الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ

الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ

((الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَوْلَادُ مِنَ الْبُشْرَيَاتِ فِي الْإِسْلَامِ))

فَالْإِسْلَامُ يَعُدُّ الْأَوْلَادَ مِنَ الْبُشْرَيَاتِ؛ فَالْأَوْلَادُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُمْسِكُهَا عَمَّنْ يَشَاءُ.

وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ تَسُرُّ الْوَالِدَيْنِ بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِهِمْ رُسُلَ اللهِ مِنَ الْبَشَرِ وَزَوْجَاتِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ} [مريم: 7].

وَقَالَ -جَلَّ شَأْنُهُ- عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71].

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّتِي تُبَشِّرُ الْآبَاءَ مِنَ الرُّسُلِ بِالْأَبْنَاءِ.

وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِبْشَارُ بِالْوَلَدِ وَالتَّبْشِيرُ بِهِ مِنَ السُّنَنِ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ اللهُ -تَعَالَى- مَنْ تَبَرَّمَ مِنَ الْأُنْثَى وَاسْتَثْقَلَهَا؛ لِأَنَّهُ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي وَهَبَهَا كَمَا وَهَبَ الذَّكَرَ، وَالْحَيَاةُ لَا تَسْتَمِرُّ إِلَّا بِالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مَعًا، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 59].

وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عَنِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ: ((كَيْفَ أَقُولُ؟)).

قَالَ: قُلْ: ((جَعَلَهُ اللهُ مُبَارَكًا عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ )). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي ((الدُّعَاءِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].

أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ تُفْتَنُونَ بِهَا وَتُخْتَبَرُونَ، فَإِنْ شَكَرْتُمْ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَقُمْتُمْ بِوَاجِبِهَا كُنْتُمْ مِنَ الرَّابِحِينَ، وَإِنْ كَفَرْتُمُوهَا وَلَمْ تَقُومُوا بِوَاجِبِهَا كُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

((الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ))

إِنَّ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَةَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ؛ لِذَلِكَ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ بِصِحَّةِ الْإِنْسَانِ؛ لَا سِيَّمَا الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ الَّتِي تُسْهِمُ فِي تَنْشِئَةِ جِيلٍ فَتِيٍّ قَوِيٍّ تَتَوَفَّرُ لَهُ كُلُّ مُقَوِّمَاتِ الْقُوَّةِ الْمَطْلُوبَةِ؛ عَقَدِيًّا، وَتَرْبَوِيًّا، وَصِحِّيًّا، وَعِلْمِيًّا وَثَقَافِيًّا، وَاقْتِصَادِيًّا؛ لِيَقُومَ بِمُهِمَّةِ تَعْمِيرِ الدُّنْيَا وَإِصْلَاحِهَا، حَيْثُ يَقُولُ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ-: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

وَالْمُتَدَبِّرُ لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ يَرَى عِنَايَةَ الْإِسْلَامِ بِالصِّحَّةِ الْإِنْجَابِيَّةِ مِنْ خِلَالِ رِعَايَتِهِ لِحَقِّ الْأُمِّ صِحِّيًّا.

وَمِنْ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالصِّحَّةِ الْإِنْجَابِيَّةِ: رِعَايَتُهُ لِحَقِّ الطِّفْلِ فِي الرَّضَاعَةِ الطَّبِيعِيَّةِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ؛ فَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ -تَعَالَى- الْوَالِدَاتِ أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ سَنَتَانِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.

وَهَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَقَرِّرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ بِأَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَامِلِ، وَعَلَى مُعْظَمِ الْحَوْلِ؛ قَالَ: {كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.

فَإِذَا تَمَّ لِلرَّضِيعِ حَوْلَانِ فَقَدْ تَمَّ رَضَاعُهُ، وَصَارَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَغْذِيَةِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، لَا يُحَرِّمُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].

وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَ.

فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى رِعَايَةِ الْإِسْلَامِ وَاهْتِمَامِهِ بِالصِّحَّةِ الْإِنْجَابِيَّةِ: إِبَاحَةَ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ تَنْظِيمَ النَّسْلِ بِشُرُوطٍ وَضَوَابِطَ.

((إِنَّ تَنْظِيمَ النَّسْلِ: هُوَ الْعِنَايَةُ لِأَسْبَابِ الْحَمْلِ فِي وَقْتِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ الْمَرْأَةَ، وَلَا يُسَبِّبُ لَهَا مَتَاعِبَ كَثِيرَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تَتَعَاطَى بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْحَمْلَ فِي وَقْتٍ مَا لِمَصْلَحَةِ الْحَمْلِ، أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمَرْأَةِ، أَوْ لِمَصْلَحَتِهِمَا جَمِيعًا، فَهَذَا يُسَمَّى تَنْظِيمَ النَّسْلِ؛ بِتَعَاطِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى تَنْظِيمِ النَّسْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً لَا تَتَحَمَّلُ الْحَمْلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، أَوْ يَكُونُ هُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى تَقْتَضِي عَدَمَ حَمْلِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ يُقَرِّرُهَا الْأَطِبَّاءُ، أَوْ تَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَحْمَلَ هَذَا عَلَى هَذَا؛ كُلَّمَا خَرَجَتْ مِنَ النِّفَاسِ حَمَلَتْ -بِإِذْنِ اللهِ-، فَيَشُقُّ عَلَيْهَا تَرْبِيَةُ الْأَطْفَالِ وَالْعِنَايَةُ بِشُؤُونِهِمْ؛ فَتَتَعَاطَى بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ حَتَّى لَا تَحْمَلَ إِلَّا بَعْدَ وَقْتٍ؛ كَأَنْ تَحْمَلَ بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ أَجْلِ مُرَاعَاةِ الْأَطْفَالِ، وَتَرْبِيَةِ الْأَطْفَالِ، وَالْعِنَايَةِ بِشُؤُونِهِمْ.

وَهَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ مَذْكُورَةٍ؛ بِأَنْ تَكُونَ تَحْمَلُ هَذَا عَلَى هَذَا، فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ لِيَكُونَ هُنَاكَ فَصْلٌ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ؛ كَسَنَةٍ، أَوْ سَنَتَيْنِ مُدَّةَ الرَّضَاعِ؛ حَتَّى تَسْتَطِيعَ الْقِيَامَ بِالتَّرْبِيَةِ الْمَطْلُوبَةِ.

كَمَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا لِلْمَصْلَحَةِ.

وَهَكَذَا تَعَاطِي بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ يَضُرُّهَا الْحَمْلُ لِمَرَضٍ بِهَا، أَوْ بِرَحِمِهَا، فَيُقَرِّرُ الطَّبِيبُ الْمُخْتَصُّ أَوِ الْأَطِبَّاءُ أَوِ الطَّبِيبَاتُ الْمُخْتَصَّاتُ بِأَنَّ حَمْلَهَا كُلَّ سَنَةٍ أَوْ كُلَّ سَنَتَيْنِ يَضُرُّهَا، فَقَدْ تَتَعَاطَى بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَجْعَلُهَا تَحْمَلُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ أَوْ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَرَضِ)).

((فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَدْ تُضْطَرُّ الْمَرْأَةُ إِلَى تَأْجِيلِ الْحَمْلِ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ كَمَرَضِهَا، أَوْ ضَعْفِهَا، أَوْ عَجْزِهَا عَنِ الْقِيَامِ بِحَضَانَةِ أَوْلَادِهَا، فَهَذَا لَا بَأْسَ أَنْ تَتَّخِذَ مَا يُؤَجِّلُ الْحَمْلَ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِرِضَا الزَّوْجِ، أَمَّا الْجَنِينُ إِذَا حَمَلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13]، لَا يَجُوزُ إِنْزَالُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْذُ كَانَ نُطْفَةً ابْتَدَأَ تَكْوِينُهُ، فَلَا يَجُوزُ إِنْزَالُ الْحَمْلِ مُنْذُ تَكْوِينِهِ إِلَّا إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ؛ لِكَوْنِ الْأُمِّ لَا تَتَحَمَّلُ الْحَمْلَ؛ لِمَرَضٍ فِي قَلْبِهَا، أَوْ فِي صِحَّتِهَا، أَوْ فِي بَطْنِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْزِلُ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَيْ: إِلَى أَنْ تُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَنْزِيلُهُ أَبَدًا بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ صَارَ إِنْسَانًا، وَالْإِنْسَانُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ)).

((تَنْظِيمُ النَّسْلِ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ؛ لِكَوْنِهَا ذَاتَ أَطْفَالٍ كَثِيرِينَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهَا التَّرْبِيَةُ، أَوْ لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ، أَوْ لِأَسْبَابٍ أُخْرَى رَآهَا الْأَطِبَّاءُ الثِّقَاتُ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّنْظِيمِ بِأَنْ تَمْنَعَ الْحَمْلَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، وَهَكَذَا؛ حَتَّى تَسْتَطِيعَ تَرْبِيَةَ أَطْفَالِهَا، أَوْ حَتَّى يَخِفَّ عَنْهَا الْمَرَضُ.

أَمَّا بِدُونِ حَاجَةٍ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَخْذُ الْحُبُوبِ، وَلَا يَنْبَغِي مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- شَرَعَ لَنَا أَسْبَابَ تَكْثِيرِ النَّسْلِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ يَأْتِي بِرِزْقِهِ، وَفِي تَرْبِيَتِهِ وَالتَّعَبِ عَلَيْهِ أَجْرٌ كَثِيرٌ مَعَ صَلَاحِ النِّيَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَخْذِ الْحُبُوبِ وَلَا إِلَى التَّنْظِيمِ إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ وَحَاجَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ؛ كَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ، وَمَشَقَّةِ التَّرْبِيَةِ، أَوْ مَا يَعْتَرِي الْأُمَّ مِنَ الْمَرَضِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْوَجِيهَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِالْحُبُوبِ، أَوْ بِاللَّوْلَبِ، أَوْ بِإِبَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ تَنْظِيمِ الْحَمْلِ.

أَمَّا مَنْعُهُ؛ فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا لِعِلَّةٍ؛ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ فِيهِ خَطَرٌ عَلَى حَيَاةِ الْأُمِّ، وَذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ أَنَّ الْحَمْلَ لَوْ فِيهِ خَطَرٌ عَلَيْهَا؛ فَلَا بَأْسَ بِمَنْعِهِ؛ وَإِلَّا فَلَا يُمْنَعُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا تَعَاطِي مَنْعِهِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَاطِي مَنْعِ الْحَمْلِ إِلَّا لِعِلَّةٍ لَا حِيلَةَ فِيهَا، وَهِيَ الْخَوْفُ عَلَى الْأُمِّ مِنَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ فِيهِ خَطَرٌ عَلَى حَيَاتِهَا)).

((إِنَّ مَنْعَ الْحَمْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَحْدِيدَ النَّسْلِ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَجَاوَزُ أَوْلَادُهُ مِنْ ذُكُورٍ أَوْ إِنَاثٍ هَذَا الْقَدْرَ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَدْرِي هَذَا الْمُحَدِّدُ لِنَسْلِهِ؛ فَلَعَلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ يَمُوتُونَ، فَيَبْقَى لَيْسَ لَهُ أَوْلَادٌ!!

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَنْعُ الْحَمْلِ لِتَنْظِيمِ النَّسْلِ، بِمَعْنَى: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَثِيرَةَ الْإِنْجَابِ، وَتَتَضَرَّرُ فِي بَدَنِهَا أَوْ فِي شُؤُونِ بَيْتِهَا، وَتُحِبُّ أَنْ تُقَلِّلَ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ مِثْلُ أَنْ تُنَظِّمَ حَمْلَهَا فِي كُلِّ سَنَتَيْنِ مَرَّةً، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ بِإِذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْعَزْلَ الَّذِي كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَفْعَلُونَهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ.

وَمَوْضُوعُ تَحْدِيدِ النَّسْلِ أَوْ تَنْظِيمِهِ لِلْخَوْفِ مِنَ الرِّزْقِ؛ هَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ سُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّهُ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ هَذَيْنِ الْمَحْظُورَيْنِ، وَهُمَا:

* سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

* وَالثَّانِي: مُشَابَهَةُ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا، وَأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِذَا رَزَقَهُ أَوْلَادًا؛ فَسَيَفْتَحُ لَهُ أَبْوَابًا مِنَ الرِّزْقِ حَتَّى يَقُومَ بِشُؤُونِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ وَرِزْقِهِمْ.

ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَقُولُ: أَنَا لَا أُحَدِّدُ النَّسْلَ أَوْ لَا أُنَظِّمُهُ مِنْ خَوْفِي ضِيقَ الرِّزْقِ، وَلَكِنْ مِنْ خَوْفِ الْعَجْزِ عَنْ تَأْدِيبِهِمْ وَتَوْجِيهِهِم، وَهَذَا -أَيْضًا- خَطَأٌ؛ فَإِنَّ تَأْدِيبَهُمْ وَتَوْجِيهَهُمْ كَرِزْقِهِمْ، الْكُلُّ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَمَا أَنَّكَ تَعْتَمِدُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- فِي رِزْقِ أَوْلَادِكَ؛ كَذَلِكَ -أَيْضًا- يَجِبُ أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي أَدَبِ أَوْلَادِكَ وَهِدَايَتِهِمْ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- هُوَ الْهَادِي -سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ-، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي.

وَعَلَى هَذَا فَالَّذِي يُنَظِّمُ نَسْلَهُ أَوْ يُحَدِّدُهُ خَوْفًا مِنْ غِوَايَتِهِمْ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَأْدِيبِهِمْ هُوَ -أَيْضًا- مُسِيءٌ لِلظَّنِّ بِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَإِلَّا فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِيَدِهِ الْأُمُورُ.

وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا مِمَّا يُقَلِّلُ الْأَوْلَادَ إِلَّا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ لِذَلِكَ أَوِ الضَّرُورَةُ.

ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأُمَّةِ وَكَثْرَةَ النَّسْلِ مِنْ نِعَمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَلِهَذَا فشُعَيْبٌ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- ذَكَّرَ قَوْمَهُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ، فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، وَكَذَلِكَ مَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ حَيْثُ قَالَ: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6].

فَكَثْرَةُ الْأُمَّةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا سَبَبٌ لِعِزَّتِهَا، وَقِيَامِهَا بِنَفْسِهَا، وَاكْتِفَائِهَا بِمَا لَدَيْهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَرُبَّمَا لِكَثْرَتِهَا تَكُونُ سَبَبًا لِفَتْحِ مَصَادِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ الرِّزْقِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ أَوَّلًا بِأَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا.

وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الدُّوَلِ غَزَتْ دُوَلًا أَكْبَرَ مِنْهَا وَأَشَدَّ مِنْهَا قُوَّةً بِسَبَبِ فَقْرِ أَفْرَادِهَا؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا يَفْتَحُونَ الْمَعَامِلَ وَالْمَصَانِعَ، وَيُنْتِجُونَ إِنْتَاجًا بَالِغًا؛ لِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ مُحَاوَلَةَ تَحْدِيدِ النَّسْلِ أَوْ تَنْظِيمِهِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ كَيْدِ أَعْدَائِنَا بِنَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يَرْمِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَلِمَا يَوَدُّهُ مِنْ تَكْثِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاتِهِ ﷺ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ)).

((مَا قَدْ يُفَسَّرُ بِهِ تَنْظِيمُ النَّسْلِ بِأَنْ تَتَعَاطَى الْمَرْأَةُ أَدْوِيَةً تَمْنَعُ الْحَمْلَ بَعْدَ وَلَدَيْنِ، أَوْ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ، أَوْ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ؛ هَذَا لَيْسَ بِتَنْظِيمٍ، وَلَكِنَّهُ قَطْعٌ لِلنَّسْلِ، وَحِرْمَانٌ لِلزَّوْجَيْنِ مِنَ النَّسْلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْكَامِلَةَ جَاءَتْ بِالْحَثِّ عَلَى تَعَاطِي أَسْبَابِ الْوِلَادَةِ، وَكَثْرَةِ النَّسْلِ لِلْأُمَّةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷺ: ((تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وَفِي لَفْظٍ: ((الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).

فَهَذَا يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ النَّسْلِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، وَتَكْثِيرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَتَكْثِيرِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَيَدْعُوهُ، وَيَسْتَغِيثُ بِهِ، وَيُبَادِرُ إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَنْفَعُ عِبَادَهُ، فَهَذَا لَا يُسَمَّى تَنْظِيمًا، وَلَكِنَّهُ قَطْعٌ لِلنَّسْلِ؛ فَلَا يَجُوزُ.

وَهَكَذَا تَعَاطِي الْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْوَلَدَ إِلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ هَذَا يُشْبِهُ الْقَطْعَ، وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ؛ مِنْ مَرَضِهَا، أَوْ مَرَضِ رَحِمِهَا، أَوْ حَمْلِهَا هَذَا عَنْ هَذَا حَتَّى لَا تَسْتَطِيعَ التَّرْبِيَةَ، هَذِهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَقْتَضِي التَّنْظِيمَ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ)).

قَالَ شَيْخُ الْأَزْهَرِ الْأَسْبَقُ الشَّيْخُ: جَادُ الْحَقِّ عَلي جَادُ الْحَق -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَنْظِيمُ النَّسْلِ جَائِزٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، مَا دَامَ الْغَرَضُ مِنْهُ الْمُحَافَظَةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَضْرَارِ كَثْرَةِ الْحَمْلِ، أَوْ تَهْيِئَةَ الْجَوِّ الْمُنَاسِبِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ تَرْبِيَةً سَلِيمَةً صَحِيحَةً)).

وَقَدْ((أَجَازَ فُقَهَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَزْلَ كَوَسِيلَةٍ لِمَنْعِ الْحَمْلِ بِشَرْطِ مُوَافَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَعَدَمِ وُقُوعِ الضَّرَرِ، وَإِذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ الْقُدَامَى لَمْ يَذْكُرُوا وَسِيلَةً أُخْرَى؛ فَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَزْلَ كَانَ هُوَ الطَّرِيقَ الْمَعْرُوفَ فِي وَقْتِهِمْ وَمَنْ قَبْلَهُمْ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-، وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَا يَمْنَعُ قِيَاسَ مَثِيلِهِ عَلَيْهِ مَا دَامَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَزْلِ هُوَ مَنْعُ الْحَمْلِ، فَلَا ضَيْرَ مِنْ سَرَيَانِ إِبَاحَةِ مَنْعِ الْحَمْلِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ حَدِيثَةٍ تَمْنَعُهُ مُؤَقَّتًا دُونَ تَأْثِيرٍ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاحِيَةِ لِلْإِنْجَاب.

لَا فَرْقَ إِذَنْ بَيْنَ الْعَزْلِ بِاعْتِبَارِهِ سَبَبًا وَبَيْنَ وَضْعِ حَائِلٍ يَمْنَعُ وُصُولَ مَاءِ الرَّجُلِ إِلَى دَاخِلِ رَحِمِ الزَّوْجَةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحَائِلُ يَضَعُهُ الرَّجُلُ أَوْ تَضَعُهُ الْمَرْأَةُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا كَذَلِكَ وَبَيْنَ أَيِّ دَوَاءٍ يَقْطَعُ الطَّبِيبُ بِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْحَمْلَ مُؤَقَّتًا، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِنْجَابِ مُسْتَقْبَلًا، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ تَنَاوَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ طُرُقًا لِمَنْعِ الْحَمْلِ غَيْرَ الْعَزْلِ، وَأَبَاحُوهَا قِيَاسًا عَلَى الْعَزْلِ، وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا يُؤَخِّرُ الْحَمْلَ مُدَّةً.

عَلَى هَذَا يُبَاحُ اسْتِعْمَالُ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ لِمَنْعِ الْحَمْلِ مُؤَقَّتًا، أَوْ تَأْخِيرِهِ مُدَّةً؛ كَاسْتِعْمَالِ أَقْرَاصِ مَنْعِ الْحَمْلِ، أَوِ اسْتِعْمَالِ اللَّوْلَبِ، أَوْ غَيْرِ هَذَا مِنَ الْوَسَائِلِ الَّتِي يَبْقَى مَعَهَا الزَّوْجَانِ صَالِحَيْنِ لِلْإِنْجَابِ؛ بَلْ إِنَّ هَذِهِ الْوَسَائِلَ أَوْلَى مِنَ الْعَزْلِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا يَكُونُ الِاتِّصَالُ الْجِنْسِيُّ بِطَرِيقٍ طَبِيعِيٍّ، أَمَّا الْعَزْلُ؛ فَقَدْ كَانَ فِي اللُّجُوءِ إِلَيْهِ أَضْرَارٌ كَثِيرَةٌ لِلزَّوْجَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأَقَلِّ)).

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُرْزَقْ وَلَدًا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دُعَاءِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْوَلَدَ الصَّالِحَ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ؛ فَقَدْ أَصْلَحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ الْعَقِيمَ الَّتِي لَا تَلِدُ، وَرَزَقَ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ الَّذِي يُظَنُّ أَلَّا يُنْجِبَ.

وَإِذَا أَخَذَ الْإِنْسَانُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَابْتَهَلَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِدُعَاءِ زَكَرِيَّا -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10-12].

فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ يَمُنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.

((تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ مِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ وَأَعْظَمِ الْأَمَانَاتِ))

إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ كَمَا كَفَلَ لِلْأَبْنَاءِ حُقُوقًا حَتَّى قَبْلَ وِلَادَتِهِمْ؛ مِنِ اخْتِيَارِ أُمٍّ صَالِحَةٍ لَهُمْ، وَكَفَلَ لَهُمْ حَقَّ الرَّضَاعِ بَعْدَ وِلَادَتِهِمْ، وَحَقَّ الرِّعَايَةِ الصِّحِّيَّةِ؛ فَكَذَلِكَ كَفَلَ لَهُمْ حَقًّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُقُوقِ وَأَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ؛ وَهُوَ: حُسْنُ تَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، وَتَعْلِيمُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ.

فَمِنْ أَهَمِّ الْوَاجِبَاتِ الْجَسِيمَةِ وَالْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ: أَبْنَاؤُهُ؛ مِنْ حَيْثُ تَرْبِيَتُهُمْ وَتَأْدِيبُهُمْ، وَنُصْحُهُمْ وَتَوْجِيهُهُمْ؛ فَإِنَّ الْأَبْنَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمَانَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِرِعَايَتِهَا وَحِفْظِهَا، كَمَا قَالَ -تَعَالَى- عِنْدَ ذِكْرِهِ لِأَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27-28].

وَاللهُ -تَعَالَى- كَمَا أَنَّهُ وَهَبَ الْآبَاءَ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]؛ فَإِنَّهُ قَدِ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حُقُوقًا وَوَاجِبَاتٍ، وَجَعَلَهَا امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا لِلْآبَاءِ، فَإِنْ قَامُوا بِهَا تِجَاهَ أَبْنَائِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ رَبُّهُمْ كَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ، وَإِنْ فَرَّطُوا فِيهَا فَقَدْ عَرَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعُقُوبَةِ بِحَسَبِ تَفْرِيطِهِمْ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6].

وَالْآيَةُ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَوْلَادِ، وَتَرْبِيَتِهِمْ، وَالْعِنَايَةِ بِأَحْوَالِهِمْ.

قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ هَذِهِ الْآيَةِ: ((عَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ)).

وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَأْكِيدُ هَذَا الْأَمْرِ وَبَيَانُ تَحَتُّمِهِ عَلَى الْآبَاءِ فِي قَوْلِهِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَقَوْلُهُ ﷺ: ((مَسْؤُولٌ)): تَذْكِيرٌ بِسُؤَالِ اللهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ عَنْ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَلْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَسْأَلُ الْوَالِدَ عَنْ وَلَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ الْوَلَدَ عَنْ وَالِدِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ لِلْأَبِ عَلَى ابْنِهِ حَقًّا فَلِلِابْنِ عَلَى أَبِيهِ حَقٌّ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَدِّبِ ابْنَكَ؛ فَإِنَّكَ مَسْؤُولٌ عَنْ وَلَدِكَ؛ مَاذَا أَدَّبْتَهُ، وَمَاذَا عَلَّمْتَهُ، وَإِنَّهُ مَسْؤُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِهِ لَكَ)).

وَكَمَا أَوْصَى اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْأَبْنَاءَ بِبِرِّ آبَائِهِمْ، وَوُجُوبِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]؛ فَقَدْ أَوْصَى الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ -أَيْضًا-؛ لِتَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].

فَوَصِيَّةُ اللهِ لِلْآبَاءِ بِأَوْلَادِهِمْ سَابِقَةٌ عَلَى وَصِيَّةِ الْأَوْلَادِ بِآبَائِهِمْ.

وَقَدْ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا الْكَرِيمُ ﷺ أَنَّ لِلْوَالِدَيْنِ تَأْثِيرًا بَلِيغًا عَلَى أَبْنَائِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ؛ فَضْلًا عَنْ أَخْلَاقِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، فَقَالَ ﷺ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ؛ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَىَ فِيهَا جَدْعَاءَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مَثَلٌ بَلِيغٌ مَحْسُوسٌ؛ فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ تُنْتَجُ فِي الْعَادَةِ سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، فَلَيْسَ فِيهَا جَدْعٌ، أَوْ قَطْعٌ فِي يَدِهَا أَوْ أُذُنِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ رَاعِيهَا؛ إِمَّا بِإِهْمَالِهِ، وَإِمَّا بِفِعْلِهِ مُبَاشَرَةً.

فَهَكَذَا الْمَوْلُودُ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَإِذَا تَعَلَّمَ الْكَذِبَ وَالْغِشَّ، أَوِ الْفَسَادَ وَالِانْحِرَافَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ فِطْرَتِهِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ، أَوِ الْإِهْمَالِ فِيهَا، أَوْ بِمُؤَثِّرٍ خَارِجِيٍّ مِنْ أَصْحَابِ السُّوءِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلَطَاءِ.

((التَّرْبِيَةُ بِمُدَاوَمَةِ النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ))

إِنَّ مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ: الْمُدَاوَمَةَ عَلَى النُّصْحِ وَالتَّوْجِيهِ؛ لَا سِيَّمَا إِلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ بَدْءًا بِتَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، وَفَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِهِ، وَسَائِرِ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ يَبْدَأُ بِالْكَبَائِرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، وَسَائِرِ الْمَنَاهِي الشَّرْعِيَّةِ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا النَّصِيبُ الْأَكْبَرُ مِنَ التَّوْجِيهِ وَالنُّصْحِ، وَبَعْدَهَا يَلْتَفِتُ الْوَالِدُ وَالْوَالِدَةُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَصْلُحُ بِهَا حَالُ أَبْنَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا؛ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا.

وَمِنَ الْوَصَايَا الْبَلِيغَةِ النَّافِعَةِ الْمُسَدَّدَةِ: مَا ذَكَرَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ حِينَمَا وَعَظَ ابْنَهُ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ؛ حَيْثُ بَدَأَ مَعَهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَثَنَّى بِالْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبَعْدَهَا نَبَّهَهُ عَلَى إِحَاطَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِخَلْقِهِ، وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ لِضَرُورَةِ مُرَاقَبَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، ثُمَّ حَثَّهُ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَخَتَمَ وَصِيَّتَهُ بِتَنْبِيهِهِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ رَفِيعِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ.

وَقَدِ انْتَهَجَ هَذَا الْمَسْلَكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ كَمَا فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، وَذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيَّيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- قَالَ: {وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132-133].

وَأَثْنَى رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ لِكَوْنِهِ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 55].

وَأَمَرَ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَأَنْ يَأْمُرَ أَهْلَهُ بِهَا -أَيْضًا-، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى فِعْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

وَيَدْخُلُ فِي تَوْجِيهِ الْأَبْنَاءِ وَنُصْحِهِمْ -أَيْضًا- أَنْ يُجَنِّبَ الْوَالِدُ أَبْنَاءَهُ كُلَّ مَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَهُمْ وَدِينَهُمْ؛ كَسَمَاعِ الْأَغَانِي، وَالْقَنَوَاتِ الضَّارَّةِ، وَالْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، وَكَذَا يَحْذَرُ مِنَ الذَّهَابِ بِأَبْنَائِهِ لِأَمَاكِنِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ.

((أَوَّلُ وَصَايَا الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ))

إِنَّ أَوَّلَ وَأَعْظَمَ وَصَايَا الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ: الْوَصِيَّةُ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ؛ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ أَبٍ أَنْ يَقُولَ لِأَبْنَائِهِ: أَوَّلُ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ: مَا أَوْصَى بِهِ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: ١٣٢].

وَأَنْهَاكُمْ عَمَّا نَهَى عَنْهُ لُقْمَانُ ابْنَهُ وَهُوَ يَعِظُهُ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لُقْمَان: ١٣].

وَأُؤَكِّدُ عَلَيْكُمْ فِي ذَلِكَ وَصِيَّتِي وَأُكَرِّرُهَا؛ حِرْصًا عَلَى تَعَلُّقِكُمْ وَتَمَسُّكِكُمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي تَفَضَّلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْنَا بِهِ؛ فَلَا يَسْتَزِلَّكُمْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَابْذُلُوا دُونَهُ أَرْوَاحَكُمْ؛ فَكَيْفَ بِدُنْيَاكُمْ!! فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ خَيْرٌ بَعْدَهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَلَا يَضُرُّ ضَيْرٌ بَعْدَهُ الْخُلُودُ فِي الْجنَّةِ، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمرَان: ٨٥].

فَإِنْ مُتُّمْ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي اصْطَفَاهُ اللهُ وَاخْتَارَهُ، وَحَرَّمَ مَا سِوَاهُ؛ فَأَرْجُو أَنْ نَلْتَقِيَ حَيْثُ لَا نَخَافُ فُرْقَةً، وَلَا نَتَوَقَّعُ إِزَالَةً، وَيَعْلَمُ اللهُ -تَعَالَى- شَوْقِي إِلَى ذَلِكَ وَحِرْصِي عَلَيْهِ، كَمَا يَعْلَمُ إِشْفَاقِي مِنْ أَنْ تَزِلَّ بِأَحَدِكُمْ قَدَمٌ، أَوْ تَعْدِلَ بِهِ فِتْنَةٌ؛ فَيَحِلَّ عَلَيْهِ مِنْ سَخَطِ اللهِ -تَعَالَى- مَا يُحِلُّهُ دَارَ الْبَوَارِ، وَيُوجِبُ لَهُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَلَا يَلْتَقِي مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ سَلَفِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ الصَّالِحُونَ مِنْ آبَائِهِ يَوْمَ لَا يُغْنِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ.

((أَقْسَامُ وَصِيَّةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ))

يَنْبَغِي أَنْ تَنْقَسِمَ وَصِيَّةُ الْآبَاءِ لِأَبْنَائِهِمْ قِسْمَيْنِ:

-فَقِسْمٌ فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِ الشَّرِيعَةِ؛ يُبَيِّنُ الْآبَاءُ لِأَبْنَائِهِمْ مِنْهُ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ، وَيَكُونُ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ.

-وَقِسْمٌ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَبْنَاءُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ.

((وَصَايَا الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ فِي أَمْرِ الشَّرِيعَةِ))

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

*فَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِشَرَائِعِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ مَعَ الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَمَلٌ.

*وَالتَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللهِ -تَعَالَى جَدُّهُ-، وَالْمُثَابَرَةُ عَلَى تَحَفُّظِهِ وَتِلَاوَتِهِ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ وَآيَاتِهِ، وَالِامْتِثَالُ لِأَوَامِرِهِ، وَالِانْتِهَاءُ عَنْ نَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرِهِ.

رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي؛ كِتَابَ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّتِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)). رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يَقُولُوا لِأَبْنَائِهِمْ:

*لَقَدْ نَصَحَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ -وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا، وَعَلَيْهِمْ مُشْفِقًا، وَلَهُمْ نَاصِحًا-؛ فَاعْمَلُوا بِوَصِيَّتِهِ، وَاقْبَلوا مِنْ نُصْحِهِ، وَأَثْبِتُوا فِي أَنْفُسِكُمُ الْمَحَبَّةَ لَهُ، وَالرِّضَا بِمَا جَاءَ بِهِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِسُنَّتِهِ، وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَالطَّاعَةَ لِحُكْمِهِ، وَالْحِرْصَ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَّتِهِ، وَسُلُوكِ سَبِيلِهِ؛ فَإِنَّ مَحَبَّتَهُ تَقُودُ إِلَى الْخَيْرِ، وَتُنْجِي مِنَ الْهَلَكَةِ وَالشَّرِّ.

*وَأَشْرِبُوا قُلُوبَكُمْ مَحَبَّةَ أَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَتَفْضِيلَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمُ الطَّاهِرِينَ: أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَنَفَعَنَا بِمَحَبَّتِهِمْ-.

وَأَلْزِمُوا أَنْفُسَكُمْ حُسْنَ التَّأْوِيلِ لِمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَاعْتِقَادَ الْجَمِيلِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُمْ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ فَمَنْ لَا يَبْلُغُ نَصِيفَ مُدِّهِ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا؛ فَكَيْفَ يُوَازَنُ فَضْلُهُ، أَوْ يُدْرَكُ شَأْوُهُ وَلَيْسَ مِنْهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِلَّا مَنْ أَنْفَقَ الْكَثِيرَ.

*ثُمَّ تَفْضِيلُ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ -رَحِمَهُمُ اللهُ-، وَالتَّعْظِيمُ لِحَقِّهِمْ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَالْأَخْذُ بِهَدْيِهِمْ، وَالِاقْتِفَاءُ لِآثَارِهِمْ، وَالتَّحَفُّظُ لِأَقْوَالِهِمْ، وَاعْتِقَادُ إِصَابَتِهِمْ.

*وَإِقَامُ الصَّلَاةِ؛ فَإِنَّهَا عَمُودُ الدِّينِ، وَعِمَادُ الشَّرِيعَةِ، وَآكَدُ فَرَائِضِ الْمِلَّةِ؛ فِي مُرَاعَاةِ طَهَارَتِهَا، وَمُرَاقَبَةِ أَوْقَاتِهَا، وَإِتْمَامِ قِرَاءَتِهَا، وَإِكْمَالِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَاسْتِدَامَةِ الْخُشُوعِ فِيهَا، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا وَآدَابِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِعَارُ الْمُؤْمنِينَ، وَسَنَنُ الصَّالِحينَ، وَسَبِيلُ الْمُتَّقِينَ.

*ثُمَّ أَدَاءُ زَكَاةِ الْمَالِ، لَا تُؤَخَّرُ عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا يُبْخَلُ بِكَثِيرِهَا، وَلَا يُغْفَلُ عَنْ يَسِيرِهَا، وَلْتُخْرَجْ مِنْ أَطْيَبِ جِنْسٍ، وَبِأَوْفَى وَزْنٍ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ، وَأَحَقُّ مَنِ اخْتِيرَ لَهُ، وَلْتُعْطَ بِطِيبِ نَفْسٍ، وَتَيَقُّنِ أَنَّهَا بَرَكَةٌ فِي الْمَالِ، وَتَطْهِيرٌ لَهُ، وَتُدْفَعُ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا دُونَ مُحَابَاةٍ، وَلَا مُتَابَعَةِ هَوًى، وَلَا هَوَادَةٍ.

*ثُمَّ صِيَامُ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ عِبَادَةُ السِّرِّ، وَطَاعَةُ الرَّبِّ، وَيَجِبُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنْ حِفْظِ اللِّسَانِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي صَالِحِ الْعَمَلِ، وَالتَّحَفُّظِ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ، وَيُرَاعَى فِي ذَلِكَ لَيَالِيهِ وَأَيَّامُهُ، وَيَتْبَعُ صِيَامَهُ قِيَامُهُ، وَقَدْ سُنَّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ.

*ثُمَّ الْحَجُّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؛ فَهُوَ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ عِنْدَ اللهِ إِلَّا الْجنَّةُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

*ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِنْ كَانَتْ بِكُمْ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ عَوْنُ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِنْ ضَعُفْتُمْ عَنْهُ.

فَهَذِهِ عُمدُ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِ الْإِيمَانِ؛ حَافِظُوا عَلَيْهَا وَسَابِقُوا إِلَيْهَا تَحُوزُوا الْخَيْرَ الْعَظِيمَ، وَتَفُوزُا بِالْأَجْرِ الْجَسِيمِ، وَلَا تُضَيِّعُوا حُقُوقَ اللهِ فِيهَا وَأَوَامِرَهُ بِهَا فَتَهْلِكُوا مَعَ الْخَاسِرِينَ، وَتَنْدَمُوا مَعَ الْمُفَرِّطِينَ.

*الْوَصِيَّةُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ:

عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يَقُولُوا لِلْأَبْنَاءِ:

اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَصِلُونَ إِلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ، وَالْإِتْيَانِ بِمَا يَلْزَمُكُمْ مِنْهَا مَعَ تَوْفِيقِ اللهِ لَكُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْخَيْرِ، وَبِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى الْبِرِّ؛ فَعَلَيْكُمْ بِطَلَبِهِ؛ فَإِنَّهُ غِنًى لِطَالِبِهِ، وَعِزٌّ لِحَامِلِهِ، وَهُوَ مَعَ هَذَا السَّبَبِ الْأَعْظَمِ إِلَى الْآخِرَةِ، بِهِ تُجْتَنَبُ الشُّبُهَاتُ، وَتَصِحُّ الْقُرُبَاتُ؛ فَكَمْ مِنْ عَامِلٍ يُبْعِدُهُ عَمَلُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَيُكْتَبُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ ذَنْبِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الْكَهْف: ١٠٣-١٠٤].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨].

وَقَالَ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١].

وَالْعِلْمُ سَبِيلٌ لَا يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَّا إِلَى السَّعَادَةِ، وَلَا يُقْصُرُ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الرِّفْعَةِ وَالْكَرَامَةِ، قَلِيلُهُ يَنْفَعُ، وَكَثِيرُهُ يُعْلِي وَيَرْفَعُ، كَنْزٌ يَزْكُو عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَيَكْثُرُ مَعَ الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَغْصِبُهُ غَاصِبٌ، وَلَا يُخَافُ عَلَيْهِ سَارِقٌ وَلَا مُحَارِبٌ.

فَاجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهِ، وَاسْتَعْذِبُوا التَّعَبَ فِي حِفْظِهِ، وَالسَّهَرَ فِي دَرْسِهِ، وَالنَّصَبَ الطَّوِيلَ فِي جَمْعِهِ، وَوَاظِبُوا عَلَى تَقْيِيدِهِ وَرِوَايَتِهِ، ثُمَّ انْتَقِلُوا إِلَى فَهْمِهِ وَدِرَايَتِهِ.

وَانْظُرُوا أَيَّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ طَبَقَاتِ النَّاسِ تَخْتَارُونَ، وَمَنْزِلَةَ أَيِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ تُؤْثِرُونَ؛ هَلْ تَرَوْنَ أَحَدًا أَرْفَعَ حَالًا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَفْضَلَ مَنْزِلَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ؟!

يَحْتَاجُ إِلَيْهِمُ الرَّئِيسُ وَالْمَرْؤُوسُ، وَيَقْتَدِي بِهِمُ الْوَضِيعُ وَالنَّفِيسُ، يُرْجَعُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَحْكَامِهَا، وَصِحَّةِ عُقُودِهَا وَبِيَاعَاتِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهَا، وَإِلَيْهِمْ يُلْجَأُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَلَالٍ وَحرَامٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ السَّلَامَةُ مِنَ التَّبِعَاتِ، وَالْحُظْوَةُ عِنْدَ جَمِيعِ الطَّبَقَاتِ.

وَالْعِلْمُ وِلَايَةٌ لَا يُعْزَلُ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَلَا يُعْرَى مِنْ جَمَالِهَا لَابِسُهَا، وَكُلُّ ذِي وِلَايَةٍ -وَإِنْ جَلَّتْ- وَحُرْمَةٍ -وَإِنْ عَظُمَتْ- إِذَا خَرَجَ عَنْ وِلَايَتِهِ، أَوْ زَالَ عَنْ بَلْدَتِهِ أَصْبَحَ مِنْ جَاهِهِ عَارِيًا، وَمِنْ حَالِهِ عَاطِلًا؛ غَيْرَ صَاحِبِ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ جَاهَهُ يَصْحَبُهُ حَيْثُ سَارَ، وَيَتَقَدَّمُهُ إِلَى جَمِيعِ الْآفَاقِ وَالْأَقْطَارِ، وَيَبْقَى بَعْدَهُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ.

وَأَفْضَلُ الْعُلُومِ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ لِمَنْ وُفِّقَ أَنْ يُجَوِّدَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَيَحْفَظَ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ، وَيَعْرِفَ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ، ثُمَّ يَقْرَأُ أُصُولَ الْفِقْهِ، فَيَتَفَقَّهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ يَقْرَأُ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ، وَمَا نُقِلَ مِنَ الْمَسَائِلِ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَيَدْرَبُ -يَعْتَادُهُ وَيَدْرِي بِهِ- فِي طُرُقِ النَّظَرِ وَتَصْحِيحِ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ؛ فَهَذِهِ الْغَايَةُ الْقُصْوَى وَالدَّرَجَةُ الْعُلْيَا.

وَإِيَّاكُمْ وَقِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْطِقِ وَكَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَالْإِبْعَادِ.

وَأُحَذِّرُكُمْ مِنْ قِرَاءَتِهَا مَا لَمْ تَقْرؤُوا مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مَا تَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى فَهْمِ فَسَادِهِ، وَضَعْفِ شُبَهِهِ، وَقِلَّةِ تَحْقِيقِهِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَسْبِقَ إِلَى قَلْبِ أَحَدِكُمْ مَا لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى رَدِّهِ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ قِرَاءَةَ كَلَامِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِمَّا خَوَّفْتُكُمْ مِنْهُ.

وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَبْلُغُونَ مَنْزِلَةَ الْمَيْزِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى النَّظَرِ، وَالْمَقْدِرَةِ؛ لَحَضَضْتُكُمْ عَلَى قِرَاءَتِهِ، وَأَمَرْتُكُمْ بِمُطَالَعَتِهِ؛ لِتُحَقِّقُوا ضَعْفَهُ، وَضَعْفَ الْمُعْتَقِدِ لَهُ، وَرَكَاكَةَ الْمُغْتَرِّ بِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ الْمَخَارِيقِ وَالتَّمْوِيهَاتِ، وَوُجُوهِ الْحِيَلِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ الَّتِي يَغْتَرُّ بِهَا مَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَيَسْتَعْظِمُهَا مَنْ لَا يُمَيِّزُهَا؛ وَلِذَلِكَ إِذَا حَقَّقَ مَنْ يَعْلَمُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَجَدَهُ عَارِيًا مِنَ الْعِلْمِ بَعِيدًا عَنْهُ، يَدَّعِي أَنَّهُ يَكْتُمُ عِلْمَهُ، وَإِنَّمَا يَكْتُمُ جَهْلَهُ وَهُوَ يَنِمُّ عَلَيْهِ، وَيَرُومُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَهُوَ يُعِينُ عَلَيْهِ.

عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يُوصُوا أَبْنَاءَهُمْ قَائِلِينَ لَهُمْ:

*عَلَيْكُمْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتَنِبُوا فِعْلَهُ.

*وَأَطِيعُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ مَا لَمْ تُدْعَوْا إِلَى مَعْصِيَةٍ؛ فَيَجِبُ أَنْ تَمْتَنِعُوا مِنْهَا، وَتَبْذُلُوا الطَّاعَةَ فِيمَا سِوَاهَا.

*وَعَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ زَيْنٌ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ شَيْنٌ، وَمَنْ شُهِرَ بِالصِّدْقِ فَهُوَ نَاطِقٌ مَحْمُودٌ، وَمَنْ عُرِفَ بِالْكَذِبِ فَهُوَ سَاكِتٌ مَهْجُورٌ مَذْمُومٌ، وَأَقَلُّ عُقُوبَاتِ الْكَذَّابِ أَلَّا يُقْبَلَ صِدْقُهُ، وَلَا يُتَحَقَّقَ حَقُّهُ، وَمَا وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- أَحَدًا بِالْكَذِبِ إِلَّا ذَامًّا لَهُ، وَلَا وَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- أَحَدًا بِالصِّدْقِ إِلَّا مَادِحًا لَهُ وَمُرَفِّعًا بِهِ.

*وَعَلَيْكُمْ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْإِلْمَامَ بِالْخِيَانَةِ، أَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ، وَلَا تَخُونُوا مَنْ خَانَكُمْ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ؛ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا.

*أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ فِيهِ مَقْتٌ لَا يُنْقِصُ الْمَالَ، بَلْ يُنْقِصُ الدِّينَ وَالْحَالَ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْعَوْنَ عَلَى سَفْكِ دَمٍ بِكَلِمَةٍ، أَوِ الْمُشَارَكَةَ فِيهِ بِلَفْظَةٍ؛ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يَغْمِسْ يَدَهُ أَوْ لِسَانَهُ فِي دَمِ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [الْبَقَرَة: ٩٣].

*وَاجْتِنَابُ الزِّنَا مِنْ أَخْلَاقِ الْفُضَلَاءِ، وَمُوَاقَعَتُهُ عَارٌ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٌ فِي الْأُخْرَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الْإِسْرَاء: ٣٢].

*وَإِيَّاكُمْ وَشُرْبَ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّهَا أُمُّ الْكَبَائِرِ، وَالْمُجَرِّئَةُ عَلَى الْمَآثِمِ، وَقَدْ حَرَّمَهَا اللهُ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [الْمَائِدَة: ٩١].

وَحَسْبُكُمْ بِشَيْءٍ يُذْهِبُ الْعَقْلَ وَيُفْسِدُ اللُّبَّ، وَقَدْ تَرَكَهَا قَوْمٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَكَرُّمًا؛ فَإِيَّاكُمْ وَمُقَارَبَتَهَا وَالتَّدَنُّسَ بِرِجْسِهَا، وَقَدْ وَصَفَهَا اللهُ -تَعَالَى- بِذَلِكَ، وَقَرَنَهَا بِالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الْمَائِدَة: ٩٠].

فَبَيَّنَ -تَعَالَى- أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَوَصَفَهَا بِالرِّجْسِ، وَقَرَنَ الْفَلَاحَ بِاجْتِنَابِهَا؛ فَهَلْ يَسْتَجِيزُ عَاقِلٌ يُصَدِّقُ الْبَارِئَ فِي خَبَرِهِ -تَبَارَكَ اسْمُهُ-، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ الْخَيْرَ لَنَا مِمَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا أَوْ يَتَدَنَّسَ بِهَا؟!!

*وَإِيَّاكُمْ وَالرِّبَا؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ نَهَى عَنْهُ، وَتَوَعَّدَ بِمُحَارَبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الْبَقَرَة ٢٧٨-٢٧٩]، وَقَالَ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [الْبَقَرَة: ٢٧٦].

*وَلَا تَأْكُلُوا مَالَ أَحَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِيَّاكُمْ وَمَالَ الْيَتِيمِ؛ فَقَدْ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: ١٠].

وَعَلَيْكُمْ بِطَلَبِ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالظَّالِمُ مَذْمُومُ الْخَلَائِقِ -أَيْ: مَذْمُومُ الْأَخْلَاقِ-، مُبَغَّضٌ إِلَى الْخَلَائِقِ -أَيْ: إِلَى الْمَخْلُوقِينَ-.

*وَإِيَّاكُمْ وَالنَّمِيمَةَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَمْقُتُ عَلَيْهَا مَنْ تُنْقَلُ إِلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)).

*وَإِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّهُ دَاءٌ يُهْلِكُ صَاحِبَهُ، وَيُعْطِبُ تَابِعَهُ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْفَوَاحِشَ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَعَالَى- حَرَّمَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالْإِثْمَ، وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْغِيبَةَ؛ فَإِنَّهَا تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَتُكَثِّرُ السَّيِّئَاتِ، وَتُبْعِدُ مِنَ الْخَالِقِ، وَتُبَغِّضُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ فِي مَقْتِ اللهِ مُتَقَلِّبٌ، وَإِلَى سَخَطِهِ مُنْقَلِبٌ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْبُخْلَ؛ فَإِنَّهُ لَا دَاءَ أَدْوَأُ مِنْهُ، لَا تَسْلَمُ عَلَيْهِ دِيَانَةٌ، وَلَا تَتِمُّ مَعَهُ سِيَادَةٌ.

*وَإِيَّاكُمْ وَمَوَاقِفَ الْخِزْيِ، وَكُلُّ مَا كَرِهْتُمْ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ النَّاسَ يَعِيبُونَهُ فِي الْمَلَأِ فَلَا تَأْتُوهُ فِي الْخَلَاءِ.

*فَإِنْ بَلَغَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْتَرْعِيَهُ اللهُ أُمَّةً بِحُكْمٍ أَوْ فَتْوَى فَلْيَمْتَثِلِ الْعَدْلَ جَهْدَهُ، وَلْيَجْتَنِبِ الْجَوْرَ وَغَدْرَهُ؛ فَإِنَّ الْجَائِرَ مُضَادٌّ للهِ فِي حُكْمِهِ، كَاذِبٌ عَلَيْهِ فِي خَبَرِهِ، مُغَيِّرٌ بِشَرِيعَتِهِ، مُخَالِفٌ لَهُ فِي خَلِيقَتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الْمَائِدَة: ٤٧].

وَقَدْ رُوِيَ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)). وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) بِاخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ.

*وَإِيَّاكُمْ وَشَهَادَةَ الزُّورِ؛ فَإِنَّهَا تَقْطَعُ ظَهْرَ صَاحِبِهَا، وَتُفْسِدُ دِينَ مُتَقَلِّدِهَا، وَتُخَلِّدُ قُبْحَ ذِكْرِهِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَمْقُتُهُ وَيَنِمُّ عَلَيْهِ الْمَشْهُودُ لَهُ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالرِّشْوَةَ؛ فَإِنَّهَا تُعْمِي عَيْنَ الْبَصِيرِ، وَتَحُطُّ قَدْرَ الرَّفِيعِ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْأَغَانِيَّ؛ فَإِنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ الْفِتْنَةَ فِي الْقَلْبِ، وَيُوَلِّدُ خَوَاطِرَ السُّوءِ فِي النَّفْسِ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالشِّطْرَنْجَ وَالنَّرْدَ؛ فَإِنَّهُ شُغُلُ الْبَطَّالِينَ، وَمُحَاوَلَةُ الْمُتْرَفِينَ، يُفْسِدُ الْعُمُرَ، وَيُشْغِلُ عَنِ الْفَرْضِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عُمُرُكُمْ أَعَزَّ عَلَيْكُمْ وَأَفْضَلَ عِنْدَكُمْ مِنْ أَنْ تَقْطَعُوهُ بِمِثْلِ هَذِهِ السَّخَافَاتِ الَّتِي لَا تُجْدِي، وَتُفْسِدُوهُ بِهَذِهِ الْحَمَاقَاتِ الَّتِي تَضُرُّ وَتُرْدِي.

*وَإِيَّاكُمْ وَالْقَضَاءَ بِالنُّجُومِ وَالتَّكَهُّنِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لِمَنْ صَدَّقَهُ مُخْرِجٌ عَنِ الدِّينِ، وَمُدْخِلٌ لَهُ فِي جُمْلَةِ الْمَارِقِينَ.

وَأَمَّا تَعْدِيلُ الْكَوَاكِبِ، وَتَبْيِينُ أَشْخَاصِهَا، وَمَعْرِفَةُ أَوْقَاتِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، وَتَعْيِينُ مَنَازِلِهَا وَبُرُوجِهَا، وَأَوْقَاتِ نُزُولِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِهَا، وَتَرْتِيبُ دَرَجَاتِهَا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ، وَتَعَرُّفُ السَّاعَاتِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ بِالظِّلَالِ وَبِهَا؛ فَإِنَّهُ حَسَنٌ مُدْرَكٌ ذَلِكَ كُلُّهُ، بِطَرِيقِ الْحِسَابِ مَفْهُومٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الْأَنْعَام: ٩٧]، وَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يُونُس: ٥].

 ((الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْوَصَايَا:

وَصَايَا الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ))

يَقُولُ الْآبَاءُ لِلْأَبْنَاءِ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِمَّا يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهِ، وَتَتَمَسَّكُوا بِهِ:

*فَأَنْ يَلْتَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لِأَخِيهِ الْإِخْلَاصَ، وَالْإِكْرَامَ، وَالْمُرَاعَاةَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْمُرَاقَبَةَ فِي الْمَغِيبِ وَالْمُشَاهَدَةِ.

*وَلْيَلْزَمْ أَكْبَرُكُمْ لِإِخْوَتِهِ الْإِشْفَاقَ عَلَيْهِمْ، وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى كُلِّ مَا يُحِبُّونَهُ، وَالْمُعَاضَدَةَ فِيمَا يُؤْثِرُونَهُ، وَالْمُسَامَحَةَ لِكُلِّ مَا يَرْغَبُونَهُ.

*وَيَلْتَزِمْ أَصْغَرُكُمْ لِإِخْوَتِهِ تَقْدِيمَهُمْ عَلَيْهِ، وَتَعْظِيمَهُمْ فِي كُلِّ أَمْرٍ؛ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، وَتَصْوِيبِ قَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ.

وَإِنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ فِي الْمَلَأِ أَمْرًا يُرِيدُهُ، أَوْ ظَهَرَ إِلَيْهِ خَطَأٌ فِيمَا يَقْصِدُهُ؛ فَلَا يُظْهِرْ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَجْهَرْ فِي الْمَلَأِ بِتَخْطِئَتِهِمْ، وَلْيُبَيِّنْ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادٍ مِنْهُمْ، وَرِفْقٍ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الْحَقِّ وَإِلَّا فَلْيَتْبَعْهُمْ عَلَى رَأْيِهِمْ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْفَسَادِ بِاخْتِلَافِكُمْ أَعْظَمُ مِمَّا يُحْذَرُ مِنَ الْخَطَأِ مَعَ اتِّفَاقِكُمْ مَا لَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ فِي أَمْرِ الدِّينِ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَلْيَتَّبِعِ الْحَقَّ حَيْثُ كَانَ، وَلْيُثَابِرْ عَلَى نُصْحِ إِخْوَتِهِ وَتَسْدِيدِهِمْ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يَحُلُّ يَدَهُ عَنْ تَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ.

*وَلَا يُؤْثِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا؛ فَيَبْخَلَ بِأَخِيهِ مِنْ أَجْلِهِ، وَيُعْرِضَ عَنْهُ بِسَبَبِهِ، أَوْ يُنَافِسَهُ فِيهِ، وَمَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ فِي دُنْيَاهُ فَلْيُشَارِكْ بِهَا إِخْوَتَهُ، وَلَا يَنْفَرِدْ بِهَا دُونَهُمْ، وَلْيَحْرِصْ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِ أَخِيهِ كَمَا يَحْرِصُ عَلَى تَثْمِيرِ مَالِهِ.

*وَأَظْهِرُوا التَّعَاضُدَ وَالتَّوَاصُلَ وَالتَّعَاطُفَ وَالتَّنَاصُرَ حَتَّى تُعْرَفُوا بِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تُرْضُونَ بِهِ رَبَّكُمْ، وَتَغِيظُونَ بِهِ عَدُوَّكُمْ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَافُسَ، وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ، وَالتَّحَاسُدَ، وَطَاعَةَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا يُفْسِدُ دِينَكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، وَيَضَعُ مِنْ قَدْرِكُمْ، وَيَحُطُّ مِنْ مَكَانِكُمْ، وَيُحَقِّرُ أَمْرَكُمْ عِنْدَ عَدُوِّكُمْ، وَيُصَغِّرُ شَأْنَكُمْ عِنْدَ صَدِيقِكُمْ.

*وَمَنْ أَسْدَى مِنْكُمْ إِلَى أَخِيهِ مَعْرُوفًا أَوْ مَكْرُمَةً أَوْ مُوَاصَلَةً فَلَا يَنْتَظِرْ مُقَارَضَةً عَلَيْهَا، وَلَا يَذْكُرْ مَا أَتَى مِنْهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الضَّغَائِنَ، وَيُسَبِّبُ التَّبَاغُضَ، وَيُقَبِّحُ الْمَعْرُوفَ، وَيُحَقِّرُ الْكَبِيرَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْمَقْتِ وَالضَّعَةِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ.

*وَإِنْ أَحَدُكُمْ زَلَّ، وَتَرَكَ الْأَخْذَ بِوَصِيَّتِي فِي بِرِّ إِخْوَتِهِ وَمُرَاعَاتِهِمْ؛ فَلْيَتَلَافَ الْآخَرُ ذَلِكَ بِتَمَسُّكِهِ بِوَصِيَّتِي، وَالصَّبْرِ لِأَخِيهِ، وَالرِّفْقِ بِهِ، وَتَرْكِ الْمُقَارَضَةِ لَهُ عَلَى جَفْوَتِهِ، وَالْمُتَابَعَةِ لَهُ عَلَى سُوءِ مُعَامَلَتِهِ؛ فَإِنَّهُ يَحْمَدُ عَاقِبَةَ صَبْرِهِ، وَيَفُوزُ بِالْفَضْلِ فِي أَمْرِهِ، وَلَا يَكُونُ مَا يَأْتِيهِ أَخُوهُ كَبِيرُ تَأْثِيرٍ فِي حَالِهِ.

أَيُّهَا الْآبَاءُ! أَوْصُوا أَبْنَاءَكُمْ قَائِلِينَ لَهُمْ:

وَاعْلَمُوا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ جَمَاعَةً لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَحْوَالٌ وَلَا أَقْدَارٌ، أَقَامَ أَحْوَالَهُمْ وَرَفَعَ أَقْدَارَهُمُ اتِّفَاقُهُمْ وَتَعَاضُدُهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ جَمَاعَةً كَانَتْ أَقْدَارُهُمْ سَامِيَةً وَأَحْوَالُهُمْ نَامِيَةً، مَحَقَ أَحْوَالَهُمْ وَوَضَعَ أَقْدَارَهُمُ اخْتِلَافُهُمْ؛ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِنْهُمْ.

*ثُمَّ عَلَيْكُمْ بِمُوَاصَلَةِ بَنِي أَعْمَامِكُمْ وَأَهْلِ بَيْتِكُمْ، وَالْإِكْرَامِ لَهُمْ، وَالْمُوَاصَلَةِ لِكَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ، وَالْمُشَارَكَةِ لَهُمْ بِالْمَالِ وَالْحَالِ، وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى مُهَادَاتِهِمْ، وَالْمُتَابَعَةِ لِزِيَارَتِهِمْ، وَالتَّعَاهُدِ لِأُمُورِهِمْ، وَالْبِرِّ لِكَبِيرِهِمْ، وَالْإِشْفَاقِ عَلَى صَغِيرِهِمْ، وَالْحِرْصِ عَلَى نَمَاءِ مَالِ غَنِيِّهِمْ، وَالْحِفْظِ لِعَيْبِهِمْ، وَالْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِمْ دُونَ اقْتِضَاءٍ لِمُجَازَاةٍ، وَلَا انْتِظَارِ مُقَارَضَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَسُودُونَ بِهِ فِي عَشِيرَتِكُمْ، وَتَعْظُمُونَ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِكُمْ.

وَصِلُوا رَحِمَكُمْ وَإِنْ ضَعُفَ سَبَبُهَا، وَقَرِّبُوا مَا بَعُدَ مِنْهَا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْقِيَامِ بِحَقِّهَا، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّضْيِيعَ لَهَا؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا مِمَّا يَشْرُفُ بِهِ مُلْتَزِمُهُ، وَيَعْظُمُ عِنْدَ النَّاسِ مُعَظِّمُهُ، وَمَا عَلِمْتُ أَهْلَ بَيْتٍ تَقَاطَعُوا وَتَدَابَرُوا إِلَّا هَلَكُوا وَانْقَرَضُوا، وَلَا عَلِمْتُ أَهْلَ بَيْتٍ تَوَاصَلُوا وَتَعَاطَفُوا إِلَّا نَمَوْا وَكَثُرُوا، وَبُورِكَ لَهُمْ فِيمَا حَاوَلُوا.

*ثُمَّ الْجَارُ عَلَيْكُمْ بِحِفْظِهِ، وَالْكَفِّ عَنْ أَذَاهُ، وَالسَّتْرِ لِعَوْرَتِهِ، وَالْإِهْدَاءِ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجِوَارَ قَرَابَةٌ وَنَسَبٌ؛ فَتَحَبَّبُوا إِلَى جِيرَانِكُمْ كَمَا تَتَحَبَّبُونَ إِلَى أَقَارِبِكُمْ، ارْعُوا حُقُوقَهُمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى فَقِيرِهِمْ، وَبَالِغُوا فِي حِفْظِ غَيْبِهِمْ، وَعَلِّمُوا جَاهِلَهُمْ.

*ثُمَّ مَنْ عَلِمْتُمْ مِنْ إِخْوَانِي وَأَهْلِ مَوَدَّتِي فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْكُمْ مُرَاعَاتُهُمْ، وَتَعْظِيمُهُمْ، وَبِرُّهُمْ، وَإِكْرَامُهُمْ، وَمُوَاصَلَتُهُمْ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

*ثُمَّ إِخْوَانُكُمْ عَامِلُوهُمْ بِالْإِخْلَاصِ، وَالْإِكْرَامِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ، وَالتَّجَافِي عَنِ الذُّنُوبِ، وَالْكِتْمَانِ لِلْأَسْرَارِ.

*وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ أَنْ تَنْتَظِرُوا مُقَارَضَةً مِمَّنْ أَحْسَنْتُمْ إِلَيْهِ وَأَنْعَمْتُمْ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ انْتِظَارَ الْمُقَارَضَةِ تَمْسَحُ الصَّنِيعَةَ، وَتُعِيدُ الْأَفْعَالَ الرَّفِيعَةَ وَضِيعَةً، وَتَقْلِبُ الشُّكْرَ ذَمًّا، وَالْحَمْدَ مَقْتًا.

*وَلَا يَجِبُ أَنْ تَعْتَقِدُوا مُعَادَاةَ أَحَدٍ، وَاعْتَمِدُوا التَّحَرُّزَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَمَنْ قَصَدَكُمْ بِمُطَالَبَةٍ أَوْ تَكَرَّرَ عَلَيْكُمْ بِأَذِيَّةٍ فَلَا تُقَارِضُوهُ جُهْدَكُمْ، وَالْتَزِمُوا الصَّبْرَ لَهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَمَا الْتَزَمَ أَحَدٌ الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ إِلَّا عَزَّ وَنُصِرَ، وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ، وَقَدِ اسْتَعْمَلْتُ هَذَا -بِفَضْلِ اللهِ- مِرَارًا، فَحَمِدْتُ الْعَاقِبَةَ، وَاغْتُبِطْتُ بِالْكَفِّ عَنِ الْمُقَارَضَةِ.

*وَلَا تَسْتَعْظِمُوا مِنْ حَوَادِثِ الْأَيَّامِ شَيْئًا؛ فَكُلُّ أَمْرٍ يَنْقَرِضُ حَقِيرٌ، وَكُلُّ كَبِيرٍ لَا يَدُومُ صَغِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ يَنْقَضِي قَصِيرٌ، وَانْتَظِرُوا الْفَرَجَ؛ فَإِنَّ انْتِظَارَ الْفَرَجِ عِبَادَةٌ، وَعَلِّقُوا رَجَاءَكُمْ بِرَبِّكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ سَعَادَةٌ.

*وَاسْتَعِينُوا بِالدُّعَاءِ، وَالْجَؤُوا إِلَيْهِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ سَفِينَةٌ لَا تَعْطَبُ، وَحِزْبٌ لَا يُغْلَبُ، وَجُنْدٌ لَا يَهْرَبُ.

وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَسْتَحِيلُوا عَنِ هَذَا الْمَذْهَبِ، أَوْ تَعْتَقِدُوا غَيْرَهُ، أَوْ تَتَعَلَّقُوا بِسِوَاهُ فَتَهْلِكُوا وَتَخْسَرُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا، وَرُبَّمَا دَعَوْتُمْ فِي شَيْءٍ فَنَالَكُمْ مَعَ الدُّعَاءِ مَعَرَّةٌ، أَوْ وَصَلَتْ إلَيْكُمْ مَضَرَّةٌ؛ فَازْدَادُوا حِرْصًا عَلَى الدُّعَاءِ، وَرَغْبَةً فِي الْإِخْلَاصِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْبُكَاءِ؛ فَإِنَّ مَا نَالَكُمْ مِنَ الْمَضَرَّةِ بِمَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَاكْتَسَبْتُمُوهُ مِنْ سَيِّءِ أَعْمَالِكُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالَّذِي أَلْهَمَكُمْ إِلَى الدُّعَاءِ وَوَفَّقَكُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ لَكُمْ، وَقَدْ نَجَّاكُمْ بِدُعَائِكُمْ عَنِ الْكَثِيرِ، وَصَرَفَ بِهِ عَنْكُمْ مِنَ الْبلَاءِ الْكَبِير.

*وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ بِنِعْمَةٍ فَتَلَقُّوهَا بِالْإِكْرَامِ لَهَا، وَالشُّكْرِ عَلَيْهَا، وَالْمُسَامَحَةِ فِيهَا، وَاجْعَلُوهَا عَوْنًا عَلَى طَاعَتِهِ، وَسَبَبًا إِلَى عِبَادَتِهِ.

وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ أَنْ تُهِينُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ فَتَتْرُكَكُمْ مَذْمُومِينَ، وَتَزُولَ عَنْكُمْ مَمْقُوتِينَ.

وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُطْغِيَكُمُ النِّعْمَةُ فَتُقْصُرُوا عَنْ شُكْرِهَا، أَوْ تَنْسَوْا حَقَّهَا، أَوْ تَظُنُّوا أَنَّكُمْ نِلْتُمُوهَا بِسَعْيِكُمْ، أَوْ وَصَلْتُمْ إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِكُمْ فَتَعُودَ نِقْمَةً مُؤْذِيَةً وَبَلِيَّةً عَظِيمَةً.

عَلَى الْآبَاءِ أَنْ يُوصُوا الْأَبْنَاءَ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَظِيمَةِ قَائِلِينَ لَهُمْ:

*عَلَيْكُمْ بِطَاعَةِ مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ فِيمَا لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ للهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ طَاعَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ مَا تَتَمَسَّكُونَ بِهِ، وَتَعْتَصِمُونَ بِهِ مِمَّنْ عَادَاكُمْ.

 وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيضَ لِلْخِلَافِ لَهُمْ، وَالْقِيَامَ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ الْعَطَبُ الْعَاجِلُ، وَالْخِزْيُ الْآجِلُ، وَلَوْ ظَفَرْتُمْ فِي خِلَافِكُمْ، وَنَفَذْتُمْ فِيمَا حَاوَلْتُمْ؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِكُمْ؛ لِمَا تَكْسِبُونَهُ مِنَ الْمَآثِمِ، وَتُحْدِثُونَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْعَظَائِمِ.

ثُمَّ مَنْ سَعَيْتُمْ لَهُ وَوَثِقْتُمْ بِهِ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا عَلَى إِهْلَاكِكُمْ وَالرَّاحَةِ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تُحْدِثُوا عَلَيْهِ مَا أَحْدَثْتُمْ لَهُ، وَتَنْهَضُوا بِغَيْرِهِ كَمَا نَهَضْتُمْ بِهِ.

فَالْتَزِمُوا الطَّاعَةَ وَمُلَازَمَةَ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ الْجَائِرَ الظَّالِمَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَانْطِلَاقِ الْأَيْدِي وَالْأَلْسِنَةِ.

فَإِنْ رَابَكُمْ أَمْرٌ مِمَّنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ، أَوْ وَصَلَتْ مِنْهُ أَذِيَّةٌ إلَيْكُمْ فَاصْبِرُوا وَانْقَبِضُوا، وَتَحَيَّلُوا لِصَرْفِ ذَلِكَ عَنْكُمْ بِالِاسْتِنْزَالِ وَالِاحْتِمَالِ وَالْإِجْمَالِ؛ وَإِلَّا فَاخْرُجُوا عَنْ بَلَدِهِ إِلَى أَنْ تَصْلُحَ لَكُمْ جِهَتُهُ، وَتَعُودَ إِلَى الْإِحْسَانِ إلَيْكُمْ نِيَّتُهُ.

وَإِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ التَّظَلُّمِ مِنْهُ، وَالتَّعَرُّضَ لِذِكْرِهِ بِقَبِيحٍ يُؤْثَرُ عَنْهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا حَنَقًا وَبُغْضَةً فِيكُمْ، وَرِضًا بِإِضْرَارِهِ بِكُمْ.

وَابْدَؤُوا بَعْدَ سَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ عَنْكُمْ بِتَرْكِ مُنَافَسَةِ مَنْ نَافَسَكُمْ، وَمُطَالَبَةِ مَنْ طَالَبَكُمْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَبْدَأُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ مِنْهَا إِلَى مَحْظُورٍ، وَلَا يَتَشَبَّثُ مِنْهَا بِمَكْرُوهٍ، ثُمَّ يُفْضِي الْأَمْرُ إِلَى مَا لَا يُرِيدُهُ وَلَا يَعْتَمِدُهُ؛ مِنْ مُخَالَفَةِ الرَّئِيسِ الَّذِي يَقْهَرُ مَنْ نَاوَأَهُ، وَيَغْلِبُ مَنْ غَالَبَهُ وَعَادَاهُ.

وَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا قَدْ خَالَفَ مَنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ، أَوْ قَامَ عَلَى مَنْ أُسْنِدَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ فَلَا تَرْضَوْا فِعْلَهُ، وَانْقَبِضُوا مِنْهُ، وَأَغْلِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْأَبْوَابَ، وَاقْطَعُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ الْأَسْبَابَ حَتَّى تَنْجَلِيَ الْفِتْنَةُ، وَتَنْقَضِيَ الْمِحْنَةُ.

*وَإِيَّاكُمْ وَالِاسْتِكْثَارَ مِنَ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَسُّطِ فِيهَا، وَالْكَفَافِ الصَّالِحِ الْوَافِرِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ لَهَا وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الشُّغُلِ بِهَا وَالشَّغْبِ بِالنَّظَرِ فِيهَا يَصْرِفُ وُجُوهَ الْحَسَدِ إِلَى صَاحِبِهَا، وَالطَّمَعِ إِلَى جَامِعِهَا، وَالْحَنَقِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِهَا.

فَالسُّلْطَانُ يَتَمَنَّى أَنْ يَزِلَّ زَلَّةً يَتَسَبَّبُ بِهَا إِلَى أَخْذِ مَا عَظُمَ فِي نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ، وَالْفَاسِقُ مُرْصِدٌ لِخِيَانَتِهِ وَاغْتِيَالِهِ، وَالصَّالِحُ ذَامٌّ لَهُ عَلَى اسْتِكْثَارِهِ مِنْهُ وَاحْتِفَالِهِ.

يَخَافُ عَلَيْهِ صَدِيقُهُ وَحَمِيمُهُ، وَيُبْغِضُهُ مِنْ أَجْلِهِ أَخُوهُ شَقِيقُهُ، إِنْ مَنَعَهُ لَمْ يُعْدَمْ لَائِمًا، وَإِنْ بَذَلَهُ لَمْ يَجِدْ رَاضِيًا.

*وَمَنْ رُزِقَ مِنْكُمْ مَالًا فَلَا يَجْعَلْ فِي الْأُصُولِ إِلَّا أَقَلَّهُ؛ فَإِنَّ شَغْبَهَا طَوِيلٌ، وَصَاحِبَهَا ذَلِيلٌ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْجِهَةِ عَدُوٌّ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا تَرَكَهَا أَوْ تَرَكَ أَكْثَرَهَا.

 *وَمَنِ احْتَاجَ مِنْكُمْ فَلْيُجْمِلْ فِي الطَّلَبِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُهُ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَلَا يُدْرِكُ مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- مَا وَعَظَ بِهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ ابْنَهُ فِي مِثْلِ هَذَا فَقَالَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: ١٦].

*وَاجْتَنِبُوا صُحْبَةَ السُّلْطَانِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَتَحَرُّوا الْبُعْدَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَكُمْ؛ فَإِنَّ الْبُعْدَ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنَ الْعِزِّ بِالْقُرْبِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ السُّلْطَانِ خَائِفٌ لَا يَأْمَنُ، وَخَائِنٌ لَا يُؤْمَنُ، وَمُسِيءٌ إِنْ أَحْسَنَ يُخَافُ مِنْهُ وَيُخَافُ بِسَبَبِهِ، وَيَتَّهِمُهُ النَّاسُ مِنْ أَجْلِهِ، إِنْ قُرِّبَ فُتِنَ، وَإِنْ أُبْعِدَ أُحْزِنَ، يَحْسُدُكَ الصَّدِيقُ عَلَى رِضَاهُ إِذَا رَضِيَ، وَيَتَبَرَّأُ مِنْكَ وَلَدُكَ وَوَالِدَاكَ إِذَا سَخِطَ، وَيَكْثُرُ لَائِمُوكَ إِذَا مَنَعَ، وَيَقِلُّ شَاكِرُوكَ إِذَا شَبِعَ؛ فَهَذِهِ حَالُ السَّلَامَةِ مَعَهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى السَّلَامَةِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ.

فَإِنِ امْتُحِنَ أَحَدُكُمْ بِصُحْبَتِهِ، أَوْ دَعَتْهُ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ فَلْيَتَقَلَّلْ مِنَ الْمَالِ وَالْحَالِ، وَلَا يَغْتَبْ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يُطَالِبْ عِنْدَهُ بَشَرًا، وَلَا يَعْصِ لَهُ فِي الْمَعْرُوفِ أَمْرًا، وَلَا يَسْتَنْزِلُهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ يَطْلُبُهُ بِمِثْلِهَا، وَيَصِيرُ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنْ حَظِيَ عِنْدَهُ بِمِثْلِهَا فِي الظَّاهِر فَإِنَّ نَفْسَهُ تَمْقُتُهُ فِي الْبَاطِنِ.

*وَلَا يَرْغَبْ أَحَدُكُمْ فِي أَنْ يَكُونَ أَرْفَعَ النَّاسِ دَرَجَةً، وَأَتَمَّهُم جَاهًا، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؛ فَإِنَّ تِلْكَ حَالٌ لَا يَسْلَمُ صَاحِبُهَا، وَدَرَجَةٌ لَا يَثْبُتُ مَنِ احْتَلَّهَا.

*وَأَسْلَمُ الطَّبَقَاتِ الطَّبَقَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، لَا تُهْتَضَمُ مِنْ دَعَةٍ، وَلَا تُرْمَقُ مِنْ رِفْعَةٍ، وَمِنْ عَيْبِ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَرْجُو الْمَزِيدَ؛ وَلَكِنَّهُ يَخَافُ النَّقْصَ، وَالدَّرَجَةُ الْوُسْطَى يَرْجُو الِازْدِيَادَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَخَاوِفِ حِجَابٌ؛ فَاجْعَلُوا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ دَرَجَةً يَشْتَغِلُ بِهَا الْحَسُودُ عَنْكُمْ، وَيَرْجُوهَا الصَّدِيقُ لَكُمْ.

*وَلَا يَطْلُبْ أَحَدُكُمْ وِلَايَةً؛ فَإِنَّ طَلَبَهَا شَيْنٌ، وَتَرْكَهَا لِمَنْ دُعِيَ إِلَيْهَا زَيْنٌ، فَمَنِ امْتُحِنَ بِهَا مِنْكُمْ فَلْتَكُنْ حَالُهُ فِي نَفْسِهِ أَرْفَعَ مِنْ أَنْ تُحْدِثَ فِيهِ بَأْوًا -أَيْ: فَخْرًا-، أَوْ يُبْدِيَ بِهَا زَهْوًا، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَزِيدُهُ رِفْعَةً، وَلَكِنَّهَا فِتْنَةٌ وَمِحْنَةٌ، وَأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْزَلَ فَيَعُودَ إِلَى حَالَتِهِ، أَوْ يُسِيءَ اسْتِدَامَةَ وِلَايَتِهِ فَيَقْبُحَ ذِكْرُهُ، وَيَثْقُلَ وِزْرُهُ، وَإِنِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ وِلَايَتُهُ وَعَزْلُهُ كَانَ جَدِيرًا أَنْ يَسْتَدِيمَ الْعَمَلَ فَيَبْلُغَ الْأَمَلَ، أَوْ يُعْزَلَ لِإِحْسَانِهِ فَلَا يَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ مَكَانِهِ.

*وَأَقِلُّوا مُمَازَحَةَ الْإِخْوَانِ، وَمُلَابَسَتَهُمْ، وَالْمُتَابَعَةَ فِي الِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ؛ فَإِنَّ الْأَعْدَاءَ أَكْثَرُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَقَلَّ مَنْ يُعَادِيكَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُكَ وَلَا تَعْرِفُهُ.

فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَمْتَثِلُوهُ وَتَلْتَزِمُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ لِعَرَضٍ وَلَا لِوَجْهِ طَمَعٍ؛ فَرُبَّمَا عَرَضَ وَجْهُ أَمْرٍ يَرُوقُ فَيَسْتَنْزِلُ عَنِ الْحَقَائِقِ بِغَيْرِ تَحْقِيقٍ، وَآخِرُهُ يُظْهِرُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ مَا يُوجِبُ النَّدَمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ، وَيَتَمَنَّى لَهُ التَّلَافِيَ فَلَا يُمْكِنُ.

((وَصِيَّةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ))

عِبَادَ اللهِ! يَقُولُ الْأَبُ لِأَبْنَائِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا الْعَظِيمَةِ وَالنَّصَائِحِ الْجَلِيلَةِ: فَإِنْ فَقَدْتُمْ وَصِيَّتِي هَذِهِ، وَنَسِيتُمْ مَعْنَاهَا؛ فَعَلَيْكُمْ بِمَا ذَكَرَ اللهُ -تَعَالَى- فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ؛ فَإِنَّ فِيهَا جِمَاعَ الْخَيْرِ؛ َالْوَصَايَا الَّتِي وَصَّى بِهَا لُقْمَانُ لِابْنِهِ تَجْمَعُ أُمَّهَاتِ الْحِكَمِ، وَتَسْتَلْزِمُ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا، وَكُلُّ وَصِيَّةٍ يُقْرَنُ بِهَا مَا يَدْعُو إِلَى فِعْلِهَا إِنْ كَانَتْ أَمْرًا، وَإِلَى تَرْكِهَا إِنْ كَانَتْ نَهْيًا.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَأَنَّهَا الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَحكمِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا، فَأَمَرَهُ بِأَصْلِ الدِّينِ؛ وَهُوَ التَّوْحِيدُ، وَنَهَاهُ عَنِ الشِّرْكِ، وَبَيَّنَ لَهُ الْمُوجِبَ لِتَرْكِهِ.

وَأَمَرَهُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبَيَّنَ لَهُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِبِرِّهِمَا، وَأَمَرَهُ بِشُكْرِهِ وَشُكْرِهِمَا، ثُمَّ احْتَرَزَ بِأَنَّ مَحَلَّ بِرِّهِمَا وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِمَا مَا لَمْ يَأْمُرَا بِمَعْصِيَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَعُقُّهُمَا، بَلْ يُحْسِنُ إِلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ لَا يُطِيعُهُمَا إِذَا جَاهَدَاهُ عَلَى الشِّرْكِ.

وَأَمَرَهُ بِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ، وَخَوْفِهِ الْقُدُومَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَّا أَتَى بِهَا.

وَنَهَاهُ عَنِ التَّكَبُّرِ، وَأَمَرَهُ بِالتَّوَاضُعِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَالْمَرَحِ، وَأَمَرَهُ بِالسُّكُونِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالْأَصْوَاتِ، وَنَهَاهُ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ.

وَأَمَرَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَبِالصَّبْرِ اللَّذَيْنِ يَسْهُلُ بِهِمَا كُلُّ أَمْرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].

فَحَقِيقٌ بِمَنْ أَوْصَى بِهَذِهِ الْوَصَايَا أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْحِكْمَةِ، مَشْهُورًا بِهَا.

وَلِهَذَا مِنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ: أَنْ قَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ حِكْمَتِهِ مَا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].

وَنُقْسِمُ مُؤَكِّدِينَ لَكُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا لُقْمَانَ الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ، وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ.

وَقُلْنَا لَهُ: اشْكُرْ للهِ، وَمَنْ يَشْكُرِ اللهَ بِالْإِيمَانِ، وَالْحَمْدِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ بِمَرَاضِيهِ؛ فَإِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ شُكْرِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللهَ يَجْزِيهِ عَلَى شُكْرِهِ ثَوَابًا عَظِيمًا.

وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ بِالْإِيمَانِ، وَالْحَمْدِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعَمَلِ بِمَرَاضِيهِ؛ يَعُدْ عَلَيْهِ وَبَالُ كُفْرِهِ، وَاللهُ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى شُكْرِ الشَّاكِرِينَ، مَحْمُودٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ.

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي آيَاتِ كِتَابِ اللهِ- نَصِيحَةَ لُقْمَانَ ابْنَهُ وَهُوَ يَنْصَحُهُ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ؛ يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي، الْحَبِيبَ لِي! لَا تَجْعَلْ للهِ فِي اعْتِقَادِكَ أَوْ عَمَلِكَ شَرِيكًا لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ لِكَوْنِهِ، أَوْ فِي إِلَهِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْتَسْوِيَةَ بَيْنَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ؛ بِوَضْعِ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].

وَنَصَحْنَا الْإِنْسَانَ نُصْحًا مُؤَكَّدًا بِعَهْدٍ، نَصَحْنَاهُ هَذَا النُّصْحَ أَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَيُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، وَيُطِيعَ أَمْرَهُمَا فِي الْمَعْرُوفِ، وَيَجْعَلَ أُمَّهُ أَوْفَرَ نَصِيبًا.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ حَمْلَ ضَعْفٍ فِي حَالَتِهَا النَّفْسِيَّةِ عَلَى ضَعْفٍ فِي قُوَاهَا الْجَسَدِيَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ آلَامِ الْوَضْعِ وَمَتَاعِبِ النِّفَاسِ تُعَانِي الْأُمُّ مِنْ مَتَاعِبِ الْإِرْضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ.

وَيَكُونُ فِطَامُهُ عَنِ الرَّضَاعِ فِي مُدَّةِ سَنَتَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ الْفُضْلَى.

وَقُلْنَا لَهُ: اشْكُرْ للهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لَا تُحْصَى؛ بِعِبَادَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَرَاضِيهِ.

وَاشْكُرْ لِوَالِدَيْكَ عَلَى مَا تَحَمَّلَا وَمَا قَدَّمَا فِي تَنْشِئَتِهِمَا وَتَرْبِيَتِهِمَا مِنْ عَطَاءَاتٍ كَثِيرَةٍ.

إِلَيَّ وَحْدِي الْمَرْجِعُ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، فَأُثِيبُ عَلَى الشُّكْرِ، وَأُعَاقِبُ عَلَى الْجُحُودِ وَالْكُفْرِ.

{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].

وَإِنِ اشْتَدَّا عَلَيْكَ بِالطَّلَبِ -أَيُّهَا الِابْنُ الْمُؤْمِنُ- مُكْرِهَيْنِ لَكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ فَلَا تَسْتَجِبْ لَهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

وَوَافِقْهُمَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُصَاحَبَةً حَسَنَةً، وَقَدِّمْ لَهُمَا مَعْرُوفًا؛ كَمَالٍ، وَتَكْرِيمٍ، وَخِدْمَةٍ.

وَاتَّبِعْ فِي مَسِيرَتِكَ فِي حَيَاتِكَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَيَّ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِلَيَّ بَعْدَ رِحْلَةِ الِامْتِحَانِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ.. إِلَيَّ رُجُوعُكُمْ، وَمَكَانُ رُجُوعِكُمْ، وَزَمَانُهُ، فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لِأُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ.

{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان: 16].

يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي، وَالْحَبِيبَ لِي! إِنَّ الْغَائِبَةَ عِنْدَ الْخَلَائِقِ إِنْ كَانَتْ فِي الصِّغَرِ قَدْرَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ هَذِهِ الْغَائِبَةُ الْخَفِيَّةُ مَعَ صِغَرِهَا فِي بَاطِنِ صَخْرَةٍ، أَوْ فِي مَكَانٍ مَا مِنَ السَّمَاوَاتِ، أَوْ فِي مَكَانٍ مَا مِنْ بَاطِنِ الْأَرْضِ؛ يَأْتِ بِهَا اللهُ مِنْ مَكَانِهَا الَّتِي هِيَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِهَا، قَادِرٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِهَا.

إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ يُجْرِي تَدَابِيرَهُ وَأَفْعَالَهُ بِرِفْقٍ تَامٍّ، يَنْفُذُ بِصِفَاتِهِ إِلَى أَعْمَاقِ كُلِّ مَوْجُودٍ خَلْقًا وَإِمْدَادًا، وَعِلْمًا وَتَصارِيفَ، عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا بِكُلِّ ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرٍ.

{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان: 17].

يَا بُنَيَّ الْقَرِيبَ مِنْ قَلْبِي، وَالْحَبِيبَ لِي! إِنِّي أُوصِيكَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا الثَّمَانِيَ بَعْدَ أَنْ أَوْصَيْتُكَ بِعَهْدٍ مُؤَكَّدٍ مُشَدَّدٍ أَلَّا تُشْرِكَ بِاللهِ:

* الْوَصِيَّةُ الْأُولَى: أَدِّ الصَّلَاةَ تَامَّةً بِأَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَوَاجِبَاتِهَا.

الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي يَعْرِفُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.

الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ.

الْوَصِيَّةُ الرَّابِعَةُ: وَسَيُصِيبُكَ أَذًى مِنَ الَّذِينَ تَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ؛ إِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى مَا يُصِيبُ الْقَائِمَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ يَحْتَاجُ إِرَادَةً قَوِيَّةً رَفِيعَةً، هِيَ مِنْ مُسْتَوَى الْعَزْمِ الَّذِي يَدْفَعُ أَصْحَابَهُ إِلَى تَنْفِيذِ مَا يُرِيدُونَ مِمَّا يُرْضِي اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ تَحَمُّلُ أَشَدِّ الصُّعُوبَاتِ، وَتَحَمُّلُ أَعْظَمِ الْآلَامِ.

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

* الْوَصِيَّةُ الْخَامِسَةُ: وَلَا تَتَكَبَّرْ فَتَحْقِرَ النَّاسَ، وَتُعْرِضَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِبْرِ.

* الْوَصِيَّةُ السَّادِسَةُ: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَبَخْتِرًا فِي مِشْيَتِكَ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مَشْيِهِ، مُسْتَكْبِرٍ عَلَى النَّاسِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ، مُبَالِغٍ فِي الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَسَبٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ ذَكَاءٍ، أَوْ جَمَالِ وَجْهٍ وَحُسْنِ طَلْعَةٍ.

وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللهُ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِعِقَابِهِ.

{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].

الْوَصِيَّةُ السَّابِعَةُ: وَلْتَكُنْ فِي مِشْيَتِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّأَنِّي، فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.

الْوَصِيَّةُ الثَّامِنَةُ: وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُسْتَمِعِينَ؛ إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رَفْعِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ؛ فَلَا تَكُنْ يَا بُنَيَّ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ الَّتِي تَنْهِقُ فَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا الْمُنْكَرَةَ؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ وَأَكْثَرَهَا تَنْفِيرًا لِلْأَسْمَاعِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.

يَا بُنَيَّ! إِنَّ السَّيِّئَةَ أَوِ الْحَسَنَةَ مَهْمَا كَانَتْ صَغِيرَةً مِثْلَ وَزْنِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَكَانَتْ فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، أَوْ كَانَتْ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي الْعَبْدَ عَلَيْهَا؛ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.

يَا بُنَيَّ! أَقِمِ الصَّلَاةَ بِأَدَائِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا نَالَكَ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي ذَلِكَ؛ إِنَّ مَا أُمِرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عَزَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ فَلَا خِيرَةَ لَكَ فِيهِ.

وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِنْ نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ.

وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ، مَشْيًا يُظْهِرُ الْوَقَارَ.

وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤْذِي؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ فِي ارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَاتِ: وُجُوبُ تَعَاهُدِ الْأَبْنَاءِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّوْجِيهِ.

وَإِنِّي لَأُوصِيكُمْ وَأَعْلَمُ أَنِّي لَنْ أُغْنِيَ عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)).

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الرد على الملحدين:مقدمة عن الإلحاد والأسباب التي دعت إلى انتشاره في العصر الحديث
  ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ
  فَضَائِلُ عْشَرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَحْكَامُ الْأُضْحِيَّةِ، وَفِقْهُ الْمَقَاصِدِ
  سُنَنُ العِيدِ وَآدَابُهُ
  [ طليعة الرد على الحلبي [ الجزء الأول
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ الْمُجْتَمَعِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَوَاجِبُنَا تِجَاهَ الْأَقْصَى
  حرق البشر بين داعش والمجوس
  الصَّلَابَةُ فِي مُوَاجَهَةِ الْجَوَائِحِ وَالْأَزْمَاتِ
  الْحَقُّ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَتَطْبِيقَاتُهُ فِي حَيَاتِنَا
  التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان