّهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا وَصَفَ لَنَا نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ اسْتَوَى، وَلَمْ يُخْبِرْنَا عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِ الْبَارِي أَنَّهُ أَخْبَرَنَا بِهَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا عَنْ كَيْفِيَّتِهَا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَنَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَلَا نَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا نَنْقُصُ مِنْهُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18].

وَقَالَ ﷺ: ((أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ!)) وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي اسْتِوَاءِ اللهِ عَلَى عَرْشِهِ: ((الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ)).

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى- فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَكَلَامُهُ مُسْتَفِيضٌ مِنْ ذَلِكَ نَصًّا وَظَاهِرًا، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ: إِنَّ اللهَ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- فَوْقَ عَرْشِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ)).

نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ -تَعَالَى- مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَهُوَ مَعَ خَلْقِهِ يَعْلَمُ أَحْوَالَهُمْ، وَيَسْمَعُ أَقْوَالَهُمْ، وَيَرَى حَالَهُمْ، وَيُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ، يَرْزُقُ الْفَقِيرَ، وَيَجْبُرُ الْكَسِيرَ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ كَانَ مَعَ خَلْقِهِ حَقِيقَةً؛ وَإِنْ كَانَ فَوْقَهُمْ عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، فَنُؤْمِنُ بِأَنَّهُ -تَعَالَى- مَعَ خَلْقِهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ.

* وَنُؤْمِنُ وَنُقِرُّ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ؛ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَالرِّضَا، وَالنُّزُولِ، وَالْمَجِيءِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَكَمَا أَنَّ لِلَّهِ ذَاتًا لَا تُشْبِهُهَا الذَّوَاتُ فَلَهُ تَعَالَى- صِفَاتٌ لَا تُشْبِهُهَا الصِّفَاتُ، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ثَبَتَ مِنَ التَّفْصِيلَاتِ الْعَظِيمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِهَا، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِهَا، وَمَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ فِي تَنْزِيهِهِ عَنِ الْمِثْلِ، وَالنِّدِّ، وَالْكُفْءِ، وَالشَّرِيكِ.

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَاللَّهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ حَقًّا؛ لَفْظُهُ وَمَعَانِيهِ، وَلَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَا شَاءَ إِذَا شَاءَ، وَكَلَامُهُ لَا يَنْفَدُ وَلَا لَهُ مُنْتَهَى، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَهَذَا الصَّوْتُ لَيْسَ كَأَصْوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ يُسْمِعُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، سَمِعَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمَنْ أَذِنَ لَهُ اللهُ -تَعَالَى- مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَيُكَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُكَلِّمُونَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْكَلَامُ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَبِلَا وَاسِطَةٍ؛ كَكَلَامِهِ -تَعَالَى- لِمُوسَى، وَلِمُحَمَّدٍ، وَآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَجِبْرِيلَ.

قَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143].

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: أَنَّ الْإِيمَانَ: اسْمٌ جَامِعٌ لِعَقَائِدِ الْقَلْبِ وَأَعْمَالِهِ، وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَأَقْوَالِ اللِّسَانِ؛ فَجَمِيعُ الدِّينِ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَزِيدُ بِقُوَّةِ الِاعْتِقَادِ وَكَثْرَتِهِ، وَحُسْنِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَكَثْرَتِهَا، وَيَنْقُصُ بِضِدِّ ذَلِكَ.

وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُوَحِّدًا وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعَاصِي فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَاسِقٌ بِمَا تَرَكَهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ، نَاقِصُ الْإِيمَانِ مُسْتَحِقٌّ لِلْوَعْدِ بِإِيمَانِهِ، وَلِلْوَعِيدِ بِمَعَاصِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ؛ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ التَّامُّ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ، وَالْإِيمَانُ النَّاقِصُ يَمْنَعُ مِنَ الْخُلُودِ فِيهَا.

فَاسِقُ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُنْفَى عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِفُسُوقِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ التَّامِّ، وَلَكِنْ هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصٌ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ، فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلَا يُعْطَى الِاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ.

فَالْفَاسِقُ بِالْمَعَاصِي الَّتِي لَا تُوجِبُ كُفْرَهُ لَا يَقُولُ أَهْلُ السُّنَّةِ إِنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، بَلْ يَقُولُونَ: أَمْرُهُ مَرْدُودٌ حُكْمُهُ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ، فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ الْإِلَهِ؛ إِنْ شَاءَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفَا عَنْهُ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، أَيْ: جَازَاهُ وَعَاقَبَهُ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ الَّذِي مَاتَ مُصِرًّا عَلَيْهِ.

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ مَرَاتِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

- سَابِقُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ: وَهُمُ الَّذِينَ قَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ.

- وَمُقْتَصِدُونَ: وَهُمُ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.

- وَظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ: وَهُمُ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا.

قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32].

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا: حُكْمُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ:

أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي دَاخِلَةٌ فِي خَلْقِ اللهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ هُمُ الْفَاعِلُونَ لَهَا، لَمْ يُجْبِرْهُمُ اللهُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِمَشِيئَتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ، فَهِيَ فِعْلُهُمْ حَقِيقَةً، وَهُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِهَا، وَالْمُثَابُونَ وَالْمُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَهِيَ خَلْقُ اللهِ حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ اللهَ خَلَقَهُمْ، وَخَلَقَ مَشِيئَتَهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَجَمِيعَ مَا يَقَعُ بِذَلِكَ.

فَنُؤْمِنُ بِجَمِيعِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى شُمُولِ خَلْقِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ، كَمَا نُؤْمِنُ بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ هُمُ الْفَاعِلُونَ حَقِيقَةً لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَارُونَ لِأَفْعَالِهِمْ؛ فَإِنَّ اللهَ خَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، وَهُمَا السَّبَبُ فِي وُجُودِ أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَخَالِقُ السَّبَبِ التَّامِّ خَالِقٌ لِلْمُسَبَّبِ، وَاللَّهُ أَعْظَمُ وَأَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَهُمْ عَلَيْهَا.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)).

أَفْعَالُ اللهِ كُلُّهَا خَيْرٌ مَحْضٌ؛ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافُهُ بِهَا وَصُدُورُهَا عَنْهُ، لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ بِوَجْهٍ؛ فَاللَّهُ -تَعَالَى- حَكَمٌ عَدْلٌ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَعَدْلٌ، يَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا كَمَا هِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ، وَمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْمَقْدُورِ مِنْ شَرٍّ فَمِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى الْعَبْدِ، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَهَالِكِ، وَذَلِكَ بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].

لِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَلَهُمْ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، وَأَفْعَالُهُمْ تُضَافُ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَبِحَسَبِهَا كُلِّفُوا، وَعَلَيْهَا يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللهُ إِلَّا وُسْعَهُمْ، وَقَدْ أَثْبَتَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَصَفَهُمْ بِهِ؛ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ، وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِجَعْلِهِ إِيَّاهُمْ فَاعِلِينَ، فَكَمَا لَمْ يُوجِدُوا أَنْفُسَهُمْ لَمْ يُوجِدُوا أَفْعَالَهُمْ، فَقُدْرَتُهُمْ وَمَشِيئَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ تَابِعَةٌ لِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ؛ إِذْ هُوَ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ مَشِيئَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَقُدْرَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ عَيْنَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَفْعَالِهِ، كَمَا لَيْسَ هُمْ إِيَّاهُ- تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ-، بَلْ أَفْعَالُهُمُ الْمَخْلُوقَةُ لِلَّهِ قَائِمَةٌ بِهِمْ، لَائِقَةٌ بِهِمْ، مُضَافَةٌ إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَهِيَ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِ اللهِ اللَّائِقَةِ الْمُضَافَةِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً؛ فَاللَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، وَالْعَبْدُ مُنْفَعِلٌ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ هَادٍ حَقِيقَةً، وَالْعَبْدُ مُهْتَدٍ حَقِيقَةً؛ وَلِهَذَا أَضَافَ الْأَفْعَالَ إِلَى كُلِّ مَنْ قَامَ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف: 17]، فَإِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللهِ حَقِيقَةً، وَإِضَافَةُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً، فَكَمَا لَيْسَ الْهَادِي عَيْنَ الْمُهْتَدِي فَكَذَلِكَ لَيْسَتِ الْهِدَايَةُ عَيْنَ الِاهْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ ضَالًّا حَقِيقَةً، وَهَكَذَا يَكُونُ جَمِيعُ تَصَرُّفِ اللهِ فِي عِبَادِهِ، فَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ وَالِانْفِعَالَ إِلَى الْعَبْدِ كَفَرَ، وَمَنْ أَضَافَهُ إِلَى اللهِ كَفَرَ، وَمَنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إِلَى الْخَالِقِ، وَالِانْفِعَالَ إِلَى الْمَخْلُوقِ، كِلَاهُمَا حَقِيقَةً؛ فَهُوَ الْمُؤْمِنُ حَقِيقَةً.

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: أَلَيْسَ مُمْكِنًا فِي قُدْرَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ عِبَادِهِ مُؤْمِنِينَ مُهْتَدِينَ طَائِعِينَ مَعَ مَحَبَّةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ شَرْعًا؟

وَالْجَوَابُ: بَلَى؛ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ؛ وَلَكِنْ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ بِهِمْ هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَمُوجِبُ رُبُوبِيَّتِهِ، وَإِلَهِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.

الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يُؤْمِنُونَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ خَلَقَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَيَنْقَادُونَ لِلشَّرْعِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَيُحَكِّمُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ سِرًّا وَجَهْرًا، فَيُؤْمِنُونَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِضْلَالَ بِيَدِ اللهِ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بِفَضْلِهِ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعَدْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ.

وَيُؤْمِنُ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الشَّرْعِ فِعْلًا وَتَرْكًا، لَا عَلَى الْقَدَرِ، وَإِنَّمَا يُعَزُّونَ- يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ- أَنْفُسَهُمْ بِالْقَدَرِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ.

 فَإِذَا وُفِّقُوا لِحَسَنَةٍ عَرَفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، وَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ، وَلَا يَقُولُونَ كَمَا قَالَ الْفَاجِرُ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي.

وَإِنِ اقْتَرَفَ سَيِّئَةً قَالَ كَمَا قَالَ الْأَبَوَانِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا قَالَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39].

وَإِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]، وَلَمْ يَقُولُوا كَمَا يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا: {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156].

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ يَتَضَمَّنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ:

 الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، أَزَلًا وَأَبَدًا؛ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِ أَوْ بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ؛ فَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ .

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللهَ كَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَفِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَقُولُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)).

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى-؛ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ، أَوْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

وَقَالَ -تَعَالَى- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمَخْلُوقِينَ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137].

وَالْأَمْرُ الرَّابِعُ: الْإِيمَانُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِذَوَاتِهَا، وَصِفَاتِهَا، وَحَرَكَاتِهَا، قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].

وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].

وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ فِي أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَقُدْرَةٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْوَاقِعَ دَالَّانِ عَلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ لَهُ.

 أَمَّا الشَّرْعُ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْمَشِيئَةِ: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39]، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].

وَقَالَ فِي الْقُدْرَةِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16].

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ الشَّرْعِ.

 وَأَمَّا الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ مَشِيئَةً وَقُدْرَةً بِهَا يَفْعَلُ، وَبِهَا يَتْرُكُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَقَعُ بِإِرَادَتِهِ كَالْمَشْيِ، وَمَا يَقَعُ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ كَالِارْتِعَاشِ؛ لَكِنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ وَقُدْرَتَهُ وَاقِعَتَانِ بِمَشِيئَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَقُدْرَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29]، وَلِأَنَّ الْكَوْنَ كُلَّهُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى-، فَلَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ شَيْءٌ بِدُونِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.

الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا مَرَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي تِلْكَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ لَا يَمْنَحُ الْعَبْدَ حُجَّةً عَلَى مَا تَرَكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ فَعَلَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، وَاحْتِجَاجُهُ بِالْقَدَرِ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ بَاطِلًا.

* مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ الشِّرْكِ وَخَطَرِهِ:

الشِّرْكُ نَوْعَانِ: شِرْكٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَهُوَ: أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَبْدُ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا فِي خَلْقِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ، أَوْ تَدْبِيرِهَا.

النَّوْعُ الثَّانِي: الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: شِرْكٌ أَكْبَرُ، وَشِرْكٌ أَصْغَرُ:

فَالشِّرْكُ الْأَكْبَرُ: أَنْ يَصْرِفَ الْعَبْدُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللهِ؛ كَأَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللهِ، أَوْ يَرْجُوَهُ، أَوْ يَخَافَهُ، فَهَذَا مُخْرِجٌ مِنَ الدِّينِ، وَصَاحِبُهُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ.

وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؛ فَالْوَسَائِلُ وَالطُّرُقُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الشِّرْكِ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْعِبَادَةِ؛ كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ، وَالرِّيَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ؛ وَذَلِكَ لِأُمُورٍ:

تَشْبِيهُ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ فِي خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ أَحَدًا فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ الظُّلْمِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وَأَيْضًا لِأَنَّ اللهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَنْ يَغْفِرَهُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

وَأَيْضًا لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِ، وَأَنَّهُ خَالِدٌ مُخَلَّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

وَالشِّرْكُ يُحْبِطُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].

وَالْمُشْرِكُ حَلَالُ الدَّمِ وَالْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ-: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا)).

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: الْإِيمَانُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ:

عَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُمْ وَرِسَالَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، وَنَعْتَقِدَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- اخْتَصَّهُمْ بِوَحْيِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَجَعَلَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ دِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَصِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ، وَأَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَأَصْدَقُهُمْ، وَأَبَرُّهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ أَخْلَاقًا وَأَعْمَالًا، وَأَنَّ اللهَ خَصَّهُمْ بِفَضَائِلَ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ، وَبَرَّأَهُمْ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ رَذِيلٍ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُونَهُ عَنِ اللهِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ فِي خَبَرِهِمْ وَتَبْلِيغِهِمْ إِلَّا الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِمْ كُلِّهِمْ، وَبِكُلِّ مَا أُوتُوهُ مِنَ اللهِ، وَمَحَبَّتُهُمْ، وَتَوْقِيرُهُمْ، وَتَعْظِيمُهُمْ.

وَنُؤْمِنُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَعْلَاهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَمَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَالْإِيمَانُ بِذَلِكَ، وَالْتِزَامُهُ، وَالْتِزَامُ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، قَدْ نَسَخَتْ شَرِيعَتُهُ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ أَوْ غَيْرُهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ، بَلِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ وَالْأُمُورُ الْحِسِّيَّةُ الْوَاقِعَةُ تَشْهَدُ لِلرَّسُولِ ﷺ بِالصِّدْقِ وَالْحَقِّ.

* مِنْ أَهَمِّ مُهِمَّاتِ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.

مَعْنَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِإِتْيَانِهِ لَا مَحَالَةَ، وَالْعَمَلِ بِمُوجَبِ ذَلِكَ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَمَارَاتِهَا الَّتِي تَكُونُ قَبْلَهَا لَا مَحَالَةَ، وَبِالْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِهِ وَنَعِيمِهِ، وَبِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَخُرُوجِ الْخَلَائِقِ مِنَ الْقُبُورِ، وَمَا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأَفْزَاعِ، وَتَفَاصِيلِ الْمَحْشَرِ، وَنَشْرِ الصُّحُفِ، وَوَضْعِ الْمَوَازِينِ، وَبِالصِّرَاطِ، وَالْحَوْضِ، وَبِالشَّفَاعَةِ، وَغَيْرِهَا، وَبِالْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا الَّذِي أَعْلَاهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِالنَّارِ وَعَذَابِهَا الَّذِي أَشَدُّهُ حَجْبُهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ، فَمَجِيءُ السَّاعَةِ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِعِلْمِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].

الْيَوْمُ الْآخِرُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يُبْعَثُ النَّاسُ فِيهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَوْمَ بَعْدَهُ؛ حَيْثُ يَسْتَقِرُّ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي مَنَازِلِهِمْ.

وَالْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ، وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى حِينَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً غَيْرَ مُنْتَعِلِينَ، عُرَاةً غَيْرَ مُسْتَتِرِينَ، غُرْلًا غَيْرَ مُخْتَتِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104].

وَالْبَعْثُ حَقٌّ ثَابِتٌ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16]. وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ-: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا)).

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ؛ حَيْثُ تَقْتَضِي أَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِهَذِهِ الْخَلِيقَةِ مَعَادًا يُجَازِيهِمْ فِيهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

وَالثَّانِي مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: الْإِيمَانُ بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَى عَمَلِهِ، وَيُجَازَى عَلَيْهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25، 26].

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ: ((مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَأَنَّ مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً)).

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ: الْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَأَنَّهُمَا الْمَآلُ الْأَخِيرُ لِلْخَلْقِ؛ فَالْجَنَّةُ دَارُ النَّعِيمِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَقَامُوا بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، مُخْلِصِينَ لَهُ، مُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ ((مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ))، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7،-8].

وَأَمَّا النَّارُ- أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا-؛ فَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللهُ لِلْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ مَا لَا يَخْطُرُ عَلَى الْبَالِ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].

وَيَلْحَقُ بِالْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ مِثْلَ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ، وَفِتْنَةُ الْقَبْرِ هِيَ: سُؤَالُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، فَيُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ﷺ، وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ، فَيَقُولُ الْكَافِرُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي، وَيَقُولُ الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ: لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ: مَعْرِفَةُ مَا هُوَ النِّفَاقُ، وَأَقْسَامُهُ، وَصِفَتُهُ:

 النِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ مَعْنَاهُ: إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، وَإِبْطَانُ الْكُفْرِ وَالشَّرِّ.

 جَعَلَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ شَرًّا مِنَ الْكَافِرِينَ فَقَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145].

وَالنِّفَاقُ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ النِّفَاقُ الِاعْتِقَادِيُّ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ الَّذِي يُظْهِرُ صَاحِبُهُ الْإِسْلَامَ، وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ، وَهَذَا النَّوْعُ مُخْرِجٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَاحِبُهُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ أَهْلَهُ بِصِفَاتِ الشَّرِّ كُلِّهَا؛ مِنَ الْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُمْ، وَالْمَيْلِ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى أَعْدَاءِ الدِّينِ؛ لِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي عَدَاوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مَوْجُودُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ؛ لَا سِيَّمَا عِنْدَمَا تَظْهَرُ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ مُقَاوَمَتَهُ فِي الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الدُّخُولَ فِيهِ لِأَجْلِ الْكَيْدِ لَهُ وَلِأَهْلِهِ فِي الْبَاطِنِ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَعِيشُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ النِّفَاقِ فَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ: وَهُوَ عَمَلُ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ بَقَاءِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، هَذَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ؛ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ، وَصَاحِبُهُ يَكُونُ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَإِذَا كَثُرَ صَارَ بِسَبَبِهِ مُنَافِقًا خَالِصًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ: مَعْرِفَةُ مَا هِيَ الْبِدْعَةُ، وَمَا أَقْسَامُهَا:

الْبِدْعَةُ هِيَ خِلَافُ السُّنَّةِ.

وَالِابْتِدَاعُ عَلَى قِسْمَيْنِ:

- ابْتِدَاعٌ فِي الْعَادَاتِ؛ كَابْتِدَاعِ الْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةِ، وَهَذَا مُبَاحٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَادَاتِ الْإِبَاحَةُ.

- وَابْتِدَاعٌ فِي الدِّينِ: وَهَذَا مُحَرَّمٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّوْقِيفُ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ  رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَالْبِدْعَةُ الَّتِي هِيَ فِي الدِّينِ نَوْعَانِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: بِدْعَةٌ قَوْلِيَّةٌ اعْتِقَادِيَّةٌ؛ كَمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَسَائِرِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَاعْتِقَادَاتِهَا.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ؛ كَالتَّعَبُّدِ لَهُ بِعِبَادَةٍ لَمْ يَشْرَعْهَا.

وَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي الدِّينِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَضَلَالَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)). كَمَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَغَيْرِهِمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)). فَدَلَّ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فِي الدِّينِ فَهُوَ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مَرْدُودَةٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاعْتِقَادَاتِ مُحَرَّمَةٌ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَسَّمَ الْبِدْعَةَ إِلَى بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ وَبِدْعَةٍ سَيِّئَةٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ، مُخَالِفٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ))؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَكَمَ عَلَى الْبِدَعِ كُلِّهَا بِأَنَّهَا ضَلَالَةٌ، وَهَذَا يَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةً، بَلْ هُنَاكَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ!!

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَقَوْلُهُ ﷺ: ((كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).

وَكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا وَنَسَبَهُ إِلَى الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ مِنَ الدِّينِ يَرْجِعُ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ ضَلَالَةٌ، وَالدِّينُ بَرِيءٌ مِنْهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادَاتِ، أَوِ الْأَعْمَالِ، أَوِ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

* وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا: حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْكَ:

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَتَّخِذَهُمْ إِخْوَانًا، تُحِبُّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَتَسْعَى بِحَسَبِ مَقْدُورِكَ فِي مَصَالِحِهِمْ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَتَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْحَقِّ ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ))، وَتَقُومُ بِحَقِّ مَنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ؛ كَالْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْجِيرَانِ، وَالْأَصْحَابِ، وَالْمُعَامَلِينَ.

رَابِطَةُ الْأُخُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ رَابِطَةٌ قَوِيَّةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ رَابِطَةٌ تَرْبِطُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانُوا، وَفِي أَيِّ بَلَدٍ كَانُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى الدِّينِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَتْ لَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ وَاجِبَاتُ الْأُخُوَّةِ؛ يَعُودُونَهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَنْصُرُونَهُ إِذَا ظُلِمَ، وَيَتْبَعُونَ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُعَزُّونَهُ إِذَا أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، وَيُهَنِّئُونَهُ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ، وَيُحِبُّونَ لَهُ مَا يُحِبُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)). الْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

فَهَذِهِ حُقُوقٌ أَوْجَبَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.

وَأَمَّا الْحُقُوقُ الْخَاصَّةُ كَالْوَالِدَيْنِ، وَالْأَقَارِبِ، وَالْجِيرَانِ، وَالْمُعَامَلِينَ؛ فَهَؤُلَاءِ وَرَدَتْ فِي حُقُوقِهِمْ نُصُوصٌ، فَهَذِهِ الْحُقُوقُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُؤَدُّوهَا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.

* مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ نَحْوَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ:

مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَحَبَّتِهِ: مَحَبَّةُ أَصْحَابِهِ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ مِنَ الْفَضْلِ وَالسَّبْقِ، وَالِاعْتِرَافُ بِفَضَائِلِهِمُ الَّتِي فَاقُوا فِيهَا جَمِيعَ الْأُمَّةِ، وَأَنْ تَدِينَ لَهُمْ بِحُبِّهِمْ وَنَشْرِ فَضَائِلِهِمْ، وَتُمْسِكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ أَوْلَى الْأُمَّةِ بِكُلِّ خَصْلَةٍ حَمِيدَةٍ، وَأَسْبَقُهُمْ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ.

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِأَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ حُقُوقًا عَظِيمَةً؛ لِأَنَّ اللهَ اخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَمُصْطَفَاهُ ﷺ، وَلِنُصْرَةِ دِينِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ، وَحَمْلِ رِسَالَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَتَضْحِيَةٍ حَتَّى اسْتَقَامَ الْأَمْرُ، وَانْتَشَرَ الدِّينُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي أَرْضِ اللهِ تَعَالَى- وَبَيْنَ عِبَادِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَبَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضْلٌ وَمِنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَاسْتَحَقُّوا بِذَلِكَ جَمِيلَ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِرَسُولِهِ ﷺ فِي سُنَّتِهِ الْغَرَّاءِ.

وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- فَضْلَ الصَّحَابَةِ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].

وَقَالَ -سبحانه-: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ وَيُوَضِّحُ مَنْزِلَةَ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((خَيْرُ الْأُمَّةِ قَرْنِي، ثُم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَقَالَ ﷺ: ((النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ)). الْحَدِيثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَعِنْدَهُ: ((لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ))، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُبَيِّنُ فَضْلَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

* مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ: مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ:

الْإِمَامَةُ: الْمُرَادُ بِهَا: قِيَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَوَلِّي شُؤُونِهِمْ، فَالْإِمَامُ هُوَ الْأَمِيرُ الَّذِي تَنْعَقِدُ لَهُ الْإِمَامَةُ.

نَعْتَقِدُ أَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ إِمَامٍ يُقِيمُ لَهَا دِينَهَا وَدُنْيَاهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهَا عَادِيَةَ الْمُعْتَدِينَ، وَإِقَامَة الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ، وَلَا تَتِمُّ إِمَامَتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ فِي الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَالْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَيُعَانُونَ عَلَى الْخَيْرِ، وَيُنْصَحُونَ عَنِ الشَّرِّ.

هَذَا الْبَابُ بَابٌ مُهِمٌّ يَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ بِمَا حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ؛ كَالْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ لَهُمْ آرَاءٌ شَاذَّةٌ، وَكَالشِّيعَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ عِنْدَهُمْ، فَحَصَلَ فِي هَذَا الْبَابِ مُخَالَفَاتٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ وَلِذَلِكَ صَارَ الْعُلَمَاءُ يَذْكُرُونَهُ فِي كُتُبِ الْعَقَائِدِ، يُبَيِّنُونَ حُكْمَ نَصْبِ الْإِمَامِ، وَشُرُوطَ الْإِمَامِ، وَاخْتِصَاصَاتِ الْإِمَامِ، وَيَذْكُرُونَ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهَذِهِ مُتَعَلَّقَاتُ الْإِمَامَةِ.

وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ بِطَبِيعَتِهِمْ لَا يَعِيشُونَ إِلَّا مُجْتَمِعِينَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَعِيشُوا فُرَادَى، وَإِنَّمَا يَعِيشُونَ مُجْتَمِعِينَ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ التَّعَدِّي مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالظُّلْمُ؛ صَارَ لَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ يَقُومُ بِالْأَمْرِ، وَيُجْرِي أَحْكَامَ الْإِمَامَةِ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي ذَلِكَ؛ مِنَ اسْتِتْبَابِ الْأَمْنِ، وَمِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِالْجِهَادِ، وَقِيَامِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَرَدِّ الظَّالِمِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْإِمَامَةِ.

فَلِذَلِكَ صَارَ هَذَا الْبَحْثُ مِنْ مُرْتَكَزَاتِ الْعَقِيدَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِمَامٍ؛ لِئَلَّا يَكُونَ الْأَمْرُ فَوْضَى، لَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُومُ هُوَ بِمَصَالِحِهِمْ.

      لَوْلَا الْأَئِمَّةُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ   =    وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا

لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ؛ أَيْ: يَخْتَلُّ الْأَمْنُ.

وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لِأَقْوَانَا: فَالْقَوِيُّ يَأْكُلُ الضَّعِيفَ.

فَاللَّهُ يَدْرَأُ بِالْإِمَامِ هَذِهِ الْمَحَاذِيرَ عَنِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ؛ لِهَذَا اهْتَمَّ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِتَنْصِيبِ الْإِمَامِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَدْفِنُوا النَّبِيَّ ﷺ؛ فَقَدِ اجْتَمَعُوا، وَتَشَاوَرُا فِيمَنْ يُوَلُّونَهُ الْأَمْرَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ إِنَّهُمْ اتَّجَهُوا بَعْدَ أَنِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ لِتَجْهِيزِ الرَّسُولِ ﷺ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَدَفْنِهِ لَمَّا عَقَدُوا الْإِمَامَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ.

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ نَصْبِ الْإِمَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَمْضِيَ وَقْتٌ وَلَيْسَ هُنَاكَ إِمَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ.

* مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ: مَعْرِفَةُ مَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَا صِفَتُهُ:

الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَالْعِلْمُ النَّافِعُ هُوَ: مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ: التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ، وَأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالنَّوَافِلِ، وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ التَّامِّ لِلَّهِ، وَالْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالدِّينُ يَدُورُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَمَنْ فَاتَهُ الْإِخْلَاصُ وَقَعَ فِي الشِّرْكِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ الْمُتَابَعَةُ وَقَعَ فِي الْبِدَعِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

وَالسُّبُلُ طُرُقٌ شَيْطَانِيَّةٌ، كُلُّ طَرِيقٍ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ مَثَّلَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَمَا خَطَّ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَخَطَّ خُطُوطًا عَلَى جَانِبَيِ الْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ: ((هَذَا صِرَاطُ اللهِ مُسْتَقِيمًا، وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، -ثُمَّ قَرَأَ- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153])). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالْخَطُّ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي وَضَعَهُ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ مَثَلًا مَضْرُوبًا لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمَعْنَوِيِّ، وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالسُّلُوكِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَبَذْلِ الْمَالِ مِنْ أَجْلِ رِضَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالِامْتِنَاعِ عَنْ كُلِّ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.

فَمَنِ اسْتَقَامَ عَلَى هَذَا وَعَمِلَ بِهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ لَكِنَّ الْعَمَلَ يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمٍ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ.

مَنْ تَأَمَّلَ مَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا؛ عَرَفَ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلْبَشَرِ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى هِدَايَتِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا أَصْلَحَ الْعَقَائِدَ وَالْأَخْلَاقَ وَالْأَعْمَالَ فَقَدْ أَصْلَحَ أُمُورَ الدُّنْيَا، وَأَرْشَدَ إِلَى كُلِّ مَا يَعُودُ إِلَى الْخَيْرِ، وَالنَّفْعِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ.

((الْمُسْلِمُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ بِعُبُودِيَّتِهِ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))

إِنَّ أَعْلَى مَقَامَاتِ الْعَبْدِ هُوَ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ مُحَقِّقًا لِلْعُبُودِيَّةِ الْحَقَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ.. إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِالْعُبُودِيَّةِ -بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ- فِي أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ.

فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ أَيْ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، يُرِيدُونَ إِيصَالَ الضُّرِّ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعَ الْمَكْرُوهِ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}: فَوَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ.

بَلْ فِي مَقَامِ الْكِفَايَةِ وَالْحِفْظِ، ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟

بَلَى كَافٍ.

وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.

وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ -فِي مَقَامِ التَّحَدِّي- وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ.

وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ الْعُلَى حَتَّى كَانَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاخْتَرَقَ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جَهَارًا وَكِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَلَّفَهُ رَبُّهُ بِمَا كَلَّفَهُ ﷺ.

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ وَصَفَهُ رَبُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

فَوَصَفَهُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَمَّا هُوَ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ- فَإِنَّهُ قَدْ حَقَّقَ هَذَا الْوَصْفَ تَحْقِيقًا، وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ ﷺ، فَإِذَا رُوجِعَ: أَلَيْسَ قَدَ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

فَلِمَ هَذَا الْعَنَاءُ؟!!

لَيْسَ بِعَنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَابٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ﷺ)) .

الْعِبَادَةُ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمُرْضِيَةُ لَهُ، وَالَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَبِهَا أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19- 20].

وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6].

وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...} الْآيَاتِ [الفرقان: 63- 77].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنِ الْمَسِيحِ -الَّذِي ادُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

وَبِالْعُبُودِيَّةِ نَعْتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 45-47].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ ((الصَّحِيحِ)) : «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ».

فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ.

عِبَادَ اللهِ! {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

حَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ للهِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا حَقَّقَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ.

((الْمُسْلِمُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ بِأَخْلَاقِهِ))

إِنَّ الْمُسْلِمَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ بِحُسْنِ خُلُقِهِ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟)).

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ -الزَّعِيمُ هَاهُنَا: الضَّامِنُ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ -رَبَضُ الْجَنَّةِ: مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا، تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ- لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ -أَيِ: الْجَدَلَ- وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَجَعَلَ الْبَيْتَ الْعُلْوِيَّ جَزَاءً لِأَعْلَى الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْأَوْسَطَ لِأَوْسَطِهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْكَذِبِ، وَالْأَدْنَى لِأَدْنَاهَا، وَهُوَ تَرْكُ الْمُمَارَاةِ؛ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ حَقٌّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذَا كُلِّهِ.

((الْمُسْلِمُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ بِنَفْعِهِ))

الْمُسْلِمُ عِنْدَ اللهِ غَالٍ بِنَفْعِهِ لِإِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْفَعُهُمْ لِإِخْوَانِهِ؛ فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ، وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟)).

فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».

عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ خَيِّرًا؛ خَيِّرًا فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ طَيِّبٌ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَالطَّهَارَةُ عِنْدَنَا -نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ- طَهَارَةُ بَاطِنٍ وَطَهَارَةُ ظَاهِرٍ عَلَى السَّوَاءِ، لَا يَقُومُ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- خَبِيثَ الْبَاطِنِ، مَرْذُولَ الضَّمِيرِ، نَجِسَ الْفُؤَادِ وَالتَّصَوُّرِ، وَعِنْدَهُ مِنْ فِسْقِ الْعَمَلِ، وَعِنْدَهُ مِنْ فِسْقِ الِاعْتِقَادِ، وَعِنْدَهُ مِنْ فِسْقِ التَّصَوُّرِ مَا يَجْعَلُهُ بِأَدْنَى الْمَنَازِلِ، لَا؛ بَلْ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَقَدْ رَعَى ضَمِيرَهُ وَصَدْرَهُ، ثُمَّ أَتَى بِالطَّهَارَةِ الظَّاهِرَةِ.

فَالطَّهَارَةُ -عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ- فِي أَجَلِّ عِبَادَاتِنَا وَفِي حَرَكَةِ حَيَاتِنَا طَهَارَةُ بَاطِنٍ؛ طَهَارَةُ قَلْبٍ مِنْ مَرْذُولِ الصِّفَاتِ وَذَمِيمِ الْعَادَاتِ؛ بِإِقْبَالِهِ عَلَى تَوْحِيدِهِ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَعَلَى مُتَابَعَتِهِ لِنَبِيِّهِ ﷺ فِي أَخْلَاقِهِ، كَمَا هِيَ مُتَابَعَتُهُ إِيَّاهُ ﷺ فِي عِبَادَاتِهِ، وَفِي مُعَامَلَاتِهِ، وَفِي اعْتِقَادِهِ ﷺ، وَفِي تَوْحِيدِهِ لِرَبِّهِ، فَيُطَهِّرُ بَاطِنَهُ، فَإِذَا طَهَّرَ بَاطِنَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ دَاعِيًا لِتَطْهِيرِ  ظَاهِرِهِ بِطَهَارَةِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ.

لَيْسَ فِي هَذَا الدِّينِ نَجَاسَةٌ، ((وَالْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَقَدْ انْخَنَسَ لَمَّا رَآهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ عَادَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جُنُبًا، فَظَنَّ أَنَّ: ((جُنُبًا)) تُسَاوِي نَجِسًا، فَلَمَّا جَاءَ -وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا لَقِيَ أَحَدًا مِنْ إِخْوَانِهِ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَإِنَّهُ يُصَافِحُهُ، وَلَا يَقْبِضُ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الَّذِي يُصَافِحُهُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ، وَيُدْخِلُهُ فِي كَنَفِهِ ﷺ-، فَلَمَّا كَانَ عَلَى حَالِ جَنَابَتِهِ انْخَنَسَ، فَاغْتَسَلَ فَعَادَ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: ((أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟)).

قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ لَقِيتَنِي وَأَنَا جُنُبٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ حَتَّى أَغْتَسِلَ)).

فَقَالَ: ((سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ)).

الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا..

الْمُسْلِمُ طَاهِرٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا..

عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ نَافِعًا؛ لِأَنَّهُ طَيِّبٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ))، هَكَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِهِ؛ فَهُوَ أَقْوَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)).

وَالْمَعْرُوفُ يَبْدَأُ مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ الْمَرْءُ؛ الدَّلَالَةُ عَلَى الْخَيْرِ كَفِعْلِهِ: ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)) كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَهَذَا مَعْرُوفٌ، أَنْ تُنَاوِلَ أَخَاكَ قَلَمًا يَكْتُبُ بِهِ، أَوْ مِبْرَاةً يَسْتَعْمِلُهَا، أَوْ أَنْ تَحْمِلَ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تَسْقِيَهُ، أَوْ أَنْ تُقَرِّبَ إِلَيْهِ بَعِيدًا، أَوْ تُيَسِّرَ عَلَيْهِ عَسِيرًا، أَوْ تُخَفِّفَ عَنْهُ ثَقِيلًا.

أَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ مَعْرُوفٌ؛ بَلْ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ))؛ فَهَذِهِ الْحَرَكَةُ الَّتِي تَأْتِي بِهَا عَضَلَاتُ الْوَجْهِ إِذَا كَانَ وَرَاءَهَا هَذَا الْقَصْدُ، وَإِذَا كَانَ وَرَاءَهَا تِلْكَ النِّيَّةُ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ؛ إِذْ هِيَ مَعْرُوفٌ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَقُولُ: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)).

وَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ))- قَالَ: ((لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، بِوَجْهٍ طَلِقٍ، بِوَجْهٍ طَلِيقٍ)). قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ.

((لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا)): وَتَأَمَّلْ فِي الصِّيغَةِ، وَسَتَعْرِفُ الْمُرَادَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُشَدِّدُ عَلَيْكَ، وَيُؤَكِّدُ عَلَيْكَ: ((لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا)): وَ ((شَيْئًا)) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ: ((لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا))؛ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، مَعَ التَّشْدِيدِ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُقَالُ لَهُ مَعْرُوفٌ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمِثَالَ ﷺ: ((وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ))، فَهَذَا مَعْرُوفُ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهَذَا تَقَرُّبٌ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا كَمَنَتْ وَرَاءَهُ النِّيَّةُ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا، وَقَامَ عَلَى أَصْلِهَا، وَاسْتَقَامَ عَلَى مِنْهَاجِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَقَرُّبًا إِلَى الْعَلِيِّ الْأَعْلَى -سُبْحَانَهُ-.

وَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ -أَيْضًا- كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي ((صَحِيحِهِ)) -رَحِمَهُ اللهُ-، ذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ! إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)).

أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!

النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ الْوُصْلَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجْعَلُ التَّلَاحُمَ بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْعَجِيبِ، يَقُولُ ﷺ: ((إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا)): زِدْ فِي مَائِهَا، لَوْ زَادَ فِي مَائِهَا رُبَّمَا خَفَّفَهَا فَتَغَيَّرَ طَعْمُهَا، لَا بَأْسَ؛ فَالْمَصْلَحَةُ الَّتِي تُرَادُ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا الْهَدَفِ وَأَجَلُّ، فَـ ((إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ))، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصَّدَقَةِ لِلْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا لَوْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاحُمِ وَالْمُوَاسَاةِ؛ فَلَا يَنْظُرَنَّ أَحَدٌ إِلَى حَاجَةِ مَنْ يَكُونُ لَهُ جَارًا، فَيَقُولُ: أَأَذْهَبُ إِلَيْهِ سَاعِيًا بِهَذَا الْمَاءِ مِنْ أَجْلِ أَنْ أُهْدِيَهُ إِيَّاهُ مُتَعَاهِدًا لَهُ؟! نَعَمْ؛ بِذَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُوَ فَتْحٌ لِلْقُلُوبِ بِمَعَالِيقِهَا، فَهَذَا مِنْ مَفَاتِيحِ الْقُلُوبِ بِهَذَا الْإِهْدَاءِ الَّذِي تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْأَنْفُسُ؛ مَحَبَّةً، وَرِضًا، وَمُوَاسَاةً، وَتَعَاهُدًا، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)).

وَفِيهِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُتَّبِعَ لِلنَّبِيِّ ﷺ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَاذِقًا كَيِّسًا، وَأَنْ يَكُونَ فَطِنًا وَاعِيًا، وَأَنْ يَتَعَاهَدَ جِيرَانَهُ، لَا عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّجَسُّسِ عَلَى أَخْبَارِهِمْ، وَاسْتِقْصَاءِ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَتَعَاهَدُ أَحْوَالَهُمْ؛ لِيَعْرِفَ حَاجَاتِهِمْ وَمَوَاقِعَ رِضَائِهِمْ، ثُمَّ يَضَعُ الْأَمْرَ فِي مَوْضِعِهِ.

وَبِذَا جَاءَنَا نَبِيُّنَا ﷺ.

((الْمُسْلِمُ الْحَقُّ هُوَ الْغَالِي عِنْدَ اللهِ))

النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الْأَمْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى حَقِيقَةٍ، مُسْتَقِرًّا عَلَى قَرَارٍ.

كُلُّ شَيْءٍ لَهُ اسْمٌ وَصُورَةٌ وَحَقِيقَةٌ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْحَقِيقَةُ وُجِدَتِ الصُّورَةُ وَالِاسْمُ.

وَإِذَا وُجِدَتِ الصُّورَةُ وُجِدَ الِاسْمُ بِالضَّرُورَةِ، وَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ تُوجَدُ الْحَقِيقَةُ.

وَأَمَّا الِاسْمُ فَإِذَا وُجِدَ فَلَيْسَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ تُوجَدَ الصُّورَةُ، وَلَا أَنْ تُوجَدَ الْحَقِيقَةُ.

خُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا: لَوْ أَنَّ جَائِعًا عَضَّهُ الْجُوعُ بِنَابِهِ حَتَّى عَصَرَ مَعِدَتَهُ، فَظَلَّ يَتَلَوَّى أَيَّامًا، لَوْ أَنَّهُ أَخَذَ يُرَدِّدُ اسْمَ الْخُبْزِ، فَيُرَدِّدُهُ سَاعَةً طَوِيلَةً، فَأَتَى بِاسْمِ الْخُبْزِ -وَلِلْخُبْزِ اسْمٌ وَصُورَةٌ وَحَقِيقَةٌ-، فَجَاءَ هُوَ بِالِاسْمِ وَأَخَذَ يُرَدِّدُ لَفْظَ الْخُبْزِ سَاعَةً طَوِيلَةً؛ بَلْ لَيْلَةً شَاتِيَةً شُدَّتْ نُجُومُهَا بِأَمْرَاسِ كِتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْدَلِ، فَلْيَكُنْ، ظَلَّ يُرَدِّدُ اسْمَ الْخُبْزِ مَا يُرَدِّدُهُ؛ أَتُرَاهُ يَنْفَعُهُ هَذَا التَّرْدِيدُ شَيْئًا؟!!

أَنَا أَقُولُ لَكَ: إِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا جُوعًا؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ الْمَفْقُودَ بِإِلْحَاحٍ لَا يَفْتُرُ عَنْهُ، وَلَا يَتَوَانَى عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالِاسْمِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا هَذَا الِاسْمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ.

أَتُرَاهُ لَوْ مَلَكَ قَلَمًا وَقِرْطَاسًا، فَصَوَّرَ فِي الْقِرْطَاسِ رَغِيفًا، فَأَبْدَعَ فِي تَصْوِيرِهِ؛ حَتَّى لَكَأَنَّهُ يُضَارِعُ الْحَقِيقَةَ -وَلَيْسَ بِمُضَارِعِهَا-، ثُمَّ أَخَذَ يَتَأَمَّلُ فِيهِ رَائِحًا وَغَادِيًا؛ أَتُرَى تَكُونُ الصُّورَةُ مُغْنِيَةً لَهُ، سَادَّةً شَيْئًا مِنْ جُوعِهِ، أَمْ تَزِيدُهُ جُوعًا؟!!

لَا شَكَّ أَنَّهَا تَزِيدُهُ جُوعًا.

وَلَكِنَّهُ لَوْ تَحَصَّلَ عَلَى كِسْرَةٍ يَابِسَةٍ، فَلَاكَهَا طَاحِنًا إِيَّاهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ وِجْدَانِهِ مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَا تَتَطَلَّعُ الْعَيْنُ إِلَيْهِ؛ بَلْ تَنْحَدِرُ مُنْزَلِقَةً عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ لَا شَيْءَ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّهُ تَحَصَّلَ عَلَى كِسْرَةٍ يَابِسَةٍ مِنْ حَقِيقَةِ الْخُبْزِ فَطَحَنَهَا طَحْنًا، وَازْدَرَدَهَا ازْدِرَادًا؛ فَإِنَّهَا تُسَكِّنُ الْجَوْعَةَ، وَتُذْهِبُ مَا بِهِ مِنَ الْأَلَمِ -أَلَمِ الْجُوعِ-.

كُلُّ شَيْءٍ: اسْمٌ، وَصُورَةٌ، وَحَقِيقَةٌ.

خُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَوَطَنَتِ الْفِئْرَانُ دَارَهُ عَلَى قِلَّةِ مَا فِي الدَّارِ أَوْ عُدْمِهِ، وَلَا تَقْطُنُ الْفِئْرَانُ دَارَهُ إِلَّا لِحُبِّ الْوَطَنِ، وَحُبُّ الْوَطَنِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مَغْرُوسٌ فِي النُّفُوسِ؛ وَلَكِنْ لَا تَسْتَوْطِنُ الدَّارَ إِلَّا لِتِلْكَ الْعِلَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ تُؤْذِيهِ؛ إِذْ لَيْسَ هُنَالِكَ مِمَّا يُؤْكَلُ فِي دَارِهِ إِلَّا هُوَ، فَهُوَ يَخْشَى عَلَى أَصَابِعِهِ، وَيَخْشَى عَلَى أُذُنَيْهِ!

فَأَرَادَ أَنْ يَحْتَالَ، فَظَلَّ يَدُورُ فِي بَيْتِهِ يُرَدِّدُ اسْمَ الْهِرِّ فِي الْجَنَبَاتِ، وَالْفِئْرَانُ لَاهِيَةٌ فِي الْبَيْتِ لَاعِبَةٌ؛ حَتَّى لَتَقُومُ عَلَى أَذْنَابِهَا رَاقِصَةً كَأَنَّمَا تَشْمَتُ بِهِ!

أَيُّ هِرٍّ هَذَا أَيُّهَا الْهِرُّ؟!!

وَلَا يَنْفَعُ ذِكْرُكَ اسْمَهُ شَيْئًا!

فَقَالَ: إِنِّي لَا بُدَّ أَنْ أَرْتَقِيَ، فَأَتَى بِمَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَوْرَاقِ، فَاسْتَنْسَخَ صُورَةَ أَسَدٍ لَا هِرٍّ، وَصَارَ يَجْعَلُ تِلْكَ الْأَوْرَاقَ هَاهُنَا وَهَاهُنَا -وَصُوَرُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ مِمَّا لَا يُبَاحُ؛ بَلْ هُوَ حَرَامٌ، تَصْوِيرُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ حَرَامٌ، فَهَذَا مِثَالٌ فَتَنَزَّلْ، وَلَا تَكُنْ مُتَعَنِّتًا-، وَمَعَ ذَلِكَ فَسَوْفَ نُدَمِّرُ عَلَيْهِ صُوَرَهُ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا وَزَّعَهَا هَاهُنَا وَهُنَاكَ ثُمَّ غَابَ؛ خَرَجَتِ الْفِئْرَانُ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُؤْكَلُ سِوَى صُورَةِ اللَّيْثِ الْغَضَنْفَرِ، فَأَكَلَتْهَا.

فَقَالَ: نَرْتَقِي؛ فَذَهَبَ فَأَتَى بِقِطٍّ أَجْرَبَ أَعْجَفَ، إِذَا مَشَى يَتَخَلَّعُ كَأَنَّمَا يَتَهَدَّمُ، يَمُوءُ كَأَنَّمَا يَلْفِظُ آخِرَ مَا فِيهِ مِنْ رُوحٍ، فَجَعَلَهُ هُنَالِكَ، فَظَلَّ يَمُوءُ مِنَ الْأَلَمِ؛ أَتَرَى الْفِئْرَانَ -حِينَئِذٍ- يَثْبُتُ مِنْهَا لِهَذَا الشَّبَحِ -شَبَحِ الْهِرِّ-؛ أَيَثْبُتُ لَهُ مِنْ تِلْكَ الْفِئْرَانِ فَأْرٌ؟!!

أَقُولُ لَكَ: لَا.

لِمَاذَا؟

لِوُجُودِ الْحَقِيقَةِ.

وَالْآنَ خُذْ هَذِهِ: مُسْلِمٌ اسْمًا، وَمُسْلِمُ صُورَةً، وَمُسْلِمُ حَقِيقَةً؛ فَأَيْنَ أَنْتَ؟!!

مَنْ أَنْتَ؟!!

وَمَنْ تَكُونُ؟!!

وَأَيْنَ أَنْتَ؟!!

وَأَيْنَ تَكُونُ؟!!

تَأَمَّلْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ-!

اسْمٌ فَقَطْ؟!!

أَمْ اسْمٌ وَصُورَةٌ فَقَطْ وَلَا حَقِيقَةَ؟‍!!

أَمْ حَقِيقَةٌ تَسْتَلْزِمُ صُورَةً، وَتَسْتَلْزِمُ اسْمًا لَا مَحَالَةَ؟!!

أَيْنَ أَنْتَ؟!!

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا؛ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَبِرٍّ، وَحَجٍّ-، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَبَاءً مَنْثُورًا))

قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا، أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ)).

هَذِهِ حَقِيقَةُ الْمُسْلِمِ عِنْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ؛ يَأْتِي بِالْعَمَلِ عَلَى الْوَجْهِ، وَيَخَافُ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَابَهُ شَوْبٌ، أَوْ دَخَلَ فِيهِ مَا يُحْبِطُهُ، فَيَحْنُو جِهَةَ التَّصْفِيَةِ -تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُحْبِطُهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْعَجِيبِ-؛ ((أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ)).

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ -يَعْنِي: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ-، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ -يَقْرَؤُونَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا تَقْرَؤُونَ-؛ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)).

وَا أَسَفَاهُ! غَابَتْ حَقِيقَةُ الْمُسْلِمِ!

أَيْنَ هُوَ؟!!

غَابَتْ حَقِيقَتُهُ؛ فَحَقِيقَةُ الْمُسْلِمِ الَّذِي اسْتَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّوْحِيدِ، وَانْقَادَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مَعَ بَرَاءَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ!

فَالْإِسْلَامُ: الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

فَأَيْنَ هُوَ؟!!

هَذِهِ حَقِيقَتُهُ، فَإِذَا جَاءَتْ حَقِيقَتُهُ جَاءَتْ صُورَتُهُ، وَإِذَا جَاءَتْ صُورَتُهُ كَانَ اسْمُهُ لَا مَحَالَةَ، فَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْحَقِيقَةُ وُجِدَتْ لَوَازِمُهَا.

وَأَمَّا الِاسْمُ فَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِهِ الصُّورَةُ!

وَالِاسْمُ وَالصُّورَةُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِهِمَا الْحَقِيقَةُ!

فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَأْخُذُ مُخَّ الْبَاطِلِ وَيَكْسُوهُ بِلِحَاءِ الْحَقِّ، فَلَا يَزِيدُهُ شَيْئًا!

إِي نَعَمْ وَاللهِ! أَيَّتُهَا الْحَصَاةُ مَا سَخِرَ مِنْكِ السَّاخِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَجْلُوَكِ عَلَى النَّاسِ فِي عُلْبَةِ جَوْهَرَةٍ!

فَيَبِينُ الْفَرْقُ -حِينَئِذٍ-، وَتَقْتَحِمُ الْعَيْنُ مَا هُنَالِكَ، فَيُؤْتَى بِعُلْبَةِ الْجَوْهَرَةِ مُغْلَقَةً، فَإِذَا مَا فُتِحَتْ وُجِدَتِ الْحَصَاةُ؛ فَحِينَئِذٍ تَزِيدُ شُؤْمًا عَلَى شُؤْمٍ، وَضَعَةً عَلَى ضَعَةٍ، وَلَوْ أَنَّ الْحَصَاةَ عُرِضَتْ بَعِيدَةً عَنْ عُلْبَةِ الْجَوْهَرَةِ مَا اقْتَحَمَتْهَا الْعَيْنُ؛ إِذْ هِيَ حَصَاةٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ فَكَانَ مَاذَا؟ هَكَذَا خَلَقَهَا اللهُ.

أَيَّتُهَا الْحَصَاةُ مَا سَخِرَ مِنْكِ السَّاخِرُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْرِضَكِ عَلَى النَّاسِ فِي عُلْبَةِ جَوْهَرَةٍ!

مَعْنَى أَنَّكَ مُسْلِمٌ: أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا فِي عَقِيدَتِكَ، هَذَا أَمْرٌ يَسِيرٌ جِدًّا؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجْهَلُهُ، أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ؛ بِوُجُودِهِ، بِرُبُوبِيَّتِهِ، بِأُلُوهِيَّتِهِ، بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، لَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ، وَلَا يَصْرِفُ لَوْنًا مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِسِوَاهُ، الْعِبَادَةُ كُلُّهَا مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ يَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ للهِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَابِدًا مَعَ اللهِ سِوَاهُ، وَلَا أَحَدَ يَدْرِي هَذَا إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، أَنْ تُحَصِّلَ أُمُورَ الْإِيمَانِ.

أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا فِي عَقِيدَتِكَ؛ فِي نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ﷺ.

مَعْنَى أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا: أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا فِي عَقِيدَتِكَ، مُسْلِمًا فِي عِبَادَتِكَ، مُسْلِمًا فِي مُعَامَلَتِكَ، مُسْلِمًا فِي أَخْلَاقِكَ وَفِي سُلُوكِكَ؛ فَابْحَثْ عَنِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّلوكِ، كَمَا جَاءَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

فحَقِيقَةُ الْمُسْلِمِ: الَّذِي اسْتَسْلَمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالتَّوْحِيدِ، وَانْقَادَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مَعَ بَرَاءَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، هَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ؛ فَالْإِسْلَامُ: الِاسْتِسْلَامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.

الْمُسْلِمُ الْفَائِقُ، الْمُسْلِمُ الْمُمْتَازُ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ كَيْفًا لَا كَمًّا؛ لِأَنَّ الْغُثَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَإِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَفَعُوا الْأَكُفَّ إِلَى السَّمَاءِ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَإِذَا مَا اسْتَنْصَرُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَصَرَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ، وَإِذَا مَا طَلَبُوا مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَبَّاهُمْ، وَأَجْزَلَ لَهُمُ الْعَطَاءَ مِنَّةً وَفَضْلًا.

أُمَّةٌ تُرِيدُ الْفَائِقِينَ، تُرِيدُ مَنْ كَانَ فَائِقًا، آخِذًا بِمَنْهَجِ الْعِبَادَةِ عَلَى وَجْهِهِ.

عَلَيْكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- أَنْ تَأْتِيَ بِالْعَمَلِ، وَأَنْ تَكُونَ لَكَ عِبَادَةٌ، وَفِي الدُّنْيَا زَهَادَةٌ، وَعَلَى اللهِ إِقْبَالٌ، هَذَا مُهِمٌّ؛ بَلْ بِهَا سَبَقَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَإِنَّهُمْ رَبَطُوا الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا بَيْنَهُمَا فَجْوَةً، فَكَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ، وَيَعْمَلُونَ بِهِ، ((تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ، لَا يَتَجَاوَزُوهُنَّ حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، وَحَتَّى يَعْمَلوا بِهِنَّ، قَالُوا: ((فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا)).

فَهَذَا سَبِيلُ النَّجَاةِ، وَهَذَا مَا أَرَادَهُ اللهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْكِتَابَ هَادِيًا، وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ مُرْشِدًا، وَأَرْسَلَ النَّبِيَّ ﷺ هَادِيًا وَنَذِيرًا، وَمُبَشِّرًا بِالْخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لِمَنْ أَطَاعَ اللهَ، وَاجْتَنَبَ مَسَاخِطَهُ.

فَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ مُرْتَكِزٌ عَلَى الْعِلْمِ، كَمَا بَوَّبَ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((بَابٌ: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}))، فَقَدَّمَ الْعِلْمَ عَلَى الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.

لَكِنْ وَازِنْ بَيْنَ قُوَّتَيْكَ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ تَسْعَدْ -إِنْ شَاءَ اللهُ-.

وَاللهُ يُوَفِّقُكَ وَيَرْعَاكَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ.

المصدر: أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان