الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَفِينَةُ النَّجَاةِ

الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَفِينَةُ النَّجَاةِ

                   ((مَجْمُوعُ الْخُطَبِ الْمِنْبَرِيَّةِ))

             ((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَفِينَةُ النَّجَاةِ))

الْجُمُعَةُ 8 مِنْ صَفَرٍ 1429هـ / 15-2-2008م

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((عِظَمُ مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ))

فَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجَاوَزَهُ، فَلَمَّا تَجَاوَزَهُ النَّبِيُّ ﷺ بَكَى مُوسَى، فَقِيلَ لَهُ: ((مَا يُبْكِيكَ؟)).

قَالَ: ((أَبْكِي؛ لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي)).

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ: ((لَمْ أظُنَّ أنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أحَدٌ)).

وَقَدْ رَاجَعَ مُوسَى رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَرَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَحْتَمِلُ لَهُ؛ فَإِنَّهُ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ الَّتِي فِيهَا كَلَامُ اللهِ، كَتَبَهُ لَهُ بِيَدِهِ فِيهَا، فَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ وَلِحْيَةِ نَبِيٍّ هُوَ أَخُوهُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ.

وَرَاجَعَ رَبَّهُ فِي أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَرَبُّهُ يَحْتَمِلُ لَهُ هَذَا كُلَّهُ، وَيُحِبُّهُ وَيُقَرِّبُهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَاحْتَمَلَ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا احْتَمَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ هَذَا الَّذِي جَاءَ مِنْهُ كَالْقَطْرَةِ فِي بَحْرِ إِحْسَانِهِ، فَاحْتَمَلَ لَهُ رَبُّهُ ذَلِكَ، وَأَحَبَّهُ وَقَرَّبَهُ.

وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ يُونُسَ لَمَّا ذَهَبَ مُغَاضِبًا رَبَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَأَخَذَهُ رَبُّهُ، وَحَبَسَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي مَقَامَاتِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ مَا قَامَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَلَمْ يَحْتَمِلْ لَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا احْتَمَلَ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَهَذَا وَهَذَا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُكْرَمِينَ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ))

الْقِيَامُ فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَقَامُ الْحَقُّ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هِيَ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، أَمَرَ بِهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: {وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 67].

{وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص: 87].

فَأَمَرَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ، كَمَا أَرْسَلَ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ نَبَّأَهُ رَبُّهُ بِآيَاتٍ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ الْعَلَقِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5]؛ فَبِهَا صَارَ نَبِيًّا ﷺ.

وَأَرْسَلَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِآيَاتٍ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7].

وَمُنْذُ أَمَرَهُ اللهُ  -تَعَالَى- بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَبِالْجَهْرِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِذَلِكَ ﷺ، بَاذِلٌ نَفْسَهُ فِي دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى رَبِّهِمْ؛ لِإِخْرَاجِهِمْ -بِفَضْلِ رَبِّهِمْ- مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ}.

فَأَمَرَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِإِنْذَارِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ هُنَالِكَ وَقْتٌ لِلْمَنَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَذْلُ الْجَهْدِ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ الْمَلِيكِ الْعَلَّامِ.

{قُمْ فَأَنذِرْ}: فَأَمَرَهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِينَ، ثُمَّ حَنَا بَعْدُ عَاطِفًا -أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ- عَلَى أَمْرِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِمَا يَلْزَمُ الْآخَرِينَ بِالْإِنْذَارِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ}: أَمَرَهُ بِمَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ ﷺ.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: وَهِيَ مِنْ أَوْجَبِ الْمُوجِبَاتِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}؛ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ فِي نَفْسِكَ هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ صَغِيرٌ فِي نَفْسِهِ، حَقِيرٌ فِي ذَاتِهِ؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَهُ اللهُ بِالرَّحْمَةِ مِنْهُ وَالْفَضْلِ؛ فَلَا تَسْتَعْظِمْ شَيْئًا، وَلَا تَسْتَكْبِرْهُ، وَلْيَكُنْ رَبُّكَ كَمَا هُوَ فِي قَلْبِكَ وَضَمِيرِكَ وَفُؤَادِكَ أَكْبَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: وَهِيَ مِنْ أَوْجَبِ وَأَلْزَمِ مَا يَجِبُ وَيَلْزَمُ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ حَتَّى لَا يَسْتَرْهِبَ شَيْئًا، وَلَا يَسْتَعْظِمَ أَحَدًا، بَلْ يَدْعُو إِلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، لَا أَكْبَرَ مِنْهُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْهُ، فَإِذَا امْتَلَأَتِ النَّفْسُ بِذَلِكَ هَانَ كُلُّ شَيْءٍ، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}.

وَدَعَاهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى مَا يَلْزَمُ الدَّاعِيَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي دَعْوَتِهِ: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا مِنْ أَوْجَبِ مَا يَجِبُ عَلَى الدَّاعِي إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ يُلَابِسُ الْمُلَوَّثِينَ وَالْمُدَنَّسِينَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ كَامِلَةً شَامِلَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ لَابَسَ الْمُدَنَّسِينَ أَنْ يَتَدَنَّسَ، وَإِنْ خَالَطَ الْمُلَوَّثِينَ أَنْ يَتَلَوَّثَ.

وَلَكِنْ بِالطُّهْرِ كُلِّهِ وَبِالطَّهَارَةِ كُلِّهَا تَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَلَا يَضُرُّكَ وَأَنْتَ تُخَالِطُ النَّاسَ تَدْعُوهُمْ، تَنْتَشِلُهُمْ مِنَ الْوَهْدَةِ، وَتُخْرِجُهُمْ مِنَ الْحَمْأَةِ، وَتُقِيمُهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ؛ لَا يَضُرُّكَ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مُلَوَّثِينَ مُدَنَّسِينَ؛ فَلَا تُرَعْ.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَالرُّجْزُ: الْعَذَابُ، ثُمَّ غَلَبَ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالَهُ فِيمَا يُوجِبُ الْعَذَابَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ بَعِيدًا عَنْ أَسْبَابِهِ بُعْدًا مُطْلَقًا وَلَكِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْعُلْوِيُّ الْكَبِيرُ لِكُلِّ دَاعٍ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى هَدْيِ النَّبِيِّ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ.

{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}، وَحَذَارِ مَهْمَا عَظُمَتْ قُوَّتُكَ فِي الْبَذْلِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ تَسْتَكْثِرَ فِي جَنْبِ اللهِ شَيْئًا؛ فَإِنَّكَ مَهْمَا أَتَيْتَ بِمَا أَتَيْتَ، وَمَهْمَا بَذَلْتَ مَا بَذَلْتَ كُلُّ ذَلِكَ صَغِيرٌ فِي جَنْبِ حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ، {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}.

ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنِ افْتَتَحَهُ بِالْإِنْذَارِ أَمْرًا إِلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ.. أَتْبَعَ ذَلِكَ خَاتِمًا بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَأْمُرُ بِهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْلِيفٍ؛ لِأَنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يَحْتَاجُ الصَّبْرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ يَحْتَاجُ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيَحْتَاجُ الصَّبْرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَحْتَاجُ الصَّبْرَ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ غَيْرِ الْمُوَاتِيَةِ.

 الدِّينُ يَحْتَاجُ الصَّبْرَ فِي الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا، وَفِي الْأَحْوَالِ جَمِيعِهَا، فَأَمَرَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالصَّبْرِ لَهُ وَحْدَهُ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَقْدِيمَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَصَبْرُكَ لِرَبِّكَ، لِرَبِّكَ وَحْدَهُ كَمَا أَنَّ تَكْبِيرَكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، وَهَذَا -أَيْضًا- مِنْ تَقْدِيمِ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ مُفِيدًا لِلْحَصْرِ وَالْقَصْرِ، فَلَا تُكَبِّرْ إِلَّا رَبَّكَ، فَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ إِنَّمَا هُوَ قَلِيلٌ ضَئِيلٌ بِجِوَارِ رَبِّكَ بِعَظَمَةِ رَبِّكَ وَقُدْرَةِ رَبِّكَ: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، فَأُرْسِلَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ.

((النَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ))

مُنْذُ أَمَرَ النَّبِيَّ ﷺ رَبُّهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].. مُنْذُ أَمَرَهُ رَبُّهُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَدْعُو إِلَيْهِ؛ يَدْعُو إِلَيْهِ عَلَى الْجَبَلِ، وَفِي السَّهْلِ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي حَلْقَاتِ التَّعْلِيمِ، يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الْحَرْبِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ فِي السِّلْمِ.

يَدْعُو إِلَيْهِ وَهُوَ يَمُوتُ ﷺ؛ فَإِنَّهُ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ يَقُولُ: ((الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، فَيَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَهُوَ يَمُوتُ ﷺ.

لَمْ يُفَارِقِ الدَّعْوَةَ حَتَّى فَارَقَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﷺ، مُنْذُ أَمَرَهُ رَبُّهُ صَدَعَ بِأَمْرِ رَبِّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وَأَتَى بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا بُعِثَ، وَأَتَى بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أُرْسِلَ، وَأَتَى بِالْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُرْسَلِينَ، وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ، وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ.

 كُلُّ ذَلِكَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ؛ لِإِقَامَةِ الْأَقْدَامِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِلْخُرُوجِ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِلْخُرُوجِ مِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ وَظُلْمِهَا إِلَى عَدَالَةِ وَسَمَاحَةِ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَمَا جَاءَ إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ إِخْوَانُهُ السَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ بِالدِّينِ الْعَامِّ، وَكُلُّهُمْ جَاءَ بِهِ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

كُلُّهُمْ جَاءَ بِالدِّينِ الْعَامِّ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]، وَجَاءَ بِالدِّينِ الْخَاصِّ؛ فَنَسَخَ اللهُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَلَا يَقْبَلُ اللهُ دِينًا سِوَى دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ ﷺ.

يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى الْجَبَلِ، وَيَدْعُو الْقَوْمَ إِلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ مَا يَحْتَمِلُ مِنْ سَفَاهَةِ السُّفَهَاءِ، وَجَهَالَةِ الْجُهَلَاءِ؛ ((تَبًّا لَكَ سَائِرَ هَذَا الْيَوْمِ!! أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟!)).

وَهُوَ يَدْعُوهُمْ لِيُوَحِّدُوا رَبَّهُمْ، لَا يَسْأَلْهُمْ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَلَا دُنْيَا وَلَا عَتَادًا، وَإِنَّمَا يَدْعُوهُمْ لِيُنْقِذَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَلِيُخْرِجَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنْ تَلَدُّدِهِمْ حَيَارَى فِي الظُّلُمَاتِ ظُلُمَاتِ الْفِكْرِ وَالْوَهْمِ وَخُزَعْبَلَاتِ التَّصَوُّرِ وَعِبَادَةِ الْأَحْجَارِ وَالْأَوْثَانِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَهْوَاءِ لِعِبَادَةِ اللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، لِيَسْتَنْقِذَهُمْ مِنَ النَّارِ، لِيَدُلَّهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ، وَيُقِيمَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَحْتَمِلُ فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ مَا يَحْتَمِلُ ﷺ، يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى الْجَبَلِ وَفِي السَّهْلِ وَفِي الطَّرِيقِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ، وَهُوَ مُتَرَجِّلٌ، وَهُوَ قَاعِدٌ ﷺ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي حَلْقَاتِ التَّعْلِيمِ.

ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَمَا أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الدَّابَّةِ: ((يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ))، فَيَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى الدَّابَّةِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ: ((يَا مُعَاذُ!)).

قُلْتُ: ((لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ)).

قَالَ: ((أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟)).

قُلْتُ: ((اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)).

قَالَ: ((حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)).

يَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ ﷺ.

يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي سَاحَةِ الْوَغَى عِنْدَ الْتِحَامِ الْجُنْدِ بِالْجُنْدِ، عِنْدَ اتِّسَاعِ الْحَدَقِ، عِنْدَ انْدِلَاعِ الشَّرَرِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُبَيِّنُ فَضْلَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَبْلَغِ بَيَانٍ، وَأَتَمِّهِ، وَأَكْمَلِهِ، وَأَحْسَنِهِ، كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْطَى الرَّايَةَ عَلِيًّا يَوْمَ خَيْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ)).

فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفَ يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ)) أَيْ: فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ((فَوَاللَّهِ! لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).

يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَرْبِ كَمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي السِّلْمِ.

يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْغَضَبِ كَمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الرِّضَا.

يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ، وَيُبَلِّغُ أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ جَاءَهُ رُؤْيَا صَادِقَةً فِي الْمَنَامِ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ مَنَامًا، ((وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ)).. فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ.

فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا أَعْلَمَهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيُرْشِدُ الْخَلْقَ إِلَيْهِ، وَيَصْبِرُ وَيَحْتَمِلُ ﷺ.

طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَبِيلُ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعَاتِ))

لَا يُفْلِحُ الْمُجْتَمَعُ إِنْ قَصَّرَ أَهْلُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ وَرَازِقِهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَجَّهُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِسِوَاهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْلِصُوا الْعِبَادَةَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَوَظِيفَتُهُمْ.

نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُو إِلَى اللهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سِرًّا وَإِعْلَانًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَحْتَمِلُ الْأَذَى صَابِرًا.

يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِلَى الْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، لَا يَفْتُرُ وَلَا يَتَوَانَى أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، يَدْعُو إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ، فِي السِّرِّ وَفِي الْإِعْلَانِ،  لَا يَتَوَانَى عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ.

طَرِيقَةُ الْمُرْسَلِينَ.

يُوسُفُ فِي السِّجْنِ مَعَ ضِيقِ الْحَبْسِ وَقَسْوَةِ السِّجْنِ، وَمَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَنَتِ وَالظُّلْمِ وَالِابْتِلَاءِ وَالْمِحْنَةِ؛ يَدْعُو إِلَى تَوْحِيدِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا يَلْوِي عِنَانَ الدَّعْوَةِ فِي يَدِهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْمَهْيَعِ الْأَرْشَدِ وَالطَّرِيقِ الْأَقْوَمِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ فِيهِ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ، إِلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِلَى الْخُلُوصِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَافِرِينَ.

يَدْعُو إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي ظُلُمَاتِ السِّجْنِ مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ قَسْوَةِ الْحَبْسِ وَمَعَ مَا يُعَانِي مِنْ وَطْأَةِ السِّجْنِ بِقَسْوَةِ الظُّلْمِ يَدْعُو إِلَى اللهِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.

نَعَمْ، طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَوَظِيفَتُهُمْ.

مُوسَى يُعَالِجُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يُعَالِجُ، وَيَجِدُ مِنَ الْعَنَتِ مَا يَجِدُ، وَمِنَ التَّكْذِيبِ وَقَسْوَةِ وَخُشُونَةِ النُّفُوسِ مَا يَجِدُ، وَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَابِرًا إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَعِبَادَتِهِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، مَعَ مَا وَجَدَهُ مِنْ أُمَّةِ الْقِبْطِ وَمِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَقُومُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمَقَامَاتِ الْعَظِيمَةَ؛ فَيَحْمَدُ لَهُ رَبُّهُ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ لَهُ مَا لَا يَحْتَمِلُ لِغَيْرِهِ.

وَنَبِيُّنَا ﷺ يَدْعُو إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ.

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))

إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى أُمَمٍ قَبْلَنَا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79.

{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}: أُمِرُوا بِأَنْ يَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْ يَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}؛ فَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَطُرِدُوا مِنَ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَلْقَى أَخَاهُ، فَيَرَاهُ عَلَى الْمُنْكَرِ، فَيَنْهَاهُ، ثُمَّ يَجِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَجَلِيسَهُ، فَلُعِنُوا.

وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ مِنْ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّهَا تَدْعُو إِلَى اللهِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

مِنْ خَيْرِيَّةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ.

فَأَكْبَرُ الْمَعْرُوفِ التَّوْحِيدُ، وَأَكْبَرُ الْمُنْكَرِ وَأَنْكَرُهُ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِالْعَزِيزِ الْمَجِيدِ.

فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)).

((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) أَيْ: وَأَهْلَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ، ((حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ)).

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَبُو عِيسَى -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- بِعَقِبِ الْحَدِيثِ بِسَنَدِهِ عَنِ الْفُضَيْلِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: ((رَجُلٌ عَالِمٌ عَامِلٌ مُعَلِّمٌ يُدْعَى كَبِيرًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ)).

إِذَا عَمَّ الْمُنْكَرُ فِي النَّاسِ، وَفَشَا فِيهِمُ الْبُعْدُ عَنْ دِينِ رَبِّهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُدْعَوْ إِلَى اللهِ وَإِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى دِينِهِ؛ أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ سَخَطَهُ.

فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا لَمْ يَغَارُوا عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ فِي أَرْضِهِ غَارَ اللهُ عَلَى دِينِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودُوا رَاشِدِينَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ حَمْلًا وَيَأْطُرَهُمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ أَطْرًا، فَعَوْدَةٌ حَمِيدَةٌ -وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ-.

النَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُبَلِّغَ عَنْهُ، فَقَالَ كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)): ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)).

وَدَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالنُّضْرَةِ فِي الْوَجْهِ لِمَنْ سَمِعَ حَدِيثًا فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا أَوْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا؛ فَدَعَا لَهُ بِالنُّضْرَةِ: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ -فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَبَلَّغَهُ كَمَا تَحَمَّلَهُ-؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَحْفَظُ مِنْ سَامِعٍ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ))، فَيُؤَدِّي عَنِ اللهِ وَعَنْ رَسُولِ اللهِ، دَعْوَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى صِرَاطِ اللهِ الْمُسْتَقِيمِ.

طَرِيقَةُ النَّبِيِّ ﷺ يُبَيِّنُهَا لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))، وَلَوْ آيَةً، تَأْمُرُ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي تَعْلَمُهُ، وَالَّذِي تَعْمَلُ بِهِ، تُبَلِّغُ النَّاسَ ذَلِكَ، وَتُرْشِدُهُمْ إِلَيْهِ، وَتَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، فَتُرْضِي رَبَّكَ، وَتَتَّبِعُ نَبِيَّكَ ﷺ، وَتَنْهَى النَّاسَ عَنْ مُنْكَرٍ وَاقَعُوهُ وَعَنْ ظُلْمٍ وَقَعُوا فِيهِ؛ لِكَيْ يَتَطَهَّرَ الْمُجْتَمَعُ مِنْ ظُلْمِهِ مِنْ إِثْمِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى نَهْجِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.

{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، فَكَانَ كَذَلِكَ ﷺ

إَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ.

أَشْرَفُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ؛ وَظِيفَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

وَالدُّعَاةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُمُ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّاسِ يُبَلِّغُونَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [قصلت: 33].

وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}: لَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللهِ، {إِلَى اللهِ} لَا إِلَى نَفْسِهِ وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ إِلَى اللهِ.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ

لَا أَحَدَ.

فَهَذَا تَقْرِيرٌ لِلنَّفْيِ يَنْطِقُ بِهِ الْمُخَالِفُ بِلِسَانِهِ مُسْتَنْطَقًا، يُقَالُ لَهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَعَمِلَ بِهِ، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِلشَّرْعِ الْأَغَرِّ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً.

الدَّاعِي إِلَى اللهِ!

وَكُلٌّ مُكَلَّفٌ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فَمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِ دَعَا إِلَى اللهِ.

وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ كُلٌّ بِحَسَبِهِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ لَا يَتَزَيَّدُ، وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي كُلِّ مَجَالٍ؛ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى اللهِ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى سِوَاهُ.

إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى اللهِ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى سِوَاهُ.

حَتْمٌ لَازِمٌ؛ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا كُنْتَ مَدْعُوًّا وَلَا ثَالِثَ.

فَإِنْ لَمْ تَدْعُ إِلَى الْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالرَّشَادِ دَعَاكَ الْمُبْطِلُونَ إِلَى الْغَيِّ وَالْعِنَادِ وَالْفَسَادِ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا كُنْتَ مَدْعُوًّا.

إِنْ لَمْ تَكُنْ دَاعِيًا إِلَى اللهِ كُنْتَ مَدْعُوًّا إِلَى سِوَاهُ، وَأَقْدِحْ بِهَا مِنْ خَصْلَةٍ أَلَّا يَكُونَ الْمَرْءُ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ حَتَّى يَكُونَ مَدْعُوًّا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ مَنْهَجِ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَالدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ نَكُونَ كَذَلِكَ أَجْمَعِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.


 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ص صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَقُولَ: {هَٰذِهِ سَبِيلِي} يَعْنِي: مَا جَاءَ بِهِ ﷺ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ: {هَذِهِ}: فَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ مَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيْهِ وَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي}: هَذِهِ طَرِيقَتِي وَهَذَا مَنْهَجِي.

{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}: أَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ: {إِلَى اللهِ}؛ لِأَنَّ الدُّعَاةَ عَلَى قِسْمَيْنِ:

-قَسْمٌ يَدْعُو إِلَى اللهِ.

-وَقِسْمٌ يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ.

الَّذِي يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَكُونُ مُتَجَرِّدًا مُخْلِصًا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ.

وَقِسْمٌ آخَرُ يَدْعُو إِلَى غَيْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يَدْعُو إِلَى حَظِّ نَفْسِهِ إِلَى ذَاتِهِ؛ لِيُقَدِّرَهُ النَّاسُ وَيَحْتَرِمُوهُ وَيَرْفَعُوهُ وَيُبَجِّلُوهُ؛ وَلِذَلِكَ إِذَا دَعَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي أَمْرٍ فَخُولِفَ فِيهِ يَغْضَبُ لِمُخَالَفَةِ النَّاسِ أَمْرَهُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ، لَا لِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ اللهِ، وَإِذَا دَلَّ غَيْرُهُ عَلَى خَيْرٍ لَمْ يَهْدَأْ لَهُ بَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ الْخَيْرُ إِلَى النَّاسِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِهِ، وَلَا يَتَرَشَّحُ إِلَّا مِنْهُ، وَهَيْهَاتَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

دَاعٍ إِلَى اللهِ، وَدَاعٍ إِلَى غَيْرِ اللهِ!

الدُّعَاةُ قِسْمَانِ!

وَالنَّبِيُّ ﷺ وَمَنِ اتَّبَعَهُ يَدْعُونَ إِلَى اللهِ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}: إِلَى اللهِ خَالِصًا، إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.

{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، وَ {أَنَا} إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأً: أنا ومن اتبعني على بصيرة، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: {أَدْعُو}: أَدْعُو أَنَا، وَمَنِ اتَّبَعَنِي يَدْعُو، {عَلَى بَصِيرَةٍ}: وَالْبَصِيرَةُ شَيْءٌ فَوْقَ الْعِلْمِ.

فَكَثِيرٌ مِنَ الْخَلْقِ يَمْتَلِئُ عِلْمًا وَيُفْسِدُ بِدَعْوَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَلَّ عَلَى أُمُورٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ ﷺ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَوَصَّاهُ، فَقَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)). فِي رِوَايَةٍ.

((فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مَا أُجْمِلَ فِي الْبَصِيرَةِ، فَالْبَصِيرَةُ فِي الْعِلْمِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَفِي الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمَدْعُوِّ، وَلَيْسَتْ عِلْمًا فَقَطْ، وَإِنَّمَا بَصِيرَةٌ فِي الْعِلْمِ فَلَا يَدْعُو الدَّاعِي بِجَهْلٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ دَعَا بِجَهْلٍ كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ اللهِ، كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ، كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَلَا يُدْعَى إِلَّا بِعِلْمٍ.

كَمَا لَا يُدْعَى إِلَّا بِإِخْلَاصٍ: {أَدْعُو إِلَى اللهِ}؛ فَهَذَا شَرْطٌ كَبِيرٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَوَفِّرًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخُنْصُرُ، أَوَّلُ شَيْءٍ الْإِخْلَاصُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِتَعْبِيدِ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمُ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ، لَا لِحَظِّ النَّفْسِ.

بَلْ إِنَّهُ لَا يَذُوقُ لِنَفْسِهِ طَعْمًا أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ مُتَجَرِّدًا؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِتَوْحِيدِ رَبِّهِ أَنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ وَنَجْوَاهُ، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَيُحَاسِبُهُ عَلَى نِيَّتِهِ فَيُمَحِّصُهَا لِرَبِّهِ.

وَالدُّعَاةُ إِلَى اللهِ عَلَى الْمِحَكِّ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ عَلَى مِنْهَاجِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ﷺ.

فَأَتَى النَّبِيُّ ﷺ بِمَا أُجْمِلَ هُنَاكَ: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ}.

الْبَصِيرَةُ فِي الْعِلْمِ؛ بِمَعْرِفَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ؛ بِأَنْ تَكُونَ عَالِمًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي تُرْشِدُ إِلَيْهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا، لَا بِخَبْطٍ فِي ظُلُمَاتٍ، وَلَا بِخَبْطِ عَشْوَاءَ فِي بَيْدَاءَ، وَإِنَّمَا بِعِلْمٍ.

الْعِلْمُ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ    =   قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ

مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً           =  بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ

تَدُلُّ عَلَى قَالَ اللهُ، قَالَ الرَّسُولُ، قَالَ الصَّحَابَةُ، عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، تَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ، عَلَى عِلْمِ الْوَحْيَيْنِ؛ عَلَى عِلْمِ الْكِتَابِ وَعِلْمِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَحْفُوظُ الْمَعْصُومُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ وَلَا الزَّيْغُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.

فَهَذَا أَوَّلًا أَنْ تَكُونَ الْبَصِيرَةُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنْ تَكُونَ الْبَصِيرَةُ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ.

تَأَمَّلْ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هَذَا التَّدْرِيجِ وَهَذَا التَّرْتِيبِ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ))، فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُرْسَلِينَ.

وَكُلُّ دَعْوَةٍ لِلْإِصْلَاحِ زَاعِمَةً لَا تَصِلُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ، وَالْخَبْطُ بَيْنَ النَّاسِ بِخَلْطِ الْأَوْرَاقِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَآسِي الَّتِي تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ.

كُلُّ دَعْوَةٍ لَا تَبْدَأُ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَلَا تَرْتَكِزُ عَلَيْهِ، وَلَا تُؤَسَّسُ عَلَى قَاعِدَتِهِ لَنْ تُؤْتِيَ يَوْمًا أُكُلًا، وَلَكِنْ قَدْ تُؤْتِي ثِمَارًا مُرَّةً مِنْ حَنْظَلٍ وَمُرٍّ.

وَأَمَّا ثِمَارُ الدَّعْوَةِ الْحَقَّةِ الَّتِي تَرْتَكِزُ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى طَرِيقَةِ الْمُرْسَلِينَ وَسَبِيلِ النَّبِيِّينَ، وَمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ، فَهَيْهَاتَ؛ ذَلِكَ بِمَبْعَدٍ.

تَأَمَّلْ! ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ))؛ أَنْ تُصْلِحَ عَقِيدَتَهُمْ، أَنْ يُوَحِّدُوا رَبَّهُمْ، أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَنْ يُخْلِصُوا الْقُلُوبَ وَالْأَرْوَاحَ لِرَبِّهِمُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، أَنْ يَصْرِفُوا الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ وَالْخَشْيَةَ وَالْإِنَابَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَعْلِنُوا بِذَلِكَ فِي حَيَاتِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مِنْهَاجَهُمْ، وَأَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجَوَارِحِهِمْ، فَلَا يَسْجُدُوا لِلْأَصْنَامِ، وَلَا يُطِيفُوا بِالْقُبُورِ، وَلَا يَسْأَلُوا أَحَدًا سِوَى اللهِ مَا لَا يُسْأَلُهُ إِلَّا اللهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، ((أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ)).

تَأَمَّلْ فِي التَّدَرُّجِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ ((فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ))، فَانْقُلْهُمْ إِلَى مَا بَعْدَهُ، وَإِلَّا فَإِنْ بَدَأْتَهُمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ هَذَا فَأَنْتَ تُنْشِئُ الْقُصُورَ عَلَى الرِّمَالِ، وَأَنْتَ تَخُطُّ عَلَى الْمَاءِ خَطًّا، وَتَكْتُبُ أَلْوَاحًا مُسَطَّرَةً عَلَى صَفْحَاتِ الْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي عَقْلِ عَاقِلٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي حِسِّ حَيٍّ مَوْجُودٍ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ مُبَيِّنًا كَيْفِيَّةَ الدَّعْوَةِ.

فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ بِكَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَصِيرَةِ بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمَدْعُوِّ: ((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، فَأَعْلَمَهُ ﷺ أَنَّهُ يَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا مِنَ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ، فَهَذَا يَسْتَوْجِبُ نَظَرًا فِي اسْتِعْمَالِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِإِجْرَاءِ النُّصُوصِ كِتَابًا وَسُنَّةً عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ، وَأَنْ تُوضَعَ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَنْ تُنَزَّلَ فِي مَنَازِلِهَا؛ حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ تَأْتِيَ بِالثَّمَرَةِ.

فَدَلَّهُ ﷺ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، دَلَّهُ عَلَى الْبَصِيرَةِ فِي الْعِلْمِ وَعَلَى الْبَصِيرَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَعَلَى الْبَصِيرَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِحَالِ الْمَدْعُوِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَشْمَلُهُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْجَلِيلَةُ الْفَخْمَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُنِيرَةُ النَّيِّرَةُ: {عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْعَمَلِ وَالسُّلُوكِ))

النَّبِيُّ ﷺ دَلَّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِ الدَّاعِي إِلَى اللهِ، وَعَلَى جَلِيلِ مَا يُحَصِّلُهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْحَسَنَاتِ مِمَّا يُؤْتِيهِ إِيَّاهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

الْمُسْلِمُ الْحَقُّ دَاعٍ إِلَى اللهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ بِسَمْتِهِ، بِدَلِّهِ، بِمَنْطِقِهِ، بِسُكُونِهِ، وَحَرَكَتِهِ، بِتَعَامُلِهِ، بِصَبْرِهِ، بِحِلْمِهِ، وَهَذَا هُوَ مَا يُجْدِي حَقًّا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُخْدَعُونَ، النَّاسُ يَقْبَلُونَ مَا يَقْبَلُونَ لَا بِأَسْمَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا بِأَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ.

النَّاسُ يُصِيخُونَ سَمْعَ الْقُلُوبِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَحَرَّكَ فِيهَا وَتَرٌ لَا يُحَرِّكُهُ إِلّا كَلَامٌ خَرَجَ مِنَ الْقَلْبِ.

فَالْكَلَامُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَلْبِ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ اللِّسَانِ لَمْ يُجَاوِزِ الْآذَانَ.

وَسُلُوكُ رَجُلٍ أَجْدَى وَأَنْفَعُ لِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ قَوْلِ أَلْفِ رَجُلٍ لِرَجُلٍ؛ وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ ﷺ بِالسُّلُوكِ الْمُسْتَقِيمِ الْحَسَنِ الْأَحْسَنِ الَّذِي لَا أَحْسَنَ مِنْهُ، دَعَا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِحِلْمِهِ، وَبِصَبْرِهِ، بِسُلُوكِهِ، بِحَرَكَةِ حَيَاتِهِ، بِإِغْضَائِهِ، وَصَفْحِهِ، وَحِلْمِهِ ﷺ.

{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]: هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَلَمْ يَكُونُوا مَأْذُونًا لَهُمْ فِي مَكَّةَ بِالْقِتَالِ وَالْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!

{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}: جِهَادُ الْحُجَّةِ، جِهَادُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْأَصْلُ.

السَّيْفُ إِنَّمَا يُزِيلُ الْعَوَائِقَ أَمَامَ اللِّسَانِ وَالْبَنَانِ أَمَامَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ، لَيْسَ السَّيْفُ أَصْلًا.

الْقِتَالُ لِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ مِنَ النُّظُمِ الْفَاسِدَةِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُجْرِمَةِ الْكَافِرَةِ الْبَاطِلَةِ لِلتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الدَّاعِي إِلَى اللهِ وَالشُّعُوبِ؛ لِتُدْعَى الشُّعُوبُ وَالنَّاسُ إِلَى رَبِّهِمْ -جَلَّ وَعَلَا-، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.

فَإِذَا مَا أُزِيلَ ذَلِكَ وَزَالَ ذَاهِبًا وَانْمَاعَ كَمَا يَنْمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ تَكُونُ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالسَّيْفُ مُغْمَدًا.

دَعْوَةٌ إِلَى اللهِ؛ بِنَشْرِ الْعِلْمِ، وَالْهُدَى، وَالْعَفَافِ وَالتُّقَى، وَالْمَنْهَجِ الْأَحْمَدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ أَحْمَدُ ﷺ.

وَالْعَطَاءُ لَا حَدَّ لَهُ لِكُلِّ مَنْ دَعَا مُخْلِصًا، وَاسْتَقَامَ عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَرْشَدِ يَدْعُو إِلَى رَبِّهِ، فَمَا مِنْ كَلِمَةٍ إِلَّا وَيُرَادُ بِهَا الدَّعْوَةُ حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا ﷺ.

يُعَلِّمُ حَتَّى بِمُزَاحِهِ ﷺ.

أَتَتْ ‌عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي ‌الْجَنَّةَ)).

فَقَالَ: «يَا أُمَّ فُلَانٍ! إِنَّ ‌الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا ‌عَجُوزٌ».

قَالَ: ((فَوَلَّتْ تَبْكِي)).

فَقَالَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ ‌عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {إِنَّا ‌أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 36])).

سَتُعَادُ الصِّيَاغَةُ يَا هَذِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْكِ، فَلَا تَبْتَئِسِي.

فَعَلَّمَهَا مَا يَكُونُ وَهُوَ أَمْرُ غَيْبٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ فِي النُّفُوسِ.

فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَاءَ بِهِ ﷺ حَتَّى فِي مُزَاحِهِ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا.

((عِظَمُ مَقَامِ الدَّاعِي وَثَمَرَاتُ الدَّعْوَةِ))

ادْعُ إِلَى اللهِ؛ لِكَيْ يُعْطِيَكَ رَبُّكَ، ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) -بِإِسْكَانِ الْمِيمِ، جَمْعُ أَحْمَرَ، وَأَمَّا بِضَمِّهَا فَجَمْعُ حِمَارٍ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا-.

فَخَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ الْحَمْرَاءُ، وَكَانَتْ أَنْفَسَ وَأَغْلَى وَأَثْمَنَ مَا يَقْتَنِيهِ الْعَرَبُ ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا)).

هَلْ يَقُولُ أَحَدٌ: الْقَرِينَةُ الْحَالِّيَّةُ هُنَا، وَالْحَالِيَّةُ -أَيْضًا- تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ كَانَتْ لِيَهُودَ؟! ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ))، وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ تَدْعُوَهُمْ إِلَى هَذَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ))؛ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي جَاءَ بِهَا نَبِيُّهُ ﷺ.

((فَوَاللَّهِ! لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا)).. وَاحِدًا، وَلَوْ قَالَ: رَجُلًا لَأَدَّى، وَلَكِنْ تَأَمَّلْ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ: ((رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)).

فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ مَقَامٍ!

هَلْ يَقُولُ قَائِلٌ: نَعَمْ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)).

مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ مَقَامٌ مُتَعَدٍّ، لَيْسَ بِمَقَامٍ لَازِمٍ، يَشْمَلُ الْمَرْءَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ؛ يُصَلِّي، وَيَعْتَكِفُ، وَيَعْتَزِلُ الْخَلْقَ، يَكُفُّ عَنْهُمُ الشَّرَّ، وَلَا يُوَصِّلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ.

مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ مَقَامٌ مُتَعَدٍّ بِالْخَيْرِ إِلَى خَلْقِ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ.

وَظِيفَةُ الْمُرْسَلِينَ وَظِيفَةُ النَّبِيِّينَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ.

أَفَبَعْدَ هَذَا تُفَرِّطُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى رَبِّكَ؟!

فَادْعُ إِلَى اللهِ بِمَا تَعْلَمُهُ وَمَا أَنْتَ مِنْهُ عَلَى يَقِينٍ.

فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِأَقْطَارِهِ مُحَصَّلًا عِنْدَ أَحَدٍ سِوَى مَا آتَى اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ، وَإِنَّمَا مَا عَلِمْتَ يَقِينًا مِنْ غَيْرِ زَيْغٍ، مِنْ غَيْرِ وَهْمٍ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ، مَا عَلِمْتَهُ مَا تَيَقَّنْتَ مِنْهُ فَبَلِّغْهُ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))، كَمَا أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ.

تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الشِّرْكِ، وَمُجَانَبَةِ الْمُشْرِكِينَ.

تَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ وَإِلَى إِتْمَامِهَا، وَإِقَامَتِهَا، وَعَدَمِ التَّخَلُّفِ عَنْهَا.

تَدْعُو إِلَى إِيتَاءِ الزَّكَاةِ.

تَدْعُو إِلَى الصِّيَامِ؛ صِيَامِ الْفَرْضِ، وَتَدُلُّ عَلَى النَّفْلِ.

تَدْعُو إِلَى الْحَجِّ وَإِلَى الْعُمْرَةِ.

تَدْعُو إِلَى الْبِرِّ، وَتَدْعُو إِلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْأَيْتَامِ.

تَدْعُو إِلَى اللهِ، فَمَا جَاءَ النَّبِيُّ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَمَا نَهَى إِلَّا عَنِ الشَّرِّ.

{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا أُمِرَ بِهِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ بِبَسْطِ الْيَدِ فِي قِتَالٍ، فَأَيُّ جِهَادٍ؟!

جِهَادُ الْحُجَّةِ، جِهَادُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّكَ تُحَصِّلُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِثْلَ مَا أُعْطِيَ كُلُّ مَنْ تَبِعَ أَمْرَ اللهِ الَّذِي بَلَّغْتَهُ، وَأَمْرَ النَّبِيِّ الَّذِي وَصَّلْتَهُ ﷺ.

((الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى فِي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ))

{أَدْعُو إِلَى اللهِ}: إِلَى كِتَابِهِ، سُنَّةِ نَبِيِّهِ، إِلَى قَالَ اللهُ، قَالَ الرَّسُولُ بِإِخْلَاصٍ وَرِفْقٍ وَصَبْرٍ وَحِلْمٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَفْعَلُ.

وَمَا أَكْثَرَ مَا أُوذِيَ ﷺ!

وَالدَّاعِي إِلَى اللهِ لَابُدَّ أَنْ يُؤْذَى كَمَا بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].

( أَلْ ) فِي (الْإِنْسَانِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَوْ لِلْجِنْسِ، وَالْمُؤَدَّى وَاحِدٌ، وَالْمُهِمُّ أَنَّ مَجْمُوعَ الْإِنْسَانِ بِجِنْسِهِ مُسْتَغْرِقًا فِي ذَلِكَ فِي خُسْرَانٍ، فِي هَلَكَةٍ وَبَوَارٍ وَحِطَّةٍ وَاتِّضَاعٍ، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، {إِلَّا}: وَاسْتَثْنَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَوْمًا لَهُمْ صِفَاتٌ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: وَهُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ، فَاتَّبَعُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: وَدَعَوْا إِلَى ذَلِكَ، دَعَوُا النَّاسَ، وَاسْتَنْقَذُوهُمْ مِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ، مِنَ الْفَسَادِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَالسَّدَادِ، دَعَوُا النَّاسَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ.

فَإِذَا فَعَلُوا وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17]؛ فَلَابُدَّ إِذَا أَمَرَ وَنَهَى أَنْ يُصِيبَهُ مَا يُصِيبُهُ، فَوَصَّاهُ بِالصَّبْرِ كَمَا وَصَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَمَرَ نَبِيَّه ﷺ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7]، بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْإِنْذَارِ فِي مَطْلَعِ الْآيَاتِ: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر: 2].

ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}؛ لِأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ وَأَمَرْتَ النَّاسَ وَنَهَيْتَهُمْ فَسَيَقُولُونَ عَنْكَ: مَجْنُونٌ، وَكَاهِنٌ، وَسَاحِرٌ، وَمُخَرِّفٌ، وَتَأْتِي بِأُمُورٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا مَنْ سَبَقَكَ، وَأَنْتَ بِدْعٌ فِي الْخَلْقِ، وَهَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا الْأَقْدَمُونَ السَّابِقُونَ؛ يَعْنِي مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ وَالصِّرَاطِ غَيْرِ الْمُسْتَقِيمِ.

إِنْ دَعَوْتَ إِلَى اللهِ ضُرِبْتَ وَشُرِّدْتَ وَحُبِسْتَ، وَقَدْ كَانَ؛ فَأُدْخِلَ الشِّعْبَ ﷺ وَجَاعَ، وَجَاعَ مَعَهُ مَنْ جَاعَ، وَشُرِّدُوا، فَذَهَبُوا مُهَاجِرِينَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً، وَتَرَكَ دَارَهُ وَدَارَ أَبِيهِ، فَلَمَّا عَادَ قِيلَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! انْزِلْ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ)).

قَالَ: ((وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟!)).

قَالَ: وَهَلْ بَقِيَ لَنَا مِنْ دَارٍ؟! ذَهَبَتْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ.. ﷺ.

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ))

يَدْعُو إِلَى اللهِ بِمَا يَسْتَطِيعُ، وَبِالْحُسْنَى الَّتِي لَا أَحْسَنَ مِنْهَا: {وَجَادِلْهُم}: وَهَذَا هُوَ فِي الْمَقَامِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُجَادَلُ إِنْ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ فَهُوَ يُوعَظُ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الْحِكْمَةُ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهِيَ السُّنَّةُ كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَبِالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، وَوَضْعِ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُجْدِيًا مُتَقَبَّلًا لِلْوَهْلَةِ الْأُولَى بَادِيَ الرَّأْيِ، وَوَجَدْتَ الْخَيْرَ هُنَالِكَ، وَهَذَا مِنْ كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمَدْعُوِّ -أَيْضًا-؛ فَسَتَجِدُ هُنَالِكَ عَلَائِمَ الْخَيْرِ، وَتَجِدُ هُنَالِكَ مُنْتَفِيًا مُنْتَبِذًا مَقَاذِيرَ الشَّرِّ، وَحِينَئِذٍ تُقْبِلُ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ؛ أَصَرَّ الْمُعَانِدُ عَلَى الْجِدَالِ؛ فَلْيَكُنِ الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

{وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}: وَحَذَفَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ لِلتَّعْمِيمِ، يَعْنِي: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لَا أَحْسَنَ مِنْهَا قَطُّ.

فَذَلِكَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا ﷺ.

((الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَبِيلُ نَجَاةِ الْعَالَمِ))

ادْعُوا إِلَى اللهِ -عِبَادَ اللهِ-، وَبَلِّغُوا دِينَ اللهِ كَمَا قَالَ نَبِيُّكُمْ ﷺ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مُجْتَمَعُ الْإِنْسَانِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِمَّا تَرَدَّى فِيهِ مِنَ الْهُوَّةِ الْهَابِطَةِ مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِزِ الْمُنْفَلِتَةِ، وَالِانْهِيَارِ الْأَخْلَاقِيِّ الَّذِي أَشْفَى مِنْهُ الْعَالَمُ عَلَى خَرَابٍ مَاحِقٍ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا الدِّينِ الْحَقِّ يَحْمِلُهُ ثُلَّةٌ مُؤْمِنَةٌ وَعُصْبَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالصِّدْقِ تُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَرْضِ.

إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَمَسْؤُولِيَّةِ الْمُسْلِمِ عَظِيمَةٌ، فَمَعَكَ طَوْقُ النَّجَاةِ، وَالنَّاسُ يَغْرَقُونَ تَحْتَ عَيْنِكَ وَأَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا تَمُدُّ لَهُمْ يَدًا بِعَوْنِ؟!!

دِينِ اللهِ يَسْتَنْقِذُ الْبَشَرِيَّةَ مِمَّا تَرَدَّتْ فِيهِ.

دِينُ اللهِ وَحْدَهُ يُنْقِذُ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ مِمَّا بَلَغُوهُ مِنْ هَذَا الِانْحِطَاطِ الْهَابِطِ حَتَّى صَارُوا أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبُوهُ مِنْ هَوَاهُمْ.

دِينُ اللهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ خَلْقَ اللهِ فِي أَرْضِ اللهِ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ دَمَارٍ تَبْدُو عَلَائِمُهُ، وَخَرَابٍ تَتَّضِحُ مَعَالِمُهُ.

وَاللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَسْأَلُ أَنْ يُنَجِّيَنَا جَمِيعًا، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ ﷺ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُومًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُومًا، وَلَا تَجْعَلْ فِينَا وَلَا حَوْلَنَا وَلَا بَيْنَنَا شَقِيًّا وَلَا مَطْرُودًا وَلَا مَحْرُومًا.

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُؤْمِنِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

المصدر: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ سَفِينَةُ النَّجَاةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان