((الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..
نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الْعَمَلُ وَالسُّلُوكُ الْقَوِيمُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ))
فَمِنَ الْمَعْلُومِ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْعِلْمَ إِنَّمَا يَشْرُفُ مِنْ أَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ؛ لِأَجْلِ مَا يُحْدِثُهُ فِي النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالضَّمْيرِ مِنْ أَثَرٍ، وَمَا يَنْعَكِسُ بِهِ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ سُلُوكٍ وَعَمَلٍ.
وَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُثْمِرُ عَمَلًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَيْنَ الْعِلْمِ وَالعَمَلِ فَجْوَةٌ -إِنْ وُجِدَتْ- لَا تُرْدَمُ إِلَّا بِالنِّفَاقِ، وَإِنَّ مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَوْنَهُمْ قَرَنُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
فَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: «حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ يُجَاوِزُوهُنَّ إِلَى الْعَشْرِ الْأُخَرِ حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَمَلِ, قَالَ: فَتَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا».
وَهَذِهِ عَلَامَةٌ فَارِقَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِلتَّرَفِ الْفِكْرِيِّ، وَلَا لِلْمَتَاعِ الْعَقْلِيِّ، وَلَا لِيُمَارُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِيُجَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا لَيَرْتَفِعُوا بِهِ عَلَى أَكْتَافِ الْخَلْقِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِلْعَمَلِ، وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ مِنَ الْأُصُولِ النَّافِعَةِ وَالْقَوَاعِدِ الْجَامِعَةِ كَانُوا سَابِقِينَ، بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُونَ وَلَا يُلْحَقُونَ.
وَالْعِلْمُ مَا أَوْرَثَكَ الْخَشْيَةَ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَمْ يُثْمِرْ خَشْيَةً، فَلَيْسَ بِعِلْمٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْكُتُبِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ مَا أَفَادَ الْخَشْيَةَ وَالْعَمَلَ.
وَقَد كَانَ سَلَفُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَوْعَى الْخَلْقِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَكَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ تَحَقُّقًا بِهِ، فَكَانُوا سَابِقِينَ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُونَ وَلَا يُلْحَقُونَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ خُطُورَةَ هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، وَكَيْفَ أَنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَالشَّمْعَةِ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ عِقَابَ مَنْ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتَمِرُ بِهِ، وَخُطُورَةَ شَأْنِ مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَا يَنْتَهِي عَنْهُ، فَفِي حَدِيثِ الْحِبِّ ابْنِ الْحِبِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، حَتَّى يُطِيفَ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ! أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟
فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».
فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِقَابَهُ فِي النَّارِ أَنْ جَمَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُزْرِيَةِ، تَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ مِنْ بَطْنِهِ -وَالْأَقْتَابُ: جَمْعُ قِتْبٍ، وَهِيَ الْمَصَارِينُ، تَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ- يَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ مِنْ شَنَاعَةِ مَنْظَرِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَسْأَلُونَ مُتَعَجِّبِينَ، هَذَا آمِرٌ نَاهٍ، كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ فَوْقَنَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَرْتَبَةً؛ إِذْ يَأْمُرُنَا وَيَنْهَانَا، فَمَا الَّذِي حَطَّهُ فِي هَذَا الدَّرْكِ الْهَابِطِ، وَنَزَلَ بِهِ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الْمُتَدَنِّيَةِ، مَا لَكَ يَا فُلَانُ؟!!
يَعْرِفُهُم وَيَعْرِفُونَهُ، يُذَكِّرُونَهُ فَيَتَذَكَّرُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟!!
وَلَا مَجَالَ لِلْإنْكَارِ، ((بَلَى؛ كُنْتُ آمَرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ)).
إِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، يُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْهَرْجِ الَّذِي تَرَاهُ فِي الْحَيَاةِ، وَإِلَى هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي عَمَّتِ السَّاحَتَيْنِ؛ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقُوَّتَيْنِ.
وَسَعَادَةُ الْمَرْءِ فِي التَّوَازُنِ بَيْنَهُمَا، أَنْ يُوَازِنَ بَيْنَ قُوَّتَيْهِ؛ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَمَنْ زَادَتْ قُوَّتُهُ الْعِلْمِيَّةُ عَلَى قُوَّتِهِ الْعَمَلِيَّةِ أَصَابَهُ نِفَاقٌ وَرِيَاءٌ.
وَمَنْ زَادَتْ قُوَّتُهُ الْعَمَلِيَّةُ عَلَى قُوَّتِهِ الْعِلْمِيَّةِ سَارَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَوَقَعَ فِي الِابْتِدَاعِ؛ لِأَنَّهُ يَعْبُدُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَمَنْ عَبَدَ اللهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَهُوَ مُبْتَدِعٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَى مُقْتَضَى الْوَارِدِ كِتَابًا وَسُنَّةً.
فَالْعِبَادَةُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، لَا مَجَالَ فِيهَا لِرَأْيٍ، وَلَا مَجَالَ فِيهَا لِاجْتِهَادٍ.
الْعِبَادَةُ مُقَنَّنَةٌ، مُؤَقَّتَةٌ، مَشْرُوطَةٌ، ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))؛ أَيْ: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ.
فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ رِيَاحُ السَّعَادَةِ، وَهَبَّتْ عَلَيْهِ بِسُكُونِهَا، حَتَّى يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى قَرَارِهِ؛ مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بِالتَّوَازُنِ بَيْنَ قُوَّتَيْهِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا))، فَمَا تَعَلَّمُوا أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إِلَّا عَمِلُوا بِهِ.
وَلَا فَارِقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِزَمَانٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.
((رِضَا اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنِ التَّابِعِينَ وَفَضْلُهُمْ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَصْطَفِي مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَعْمَلُ لِدِينِهِ وَيُخْلِصُ لَهُ -سُبْحَانَهُ- وَلِرِسَالَتِهِ، وَالصَّحَابَةُ صَفْوَةُ قُرُونِ الْأُمَّةِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((خَيرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). أَخْرَجَهُ الشَّيخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
((وَالْمُرَادُ بِقَرْنِهِ: الصَّحَابَةُ، وَبِالَّذِينَ يَلُونَهُمُ: التَّابِعُونَ، وَبِالَّذِينَ يَلُونَهُمْ: تَابِعُو التَّابِعِينَ».
فَـ((يَلِي الصَّحَابَةَ فِي الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَنْزِلَةِ أَئِمَّةُ الْهُدَى مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمُفَضَّلَةِ، وَمَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ تَبِعَ الصَّحَابَةَ بِإِحْسَانٍ، فَلَا يَجُوزُ تَنَقُّصُهُمْ وَلَا سَبُّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى)).
وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَرِضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ؛ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
((السَّابِقُونَ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا هَذِهِ الْأُمَّةَ وَبَدَرُوهَا إِلَى الْإِيمَانِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ، {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ}: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
{وَ} مِنَ {الْأَنْصَارِ}: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}: بِالِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ سَلِمُوا مِنَ الذَّمِّ، وَحَصَلَ لَهُمْ نِهَايَةُ الْمَدْحِ، وَأَفْضَلُ الْكَرَامَاتِ مِنَ اللهِ.
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}: وَرِضَاهُ -تَعَالَى- أَكْبَرُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، {وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} الْجَارِيَةُ الَّتِي تُسَاقُ إِلَى سَقْيِ الْجِنَانِ وَالْحَدَائِقِ الزَّاهِيَةِ الزَّاهِرَةِ وَالرِّيَاضِ النَّاضِرَةِ.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، وَلَا يَطْلُبُونَ مِنْهَا بَدَلًا؛ لِأَنَّهُمْ مَهْمَا تَمَنَّوْهُ أَدْرَكُوهُ، وَمَهْمَا أَرَادُوهُ وَجَدُوهُ.
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ فِيهِ كُلُّ مَحْبُوبٍ لِلنُّفُوسِ، وَلَذَّةٍ لِلْأَرْوَاحِ، وَنَعِيمٍ لِلْقُلُوبِ، وَشَهْوَةٍ لِلْأَبْدَانِ، وَانْدَفَعَ عَنْهُمْ كُلُّ مَحْذُورٍ)).
وَقَالَ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي ذِكْرِ التَّابِعِينَ بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الْجُمُعَةِ: 2]. هَذَا فِي الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-, ثُمَّ قَالَ فِي التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الْجُمُعَةِ: 3-4].
وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: ((السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ, وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ, وَدِدْتُ أَنْ قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا)).
قَالُوا: ((أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).
قَالَ: ((أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ)). الْحَدِيثَ.
وَفِي ((الْمُسْنَدِ)) عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي)).
قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ: ((نَحْنُ إِخْوَانُكَ)).
قَالَ: ((أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنَّ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي)). إِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَقَدْ صُحِّحَ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَفِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي, وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي -سَبْعَ مَرَّاتٍ-)). وَقَدْ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ بِشَوَاهِدِهِ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا سَبَقُونَا بِهِ, فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ((إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ, وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ, ثُمَّ قَرَأَ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُفْلِحُونَ} [الْبَقَرَةِ: 1-5])). قَالَ الْحَاكِمُ: ((صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا))، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَبِالْجُمْلَةِ:
فَكُلُّهُمْ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ=أَثْنَى عَلَيْهِمْ خَالِقُ الْأَكْوَانِ
لَقَدْ رَتَّبَ اللهُ -تَعَالَى- فِي سُورَةِ الْحَشْرِ الصَّحَابَةَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَتَفَاضُلِهِمْ, ثُمَّ أَرْدَفَهُمْ بِذِكْرِ التَّابِعِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الْحَشْرِ: 8-10].
وَقَدْ أَيَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ- بِبَعْضِ الْكَرَامَاتِ، وَ((كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ حَقٌّ، وَهُوَ ظُهُورُ الْأَمْرِ الْخَارِقِ عَلَى أَيْدِيهِمُ الَّذِي لَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ التَّحَدِّي، بَلْ يُجْرِيهِ اللهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ كَقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَأَصْحَابِ الصَّخْرَةِ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)), وَجُرَيْجٍ الرَّاهِبِ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ، وَكُلُّهَا آيَاتٌ أَوْ كُلُّهُا دَلَالَاتٌ بَاهِرَاتٌ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَلِهَذَا كَانَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ لِعِظَمِ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّهَا وَكَرَامَتِهِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, كَمَا وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي أَيَّامِ الرِّدَّةِ، وَكَنِدَاءِ عُمَرَ لِسَارِيَةَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَأَبْلَغَهُ وَهُوَ بِالشَّامِ؛ ((يَا سَارِيَةُ! الْجَبَلَ الْجَبَلَ))، فَسَمِعَهُ سَارِيَةُ وَهُوَ فِي الشَّامِ وَعُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ فِي مَسْجِدِهِ ﷺ، وَكَخَيْلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ؛ إِذْ خَاضَ بِهَا الْبَحْرَ فِي غَزْوِ الرُّومِ, وَكَصَلَاةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوَلَانِيِّ فِي النَّارِ الَّتِي أَوْقَدَهَا لَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعْدَهُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى الْآنَ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَكُلُّهَا فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هِيَ كَرَامَاتٌ لِنَبِيِّنَا ﷺ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا نَالُوا ذَاكَ بِمُتَابَعَتِهِ, فَإِنِ اتَّفَقَ شَيْءٌ مِنَ الْخَوَارِقِ لِغَيْرِ مُتَّبِعِ النَّبِيِّ ﷺ فَهِيَ فِتْنَةٌ وَشَعْوَذَةٌ لَا كَرَامَةَ, وَلَيْسَ مَنِ اتَّفَقَتْ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الشَّعْوَذَاتِ وَالْفِتَنِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ بَلْ هُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
وَأَوْلِيَاءُ اللهِ هُمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاتَّقَاهُ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ ﷺ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فَكُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ هُوَ للهِ وَلِيٌّ، بَيَّنَهُمْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} الْآيَاتِ [يونس: 62-63].
وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَمَا تَقُولُ فِي سَعِيدٍ بَعْدَمَا قَالَ فِيهِ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مَاتَ سَعِيدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَّا وَكُلُّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مُفْتَقِرٌ إِلَى عِلْمِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-))؟!!
وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ شَابٌّ، كَانَ لَهُ دِيكٌ فَكَانَ فِي السَّحَرِ يُؤَذِّنُ -أَيْ: هَذا الدِّيكُ- وَيَصِيحُ، فَيَقُومُ سَعِيدٌ إِلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَفِي لَيْلَةٍ لَمْ يَسْمَعْ صِيَاحَ الدِّيكِ، فَلَمْ يَقُمْ لِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَقَامَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ مُتَنَكِّدًا، فَقَالَ وَأُمُّهُ تَسْمَعُ: ((مَا لَهُ -أَيْ: مَا لِهَذَا الدِّيكِ لَمْ يَصِحْ؟!!- قَطَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صَوْتَهُ)).
فَلَمْ يُسْمَعْ لِهَذَا الدِّيكِ صَوْتٌ بَعْدَهَا قَطُّ!!
قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: ((يَا وَلَدِي! لَا تَدْعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهَا أَبَدًا)) -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لِأَنَّهَا مَارَسَتْ أَنَّهُ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَشْفَقَتْ فِي ثَوْرَةِ غَضَبٍ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيُصِيبُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَقْتَلِ، وَيَتَنَدَّمُ مِنْ بَعْدِهَا سَعِيدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-.
((أَهَمِّيَّةُ مَعْرِفَةِ سِيَرِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ))
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْرِفَ نَفْسَهُ، وَعَلَى كُلِّ مُشْتَغِلٍ بِالْعِلْمِ مِنْ طَالِبِ هِدَايَةٍ يَنْفَعُهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا فِي نَفْسِهِ، وَهَذَا أَوَّلُ قَصْدِ طَالِبِ الْعِلْمِ؛ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَعْرِفَ رَبَّهُ، وَلِكَيْ يَعْرِفَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، فَيُوَحِّدُهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَيَمْتَثِلُ أَمْرَهُ، وَيَجْتَنِبُ نَهْيَهُ.
عَلَى كُلِّ مُشْتَغِلٍ بِالْعِلْمِ مِنْ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ وَدَاعٍ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَنْظُرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ السَّابِقِينَ، فَإِنَّمَا أُتِيَ الْقَوْمُ مِنْ قِبَلِ جَهْلِهِمْ بِسِيَرِ سَلَفِهِمُ الْمُتَقَدِّمِينَ!!
وَعَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ أَلَّا يُعَوِّلُوا عَلَى الْمُعَاصِرِينَ فَلَيْسُوا بِأَمْثِلَةٍ تُحْتَذَى، وَعَلَيْكُمْ بِأَنْ تَكُونُوا أَصْحَابَ هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، فَانْظُرُوا إِلَى سَلَفِكُمُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتِكُمُ السَّالِفِينَ، وَقُصُّوا عَلَى أَثَرِهِمْ؛ حَتَّى تُفْلِحُوا وَتَنْجَحُوا بِإِذْنِ رَبِّكُمْ.
((هَذَا هُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -وَقَارِنْ بَيْنَ حَالِهِ وَحَالِ جُمْلَةٍ مِنَ الْمُتَصَدِّرِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ-، أَرَادَ رَجُلٌ مِنْ طُلَّابِهِ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ، فَمَنَعَهُ!!
فَقَالَ: أَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تُقَبَّلَ يَدُ الْعَالِمِ؟!!
قَالَ: نَعَم، وَلَكِنْ هَلْ رَأَيْتَ عَالِمًا؟!! وَمَنَعَهُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-)).
فَهَذَا نَظَرُهُ إِلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ بِالَّذِينَ يَبْسُطُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِتُلْعَقَ؟!!
وَعَلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ أَلَّا يَفْعَلُوا ذَلِك، وَلِمَ يَفْعَلُونَ؟!! وَأَيُّ جَدْوَى مِنْ وَرَائِهِ؟!! إِنَّمَا هُوَ فِتْنَةٌ عَلَى مَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذَلَّةٌ لِمَنْ فَعَلَهُ، فَدَعُونَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَتَأَمَّلُوا فِي حَالِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ!
هَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً- قَالَ لَهُ رَجُلٌ: ((بَلَغَنِي يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَنَّكَ مِنَ الْعَرَبِ)).
فَقَالَ: ((نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ)).
فَقَالَ: ((وَلَكِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ مِنَ الْعَرَبِ)).
قَالَ: ((نَحْنُ قَوْمٌ مَسَاكِينُ)).
فَمَا زَالَ يُدَافِعُهُ حَتَّى خَرَجَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، وَهُوَ مِنَ الْعَرَبِ صَلِيبَةً -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
يَأْتِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الشَّمَالِ، فَيْنُظُرُ فِي وَجْهِهِ وَيَقُولُ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ نِيَّةٍ فِي سَفَرِي هَذَا عَلَى طُولِهِ إِلَّا أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجْهِكَ ثُمَّ أَعُودُ، وَأَنَا الْآنَ أَعُودُ، وَأَنَا الْآنَ أَعُودُ، وَأُبَشِّرُكَ إِنَّا كُنَّا إِذَا حَاصَرْنَا قَوْمًا فَاسْتَعْصَى عَلَيْنَا الْحِصْنُ، وَكَانَ الْعِلْجُ يَكُونُ عَلَى ظَهْرِ الْحِصْنِ؛ ضَرَبْنَا بِالْمِنْجَنِيقِ الْحَجَرَ نَقُولُ: هَذِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ حَتَّى يُطَاحَ بِرَأْسِهِ!!)).
فَبَكَى أَحْمَدُ وَقَالَ: ((لِمَ هَذَا؟!! وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ هَذَا؟!!)).
لَا يَرَى نَفْسَهُ شَيْئًا!!
وَهَذَا هُوَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؛ لِأَنِّي تَبَسَّمْتُ إِذْ تُحَرِّكُ رَأْسَكَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً -وَالرَّجُلُ ضَرِيرٌ لَا يُبْصِرُ تَبَسُّمَهُ-، فَقَالَ: اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ، لَا أَلْقَى اللهَ وَهِيَ فِي صَحِيفَتِي!!)).
أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟!!
هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَئِمَّةُ؛ فَاقْتَدُوا بِهِمْ، وَدَعُوكُمْ مِنْ قَوَاطِي الصَّلْصَةِ، فَقَدْ أَضَلُّوا الْعِبَادَ وَأَفْسَدُوا الْبِلَادَ!!
وَأَنَّا أَوَّلُكُمْ أَقْتَدِي بِأُولَئِكَ، نَحْنُ جَمِيعًا طُلَّابُ عِلْمٍ، وَأَنَا طُوَيْلِبُ عِلْمٍ، لَمْ أَرْقَ بَعْدُ أَنْ أَكُونَ طَالِبَهُ، وَإِنَّمَا أَنَا طُوَيْلِبُ عِلْمٍ، أَقْتَدِي بِسَلَفِي الصَّالِحِينَ، وَأَجْتَهِدُ فِي الْقَصِّ عَلَى آثَارِهِمْ؛ فِي حَيَاتِهِمْ، فِي مَطْعَمِهِمْ، فِي مَشْرَبِهِمْ، فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ، فِي سُلُوكِيَّاتِهِمْ.
دَعُونَا مِنْ هَذَا الْوَغَشِ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَيْنَا الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَعُودُوا إِلَى الْحَقِّ تُفْلِحُوا.
وَالنَّاسُ لَوْ عَرَفُوا الْجَنَّةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا مَا نَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلَةً، لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا مُشْتَاقِينَ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ يَقُولُ: ((وَاهًا لَكِ يَا رِيحُ الْجَنَّةِ!))، ((إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ))، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْكَسْرَةُ كَانَتْ حَاضِرَةً، فَلَمَّا جَاءَهُ رُمْحٌ غَادِرٌ، فَانْتَظَمَ حَبَّةَ قَلْبِهِ، فَانْفَجَرَتِ الدِّمَاءُ مِنْ أَمَامَ كَالنَّافُورَةِ، كَانَ يَحْفِنُهَا بِيَدَيْهِ لِيُلْقِيَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: ((فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!! فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!!))؛ لِأَنَّهَا انْتِقَالَةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ؛ مِنْ زَاوِيَةِ الدَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ وَنِعْمَ الْقَرَارُ، لَا مِنْ زَاوِيَةِ الدَّارِ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ.
لَوْ عَرَفَ النَّاسُ النَّارَ؛ مَا رَقَأَ لَهُمْ جَفْنٌ مِنْ دَمْعٍ، وَمَا اسْتَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَنْبٌ عَلَى فِرَاشٍ!!
كَانَ السَّلَفُ إِذَا بَلَغَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يُعْرَفُ لَهُ فِي الْبَيْتِ فِرَاشٌ، وَإِنَّمَا يَنَامُ نَوْمَ الْغَلَبَةِ، وَنَوْمُ الصَّالِحِينَ غَلَبَةٌ.
لَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مِنْ شِدَّةِ الطَّلَبِ -طَلَبِ الْعِلْمِ- يَنَامُ قَاعِدًا، ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ لَمْ يَضَعْ جَنْبًا عَلَى فِرَاشٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنَامُ قَاعِدًا مِنْ شِدَّةِ الطَّلَبِ لِلْعِلْمِ، وَمَاتَ شَابًّا -كَمَا تَعْلَمُونَ-، وَخَلَّفَ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَالَّذِينَ هُمْ فِي مِثْلِ سِنِّهِ الَّتِي مَاتَ عَنْهَا مَا زَالُوا يَلْعَبُونَ فِي التُّرَابِ فِي الشَّوَارِعِ، هِمَمُهُمْ دَانِيَةٌ، بَلْ هِمَمُهُمْ مَيِّتَةٌ، وَلَا شَغَفَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَلَذَّاتِ، وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَارِ، وَالْوُقُوعِ فِيمَا يُغْضِبُ الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ، وَإِنَّمَا أُتِيَ الْقَوْمُ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِسِيرَةِ السَّلَفِ.
تَأَمَّلْ كَثِيرًا فِي سِيَرِ سَلَفِكَ الصَّالِحِينَ؛ حَتَّى تَعْرِفَ الرِّجَالَ بِحَقٍّ، وَحَتَّى تَعْرِفَ مَثَلَكَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَهْلِ زَمَانِكَ فَلَنْ تَجِدَ فِيهِمْ وَاحِدًا مَهْمَا بَلَغَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ لَكَ قُدْوَةً، قُدْوَتُكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قُدْوَتُكَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، فَلْتَكُنْ هِمَّتُكَ عَالِيَةً، أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ فُلَانٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عَصْرِكَ، مَنْ يَكُونُ؟!!
مَا حِفْظُهُ؟!!
وَمَا فَهْمُهُ؟!!
وَمَا عِبَادَتُهُ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ مِثْلَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، كَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَالذَّهَبِيِّ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَتِلْكَ الْكَوْكَبَةِ الصَّالِحَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ؟!!
ثُمَّ تَقَدَّمْ قَلِيلًا فَتَأَمَّلْ فِي الْأَئِمَّةِ وَحَالِهِمْ؛ لِمَ لَا تَكُونُ كَالشَّافِعِيِّ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَأَحْمَدَ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَمَالِكٍ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَالْأَوْزَاعِيِّ؟!!
لِمَ لَا تَكُونُ كَأَحَدِ السُّفْيَانَيْنِ؟!!
ثُمَّ تَقَدَّمْ قَلِيلًا حَتَّى تَصِلَ إِلَى أَصْحَابِ نَبِيِّكَ، ثُمَّ تَقَدَّمْ حَتَّى تَصِلَ إِلَى نَبِيِّكَ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
لِتَكُنْ هِمَّتُكَ عَالِيَةً كَالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُزَحْزِحَنِي عَنِ النَّارِ)).
هَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْفَوْزِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 85]، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يُزَحْزِحْكَ!! مَاذَا يَكُونُ الْعَمَلُ؟!!
يَا أَخِي! إِذَا دَعَوْتَ فَقُلْ: أَسْأَلُكَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَكَ أَدْخَلَكَ جَنَّةَ عَدْنٍ، أَوْ جَنَّةَ الْخُلْدِ، أَوْ جَنَّةَ الْمَأْوَى، أَمَّا ((زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ!!)) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لَكَ وَلَمْ يُزَحْزِحْكَ؛ دَخَلْتَ النَّارَ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ وَالسَّتْرَ-.
((إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ الْجَنَّةَ، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى))، لِيَكُنْ لِسَانُكَ دَائِمًا رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ، لَا تُضَيِّعْ عُمُرَكَ وَلَا ثَانِيَةً.
عَامِرُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ لَا يُضَيِّعُ مِنْ عُمُرِهِ وَلَا ثَانِيَةً، لَقِيَهُ رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ لَهُ: ((قِفْ حَتَّى أُكَلِّمَكَ!)).
قَالَ: ((لَا)).
قَالَ: ((أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً)).
قَالَ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ))؛ يَعْنِي: اجْعَلْ هَذَا الزَّمَانَ لَيْسَ مِنْ عُمُرِي، أَمْسِكِ الشَّمْسَ وَأَنَا أُكَلِّمُكَ!!
لِأَنَّا نُكَلِّمُ بَعْضَنَا فِي أَيِّ شَيْءٍ، كَلَامُنَا لَغْوٌ، لَوْ مَرَّ لَا لَنَا وَلَا عَلَيْنَا لَكَانَ ضَيَاعًا لِرَأْسِ الْمَالِ؛ فَكَيْفَ وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَمُرُّ إِلَّا عَلَيْكَ؟!!
وَتَأَمَّلْ أَيَّ مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِكَ مَعَ أَخْلَصِ خُلَصَائِكِ مِنْ إِخْوَانِكَ، أَتُذَكِّرُهُ بِاللهِ وَيُذَكِّرُكَ؟!!
أَتَأْخُذَانِ فِي مُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ؟!!
هُوَ كَلَامٌ.. غِيبَةٌ أَوْ وُقُوعٌ فِي الْأَعْرَاضِ، كَلَامٌ فِيمَا لَا يُجْدِي وَلَا يَنْفَعُ، تَأَمَّلْ فِي حَالِكَ وَتُبْ إِلَى رَبِّكَ!
((دُرُوسٌ عَظِيمَةٌ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ))
إِنَّ طَرِيقَ الْخَلَاصِ مِنَ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ: هُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَهُمُ الَّذِينَ يَسِيرُونَ عَلَى أَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ مِنْهَاجَ النُّبُوَّةِ، لَا يَعْدِلُونَ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَحِيدُونَ عَنْهُ.
وَطَرِيقُ الْخَلَاصِ: اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ قَوْلًا وَعَمَلًا وَاعْتِقَادًا، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِمْ، وَعَدَمُ الشُّذُوذِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مَعَهُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))، فَهَذِهِ هِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وَمَنْ أَوْلَى بِأَنْ يَصْدُقَ عَلَى سَبِيلِهِ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ؟!! {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ -وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ- هُوَ سَبِيلُ النَّجَاةِ، لَا سَبِيلَ لِلنَّجَاةِ إِلَّا هَذَا؛ أَنْ تَتَّبِعَ نَهْجَ سَلَفِكَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّكَ الْأَمِينِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
((مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
صِحَّةُ الْمُعْتَقَدِ وَسَلَامَةُ الْمَنْهَجِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَقَاةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: اسْتِقَامَةَ الْمُعْتَقَدِ وَسَلَامَةَ الْمَنْهَجِ، وَهَذِهِ بَعْضُ الْآثَارِ عَنِ التَّابِعِينَ فِي حَثِّهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ.
قَالَ مُحمَّدُ بْنُ سِيرِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانُوا يَقولُونَ: إِذَا كَانَ الرَّجلُ عَلَى الْأَثَرِ فَهُوَ عَلَى الطَّرِيقِ)).
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ ألَّا يَحُكَّ رَأْسَهُ إِلَّا بِأَثَرٍ)).
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ((عَلَيْكُمْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا)).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((اصْبِرْ نَفْسَكَ عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، وَقُلْ بِمَا قَالُوا، وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا عَنْهُ، وَاسْلُكْ سَبِيلَ سَلَفِكَ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ يَسَعُكَ مَا وَسِعَهُمْ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوا لَكَ القَوْلَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْجَلِي حِينَ يَنْجَلِي وَأَنْتَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُستَقِيمٍ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ((أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا: التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَتَرْكُ الْبِدَعِ)).
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُودَ فِي ((سُنَنِهِ)) (4612) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي وَصِيَّةٍ لَهُ: ((أَمَّا بَعْدُ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالِاقتِصَادِ فِي أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَتَرْكِ مَا أَحْدَثَ المُحْدِثُونَ بَعْدَمَا جَرَتْ بِهِ سُنَّتُهُ وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ، فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا لَكَ -بِإِذْنِ اللَّهِ- عِصْمَةٌ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعِ النَّاسُ بِدْعَةً إِلَّا قَدْ مَضَى قَبْلَهَا مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا أَوْ عِبْرَةٌ فِيهَا، فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَلِمَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ، فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ لِأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفُّوا، وَهُمْ عَلَى كَشْفِ الْأُمُورِ كَانُوا أَقْوَى، وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ الْهُدَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ: إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُم مَا أَحْدَثَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّهُم هُمُ السَّابِقُونَ، فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مِنْ مَقْصَرٍ، وَمَا فَوْقَهُم مِنْ مَحْسَرٍ، وَقَد قَصَّرَ قَوْمٌ دُونَهُم فَجَفَوْا، وَطَمَحَ عَنْهُم أَقْوَامٌ فَغَلَوْا، وَإِنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ)).
وَقَالَ الْآجُرِّيُّ: فِي ((الشَّرِيعَةِ)) (1/301): ((عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيرًا سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ؛ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَنِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وسُنَنِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمَنِ اتَّبَعَهُم بِإِحْسَانٍ، وَمَا كَانَ عَلَيهِ أَئمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ، إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ مِثْلِ: الْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفيَانَ الثَّورِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، ومَنْ كَانَ عَلَى مِثلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةِ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ)).
وَمَا زَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ يَدْعُونَ إِلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَسُلُوكِ طَرِيقِهِمْ وَاتِّبَاعِ آثَارِهِمْ.
وَمِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الدَّرْسِ الْعَظِيمِ -صِحَّةِ الْمُعْتَقَدِ وَسَلَامَةِ الْمَنْهَجِ وَنَقَائِهِ-: إِثْبَاتُ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- لِـ((عُلُوِّ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ الْمَجِيدِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ؛ فَقَدْ رَوَى الدَّارِمِيُّ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: ((وَأَيْمُ اللهِ! لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ قَتْلَهُ لَقَتَلْتُهُ -يَعْنِي: عُثْمَانَ-، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ فَوْقَ عَرْشِهِ أَنِّي لَا أُحِبُّ قَتْلَهُ)).
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْأَقْمَرِ: ((كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: يَا رَبِّ! أَنْتَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ، فَكَيْفَ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ رِضَاكَ وَغَضَبَكَ؟
قَالَ: إِذَا رَضِيتُ عَلَيْكُمُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ خِيَارَكُمْ، وَإِذَا غَضِبْتُ اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ)). رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: ((لَوْ سُئِلْتُ: أَيْنَ اللهُ؟ لَقُلْتُ: فِي السَّمَاءِ)).
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: ((قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي التَّوْرَاةِ: أَنَا اللهُ فَوْقَ عِبَادِي، وَعَرْشِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِي، وَأَنَا عَلَى عَرْشِي أُدَبِّرُ أُمُورَ عِبَادِي، لَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ)).
وَقَالَ مُقَاتِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (({وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] .
قَالَ: بِعِلْمِهِ يَعْلَمُ نَجْوَاهُمْ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُمْ، وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ)).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي الْآيَةِ: ((هُوَ اللهُ عَلَى الْعَرْشِ، وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ)).
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ((يَنْزِلُ الرَّبُّ شَطْرَ اللَّيْلِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرُ لَهُ؟ حَتَّى إِذَا كَانَ الْفَجْرُ صَعِدَ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: ((كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ: إِنَّ اللهَ -تَعَالَى جَلَّ ذِكْرُهُ- فَوْقَ عَرْشِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ)).
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)): ((عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمُ التَّأْوِيلُ -التَّأْوِيلُ: بِمَعْنِى: التَّفْسِيرُ- قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ...} الْآيَةَ [المجادلة: 7]: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ)).
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ ((السُّنَّةِ)) عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: ((سُئِلَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ الْأَحَادِيثِ، فَقَالَا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ)).
وَرَوَى -أَيْضًا- عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ، عَنِ الْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي الصِّفَاتِ، فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَقَالُوا: أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ)).
فَقَوْلُهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ)) رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ، وَقَوْلُهُمْ: ((بِلَا كَيْفٍ)) رَدٌّ عَلَى الْمُمَثِّلَةِ.
وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ هُمَا أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَانِهِمْ، وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ هُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ: فَمَالِكٌ إِمَامُ الْحِجَازِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ -يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ- إِمَامُ أَهْلِ مِصْرَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَآرَاءَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ لَكَ بِالْقَوْلِ)).
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: (({وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}، قَالَ: عِلْمُهُ)).
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادٍ كُلُّ رِجَالِهِ أَئِمَّةٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: ((سُئِلَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كَيْفَ اسْتَوَى؟
قَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ)). وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ تِلْمِيذِ رَبِيعَةَ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الْعَمَلِيَّةِ -أَيْضًا- عَلَى لُزُومِ التَّابِعِينَ السُّنَّةَ، وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمَنْهَجِ السَّدِيدِ: كَفُّهُمْ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا وَنَبِيِّهِمْ ﷺ، وَسَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ لَهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي ((السُّنَّةِ)) عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ سُئِل عَمَّا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، فَقَالَ: ((أَمْرٌ أَخْرَجَ اللهُ يَدِي مِنْهُ، لَا أُدْخِلُ لِسَانِي فِيهِ)).
مِنْ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: الْإِمْسَاكُ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا دَارَ بَيْنَ الْأَصْحَابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ ابْنُ بَطَّةَ الْعُكْبَرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الشَّرْحِ وَالْإِبَانَةِ عَلَى أُصُولِ السُّنَّةِ وَالدِّيَانَةِ)): ((نَكُفُّ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ, فَقَدْ شَهِدُوا الْمَشَاهِدَ مَعَهُ, وَسَبَقُوا النَّاسَ بِالْفَضْلِ؛ فَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُمْ, وَأَمَرَكَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ, وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَحَبَّتِهِمْ, وَفَرَضَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ, وَهُوَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمْ, وَأَنَّهُمْ سَيَقْتَتِلُونَ, وَإِنَّمَا فُضِّلُوا عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ قَدْ وُضِعَ عَنْهُمْ, وَكُلُّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ)).
الَّذِي أَذْكُرُهُ ذَكَرَهُ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِهَا، يَقُولُ: ((وَلَا تَنْظُرْ فِي كِتَابِ صِفِّينَ وَالْجَمَلِ وَوَقْعَةِ الدَّارِ -أَيْ: فِي وَصْفِ مَقْتَلِ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--, وَسَائِرِ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ, وَلَا تَكْتُبْهُ لِنَفْسِكَ وَلَا لِغَيْرِكَ, وَلَا تَرْوِهِ عَنْ أَحَدٍ, وَلَا تَقْرَأْهُ عَلَى غَيْرِكَ, وَلَا تَسْمَعْهُ مِمَّنْ يَرِويهِ، فَعَلَى ذَلِكَ -يَقُولُ- اتَّفَقَ سَادَاتُ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ النَّهْيِ عَمَّا وَصَفْنَاهُ -مَا هُوَ الَّذِي وَصَفَهُ؟ يَعْنِي: مِنَ النَّظَرِ فِي كِتَابِ صِفِّينَ وَالْجَمَلِ وَوَقْعَةِ الدَّارِ وَسَائِرِ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ-.
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضًا مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ فَقَالَ: مِنْهُمْ -أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ النَّاهِينَ عَنْ ذَلِكَ- حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ, وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ, وَعَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ, وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ, وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ, وَابْنُ الْمُبَارَكِ, وَشُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ, وَأَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ, وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ, وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقُ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ قَدْ رَأَوُا النَّهْيَ عَنْهَا وَالنَّظَرَ فِيهَا -أَيْ: فِي تِلْكَ الْكُتُبِ- وَالِاسْتِمَاعَ إِلَيْهَا, وَحَذَّرُوا مِنْ طَلَبِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِجَمْعِهَا)).
فَهَذِهِ عَقِيدَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَمَّا شَجَرَ -أَيْ: عَنْ ذِكْرِ مَا شَجَرَ- بَيْنَ الصَّحَابَةِ, وَفِي وُجُوبِ الْكَفِّ عَنِ الْكَلَامِ فِيهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
((مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
لُزُومُ السُّنَّةِ فِي مُعَامَلَةِ الْحُكَّامِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ النَّظَرِ فِي سِيَرِ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-: لُزُومَ السُّنَّةِ فِي مُعَامَلَةِ الْحُكَّامِ -خَاصَّةً إِذَا كَانُوا ظَلَمَةً جَائِرِينَ-؛ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِوُلَاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ، قَلَّ أَنْ يَخْلُوَ كِتَابٌ فِيهَا مِنْ تَقْرِيرِهِ وَشَرْحِهِ وَبَيَانِهِ؛ وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِبَالِغِ أَهَمِّيَّتِهِ وَعَظِيمِ شَأْنِهِ؛ لِأَنَّهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ تَنْتَظِمُ مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، وَبِالِافْتِيَاتِ عَلَيْهِمْ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَفِي ذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنٍ آلِ الشَّيْخِ -رَحِمَ اللهُ الْجَمِيعَ-، قَالَ فِي كَلَامٍ مَتِينٍ يَكْشِفُ شَيْئًا مِنَ الشُّبَهِ الْمُلَبِّسَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ أَشَاعَهَا مِنَ الْجُهَّالِ: ((وَلَمْ يَدْرِ هَؤُلَاءِ الْمَفْتُونُونَ أَنَّ أَكْثَرَ وُلَاةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ -مِنْ عَهْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوَيَةَ حَاشَا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَنْ شَاءَ اللهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ- أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الْجَرَاءَةِ وَالْحَوَادِثِ الْعِظَامِ وَالْخُرُوجِ وَالْفَسَادِ فِي وِلَايَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَسِيرَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَالسَّادَةِ الْعِظَامِ مَعَهُمْ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، لَا يَنْزِعُونَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ فِيمَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَوَاجِبَاتِ الدِّينِ.
وَأَضْرِبُ لَكَ مَثَلًا بِالْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفيِّ، وَقَدِ اشْتُهِرَ أَمْرُهُ فِي الْأُمَّةِ بِالظُّلْمِ وَالْغَشْمِ، وَالْإِسْرَافِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَقَتْلِ مَنْ قَتَلَ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَدْ حَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَقَدْ عَاذَ بِالْحَرَمِ الشَّرِيفِ، وَاسْتَبَاحَ الْحُرْمَةَ، وَقَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فِي حَرَمِ اللهِ -تَعَالَى- الْآمِنِ، مَعَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ أَعْطَاهُ الطَّاعَةَ وَبَايَعَهُ عَامَّةُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ وَأَكْثَرِ سَوَادِ الْعِرَاقِ.
وَالْحَجَّاجُ نَائِبٌ عَنْ مَرْوَانَ، ثُمَّ عَنْ وَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ -بَلْ كَانَ نَائِبًا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحْدَهُ-، وَلَمْ يَعْهَدْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى مَرْوَانَ، وَلَمْ يُبَايِعْهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الْخِلَافَةِ بِالسَّيْفِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ فِيمَا تَسُوغُ طَاعَتُهُ فِيهِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَوَاجِبَاتِهِ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَمَنْ أَدْرَكَ الْحَجَّاجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَا يُنَازِعُونَهُ، وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا يَقُومُ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَيُكَمَّلُ بِهِ الْإِيمَانُ.
وَكَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ ذَلِكَ ظَلُومًا عَسُوفًا غَشُومًا، يَقْتُلُ عَلَى الظِّنَّةِ وَالرِّيبَةِ، وَمَا أَكْثَرَ مَا قَتَلَ وَمَنْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، حَتَّى إِنَّهُ ضَرَبَ الْكَعْبَةَ بِالْمِنْجَنِيقِ، وَحُرِّقَتْ، وَقُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي حَرَمِ اللهِ -تَعَالَى- الْآمِنِ، وَأَمَرَ بِصَلْبِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَنْكُوسًا، وَبَقِيَ كَذَلِكَ عِدَّةَ أَيَّاٍم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ-.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُبَايِعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ: ((وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا))، مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ دَوْلَةٌ بَعْدُ، وَإِنَّمَا كَانَ ﷺ يَنْطِقُ بِالْوَحْيِ الْمَعْصُومِ: ((سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْكُمْ بِالْمَالِ وَبِالْمَنَاصِبِ، فَإِذَا فَعَلُوا؛ عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ))، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَّقُوا اللهَ، وَأَلَّا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ.
كَذَلِكَ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ مِنَ التَّابِعِينَ؛ كَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَأَشْبَاهِهِمْ وَنُظَرَائِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا، يَأْمُرُونَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ مَعَ كلِّ إِمَامٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ -كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالْعَقَائِدِ-.
وَكَذَلِكَ بَنُو الْعَبَّاسِ اسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ قَهْرًا بَالسَّيْفِ، لَمْ يُسَاعِدْهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا مِن بَنِي أُمَيَّةَ وَأُمَرَائِهِمْ وَنُوَّابِهِمْ، وَقَتَلُوا ابْنَ هُبَيْرَةَ أَمِيرَ الْعِرَاقِ، وَقَتَلُوا الْخَلِيفَةَ الْأُمَوِيَّ مَرْوَانَ، حَتَّى نُقِلَ أَنَّ السَّفَاحَ قَتَلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ نَحْوَ الثَّمَانِينَ مِنْ بَنِي أُمِيَّةَ، وَوَضَعَ الْفُرُشَ عَلَى جُثَثِهِمْ وَجَلَسَ عَلَيْهَا، وَدَعَا بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَسِيرَةُ الْأَئِمَّةِ كَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَعَطَاءِ ابْنِ أَبِي رَبَاحٍ مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي الْعِلْمِ وَاطِّلَاعٌ.
وَالطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ نُوحٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَه، وَإِخْوَانِهِمْ؛ وَقَعَ فِي عَصْرِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ مَا وَقَعَ مِنَ الْبِدَعِ الْعِظَامِ وَإِنْكَارِ صِفَاتِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، ودَعَوْا إِلَى ذَلِكَ، وَامَتَحَنُوا فِيهِ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ؛ كَأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَا رَأَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ)).
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْوُلَاةِ يَكُونُ بِلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِطَاعَةِ الْوُلَاةِ وَإِنْ جَارُوا وَارْتَكَبُوا الْمَعَاصِي، فَإِنَّ إِثْمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاللهِ لَوْ أَنَّ النَّاسَ إِذَا ابْتُلُوا مِنْ قِبَلِ سَلَاطِينِهِمْ صَبَرُوا؛ مَا لَبِثُوا أَنْ يَرْفَعَ اللهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْزَعُونَ إِلَى السَّيْفِ فَيُوكَلُوا إِلَيْهِ، وَوَاللهِ مَا جَاءُوا بِيَوْمٍ خَيْرٍ قَطُّ))، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ -تَعَالَى-: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].
((مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَقَاةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
الْحَذَرُ الشَّدِيدُ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ))
وَمِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَقَاةِ مِنْ دِرَاسَةِ سِيَرِ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ أَجْمَعِينَ-: الْحَذَرُ الشَّدِيدُ وَالْخَوْفُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي جَرِيرَةِ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كُنَّا عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! جِئْتُكَ مِنْ مَسِيرَةِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، حَمَّلَنِي أَهْلُ بَلَدِي مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا)).
قَالَ: ((سَلْ!)).
فَسَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أُحْسِنُهَا.
قَالَ: ((فَبُهِتَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ!!)).
فَقَالَ: ((أَيَّ شَيْءٍ أَقُولُ لِأَهْلِ بَلَدِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَيْهِمْ؟!!)).
قَالَ: تَقُولُ لَهُمْ، قَالَ مَالِكٌ: ((لَا أُحْسِنُ)).
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((سَمِعْتُ مَالِكًا -وَذَكَرَ قَوْلَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ-: ((لَأَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ جَاهِلًا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقُولَ عَلَى اللهِ مَا لَا يَعْلَمُ)).
ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَقَدْ خَصَّهُ اللهُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضْلِ يَقُولُ: لَا أَدْرِي)).
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ((حَدَّثَنِي مَالِكٌ قَالَ: ((وَكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَسَيِّدَ الْعَالِمِينَ يُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ، فَلَا يُجِيبُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ)).
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ: ((قَالَ مَالِكٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ((إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ لَا أَدْرِي؛ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ)).
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((إِذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لَا أَعْلَمُ؛ فَقَدْ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ)).
فَهَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ فِي تَرْكِ الدَّعْوَى لِمَا لَا يُحْسِنُونَهُ, وَفِي هَضْمِ النَّفْسِ وَبَذْلِ النُّصْحِ, حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ، وَمَا فِي قَلْبِي مِنْ عِلْمٍ إِلَّا وَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ)).
وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: ((سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَذَكَرَ مَا وُضَعَ مِنْ كُتُبِهِ، فَقَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ الْخَلْقَ تَعَلَّمَهُ وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَبَدًا)).
وَعَنْ حَرْمَلَةَ بَنِ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: ((وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٌ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمَهُ النَّاسُ، أُوجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونِي)).
((مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
هَجْرُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالتَّحْذِيرُ مِنْهُمْ وَمِنْ بِدَعِهِمْ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: هَجْرَ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالتَّحْذِيرَ مِنْهُمْ وَمِنْ بِدَعِهِمْ؛ فَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْبِدَعِ وَالْهَوَى أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ دِينِنَا الْحَنِيفِ؛ حِفْظًا لِلشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَحِمَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ.
وَمُجَالَسَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِيهَا مَفْسَدَتَانِ:
فَمَفْسَدَةٌ هِيَ: سَمَاعُ الْمُنْكَرِ بِمُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ.
وَمَفْسَدَةٌ أُخْرَى تَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَهِيَ: أَنَّهُ تُتَّخَذُ حَالُهُ هَذِهِ سَبِيلًا لِإِيقَاعِ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِ الْأَغْرَارِ الْأَغْمَارِ وَفِي أَفْئِدَةِ الْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ فَيُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا يُجَالِسُنَا وَهُوَ مَعَنَا، وَنَحْنُ جَمِيعًا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا مِمَّا يَسُوغُ، فَلِمَاذَا تُجَانِبُونَنَا؟!! وَلِمَاذَا تُقَاطِعُونَنَا؟!! فَيَقَعُ زَيْغٌ كَبِيرٌ.
وَقَدْ حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
فَعَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: «أَدْرَكْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَابْنَ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيَّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ، وَعَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسًا، وَمُجَاهِدًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَالزُّهْرِيَّ، وَمَكْحُولًا، وَالْقَاسِمَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، وَثَابِتًا الْبُنَانِيَّ، وَالْحَكَمَ بْنَ عُيَيْنَةَ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيَّ، وَحَمَّادًا، وَمُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، وَأَبَا عَامِرٍ -وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ-، وَيَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى، كُلُّهُمْ يَأْمُرُونَنِي بالْجَمَاعَةِ، وَيَنْهَوْنَنِي عَنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ».
هَذَا أَصْلٌ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: مُجَانَبَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَعَدَمُ مُجَالَسَتِهِمْ، وَعَدَمُ مُعَاشَرَتِهِمْ، مَعَ الْبُعْدِ الْكَامِلِ عَنْهُمْ، وَالْحَذَرِ مِنْ سَمَاعِ مَقُولَاتِهِمُ الزَّائِغَةِ وَأَقْوَالِهِمُ الْمُرْدِيَةِ.
أَهْلُ الْأَهْوَاءِ آفَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ إِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ النَّبِيَّ ﷺ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَيَتَصَيَّدُونَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَسَنِ الْجُهَّالَ مِنَ النَّاسِ، فَيَقْذِفُونَ بِهِمْ فِي الْمَهَالِكَ، فَمَا أَشْبَهَهُمْ بِمَنْ يَسْقِي الصَّبْرَ بِاسْمِ الْعَسَلِ، وَمَنْ يَسْقِي السُّمَّ الْقَاتِلَ بِاسْمِ التَّرْيَاقِ.
فَأَبْصِرْهُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْمَاءِ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْأَهْوَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْمَقُ غَوْرًا، وَأَشَدُّ اضْطِرَابًا، وَأَكْثَرُ صَوَاعِقًا، وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا مِنَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ.
فَفُلْكُ مَطِيَّتِكَ الَّتِي تَقْطَعُ بِهَا سَفَرَ الضَّلَالِ اتِّبَاعُ سُنَّةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ، وَإِلَّا ضَلَّتْ بِكَ سَفِينَتُكَ فِي بَحْرِ الْأَهْوَاءِ، وَعَصَفَتْ بِكَ عَوَاصِفُهَا، وَابْتَلَعَتْكَ أَمْوَاهُهَا بَعْدُ، وَهُوَ الضَّيَاعُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ إِلَّا الضَّيَاعُ.
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَنْ جَلَسَ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ فَاحْذَرْهُ، وَمَنْ جَلَسَ مَعَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ لَمْ يُعْطَ الْحِكْمَةَ، وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حِصْنٌ مِنْ حَدِيدٍ، آكُلُ مَعَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ عِنْدَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ».
وَقَالَ حَبِيبُ ابْنُ أَبِي الزِّبْرِقَانِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ إِذَا سَمِعَ كَلِمَةً مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ؛ وَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أُكَلِّمَهُ حَتَّى يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ».
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ هَوًى؛ فَيَقْذِفَ فِي قَلْبِكَ مَا تَتْبَعُهُ عَلَيْهِ فَتَهْلِكَ، أَوْ تُخَالِفُهُ فَيَمْرَضُ قَلْبُكَ».
مُجَالَسَتُهُمْ مُمْرِضَةٌ لِلْقُلُوبِ، وَهُمْ أَعْظَمُ مِنَ السُّرَّاقِ الَّذِينَ يَسْرِقُونَ الْأَمْوَالَ؛ فَالْأَمْوَالُ تُسْتَدْرَكُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَسْرِقُونَ قُلُوبَ الْعِبَادِ، وَهَذِهِ لَا تُرَدُّ وَلَا تُسْتَدْرَكُ.
وَالْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ -حَتَّى مِنْ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ- مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَاشَرَةَ وَالْمُخَالَطَةَ يَحْدَثُ فِيهَا سَرِقَةُ الطِّبَاعِ.
هِجْرَانُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَرْكُ مُجَالَسَتِهِمْ، وَتَرْكُ السَّمَاعِ لَهُمْ، وَتَرْكُ النَّظَرِ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِتْلَافُ مَا تَحَصَّلَ مِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ لَديْكَ، هَذَا كُلُّهُ مِنْ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَمِنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ، وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.
فَهَذَا مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالتَّنْجِيمِ -وَذَكَرَ كُتُبًا، ثُمَّ قَالَ-: وَكُتُبُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا هِيَ كُتُبُ أَصْحَابِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْقَضَاءِ بِالنُّجُومِ وَعَزَائِمِ الْجِنِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((الْجَامِعِ)) يَرْوِي طَرَفًا مِمَّا قَالَ مَالِكٌ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ شَارِحًا: ((هَذِهِ الْكُتُبُ الْمُضِلَّةُ هِيَ الَّتِي حَرَفَتِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَصَّلَ فِيهَا الْمُبْتَدِعَةُ أُصُولَهُمُ الْفَاسِدَةَ، وَدَسُّوا فِيهَا سُمَّهُمْ فِي عَسَلِهَا مِنْ أَلْفَاظِهَا الرَّائِقَاتِ، وَعِبَارَاتِهَا الْوَاضِحَاتِ؛ فَانْطَلَتْ وَرَاجَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْمَارِ الْأَغْرَارِ، فَصَارُوا مُنَافِحِينَ عَنِ الْبِدْعَةِ مُعْتَقِدِينَهَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِحْرَاقُ هَذِهِ الْكُتُبِ؛ دَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ الْعَامَّةِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ التَّمْكِينُ مِنْهَا لِلْإِحْرَاقِ، وَإِلَّا فَلْيَنْزِعْهَا مِنْهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَلِيُؤْدِّبْهُ عَلَى مُعَارَضَتِهِ عَلَى مَنْعِهَا؛ لِأَنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَا يُعَارَضُ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ)).
((مِنْ أَعْظَمِ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
نَقْضُ الْحِزْبِيَّةِ وَهَدْمُ الْفُرْقَةِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الَّتِي نَتَعَلَّمُهَا مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: لُزُومَ الْجَمَاعَةِ، وَنَقْضَ الْحِزْبِيَّةِ وَهَدْمَ الْفُرْقَةِ؛ فَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي ((الْحِلْيَةِ)) وَمِنْ طَرِيقِهِ الذَّهَبِيُّ فِي ((السِّيَرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ -وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ- قَالَ: ((كُنَّا نَأْتِي زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ، فَكَانَ يَقُولُ: يَا عِبَادَ اللهِ! أَكْرِمُوا وَأَجْمِلُوا فَإِنَّمَا وَسِيلَةُ الْعِبَادِ إِلَى اللهِ بِخَصْلَتَيْنِ: الْخَوْفِ، وَالطَّمَعِ.
قَالَ مُطَرِّفٌ: فَأَتَيْتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ كَتَبُوا كِتَابًا، فَنَسَقُوا كَلَامًا مِنْ هَذَا النَّحْوِ: اللهُ رَبُّنَا، وَمُحَمَّدٌا نَبِيُّنَا، وَالْقُرْآنُ إِمَامُنَا، وَمَنْ كَانَ مَعَنَا كُنَّا وَكُنَّا لَهُ، وَمَنْ خَالَفَنَا كَانَتْ يَدُنَا عَلَيْهِ وَكُنَّا وَكُنَّا.
قَالَ: فَجَعَلَ يَعْرِضُ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا رَجُلًا؛ فَيَقُولُونَ: أَقْرَرْتَ يَا فُلَانُ؟ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيَّ فَقَالُوا: أَقْرَرْتَ يَا غُلَامُ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ -يَعْنِي زَيْدًا-: لَا تَعْجَلُوا عَلَى الْغُلَامِ! مَا تَقُولُ يَا غُلَامُ؟
قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ عَلَيَّ عَهْدًا فِي كِتَابِهِ، فَلَنْ أُحْدِثَ عَهْدًا سِوَى الْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيَّ، فَرَجَعَ الْقَوْمُ من عِنْدَ آخِرِهِمْ مَا أَقَرَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وكانوا زُهَاءَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا)).
وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ فِي ((الْقَدَرِ)) عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ قَالَ: ((كَانَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ يُسَمِّي أَصْحَابَ الْبِدَعِ: خَوَارِجَ، وَيَقُولُ: الْخَوَارِجُ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ وَاجْتَمَعُوا فِي السَّيْفِ)).
فَهَذِهِ الْجَمَاعَاتُ -إِذَنْ- وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ كُلُّهُمْ خَوَارِجُ، وَلَا يَتَنَاهَى بِهِمُ الْأَمْرُ دُونَ السَّيْفِ.
وَهُمْ جَمِيعًا يُوَالُونَ وَيُعَادُونَ عَلَى شَيْخٍ أَوْ حِزْبٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ فِرْقَةٍ، وَلَا يَزِيدُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فُرْقَةً.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى شَيْخٍ يُوَالَى عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَيُعَادَى عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُوَالِيَ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّقْوَى مِنْ جَمِيعِ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَخُصُّ أَحَدًا بِمَزِيدِ مُوَالَاةٍ إِلَّا إِذَا ظَهَرَ لَهُ مَزِيدُ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، فَيُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ اللهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ، وَيُفَضِّلُ مَنْ فَضَّلَ اللهُ وَرَسُولُهُ)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِينَ أَنْ يُحَزِّبُوا النَّاسَ، وَيَفْعَلُوا مَا يُلْقِي بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، بَلْ يَكُونُونَ مِثْلَ الْأُخْوَةِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)).
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
إِسْدَاءُ النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ))
مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: إِسْدَاءُ النَّصِيحَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَقَدْ جَاءَ الْحَجَّاجُ يُصَلِّي يَوْمًا -وَلَمْ يَلِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا- بِجَنْبِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَأَخَذَ يَرْكَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَيَهْوِي بِالسُّجُودِ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنَ الصَّلَاةِ جَمِيعًا أَخَذَ سَعِيدٌ بِطَرَفِ رِدَائِهِ، وَكَانَ لِسَعِيدٍ ذِكْرٌ يَقُولُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَعْجَلْ، وَأَخَذَ بِطَرَفِ رِدَاءِ الْحَجَّاجِ وَالْحَجَّاجُ يُنَازِعُهُ، حَتَّى أَتَمَّ سَعِيدٌ ذِكْرَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَارِقُ! يَا خَائِنُ! تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟!! لَقَدْ هَمَمْتُ بِأَنْ أَضْرِبَ بِهَذَا النَّعْلِ وَجْهَكَ! فَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْحَجَّاجُ شَيْئًا، وَانْصَرَفَ.
ثُمَّ مَضَى إِلَى الْحَجِّ فَحَجَّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ عَادَ وَالِيًا عَلَى الْحِجَازِ كُلِّهَا، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَادَ وَالِيًا عَلَى مَدِيْنَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَأَمَّا ظُلْمُهُ، وَأَمَّا غَشَمُهُ، فَكَانَا قَدْ عُلِمَا، فَصَارَا مَضْرِبَ الْمَثَلِ.
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَسَعِيدٌ عَالِمُهَا، وَهُوَ فِي حَلْقَتِهِ فِي مَسْجِدِ نَبِيِّنَا وَنَبِيِّهِ ﷺ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَسَعِيدٌ فِي حَلْقَتِهِ، وَخَافَ النَّاسُ، وَارْتَعَدَتِ الْفَرَائِصُ؛ خَوْفًا وَمَخَافَةً عَلَى سَعِيدٍ أَنْ يَنَالَهُ مِنْ ظُلْمِ الْحَجَّاجِ شَيْءٌ، مَعَ مَا كَانَ مِنْ سَالِفِ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ: يَا سَارِقُ! يَا خَائِنُ! تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ؟!! لَقَدْ هَمَمْتُ بِأَنْ أَضْرِبَ بِهَذَا النَّعْلِ وَجْهَكَ!!
فَلَمَّا دَخَلَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، ظَلَّ مَاضِيًا حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ سَعِيدٍ، فَقَالَ: أَنْتَ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟
فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: نَعَمْ!
قَالَ: جَزَاكَ اللهُ مِنْ مُعَلِّمٍ وَمِنْ مُؤَدِّبٍ خَيْرًا، وَاللهِ مَا صَلَّيْتُ بَعْدَهَا صَلَاةً إِلَّا وَأَنَا أَذْكُرُ كَلِمَاتِكَ، ثُمَّ قَامَ مُنْصَرِفًا.
لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهَا لِلهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مِنْ ذَوْقِ طَعْمِ النَّفْسِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّفْسِ مِنْ حَظٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ وَحْدَهُ.
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصِ))
مِنَ الدُّرُوسِ الْمُهِمَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ النَّظَرِ فِي سِيَرِ التَّابِعِينَ: حِرْصُهُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَالِاجْتِهَادُ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا؛ فَقَدْ صَامَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَهْلُهُ وَلَا أَحَدٌ، كَانَ يَأْخُذُ غَدَاءَهُ وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ قَاصِدًا السُّوقَ، وَكَانَ خَزَّازًا، فَيَتَصَدَّقُ بِالطَّعَامِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى السُّوقِ، فَيَظُنُّ أَهْلُ السُّوقِ أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ فِي بَيْتِهِ، وَيَظُنُّ أَهْلُ بَيْتِهِ أَنَّهُ قَدْ أَكَلَ فِي السُّوقِ، حَتَّى إِذَا مَا كَانَ بِالْعَشِيِّ؛ رَجَعَ فَأَفْطَرَ فِي بَيْتِهِ؛ لَمْ يَعْلَمْ بِصِيَامِهِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «الْبُكَاءُ عَلَى عَشْرَةِ أَجْزَاءٍ، فَتِسْعَةُ أَجْزَاءٍ لِغَيْرِ اللهِ، وَجُزْءٌ وَاحِدٌ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا، فَإِذَا جَاءَ الْجُزْءُ الَّذِي هُوَ لِلهِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً؛ فَوَاللهِ إِنَّهُ لَكَثِيرٌ!!».
وَعَنْ عَوْنِ بْنِ عِمَارَةَ: قَالَ سَمِعْتُ هِشَامًا الدَّسْتَوَائِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً- يَقُولُ: «وَاللهِ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ أَنِّي ذَهَبْتُ يَوْمًا أَطْلُبُ الْحَدِيثَ -حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ ﷺ- لِلَّهِ!!».
يَتَّهِمُ نِيَّتَهُ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ، وَمِنْ جِبَالِهِمُ الشَّامِخَةِ وَأَطْوَادِهِمُ الرَّاسِخَةِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، يَقُولُ: ((وَاللهِ لَا أَسْتَطِيعُ -مُقْسِمًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ وَمِنْ غَيْرِ حِنْثٍ- يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ أَنِّي ذَهَبْتُ يَوْمًا أَطْلُبُ الْحَدِيثَ -حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ ﷺ- لِلهِ!!»، يَتَّهِمُ نِيَّتَهُ.
قَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- مُعَلِّقًا: «وَأَنَا وَاللهِ»؛ أَيْ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَ أَنِّي طَلَبْتُ الْعِلْمَ يَوْمًا لِلهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْزِمَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْمَطْوِيَّ فِي الضَّمَائِرِ الْمَكْنَونَ فِي السَّرَائِرِ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ، فَالدَّوَافِعُ تَشْتَبِهُ، وَالْمَسَالِكُ تَخْتَلِطُ، وَالْمَرْءُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى حَقِيقَةِ نِيَّتِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ قَدْ عَلَّمَ الْأُمَّةَ أَنْ تُخْلِصَ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ تَجْتَنِبَ الرِّيَاءَ.
وَقَدْ جَلَسَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- وَفُضْيَلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَكَانَ لَهُ مَوَاخِيًا، فَجَلَسَا مَعًا، فَتَذَاكَرَا، فَبَكَيَا، فَقَالَ سُفْيَانُ: ((إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْلِسُ أَكْثَرَ مَجَالِسِنَا بَرَكَةً عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-)).
فَقَالَ لَهُ فُضَيْلٌ: ((إِنِّي لَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْلِسُ أَشَدَّ الْمَجَالِسِ عَلَيْنَا شُؤْمًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى!!)).
قَالَ: ((كَيْفَ؟!!)).
تَذَاكَرَا؛ فَرَقَّتِ الْقُلُوبُ، فَبَكَيَا، وَاسْتَعْبَرَا، فَقَالَ سُفْيَانُ مَا قَالَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فُضيلٌ بِمَا رَدَّ.
فَقَالَ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَيْفَ هَذَا؟!!)).
قَالَ: ((أَلَسْتَ قَدْ جَلَسْتَ إِلَيَّ، فَتَزَيَّنْتَ لِي مُحَدِّثًا إِيَّايَ بِأَحْسَنِ الَّذِي لَدَيْكَ، وَتَزَيَّنْتُ لَكَ؛ فَحَدَّثْتُكَ بِأَحْسَنِ مَا عِنْدِي، فَعَبَدْتَنِي وَعَبَدْتُكَ؟!!)).
فَقَالَ: ((أَحْيَاكَ اللهُ كَمَا أَحْيَيْتَنِي)).
يَجْلِسُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ يُحَدِّثُهُ، فَيُزَيِّنُ لَهُ كَلَامَهُ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ أَحْسَنَ مَا عِنْدَهُ، وَالْآخَرُ كَذَلِكَ.
يَقُولُ: ((فَعَبَدْتَنِي وَعَبَدْتُكَ!!))؛ يَعْنِي: لَمْ تُرِدْ بِعَمَلِكَ وَجْهَ اللهِ، وَإِنَّمَا تَزيَّنْتَ لِي بِقَوْلِكَ، وَكَأَنَّمَا كُنْتَ لِي عَابِدًا، وَلَا يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْعِبَادَةِ عَلَى النَّحْوِ الْمَعْرُوفِ الْمَعْهُودِ اصْطِلَاحًا.
((مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
لُزُومُ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ تَتَبَّعَ سِيَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ؛ عَلِمَ إِدْمَانَهُمْ ذِكْرَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ كَانُوا -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَهُمْ وَأَعْمَارَهُمْ، وَيَعْمُرُونَهَا بِذِكْرِ اللهِ -تَعَالَى- وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ.
وَمَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ أَزْكَى الْمَجَالِسِ وَأَشْرَفُهَا، وَأَنْفَعُهَا وَأَرْفَعُهَا، وَهِيَ أَعْلَى الْمَجَالِسِ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ، وَأَجَلُّهَا مَكَانَةً عِنْدَهُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ نُصُوْصٌ كَثِيْرَةٌ فِي فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَأَنَّهَا حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ، وَنَمَاءٌ لِلْإِيمَانِ، وَصَلَاحٌ وَزَكَاءٌ لِلْعَبْدِ، بِخِلَافِ مَجَالِسِ الْغَفْلَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ مِنْهَا الْجَالِسُ إِلَّا بِنَقْصٍ فِي الْإِيمَانِ، وَوَهَاءٍ فِي الْقَلْبِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ حَسْرَةً وَنَدَامَةً.
كَانَ السَّلَفُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَهْتَمُّونَ بِمَجَالِسِ الذِّكْرِ أَعْظَمَ الِاهْتِمَامِ، وَيَعْتَنُونَ بِهَا غَايَةَ الْعِنَايَةِ.
إِنَّ مَجَالِسَ الذِّكْرِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ فِي الدُّنْيَا، رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا)).
قَالُوْا: ((وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟)).
قَالَ: ((حِلَقُ الذِّكْرِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِذَا تَمَكَّنَ الذِّكْرُ مِنَ الْقَلْبِ؛ فَإِنْ دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ صَرَعَهُ كما يُصْرَعُ الْإِنْسَانُ إِذَا دَنَا مِنْهُ الشَّيْطَانُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ فَيَقُولُونَ: مَا لِهَذَا؟
فَيُقَالُ: قَدْ مَسَّهُ الْإِنْسِيُّ)).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ -أَيْضًا-: ((مَا أَقْبَحَ الْغَفْلَةَ عَنْ ذِكْرِ مَنْ لَا يَغْفُلُ عَنْ بِرِّكَ!!)).
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ((اذْكُرِ اللهَ عِنْدَ هَمِّكَ إِذَا هَمَمْتَ، وَحُكْمِكَ إِذَا حَكَمْتَ، وَقَسْمِكَ إِذَا قَسَمْتَ)).
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((أَحَبُّ عِبَادِ اللهِ إِلَى اللهِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا، وَأَتْقَاهُمْ قَلْبًا)).
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقْصِدُ السُّوقَ لِيَذْكُرَ اللهَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ.
وَالْتَقَى رَجُلَانِ مِنْهُمْ فِي السُّوقِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ((تَعَالَ حَتَّى نَذْكُرَ اللهَ فِي غَفْلَةِ النَّاسِ! فَخَلَوَا فِي مَوْضِعٍ فَذَكَرَا اللهَ -تَعَالَى-، ثُمَّ تَفَرَّقَا، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَلَقِيَهُ الْآخَرُ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللهَ غَفَرَ لَنَا عَشِيَّةَ الْتَقَيْنَا فِي السُّوقِ؟)). ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَجَاهِدْ نَفْسَكَ أَنْ تَتَعَلَّمَ وَتَحْفَظَ الْأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ بِنَصِّهَا، حَتَّى تَدْعُوَ بِهَا كَامِلَةً كَمَا وَرَدَتْ دُونَ نَقْصٍ فِيهَا وَلَا زِيَادَةٍ، فَتَنَالَ فَضِيلَةَ الدُّعَاءِ وَفَضِيلَةَ الِاتِّبَاعِ، إِذَا كَانَ هَذَا هَدْيَ السَّلَفِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهَا -يَعْنِي الْأَذْكَارَ وَالْأَدْعِيَةَ- تَوْقِيفِيَّةٌ؛ لِذَلِكَ أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ زَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ؛ فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا عَطَسَ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَقَالَ الرَّجُلُ: ((الْحَمْدُ للهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ)).
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ((وَأَنَا أَقُولُ: الْحَمْدُ لِلهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ: الْحَمْدُ لِلهِ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ)).
فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ قَامَتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ وَقَرَّرَتْهَا الْأَئِمَّةُ، وَتَلَقَّاهَا جُمْهُورُ أَهْلِ الِاتِّبَاعِ بِالْقَبُولُ وَالتَّقْرِيرِ، وَهِيَ أَنَّ الْأَذْكَارَ تَوقِيفِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنَ الدُّعَاءِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَلُّمِ مَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحَصِّلَ فَضِيلَتَيْنِ: فَضِيلَةَ الدُّعَاءِ، وَفَضِيلَةَ الِاتِّبَاعِ.
وَأَقُولُ لَكَ صَادِقًا عَلَى حَسَبِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ سِيَرُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: لَوْ أَخَذْتَ بِهَذَا الْأَصْلِ وَشَدَدْتَ عَلَيْهِ يَدَيْكَ، وَعَضَضْتَ عَلَيْهِ بِنَاجِذَيْكَ؛ تَغَيَّرَتْ حَيَاتُكَ.
فِي الْقَلْبِ قَسْوَةٌ لَا يُذِيبُهَا إِلَّا ذِكْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَيُنَجِّيكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْمَهَالِكِ، وَلَا يُسَلِّطُ عَلَيْكَ مَنْ لَا يَرْحَمُكَ، وَيَغْفِرُ لَكَ الذَّنْبَ لِأَنَّكَ تَتُوبُ مِنْهُ وَتَتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنْكَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ السَّلَفِ:
الْخَوْفُ مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَمُرَاقَبَتُهُ))
إِنَّ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِدِرَاسَةِ سِيَرِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالتَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--: الْخَوْفَ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمُرَاقَبَتَهُ؛ فَـ((اللهُ -سُبْحَانَهُ- كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 57-61].
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَزْنُونَ، وَيَسْرِقُونَ؟)).
فَقَالَ: ((لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيَخَافُونَ أَلَّا تُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ، {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ})).
وَاللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ بِالْإِحْسَانِ مَعَ الْخَوْفِ، وَوَصَفَ الْأَشْقِيَاءَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ الْأَمْنِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ؛ بَلِ التَّفْرِيطِ وَالْأَمْنِ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: ((وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ)).
وَذُكِرَ عَنْهُ -أَيْضًا- أَنَّهُ كَانَ يَمْسِكُ بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ: ((هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ)).
وَكَانَ يَبْكِي كَثِيرًا وَيَقُولُ: ((ابْكُوا! فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا)).
وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأُتِيَ بِطَائِرٍ فَقَلَّبَهُ ثُمَّ قَالَ: ((مَا صِيدَ مِنْ صَيْدٍ، وَلَا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ)).
وَلَمَّا احْتُضِرَ، قَالَ لِعَائِشَةَ: ((يَا بُنَيَّةُ! إِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَبَاءَةَ وَهَذِهِ الْحِلَابَ -وَهُوَ إِنَاءٌ يُحْلَبُ فِيهِ- وَهَذَا الْعَبْدَ، فَأَسْرِعِي بِهِ إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي خَضِرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ)).
وَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَرَأَ سُورَةَ الطُّورِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطُّورِ: 77]، فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ.
وَقَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ: ((وَيْحَكَ! ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ عَسَى أَنْ يَرَى ذُلِّي فَيَرْحَمَنِي، ثُمَّ قَالَ: وَيْلَ أُمِّي إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي -ثَلَاثًا-، ثُمَّ قُضِيَ وَمَضَى)) -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَكَانَ يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلَةِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَيَّامًا يُعَادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الْأَمْصَارَ، وَفَتَحَ بِكَ الْفُتُوحَ، وَفَعَلَ وَفَعَلَ)).
فَقَالَ: ((وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ)).
وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ يَبْكِي حَتَّى تُبْتَلَّ لِحْيَتُهُ، وَقَالَ: ((لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا أَدْرِي إِلَى أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي، لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ)).
وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَبُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ، وَكَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الْأَمَلِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَنُونُ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ)).
وَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ! قَدْ عَلِمْتَ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟)).
وَكَانَ يَقُولُ: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمَا أَكَلْتُمْ طَعَامًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَابًا عَلَى شَهْوَةٍ، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصَّعِيدِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ، وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ)).
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَسْفَلَ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الدُّمُوعِ.
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ: ((يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ، وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ))، وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقَالَ: ((عِنْدَنَا عَنْزٌ نَحْلِبُهَا وَأَحْمُرُةٌ نَنْقُلُ عَلَيْهَا، وَمُحَرَّرٌ يَخْدِمُنَا، وَفَضْلُ عَبَاءَةٍ، وَإِنِّي أَخَافُ الْحِسَابَ فِيهَا)).
وَقَرَأَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الْجَاثِيَةِ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الْجَاثِيَةِ: 21]، جَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ الْجَرَّاحِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَدِدْتُ أَنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أَهْلِي، وَأَكَلُوا لَحْمِي وَحَسُوا مَرَقِي)).
وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ..
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)): ((بَابُ خَوْفِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ)).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا)).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ((أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ)).
وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((مَا خَافَ النِّفَاقَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَ النِّفَاقَ إِلَّا مُنَافِقٌ)).
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -يَعْنِي: فِي الْمُنَافِقِينَ-))، يَخْشَى عُمَرُ الْفَارُوقُ وَزِيرُ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ ذَكَرَهُ لِصَاحِبِ السِّرِّ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَنْ ذَكَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَيَقُولُ: ((يا حُذَيْفَةُ! أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -يَعْنِي: فِي الْمُنَافِقِينَ-)).
فَيَقُولُ: ((لَا، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا يَقُولُ: لَيْسَ مُرَادُهُ أَنِّي لَا أُبَرِّئُ غَيْرَكَ مِنَ النِّفَاقِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا أَفْتَحُ عَلَى نَفْسِي هَذَا الْبَابَ، فَكُلُّ مَنْ سَأَلَنِي هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ أُزَكِّيهِ)).
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ الْعَظِيمَةِ:
مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ))
إِنَّ مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُفِيدُهَا الْمُسْلِمُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي سِيَرِ التَّابِعِينَ: الْحِرْصَ عَلَى مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ، وَعَدَمَ الِاغْتِرَارِ؛ «فَفِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ مَصَالِحُ، مِنْهَا الِاطِّلَاعُ عَلَى عُيُوبِهَا، وَمَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عَيْبِ نَفْسِهِ، لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ، فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبِ النَّفْسِ، مَقَتَهَا فِي ذَاتِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ)): عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ، حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي جَنْبِ اللهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا)).
وَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: ((لَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي لَقَلَيْتُ النَّاسَ)).
فَفِي النَّاسِ شَرٌّ كَبِيرٌ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ الْخَبِيرُ الْبَصِيرُ-، وَمَهْمَا قَلَّبْتَ النَّاسَ، خَرَجَ لَكَ مِنْ وَرَاءِ تَقْلِيبِهِمْ أُمُورٌ.
((فَلَوْلَا مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي -وَأَنَّهَا أَسْوَءُ، وَقَدِ انْطَوَتْ عَلَى الشَّرِّ الْكَبِيرِ- لَقَلَيْتُ النَّاسَ))؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَالَ نَفْسِهِ، وَخَبَرَ حَالَ غَيْرِهِ، فَوَجَدَ الشَّرَّ بَازِغًا، وَوَجَدَ آفَاتِ النُّفُوسِ حَالَّةً؛ فَإِنَّهُ يَمْقُتُ غَيْرَهُ، وَلَوْ عَلِمَ نَفْسَهُ، لَكَانَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا.
قَالَ مُطَرِّفٌ فِي دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: ((اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي)).
فَيَرَى نَفْسَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي عَرَفَاتٍ أَسْوَءَ النَّاسِ، وَأَرْدَءَ النَّاسِ، وَشَرَّ النَّاسِ، فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي))، مِنْ بَابِ هَضْمِ النَّفْسِ، وَالْإِزْرَاءِ عَلَيْهَا، وَالْحَطِّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ نَفْسِهِ هَلَكَ.
فَالنَّفْسُ كَمَاءِ الْبَحْرِ، لَا يَشْبَعُ وَارِدُهُ مَهْمَا شَرِبَ مِنْهُ، فَمَا يَزَالُ يَعُبُّ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، حَتَّى تَنْقَدَّ مَعِدَتُهُ، وَلَا رِيَّ، وَلَا ارْتِوَاءَ، فَاللَّهُمَّ لَا تُذِقْنَا طَعْمَ أَنْفُسِنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ!!
قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ: ((لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ عَرَفَاتٍ، ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَدْ غُفِرَ لَهُمْ، لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ فِيهِمْ)).
وَقَالَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ: ((إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ، كُنْتُ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ)).
وَلَمَّا احْتُضِرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو الْأَشْهَبِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ حَمَّادُ: ((يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَلَيْسَ قَدْ أَمِنْتَ مِمَّا كُنْتَ تَخَافُهُ، وَتَقْدُمُ عَلَى مَنْ تَرْجُوهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؟
فَقَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ يَنْجُوَ مِنَ النَّارِ؟!!
قَالَ: إِي وَاللهِ، إِنِّي لَأَرْجُو لَكَ ذَلِكَ)).
أَتْطَمَعُ لِمِثْلِي أَنْ أَنْجُوَ مِنَ النَّارِ؟!!
وَعَنْ مُسْتَلِمِ بْنِ سَعِيدٍ الْوَاسِطِيِّ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي ((الْبِدَايَةِ))، قَالَ: ((أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزْوَةٍ إِلَى (كَابُولَ)، وَفِي الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ، فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتَمَةِ، فَصَلَّوْا، ثُمَّ اضْطَجَعَ.
فَقُلْتُ: لَأَرْمُقَنَّ عَمَلَهُ، فَالْتَمَسَ غَفْلَةَ النَّاسِ، حَتَّى إِذَا قُلْتُ: هَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَثَبَ، فَدَخَلَ غَيْضَةً قَرِيبًا مِنَّا، فَدَخَلْتُ عَلَى إِثْرِهِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ أَسَدٌ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، فَصَعِدْتُ فِي شَجَرَةٍ، فَتُرَاهُ الْتَفَتَ أَوْ عَدَّهُ جَرْوًا، فَلَمَّا سَجَدَ، قُلْتُ: الْآنَ يَفْتَرِسُهُ الْأَسَدُ، فَجَلَسَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا السَّبُعُ، اطْلُبِ الرِّزْقَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، فَوَلَّى وَإِنَّ لَهُ لَزَئِيرًا.
أَقُولُ: تَصَدَّعُ الْجِبَالُ مِنْهُ، قَالَ: فَمَا زَالَ كَذَلِكَ يُصَلِّي، حَتَّى كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ، جَلَسَ، فَحَمِدَ اللهَ تَعَالَى بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، وَمِثْلِي يَصْغُرُ أَنْ يَجْتَرِئَ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ!!
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ، وَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ شَيْءٌ؛ اللهُ بِهِ عَالِمٌ)).
وَمَا بَاتَ قَائِمًا، وَلَا مِنَ السَّبُعِ مُشْفِقًا، وَلَا لَهُ آمِرًا وَنَاهِيًا، وَأَمَّا صِلَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَصْبَحَ، كَأَنَّمَا بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَهُوَ يُعَامِلُ رَبَّهُ، وَيَفِرُّ بِقَلْبِهِ مِنْ مَوَاطِنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَيَنْتَظِرُ حَتَّى تَهْدَأَ الْعُيُونُ، وَتَلْتَذَّ بِالْغُمْضِ أَجْفَانُهَا، ثُمَّ يَقُومُ يَتَوَضَّأُ خَالِيًا بِرَبِّهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِهِ مِنْ حَالٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَمَّا أَصْبَحَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، وَمِثْلِي يَصْغُرُ أَنْ يَجْتَرِئَ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ!!)).
وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ اللهَ إِنْ أَعَاذَهُ مِنَ النَّارِ، وَأَجَارَهُ مِنَ النَّارِ، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَنِعْمَ الْقَرَارُ، وَلَكِنَّهُ يَعْرِفُ نَفْسَهُ، وَقَدْرَ رَبِّهِ، فَيَتَأَدَّبُ فِي الْخِطَابِ، فَهَذَا أَدَبٌ فِي الْخِطَابِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: ((إِنِّي لَأَعُدُّ مِئَةَ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ -أَيْ أَعْرِفُهَا- مَا أَعْلَمُ عَنْهَا فِي نَفْسِي مِنْهَا وَاحِدَةً)).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: ((لَوْ كَانَ لِلذُّنُوبِ رِيحٌ، مَا قَدَرَ أَحَدٌ، أَنْ يَجْلِسَ إِلَيَّ)).
إِي وَاللهِ، لَوْ كَانَ لِلذُّنُوبِ رِيحٌ، مَا قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَجْلِسَ إِلَيَّ، وَلَكِنَّهُ السَّتْرُ، اللَّهُمَّ أَدِمْ عَلَيْنَا سَتْرَكَ وَعَافِيَتَكَ.
قَالَ أَبُو حَفْصٍ: ((مَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ، وَلَمْ يُخَالِفْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يَجُرَّهَا إِلَى مَكْرُوهِهَا فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ؛ كَانَ مَغْرُورًا، وَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا)).
فَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْمَهَالِكِ، مُعِينَةٌ لِلْأَعْدَاءِ، طَامِحَةٌ إِلَى كُلِّ قَبِيحٍ، مُتَّبِعَةٌ لِكُلِّ سُوءٍ، فَهِيَ تَجْرِي بِطَبْعِهَا فِي مَيْدَانِ الْمُخَالَفَةِ.
وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِهَا أَشَدُّهُمْ إِزْرَاءً عَلَيْهَا وَمَقْتًا لَهَا.
وَمَقْتُ النَّفْسِ فِي ذَاتِ اللهِ مِنْ صِفَاتِ الصِّدِّيقِينَ، وَيَدْنُو الْعَبْدُ بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا يَدْنُو بِالْعَمَلِ.
«مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ تَمْشِي الْهُوَيْنَا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ»
عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ, قَالَ: ((إِنَّ قَوْمًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانُوا فِي مَسْجِدٍ لَهُمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَجَاءَ شَابٌّ حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: لَيْسَ مِثْلِي يَدْخُلُ مَعَكُمْ، أَنَا صَاحِبُ الذُّنُوبِ، أَنَا صَاحِبُ الْآثَامِ، يُزْرِي عَلَى نَفْسِهِ، فَأَوْحَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى نَبِيِّهِمْ إِنَّ فُلَانًا صِدِّيقٌ))».
وَأَمَّا مَنْ شَمَخَ بِأَنْفِهِ، وَذَاقَ طَعْمَ نَفْسِهِ، وَمَشَى فِي الْأَرْضِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا، فَيُوشِكُ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَمْقَتِ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْعِزَّ للهِ، وَالْعَظَمَةَ للهِ، وَالْكِبْرِيَاءَ للهِ، وَالْكِبْرَ للهِ وَحْدَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ، وَمَنْ نَازَعَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، قَصَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يُبَالِي.
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
الِاهْتِمَامُ بِالْعِلْمِ وَاحْتِرَامُ الْعُلَمَاءِ))
مِنْ أَهَمِّ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ دِرَاسَةِ سِيَرِ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: الِاهْتِمَامُ بِالْعِلْمِ، وَالْأَخْذُ عَنِ الْعُلَمَاءِ وَتَقْدِيرُهُمْ وَإِجْلَالُهُمْ؛ فَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَمَالِكٌ وَخَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ: ((هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ, فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)).
وَلَا يَكْفِي فِي أَهْلِيَّةِ التَّعْلِيمِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْعِلْمِ, بَلْ يَنْبَغِي مَعَ كَثْرَةِ عِلْمِهِ بِذَلِكِ الْفَنِّ كَوْنُهُ لَهُ مَعْرِفَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْفُنُونِ الشَّرْعِيَّةِ, فَإِنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ, وَيَكُونُ لَهْ دُرْبَةٌ وَدِينٌ, وَخُلُقٌ جَمِيلٌ, وَذِهْنٌ صَحِيحٌ, وَاطِّلَاعٌ تَامٌّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ مُعَلِّمَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَيَعْتَقِدَ كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ، وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى مُعَلِّمِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ مُعَلِّمِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي))
وَلَا يُنَالُ الْعِلْمُ إِلَّا بِإِلْقَاءِ السَّمْعِ مَعَ التَّوَاضُعِ؛ فَعَنِ الشَّعْبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ ﷺ! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَرَاءِ)).
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يُعَظِّمُونَ مَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ تَعْظِيمًا شَدِيدًا، وَآثَارُهُمْ فِي ذَلِكَ شَاهِدَةٌ عَلَى آدَابِهِمْ فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَعَلَى تَوْقِيرِهِمْ لِمُعَلِّمِيهِمْ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي ((الْجَامِعِ)) كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ.
فَسَاقَ بِسَنَدِهِ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: ((كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ -النَّخَعِيَّ- كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ)).
وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ يَجلِسُ إِلَى الْحَسَنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ هَيْبَةً لَهُ)).
وَعَنْ إِسْحَاقَ الشَّهِيدِيِّ قَالَ: ((كُنْتُ أَرَى يَحْيَى الْقَطَّانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلِ مَنَارَةِ الْمَسْجِدِ، فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالشَّاذَكُونِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَغَيْرُهُم، يَسْأَلُونَهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُمْ قِيَامٌ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، إِلَى أَنْ تَحِينَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، لَا يَقُولُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ: اجْلِسْ، وَلَا يَجْلِسُونَ هَيْبَةً لَهُ وَإِعْظَامًا)).
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: ((مَا كَانَ إِنْسَانٌ يَجْتَرِئُ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ كَمَا يُسْتَأْذَنُ الْأَمِيرُ)).
فَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ ((أَنْ يَنْقَادَ لِشَيْخِهِ فِي أُمُورِهِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، بَلْ يَكُونُ مَعَهُ كَالْمَرِيضِ مَعَ الطَّبِيبِ الْمَاهِرِ، فَيُشَاوِرُهُ فِيمَا يَقْصِدُهُ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَتَعَمَّدُهُ، وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ ذُلَّهُ لِشَيْخِهِ عِزٌّ، وَخُضُوعَهُ لَهُ فَخْرٌ، وَتَوَاضُعَهُ لَهُ رِفْعَةٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّافِعِيَّ -رَحِمَهُ اللهُ- عُوتِبَ عَلَى تَوَاضُعِهِ لِلْعُلَمَاءِ، فَقَالَ:
أُهِينُ لَهُمْ نَفْسِي فَهُمْ يُكْرِمُونَهَا=وَلَنْ تُكْرَمَ النَّفْسُ الَّتِي لَا تُهِينُهَا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللهُ- لِخَلَفٍ الْأَحْمَرِ: ((لَا أَقْعُدُ إِلَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، أُمِرْنَا أَنْ نَتَوَاضَعَ لِمَنْ نَتَعَلَّمُ مِنْهُ)).
وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَنْظُرَ شَيْخَهُ بِعَيْنِ الْإِجْلَالِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى نَفْعِهِ بِهِ، وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا ذَهَبَ إِلَى شَيْخِهِ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَيْبَ شَيْخِي عَنِّي، وَلَا تُذْهِبْ بَرَكَةَ عِلْمِهِ مِنِّي)).
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كُنْتُ أَصْفَحُ الْوَرَقَةَ بَيْنَ يَدَيْ مَالِكٍ صَفْحًا رَقِيقًا هَيْبَةً لَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعَ وَقْعَهَا)).
وَقَالَ حَمْدَانُ الْأَصْفَهَانِيُّ: ((كُنْتُ عِنْدَ شَرِيكٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ أَوْلَادِ الْخَلِيفَةِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ وَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ؛ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ عَادَ، فَعَادَ لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَتَستَخِفُّ بِأَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ؟!!
فَقَالَ شَرِيكٌ: لَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَجَلُّ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ أَضَعَهُ! فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ شَرِيكٌ: هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ)).
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُمَا اللهُ-: ((وَاللهِ مَا اجْتَرَأْتُ أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ إِلَيَّ هَيْبَةً لَهُ)).
وَيَنْبَغِي أَلَّا يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلَا يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: ((يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَالِمُ، وَأَيُّهَا الْحَافِظُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ))، وَمَا تَقُولُونَ فِي كَذَا؟ وَمَا رَأْيُكُمْ فِي كَذَا؟ وَشِبْهَ ذَلِكَ، وَلَا يُسَمِّيهِ فِي غَيْبَتِهِ أَيْضًا بِاسْمِهِ إِلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ الشَّيْخُ، أَوِ الْأُسْتَاذُ، أَوْ: قَالَ شَيْخُنَا كَذَا.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ لِلشَّيْخِ حَقَّهُ، وَلَا يَنْسَى فَضْلَهُ، وَأَنْ يُعَظِّمَ حُرْمَتَهُ، وَيَرُدَّ غِيْبَتَهُ وَيَغْضَبَ لَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ قَامَ وَفَارَقَ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ لِلشَّيْخِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ وَأَوِدَّاءَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَيَتَعَمَّدَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ لَهُ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ، وَيَسْلُكَ فِي السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مَسْلَكَهُ، وَيُرَاعِيَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَادَتَهُ، وَيَقْتَدِيَ بِحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ فِي عَادَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ، وَيَتَأَدَّبَ بِآدَابِهِ، وَلَا يَدَعَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ)).
((وَعَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفَاءِ شَيْخِهِ، وَأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِ؛ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: ((قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَكَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَغْضَبُ عَلَيْهِمْ، يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبُوا وَيَتْرُكُوكَ! فَقَالَ لِلْقَائِلِ: ((هُمْ إِذَنْ حَمْقَى مِثْلُكَ إِنْ تَرَكُوا مَا يَنْفَعُهُمْ لِسُوءِ خُلُقِي»».
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: ((لَمْ أَسْتَخْرِجِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُ مِنْ عَطَاءٍ إِلَّا بِرِفْقِي بِهِ)).
وَعَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ الْعَالِمُ)).
((وَإِذَا وَقَفَهُ الشَّيْخُ عَلَى دَقِيقَةٍ مِنْ أَدَبٍ، أَوْ نَقِيصَةٍ صَدَرَتْ مِنْهُ، وَكَانَ يَعْرِفُهَا مِنْ قَبْلُ؛ فَلَا يُظْهِرْ أَنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَغَفَلَ عَنْهَا، بَلْ يَشْكُرُ الشَّيْخَ عَلَى إِفَادَتِهِ ذَلِكَ وَاعْتِنَائِهِ بِأَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ وَكَانَ إِعْلَامُ الشَّيْخِ بِهِ أَصْلَحَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، إِلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ بَيَانِ الْعُذْرِ مَفْسَدَةٌ فَيَتَعَيَّنُ إِعْلَامُهُ بِهِ)).
وَلْيَحْذَرْ طَالِبُ الْعِلْمِ أَشَدَّ الْحَذَرِ أَنْ يُمَارِيَ أُسْتَاذَهُ؛ فَإِنَّ الْمِرَاءَ شَرٌّ كُلُّهُ، وَهُوَ مَعَ شَيْخِهِ وَقُدْوَتِهِ أَقْبَحُ وَأَبْعَدُ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَوْغَلُ فِي الشَّرِّ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ.
فَعَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((لَا تُمَارِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ خَزَنَ عَنْكَ عِلْمَهُ، وَلَمْ تَضُرَّهُ شَيْئًا)).
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: ((كَانَ أَبُو سَلَمَةَ يُمَارِي ابْنَ عَبَّاسٍ، فَحُرِمَ بِذَلِكَ خَيْرًا كَثِيرًا)).
((مِنْ أَسْمَى الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْعَفْوُ وَعِفَّةُ اللِّسَانِ))
إِنَّ مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ الْمُهِمَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ تَتَبُّعِ سِيَرِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ: حُسْنَ الْخُلُقِ، وَالْعَفْوَ، وَطَهَارَةَ الْقَلْبِ وَعِفَّةَ اللِّسَانِ؛ فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ، تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ.
وَهَذِهِ صُوَرٌ مُضِيئَةٌ مِنْ حُسْنِ خُلُقِ وَعَفْوِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا الرَّاسِخِينَ؛ فقَدْ شَتَمَ رجُلٌ عُمَرَ بْنَ ذَرٍّ -رَحِمَهُ اللهُ-، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: «يَا هَذَا! إِنِّي قَدْ أَمَتُّ مُشَاتَمَةَ الرِّجَالِ صَغِيرًا فَلَنْ أُحْيِيَهَا كَبِيرًا، وَأَنَا لَا أُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللهَ فِيَّ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ أُطِيعَ اللهَ فِيهِ».
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَقَالَ: ((إِنَّ فُلَانًا شَتَمَكَ.
فَقَالَ: اذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ.
فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى صَارَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَالرَّجُلُ الَّذِي نَقَلَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَا ذَهَبَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْمُعَاقَبَةِ، فَلَمَّا صَارَ عِنْدَهُ، أَقْبَلَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ فَقَالَ: «يَا أَخِي! إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَغَفَرَ اللهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَغَفَرَ اللهُ لَكَ».
وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَغِيبُ عَنْهُ أَسْبَابُ انْفِعَالِهِ حَالَ انْفِعَالِهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَهُوَ فِيهِ رَأْسٌ، عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ يُسْأَلُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ سُؤَالًا، وَوَرَدَتِ الْمَسْأَلَةُ، فَأَخْطَأَ حِينَ الْجَوَابِ، وَغَلِطَ فِي الْإِجَابَةِ، فَكَانَ مَاذَا؟!!
لَا شَيْءَ، وَمَنِ الَّذِي لَا يَغْلَطُ خَطَأَ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ لَا يُدْرِكُ فِيهَا صَوَابًا، وَلَا يَفْتَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى الْإِجَابَةِ فِيهَا بَابًا؟!!
فَكَانَ مَاذَا؟!!
لَا شَيْءَ.
فَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ غَلَطُهُ؛ نَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «إِذَنْ؛ أَعُودُ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَا صَاغِرٌ، وَلَأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ».
وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ -وَكَانَ الشَّافِعِيُّ مِمْرَاضًا، وَكَانَتِ الْبَوَاسِيرُ النَّازِفَةُ سَبَبَ مَوْتِهِ -رَحِمَهُ اللهُ-، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ فَيَمْتَلِئُ خُفُّهُ مِنَ الدَّمِ النَّازِفِ مِنَ الْبَوَاسِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ لَهُ مُحِبًّا؛ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ فِيهِ لَمَّا مَرِضَ:
مَرِضَ الْحَبِيبُ فَعُدْتُهُ=فَمَرِضْتُ مِنْ حُزْنِي عَلَيْهِ
شُفِيَ الْحَبِيبُ فَعَادَنِي=فَبَرِئْتُ مِنْ نَظَرِي إِلَيْهِ
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ دَعَا لَهُ؛ فَقَالَ لَهُ: ((قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يَا إِمَامُ)).
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ.. وَالشَّافِعِيُّ مِمَّنْ تُؤْخَذُ عَنْهُمُ اللُّغَةُ كَمَا قَالَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ؛ حَتَّى إِنَّ الْجَاحِظَ -وَهُوَ مَنْ هُوَ فِي مَسَائِلِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ صَاحِبُ فِرْقَةٍ، كَانَتْ لَهُ جَمَاعَةٌ كَالْجَمَاعَاتِ الْحَاضِرَةِ، كَانَتْ لَهُ فِرْقَةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا: «الْجَاحِظِيَّةُ»، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ-، الْجَاحِظُ يَقُولُ: نَظَرْتُ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ، فَلَمْ أَرَ أَبْلَغَ وَلَا أَفْصَحَ مِنَ الْمُطَّلِبِيِّ -يَعْنِي: الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ- كَأَنَّ لِسَانَهُ يَنْثُرُ الدُّرَّ -يَقُولُ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، الْجَاحِظُ هُوَ الَّذِيِّ يَقُولُ-، يَقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْإِمَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((كَأَنَّ لِسَانَهُ يَنْثُرُ الدُّرَّ)).
الْآنَ عِنْدَنَا أَقْوَامٌ يَتَمَدَّحُونَ بِالْعِيِّ وَالْفَهَاهَةِ، وَيُعَيِّرُونَ مَنْ آتَاهُ اللهُ فَصَاحَةً، فَيَقُولُونَ: هَذَا مُتَكَلِّفٌ، هَذَا مُتَقَعِّرٌ، هَذَا كَذَا، وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ!! حَمْقَى!
يَقُولُ الْجَاحِظُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: ((كَأَنَّ لِسَانَهُ يَنْثُر الدُّرَّ))، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الرَّبِيعُ فَقَالَ: ((قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يَا إِمَامُ))؛ ابْتَسَمَ وَقَالَ: ((لَوْ قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي!!)).
قَالَ: ((فَمَا أَقُولُ؟)).
قَالَ: ((تَقُولُ: قَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ، وَأَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ))، أَمَّا أَنْ تَقُولَ: قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ؛ فَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ سَيَقْتُلُنِي بِضَعْفِي.
قَالَ: ((لَوْ قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي)).
قَالَ: ((فَمَا أَقُولُ؟)).
قَالَ: ((تَقُولُ: أَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ، وَقَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ)).
قَالَ: ((وَاللهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْخَيْرَ)).
فَقَالَ: ((يَا رَبِيعُ! وَاللهِ لَوْ شَتَمْتَنِي لَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا الْخَيْرَ)).
مِنْ عَظِيمِ ثِقَتِهِ بِهِ، وَمِنْ جَلِيلِ مَحَبَّتِهِ لَهُ.
هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَنْ تَقُولَ هَذَا لِأَحَدٍ؟!! تَقُولُ: لَوْ شَتَمْتَنِي؛ لَعَلِمْتُ أَنَّكَ مَا أَرَدْتَ إِلَّا الْخَيْرَ؟!!
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ فِي الْحَثِّ عَلَى ضَبْطِ اللِّسَانِ وَعَدَمِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِينَا؛ فَإِنَّ مِنْ أَوْجَبِ مَا يَتَوَجَّبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى لِسَانِهِ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: ((كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَمَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ)).
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: ((إِذَا رَأَيْتَ قَسَاوَةً فِي قَلْبِكَ, وَوَهَنًا فِي بَدَنِكَ, وَحِرْمَانًا فِي رِزْقِكَ؛ فَاعْلَمْ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِمَا لَا يَعْنِيكَ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((كَانَ يُقَالُ: لَا يُرَى الْمُسْلِمُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي مَسْجِدٍ يَعْمُرُهُ، أَوْ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، أَوِ ابْتِغَاءِ رِزْقِ اللهِ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ)).
وَقَالَ عَطَاءٌ: ((إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ لِحَاجَتِكَ فِي مَعِيشَتِكَ الَّتِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْهَا -مَا عَدَا هَذَا فَهُوَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ- أَتُنْكِرُونَ أَنَّ {عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الِانْفِطَارِ: 10-11]، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17-18]، أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ إِذَا نُشِرَتْ صَحِيفَتُهُ الَّتِي مَلَأَهَا صَدْرَ نَهَارِهِ كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ؟!!)). وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: ((يَا ابْنَ آدَمَ! بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ وَوُكِّلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ يَكْتُبَانِ عَمَلَكَ، فَأَكْثِرْ مَا شِئْتَ أَوْ أَقِلَّ)).
وَكَانَ -رَحِمَهُ اللهُ- يَقُولُ: ((مَنْ كَثُرَ مَالُهُ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ كَذِبُهُ، وَمَنْ سَاءَ خُلُقُهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ)).
وَكَانَ طَاوُوسٌ يَعْتَذِرُ مِنْ طُولِ السُّكُوتِ، وَيَقُولُ: ((إِنِّي جَرَّبْتُ لِسَانِي -يَعْتَذِرُ لِمُجَالِسِيهِ مِنْ طُولِ صَمْتِهِ وَقِلَّةِ كَلَامِهِ، فَيَقُولُ-: إِنِّي جَرَّبْتُ لِسَانِي؛ فَوَجَدْتُهُ لَئِيمًا رَضِعًا)).
وَالرَّضِعُ وَالرَّضِيعُ: الْخَسِيسُ مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِي إِذَا نَزَلَ بِهِ الضَّيْفُ رَضَعَ بِفِيهِ شَاتَهُ؛ لِئَلَّا يَسْمَعُهُ الضَّيْفُ؛ فَيَطْلُبَ اللَّبَنَ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: ((مَا مِنْ خَطِيبٍ يَخْطُبُ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ خُطْبَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ((إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ مَخَافَةُ الْمُبَاهَاةِ)).
وَكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ يَقُولُ: ((لَا خَيْرَ فِي الْكَلامِ إِلَّا فِي تِسْعٍ: تَهْلِيلٌ، وَتَكْبِيرٌ، وَتَسْبِيحٌ، وَتَحْمِيدٌ، وَسُؤَالُكَ مِنَ الْخَيْرِ، وَتَعَوُّذُكَ مِنَ الشَّرِّ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقِرَاءَتُكَ الْقُرْآنَ)).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: ((الْمُؤْمِنُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ نَظَرَ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَكَلَّمَ وَإِلَّا أَمْسَكَ، وَالْفَاجِرُ إِنَّمَا لِسَانُهُ رِسْلًا رِسْلًا)).
الْكَلَامُ عَلَى لِسَانِهِ سَهْلٌ مُتَهَاوَنٌ فِيهِ!!
قَال ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
فَاخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ.
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
رِعَايَةُ الْوَالِدَيْنِ وَبِرُّهُمَا))
مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: الِاهْتِمَامُ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِرُّهُمَا؛ النَّبِيُّ ﷺ يُوصِي عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْفَارُوقَ وَيُوصِي الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- إِذَا مَا جَاءَتْكُمْ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ فَسَوْفَ يَأْتِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ الْقَرَنِيُّ، مِنْ (مُرَادٍ) ثُمَّ مِنْ (قَرَنٍ)، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ فِي شِفَائِهِ لِنَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَلِذَلِكَ فَلَمْ يَبْرَأْ بِحَالٍ أَبَدًا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ مُعْجِزَةٌ رَبَّانِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ جَعَلَهَا قَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَرْفَعَهُ عَنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ.
طَلَبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْقِيَ فِي جِلْدِهِ مِنْ أَثَرِ هَذَا الْبَرَصِ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ حَتَّى يَتَأَمَّلَ فِيهِ وَحَتَّى لَا يَنْسَاهُ؛ لِيَعْلَمَ مُجَدَّدًا نِعْمَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَدَعَا اللهَ، فَبَرِئَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ)).
النَّبِيُّ الْمُخْتَارُ ﷺ يَأْتِي بِهَذِهِ؛ لِأَنَّهَا مُهِمَّةٌ، يَقُولُ: ((لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ)).
فَلَمَّا جَاءَ أُوَيْسٌ وَلَقِيَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: ((أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
كَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرِئْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
لَكَ وَالِدَةٌ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لِي.
يَسْتَغْفِرُ لِعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-!!
وَمِنْ حَيْثِيَّاتِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رَجُلُ صِدْقٍ أَنَّهُ بَارٌّ بِأُمِّهِ.
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
كَرَاهَةُ الشُّهْرَةِ، وَعَدَمُ ذَوْقِ طَعْمِ النَّفْسِ))
مِنَ الدُّرُوسِ الَّتِي يُفِيدُهَا الْمُسْلِمُ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: كَرَاهَةُ الشُّهْرَةِ، وَعَدَمُ ذَوْقِ طَعْمِ النَّفْسِ؛ فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَكْرَهُونَ الشُّهْرَةَ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ، مِنْهُمْ: أَيُّوبُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَكَذَلِكَ الْفُضَيْلُ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ، وَكَانُوا يَذُمُّونَ أَنْفُسَهُمْ غَايَةَ الذَّمِّ، وَيَسْتُرُونَ أَعْمَالَهُمْ غَايَةَ السَّتْرِ.
دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى دَاوُدَ الطَّائِيِّ، فَسَأَلَهُ: ((مَا جَاءَ بِكَ؟)).
قَالَ: ((جِئْتُ لِأَزُورَكَ)).
فَقَالَ: ((أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَصَبْتَ خَيْرًا حَيْثُ زُرْتَ فِي اللهِ، وَلَكِنْ أَنَا أَنْظُرُ مَاذَا لَقِيتُ غَدًا إِذَا قِيلَ لِي: مَنْ أَنْتَ حَتَّى تُزَارَ؟!! مِنَ الزُّهَّادِ أَنْتَ؟!! لَا وَاللهِ، مِنَ الْعُبَّادِ أَنْتَ؟!! لَا وَاللهِ، مِنَ الصَّالِحِينَ أَنْتَ؟! لَا وَاللهِ))، وَعَدَّدَ خِصَالَ الْخَيْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُوَبِّخُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: ((يَا دَاوُدُ! كُنْتَ فِي الشَّبِيبَةِ فَاسِقًا، فَلَمَّا شِبْتَ صِرْتَ مُرَائِيًا!!))، وَالْمُرَائِي شَرٌّ مِنَ الْفَاسِقِ!!
فَتَأَمَّلْ فِي حَمْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِذَاتِهِ، وَتَأَمَّلْ حَيَاطَتَهُ لِأَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ يَقُولُ: ((لَوْ أَنَّ لِلذُّنُوبِ رَائِحَةً مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُجَالِسَنِي))؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الذُّنُوبِ لَوْ كَانَتْ لَنْ تَكُونَ إِلَّا نَتِنَةً، فَلَمَّا كَانَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ كَثِيرَةً جِدًّا؛ يَقُولُ: ((لَوْ أَنَّ لِلذُّنُوبِ رَائِحَةً مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُجَالِسَنِي)).
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصَحْفِ غَطَّاهُ, وَكَانَ أُوَيْسٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الزُّهَّادِ إِذَا عُرِفُوا فِي مَكَانٍ ارْتَحَلُوا عَنْهُ, بَلْ إِنَّ أُوَيْسًا -وَهُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ ذَاهِبًا فِي أَزْوَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ النَّبِىُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَعَنْ حَالِهِ, ((يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ -ثُمَّ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ- مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَدَعَا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُبْرِأَهُ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ))؛ فَكَانَ, وَكَأَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْقِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَافِيَةِ, وَلَا يَنْسَى الْمِنَّةَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ: ((وَكَانَ أُوَيْسٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الزُّهَّادِ إِذَا عُرِفُوا فِي مَكَانٍ؛ ارْتَحَلُوا عَنْهُ))، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْخُمُولِ، وَهُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: عِنْدَنَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ؛ فَكَيْفَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((خَيْرُ التَّابِعِينَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ))؟!!
فَقَالُوا: هُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ حَالًا، وَأَمَّا سَعِيدٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَكَانَ خَيْرَ التَّابِعِينَ عِلْمًا، حَتَّى كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَآهُ يَقُولُ: ((لَوْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ هَذَا لَأَعْجَبَهُ))؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَابِعِيًّا، لَمْ يَكُنْ صَحَابِيًّا، فَقَالَ: ((لَوْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ هَذَا -يَعْنِي: سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ- لَأَعْجَبَهُ)).
كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَيَقُولُ لِمَنْ يَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا؟!!
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَكَذَلِكَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَكَانَ النَّخَعِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يُسْأَلَ الدُّعَاءَ!!
وَكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَحْمَدَ يَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: ((إِذَا دَعَوْنَا نَحْنُ لِهَذَا، فَمَنْ يَدْعُو لَنَا؟!!)).
وَعِنْدَمَا جَاءَ الرَّجُلُ وَكَانَتْ أُمُّهُ مُقْعَدَةً مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَتْ: ((لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ -تَعْنِي: الْإِمَامَ أَحْمَدَ- حَتَّى يَدْعُوَ لِي، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ)).
فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَطَرَقَ الْبَابَ، فَقِيلَ: ((مَنْ؟)).
فَقَالَ: ((رَجُلٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ وَهِيَ مُقْعَدَةٌ مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ عَامًا، تَطْلُبُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا)).
فَغَضِبَ أَحْمَدُ، وَخَرَجَ صَوْتُهُ، وَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، وَخَرَجَ بَعْضُ مَنْ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهُ: ((لَقَدْ تَرَكْتُهُ يَدْعُو لَهَا))، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أُمِّهِ وَجَدَهَا قَدْ أَطْلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَاقَيْهَا، وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.
وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَتَقَبَّلُ مِنْ أُولَئِكَ لِهَضْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَعَدَمِ ذَوْقِهِمْ لِذَوَاتِهِمْ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِهِمْ إِزَاءَ قَدْرِ رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَتَذْكُرُ الْحِكَايَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عِنْدَمَا صُرِعَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ صُرِعَ فَحُمِلَ إِلَى الْمَجْلِسِ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الزَّادِ))، فَضَرَبَهُ الشَّيْخُ حَتَّى خَرَجَ الشَّيْطَانُ, فَلَمَّا أَفَاقَ الرَّجُلُ قَالَ: مَا الَّذِى جَاءَ بِي هَاهُنَا؟!!
قَالُوا: كُنْتَ قَدْ صُرِعْتَ, أَوَمَا أَحْسَسْتَ بِضَرْبِ الشَّيْخِ؟
قَالَ: وَعَلَامَ يَضْرِبُنِي الشَّيْخُ؟
لِأَنَّهُ لَمْ يُحِسَّ بِذَلِكَ, كَانَ عِنْدَ ضَرْبِهِ يُكَلِّمُ الْجِنِّيَّ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اخْرُجْ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ.
قَالَ: أَنَا أُحِبُّهُ.
قَالَ: هُوَ لَا يُحِبُّكَ.
قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ بِهِ.
قَالَ: لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكَ.
قَالَ: إِذَنْ؛ أَخْرُجُ كَرَامَةً لَكَ.
قَالَ: لَا, بَلْ تَخْرُجُ طَاعَةً لِلهِ وَلِرَسُولِ اللهِ.
أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا, فَقَالَ: أَخْرُجُ كَرَامَةً لَكَ.
قَالَ: لَا، بَلْ تَخْرُجُ طَاعَةً لِلهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ.
كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رُبَّمَا حُمِلَ خُفُّهُ إِلَى الْمَصْرُوعِ فَضُرِبَ الْمَصْرُوعُ بِالْخُفِّ فَيُفِيقُ, وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَقُولُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِذَا دَعَوْنَا نَحْنُ لِهَذَا، فَمَنْ يَدْعُو لَنَا؟!!)).
وُصِفَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ اجْتِهَادُهُ -عَلَى الْبَدَلِيَّةِ- فِي الْعِبَادَةِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ, فَعَزَمَ الْمَلِكُ عَلَى زِيَارَةِ ذَلِكَ الصَّالِحِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ, فَجَلَسَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ يَأْكُلُ, فَوَافَاهُ الْمَلِكُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ, فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَجَعَلَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَلِكِ!
فَقَالَ الْمَلِكُ: ((مَا فِي هَذَا خَيْرٌ، وَرَجَعَ!!)).
فَقَالَ الرَّجُلُ: ((الْحَمْدُ اللهِ الَّذِي رَدَّ هَذَا عَنِّي وَهُوَ لَائِمٌ)).
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَذُمُّ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُرِيَ النَّاسَ أَنَّهُ مُتَوَاضِعٌ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَيَرْتَفِعُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَيَمْدَحُونَهُ بِهِ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ أَبْوَابِ الرِّيَاءِ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ الْكَاذِبُ مِنْ أَجْلِ الثَّنَاءِ الْأَكْذَبِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.
قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: ((كَفَى بِالنَّفْسِ إِطْرَاءً أَنْ تَذُمَّهَا عَلَى الْمَلَأِ كَأَنَّكَ تُرِيدُ بِذَمِّهَا زِينَتَهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ سَفَهٌ)).
قَالَ الْحَافِظُ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ: ((وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُبَّ الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ، وَالْحِرْصَ عَلَيْهِمَا، يُفْسِدُ دِينَ الْمَرْءِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَصْلُ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالشَّرَفِ حُبُّ الدُّنْيَا، وَأَصْلُ حُبِّ الدُّنْيَا اتِّبَاعُ الْهَوَى)).
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ: ((مَنْ أَسْعَدُ بِالطَّاعَةِ مِنْ مُطِيعٍ؟!! أَلَا وَكُلُّ الْخَيْرِ فِي الطَّاعَةِ، أَلَا وَإِنَّ الْمُطِيعَ لِلهِ مَلِكٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).
وَقَالَ ذُو النُّونِ: ((مَنْ أَكْرَمُ وَأَعَزُّ مِمَّنِ انْقَطَعَ إِلَى مَنْ مَلَكَ الْأَشْيَاءَ بِيَدِهِ!!)).
دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ عَلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ, فَقَالَ لَهُ: ((يَا أَبَا سَلَمَةَ! مَا لِي كُلَّمَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ ارْتَعَدْتُ فَرَقًا -أَيْ: خَوْفًا- مِنْكَ)).
قَالَ: ((لِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللهِ خَافَهُ كُلُّ شَيْءٍ, وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُكَثِّرَ بِهِ الْكُنُوزَ خَافَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)).
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ((عَلَى قَدْرِ هَيْبَتِكَ لِلهِ يَخَافُكَ الْخَلْقُ, وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِكَ لِلهِ يُحِبُّكَ الْخَلْقُ, وَعَلَى قَدْرِ اشْتِغَالِكَ بِاللهِ تَشْتَغِلُ الْخَلْقُ بِأَشْغَالِكَ)).
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا يَمْشِي وَوَرَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ, فَالْتَفَتَ فَرَآهُمْ فَخَرُّوا عَلَى رُكَبِهِمْ هَيْبَةً لَهُ، فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى أَخْوَفُ لَكَ مِنْهُمْ لِي, فَاغْفِرْ لِي)).
وَكانَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ قَدْ خَرَجَ إِلَى الْكُوفَةَ إِلَى الرَّشِيدِ؛ لِيَعِظَهُ وَيَنْهَاهُ, فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي عَسْكَرِ الرَّشِيدِ لَمَّا سَمِعُوا بِنُزُولِهِ، حَتَّى لَوْ نَزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ مِائَةُ أَلْفِ نَفْسٍ لَمَا زَادُوا عَلَى ذَلِكَ!!
وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ, وَكَانَ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ يَجْتَمِعُونَ وَيَطْلُبُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ, فَإِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَهُ لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى سُؤَالِهِ, حَتَّى رُبَّمَا مَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَةً كَامِلَةً هَيْبَةً لَهُ.
وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُهَابُ أَنْ يُسْأَلَ, حَتَّى قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ:
يَدَعُ الْجَوَابَ وَلَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً=وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ
نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى=فَهُوَ الْمَهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ
وَكانَ بُدَيْلٌ الْعُقَيْلِيُّ يَقُولُ: ((مَنْ أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-؛ أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ, وَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللهِ؛ صَرَفَ اللهُ وَجْهَهُ عَنْهُ, وَصَرَفَ قُلُوبَ الْعِبَادِ عَنْهُ)).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: ((إِذَا أَقْبَلَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ عَلَى اللهِ أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)).
((مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَالزُّهْدُ فِيهَا))
مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى-: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْعَمَلُ لَهَا؛ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي كِتَابِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ هَذِهِ الدُّنْيَا، حَتَّى يَعْلَمَهَا مَنْ غَفَلَ عَنْهَا، وَحَتَّى يَلْزَمَ الْجَادَّةَ مَنْ ضَلَّ عَنْهَا.
قَالَ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا؛ إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ((أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ ظَعْنٍ لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، إِنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْهَا آدَمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عُقُوبَةً، فَاحْذَرْهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الزَّادَ مِنْهَا تَرْكُهَا، وَالْغِنَى فيهَا فَقْرُهَا؛ لَهَا فِي كُلِّ حِينٍ قَتِيلٌ، تُذِلُّ مَنْ أَعَزَّهَا، وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَهَا، هِيَ كَالسُّمِّ يَأْكُلُهُ مَنْ لا يَعْرِفُهُ وَهُوَ حَتْفُهُ، فَكُنْ فِيهَا كَالْمُدَاوِي جِرَاحَهُ، يَحْتَمِي قَلِيلًا مَخَافَةَ مَا يَكْرَهُ طَوِيلًا، وَيَصْبِرُ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ مَخَافَةَ طُولِ الْبَلَاءِ.
فَاحْذَرْ هَذِهِ الدَّارَ الْغَرَّارَةَ الْخَدَّاعَةَ الْخَتَّالَةَ، الَّتِي قَدْ تَزَيِّنَتْ بِخُدَعِهَا، وَفَتَنَتْ بِغُرُورِهَا، وَخَيَّلَتْ بِآمَالِهَا، وَتَشَوَّفَتْ لِخُطَّابِهَا، فَأَصْبَحَتْ كَالْعَرُوسِ الْمَجْلُوَّةِ، فَالْعُيُونُ إِلَيْهَا نَاظِرَةٌ، وَالْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَالِهَةٌ، وَالنُّفُوسُ لَهَا عَاشِقَةٌ، وَهِيَ لِأَزْوَاجِهَا كُلِّهُمْ قَاتِلَةٌ، فَعَاشِقٌ لَهَا قَدْ ظَفَرَ مِنْهَا بِحَاجَتِهِ؛ فَاغْتَرَّ وَطَغَى وَنَسِيَ الْمَعَادَ، فَشُغِلَ بهَا لُبُّهُ حَتَّى زَالَتْ عَنْهَا قَدَمَاهُ، فَعَظُمَتْ عَلَيْهَا نَدَامَتُهُ، وَكَثُرَتْ حَسْرَتُهُ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَحَسَرَاتُ الْفَوْتِ، وَعَاشِقٌ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا بُغْيَتَهُ، فَعَاشَ بِغُصَّتِهِ، وَذَهَبَ بِكَمَدِهِ، وَلَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا مَا طَلَبَ، وَلَمْ تَسْتَرِحْ نَفْسُهُ مِنَ التَّعَبِ، فَخَرَجَ بِغَيْرِ زَادٍ، وَقَدِمَ عَلَى غَيْرِ مِهَادٍ.
فَكُنْ أَسَرَّ مَا تَكُونُ فِيهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ لَهَا، فَإِنَّ صَاحِبَ الدُّنْيَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ مِنْهَا إِلَى سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَكْرُوهٍ، وُصِلَ الرَّخَاءُ مِنْهَا بِالْبَلَاءِ، وَقَدْ جُعِلَ الْبَقَاءُ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ، سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، أَمَانِيُّهَا كَاذِبَةٌ، وَآمَالُهَا بَاطِلَةٌ، وَصَفْوُهَا كَدَرٌ، وَعَيْشُهَا نَكَدٌ، فَلَوْ كَانَ رَبُّها لَمْ يُخْبِرْ عَنْهَا خَبَرًا، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهَا مَثَلًا، لَكَانَتْ قَدْ أَيْقَظَتِ النَّائِمَ، وَنَبَّهَتِ الْغَافِلَ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ مِنَ اللَّهِ فِيهَا وَاعِظٌ وعَنْهَا زَاجِرٌ، فَمَا لَهَا عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا وَزْنٌ.
وَلَوْ كَانَتْ تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَلَقَدْ عُرِضَتْ عَلَى نَبِيِّنَا ﷺ بِمَفَاتِيحِهَا وَخَزَائِنِهَا، لَا يَنْقُصُهُا عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، كَرِهَ أَنْ يُحِبَّ مَا أَبْغَضَ خَالِقُهُ، أَوْ يَرْفَعَ مَا وَضَعَ مَلِيكُهُ، فَزَوَاهَا عَنِ الصَّالِحِينَ اخْتِيَارًا، وَبَسَطَهَا لِأَعْدَائِهِ اغْتِرَارًا، فَيَظُنُّ الْمَغْرُورُ بِهَا الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهَا أَنَّهُ أُكْرِمَ بِهَا، وَنَسِيَ مَا صَنَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِرَسولِهِ حِينَ شَدَّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ -صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَيْهِ-)).
وقَالَ الْحَسَنُ -أَيْضًا-: ((إِنَّ قَوْمًا أَكْرَمُوا الدُّنْيَا فَصَلَبَتْهُمْ عَلَى الْخُشُبِ، فَأَهِينُوهَا، فَأَهْنَأُ مَا تَكُونُونَ إِذَا أَهَنْتُمُوهَا)).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَنْفَاسٌ، فَكُلَّمَا ذَهَبَ نَفَسٌ ذَهَبَ بَعضُكَ))؛ يَعنِي: تَقتَرِبُ مِنَ الْقَبْرِ خُطْوَةً.
كُلُّ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَيْكَ يُقَرِّبُكَ مِنَ الْقَبرِ خُطْوَةً.. عُمُرُكَ مَحْدُودٌ، بَدْءًا وَمُنْتَهًى!!
وَهَذَا مِثَالٌ عَمَلِيٌّ مِنَ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِلزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا تَوَلَّى الْخِلَافَةَ، وَعُمَرُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً- كَانَ يُؤْتَى لَهُ بِالطِّيبِ مِنَ الْأَقَاصِي، وَكَانَتْ لَهُ مِشْيَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْمِشْيَةُ الْعُمَرِيَّةُ، وَكَانَ الشَّبَابُ يُقَلِّدُونَهُ فِيهَا، وَكَانَ إِذَا وَضَعَ طِيبَهُ وَمَسَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ؛ يَعْنِي: أَنْتَ لَا تَكُونُ فِي طَرِيقِهِ وَتَقُولُ: عُمَرُ قَادِمٌ مِنْ طَرِيقٍ مَا، أَوْ أَنَّهُ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ وَيَمْضِي شَبَحُهُ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ، وَلَكِنْ إِذَا مَرَرْتَ بَعْدَهُ تَقُولُ: مَرَّ مِنْ هُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ!!
كَانَ مُنَعَّمًا -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لَمَّا أَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ الْخَيْرَ فَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ بِغَيْرِ رَغْبَةٍ مِنْهُ، بَلْ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهَا، بَلْ إِنَّهُ فِعْلًا دَفَعَهَا؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُلِّيَ قَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ، فَوَلُّوا مَنْ شِئْتُمْ)).
قَالُوا: ((لَا نَبْغِي بِكَ بَدَلًا. رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً)).
كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، مَا وَصَلَتْ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ)).
رَجُلٌ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَلَا يَرْضَى بِالدُّونِ، فَهُوَ يَقُولُ: ((إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، مَا وَصَلَتْ إِلَى مَنْزِلَةٍ مِنَ الْمَنَازِلِ إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا، وَأَنَا الْآنَ قَدْ آتَانِيَ اللهُ الْخِلَافَةَ، وَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا فِي الدُّنْيَا، فَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى الْآخِرَةِ))؛ فَانْخَلَعَ مِنَ الدُّنْيَا وَانْسَلَخَ مِنْهَا مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ -رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ-.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَدَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ -بِنْتُ خَلِيفَةٍ، وَزَوْجُ خَلِيفَةٍ، وَأُخْتُ خَلِيفَهٍ-، فَكَانَ بَنَاتُهُ -رَحِمَهُ اللهُ وَرَحِمَهُنَّ- يُفْطِرْنَ فِي الصِّيَامِ عَلَى الْعَدَسِ وَتُقَرْقِرُ بُطُونُهُنَّ، وَرُبَّمَا بَكَى عُمَرُ، مِنْ بَعْدِ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَ لَا يُعْهَدُ وَلَا يُوصَفُ، أَرْجَعَ كُلَّ هَذَا إِلَى أَصْلِهِ، وَعَاشَ هَذِهِ الْعِيشَةَ، وَلَهُ قَمِيصٌ وَاحِدٌ، حَتَّى إِنَّهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ صِهْرُهُ -أَخُو فَاطِمَةَ- فَرَأَى قَمِيصَهُ مُتَّسِخًا، فَخَلَا بِأُخْتِهِ، وَقَالَ لَهَا: إِنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ لِزِيَارَةِ وَعِيَادَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ تَدَعِينَ هَذَا الْقَمِيصَ عَلَيْهِ؟!!
قَالَتْ: وَاللهِ مَا لَهُ سِوَاهُ، سَأَنْتَهِزُ فُرْصَةً حَتَّى إِذَا مَا خَلَعَهُ وَيَأْتَزِرُ بِإِزَارٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ فَأَغْسِلُهُ لَهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَجَعَ أَوْلَادُهُ إِلَى عَدَمِ الْوِجْدَانِ، لَا يَجِدُونَ شَيْئًا، عَامَّةُ طَعَامِهِمُ الْعَدَسُ، وَيَعِيشُ فِي شَظَفٍ مِنَ الْعَيْشِ -بِاخْتِيَارِهِ-، وَهَذَا هُوَ الزُّهْدُ الْحَقِيقِيُّ؛ لِأَنَّكَ تَجِدُ أَقْوَامًا لَمْ يُؤْتَوْا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُمْ مِنْ سُبُلِ الدُّنْيَا سَبِيلٌ، وَيَقُولُ لَكَ: أَنَا زَاهِدٌ!! وَهُوَ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْمَجْهُودِ وَبَذَلَ مِنَ الْجُهْدِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ عَلَى دَانِقٍ -وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّرْهَمِ-؛ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا زَاهِدٌ!! لَا، الزَّاهِدُ مَنْ مَلَكَ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَمْلِكَ ثُمَّ تَرَكَ هَذَا، هَذَا هُوَ الزَّاهِدُ حَقًّا.
فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَخَزَائِنُ الْأَرْضِ تَحْتَ يَدِهِ فَتَرَكَ هَذَا كُلَّهُ، وَرَدَّ مَا كَانَ عِنْدَهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
وَعَاشَتِ امْرَأَتُهُ -رَحِمَهَا اللهُ-، وَعَاشَ أَوْلَادُهُ وَبَنَاتُهُ عِيشَةَ الشَّظَفِ وَهُنَّ فِي أَعْلَى بَيْتٍ فِي الْأُمَّةِ -فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ- بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاصِحٌ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اعْهَدْ، أَوْلَادُهُ حَوْلَهُ -وَهُمْ كَثِيرٌ- وَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا؛ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْهَدْ؛ يَعْنِي: أَوْصِ إِلَى بَنِيكَ، سَتَتْرُكُهُمْ فِي حَالٍ لَا تُحْمَدُ.
فَقَالَ: ((إِنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا أُعِينُهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ)).
تَأَمَّلْ.. يَقُولُ: إِنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، لَنْ يُضَيِّعَهُمْ؛ وَاللهِ لَنْ يُضَيِّعَنَا اللهُ إِذَا أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ، إِنَّكَ إِذَا مَا لَجَأْتَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا بِمَنْصِبٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ فَكُنْتَ أَسِيرًا عِنْدَهُ أَوْ عَلِمَ اضْطِرَارَكَ إِلَيْهِ فَكَانَ كَرِيمًا، فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُكَ وَلَا يُضَيِّعُ أَوْلَادَكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَكَيْفَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!
وَاللهِ لَا يُضَيِّعَنَا اللهُ أَبَدًا، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، لَنْ يُضَيِّعَنَا رَبُّنَا، وَرَجَاؤُنَا فِي اللهِ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، يَأْخُذُ عَنَّا أَعْيُنَ النَّاظِرِينَ، وَقُلُوبَ الْحَاسِدِينَ وَالْبَاغِينَ، وَهُوَ تَعَالَى الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.
إِنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِنْ يَكُونُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا أُعِينُهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ.
وَمَضَى إِلَى رَبِّهِ رَاشِدًا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْدُ إِلَّا قَاضِيًا فِي بَلَدٍ أَوْ أَمِيرًا عَلَى نَاحِيَةٍ.
((مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
الْحِرْصُ عَلَى الْوَقْتِ))
إِنَّ مِنَ الدُّرُوسِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي نَتَعَلَّمُهَا مِنْ تَتَبُّعِ سِيَرِ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الْوَقْتِ وَالْحِرْصَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ مِنْ أَجَلِّ أُصُولِ نِعَمِ اللهِ -تَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةَ الْوَقْتِ؛ أَنْ آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عُمُرًا وَمَنَّ عَلَيْهِ بِفُسْحَةٍ مِنَ الزَّمَنِ؛ لِكَيْ يَعْمَلَ صَالِحًا، وَيَسْتَدْرِكَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالسَّيِّئَاتِ، لِيَتُوبَ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَكَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُونَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَتَنَافَسُونَ فِي حِفْظِ الْأَوْقَاتِ أَشَدَّ مِمَّا يَتَنَافَسُ الْخَلْقُ الْحَاضِرُونَ فِي زَمَانِنَا فِي تَضْيِيعِهَا، فَهَذَا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ وَهُوَ أَحَدُ التَّابِعِينَ الزُّهَّادِ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا: ((كَلِّمْنِي!)).
فَقَالَ لَهُ عَامِرٌ: ((أَمْسِكِ الشَّمْسَ!!))؛ يَعْنِي: أَوْقِفْ لِي الشَّمْسَ وَاحْبِسْهَا عَنِ الْمَسِيرِ حَتَّى أُكَلِّمَكَ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مُتَحَرِّكٌ دَائِبُ الْمُضِيِّ لَا يَعُودُ بَعْدَ مُرُورِهِ، فَخَسَارَتُهُ خَسَارَةٌ لَا يُمْكِنُ تَعْوِيضُهَا وَاسْتِدْرَاكُهَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ مَا يَمْلَأُهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَإِذَا مَرَّ وَقْتٌ فَقَدْ مَرَّ بِمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْلَأَ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدْرَكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا اسْتَدْرَكْتَهُ بِوَقْتٍ جَدِيدٍ فَلِلْوَقْتِ الْجَدِيدِ مَا يَمْلَأُهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَمَاذَا تَصْنَعُ يَا مِسْكِينُ وَأَنْتَ تُضَيِّعُ الْعُمُرَ هَبَاءً؟!!
قَالَ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ، نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي)).
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الصَّالِحُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ، فَاعْمَلْ فِيهِمَا)).
((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ))؛ يَنْحِتَانِ فِي صِحَّتِكَ، وَيُشِيبَانِ سَوَادَ شَعْرِكَ، وَيَحْنِيَانِ ظَهْرَكَ، وَيُنْقِصَانِ مِنْ قُدْرَتِكَ، وَيَسْتَنْفِذَانِ مِنْ قُوَّتِكَ، ((إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ، فَاعْمَلْ فِيهِمَا)).
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامٌ، فَإِذَا ذَهَبَ يَوْمٌ ذَهَبَ بَعْضُكَ)).
وَقَالَ -أَيْضًا-: ((أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ مِنْكُمْ حِرْصًا عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ)).
وَقَالَ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ النَّحْوِيُّ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ، كَانَ بَارِعًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، فَقِيهًا فَصِيحًا مُفَوَّهًا، صَاحِبَ سُنَّةٍ، وَكَانَ عَابِدًا مِنَ الْعُبَّادِ، قَالَ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: ((لَوْ قِيلَ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا؛ مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعَمَلِ شَيْئًا!!)).
وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ جِدًّا وَوَصْفٌ هُوَ أَعْجَبُ، ((لَوْ قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تَمُوتُ غَدًا، مَا قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ شَيْئًا)).
وَقَالَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّبُوذَكِيُّ: ((لَوْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي مَا رَأَيْتُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ ضَاحِكًا لَصَدَقْتُ)).
كَانَ مَشْغُولًا؛ إِمَّا أَنْ يُحَدِّثَ، أَوْ يَقْرَأَ، أَوْ يُسَبِّحَ، أَوْ يُصَلِّيَ، وَقَدْ قَسَّمَ النَّهَارَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ يُونُسُ الْمُؤَدِّبُ: ((مَاتَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ)) -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
كَانُوا يَغَارُونَ عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَمْضِيَ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَيْهِمْ تَعُودُ، وَعَائِدَةٍ بِهَا يَعُودُونَ مِنْ خَيْرٍ يُحَصِّلُونَ، وَشَرٍّ عَنْهُ يَبْتَعِدُونَ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَأَبِي حَاتِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَكَجَدِّ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُمُ اللهُ جَمِيعًا- كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ أَمَرَ وَلَدَهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ لِيَسْمَعَ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ فِي الْخَلَاءِ، حَتَّى لَا يُضَيِّعُ الْوَقْتَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَعِلْمٍ، فَكَانَ يُمَاشِيهِ إِلَى بَيْتِ الْخَلَاءِ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، فَإِذَا دَخَلَ اعْتَزَلَ نَاحِيَةً فَقَرَأَ رَافِعًا صَوْتَهُ وَهُوَ يَسْمَعُهُ، فَيَقْرَأُ عَلَيْهِ يُحَصِّلُ الْعِلْمَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْخَلَاءِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ.
بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ وَصَلَ إِلَى أَمْرٍ عَجِيبٍ لَا يَفْرُغُ مِنْهُ الْعَجَبُ، كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَأْكُلُ فَيَمْضُغُ وَيُعَالِجُ بِأَسْنَانِهِ تَكْسِيرًا وَطَحْنًا، فَأَخَذَ يَحْسِبُ فَرْقَ مَا بَيْنَ هَذَا وَفَرْقَ أَنْ يُعَدَّ لَهُ فَتِيتًا حَتَّى يَسْتَفَّهُ اسْتِفَافًا، قَالَ: ((فَوَجَدْتُ بَيْنَهُمَا كَذَا تَسْبِيحَةٍ!!))، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا فَتِيتًا، فَيُفَتُّ لَهُ الطَّعَامُ وَالْخُبْزُ، وَهُوَ يَسْتَفُّهُ اسْتِفَافًا.
وَهَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ، كَمَا قِيلَ لِلثَّوْرِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، قِيلَ لَهُ: ((الرَّجُلُ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ -وَإِذَا أُطْلِقُ دَخَلَ فِيهِ اللَّيْلُ-، الرَّجُلُ يَأْكُلُ فِي النَّهَارِ أَكْلَةً وَاحِدَة.
قَالَ: أَكْلُ الصَّالِحِينَ.
قَالَ: فَيَأْكُلُ أَكْلَتَيْنِ.
قَالَ: أَكْلُ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: يَأْكُلُ ثَلَاثَ أَكْلَاتٍ.
قَالَ: قُولُوا لِأَهْلِهِ: يَتَّخِذُوا لَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ مِعْلَفًا!!))، هَذَا حَيَوانٌ! ((قُولُوا لِأَهْلِهِ: يَتَّخِذُوا لَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ مِعْلَفًا!!))، حَتَّى الْوَقْتُ يَغَارُونَ عَلَى تَضْيِيعِهِ حَتَّى فِي الطَّعَامِ، وَهُوَ قِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ.
فَاللهم سَلِّمْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، الْمُتَوَفَّى سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَتِلْمِيذُهُ وَنَاشِرُ عِلْمِهِ وَمَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَاضِي الْمُلُوكِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ الثَّلَاثَةِ الْمَهْدِيِّ وَالْهَادِي وَالرَّشِيدِ، وَقَدْ قَوَّمُوا الزَّمَنَ بِالْمَالِ؛ فَوَجَدُوا أَنَّ الْمَالَ لَا يُسَاوِي شَيْئًا.
هَذَا كَانَ قَاضِي قُضَاةِ الدُّنْيَا، كَانَ يُبَاحِثُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَهُوَ فِي النَّزْعِ وَالذَّمَاءِ؛ يَعْنِي: فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنَ الْحَيَاةِ، فَكَانَ يُبَاحِثُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَعْضَ عُوَّادِهِ -زُوَّرِاهِ فِي مَرَضِهِ- فِي مَسْأَلَةٍ فِقْهِيَّةٍ؛ رَجَاءَ النَّفْعِ بِهَا لِمُسْتَفِيدٍ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَلَا يُخْلِي اللَّحْظَةَ الْأَخِيرَةَ مِنَ اللَّحْظَاتِ فِي الْحَيَاةِ مِنْ كَسْبِهَا فِي مُذَاكَرَةِ عِلْمٍ وَإِفَادَةٍ وَاسْتِفَادَةٍ!!
قَالَ تِلْمِيذُهُ الْقَاضِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجَرَّاحِ الْكُوفِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ: ((مَرِضَ أَبُو يُوسُفَ، فَأَتَيْتُهُ أَعُودُهُ -وَالْعِيَادَةُ: الزِّيَارَةُ فِي الْمَرَضِ خَاصَّةً-، فَجِئْتُهُ -أَتَيْتُهُ- أَعُودُهُ، فَوَجَدْتُهُ مُغْمًى عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ لِي: يَا إِبْرَاهِيمُ! مَا تَقُولُ فِي مَسْأَلَةٍ؟!!
قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ؟!!
قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، نَدْرُسُ لَعَلَّهُ يَنْجُو بِهِ نَاجٍ.
ثُمَّ قَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ! أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ -أَيْ: فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ- أَنْ يَرْمِيَهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا؟
قُلْتُ: رَاكِبًا.
قَالَ: أَخْطَأْتَ.
قُلْتُ: مَاشِيًا.
قَالَ: أَخْطَأْتَ.
قُلْتُ: قُلْ فِيهَا يَرْضَى اللهُ عَنْكَ.
قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ يُوقَفُ عِنْدَهُ لِلدُّعَاءِ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا، وَأَمَّا مَا كَانَ لَا يُوقَفُ عِنْدَهُ فَالْأَفْضَلُ يَرْمِيهِ رَاكِبًا.
ثُمَّ قُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا بَلَغْتُ بَابَ الدَّارِ وَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-)).
فَاحْفَظْ زَمَانَكَ، وَاشْغَلْ نَفْسَكَ بِمَا يَنْفَعُكَ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ زَمَانِكَ عَلَى حَذَرٍ، فَنَحْنُ فِي زَمَانٍ قَدْ مَرِجَتْ فِيهِ الْأَمَانَاتُ، وَخَفَّتْ فِيهِ الْعُهُودُ، وَاضْطَّرَبَ فِيهِ أَمْرُ النَّاسِ، فَانْجُ بِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ.
((مِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
عِظَمُ الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! مِنْ أَعْظَمِ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ مُطَالَعَةِ وَمُذَاكَرَةِ سِيَرِ التَّابِعِينَ -رَحِمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-: الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَعَظِيمُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ: ((مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ؛ فَالْهُ عَنْهُ))؛ انْسَهُ، مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ؛ فَالْهُ عَنْهُ.
هَذِهِ كَلِمَةُ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا مَاتَ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَبَبًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي حَازَهُ أَبُوهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَانَ صُلْبًا فِي السُّنَّةِ، مُوَاظِبًا مُحَافِظًا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَطْلُبُ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يُقِيمَ أُمُورًا تَوَرَّطَ فِيهَا بَنُو أُمَيَّةَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ الْخِلَافَةُ إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَلَمَّا مَاتَ -وَكَانَ لَهُ مُحِبًّا، وَمَاتَ شَابًّا- دَفَنَهُ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ؛ وَجَدَ شَابًّا يُشِيرُ بِشِمَالِهِ؛ فَقَالَ: ((يَا ابْنَ أَخِي! أَشِرْ بِيَمِينِكَ)).
وَأَيْضًا: رَأَى شَابًّا قَدِ اسْتَرْسَلَ إِزَارُهُ، فَقَالَ: ((يَا ابْنَ أَخِي! ارْفَعْ إِزَارَكَ))؛ لِأَنَّ الْإِسْبَالَ مِنَ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: ((ارْفَعْ إِزَارَكَ)).
قَالَ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ هَذَا الْخَيْرُ: فِي هَذَا الْمَوْطِنِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟!! يَعْنِي: الْعَبْرَةُ عَلَى وَلَدِكَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، اللَّوْعَةُ عَلَيْهِ لَمْ تَذْهَبْ عَنِ الْقَلْبِ بَعْدُ، مَا زَالَ تُرَابُ قَبْرِهِ عَالِقًا بِيَدَيْكَ.
فَيَقُولُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ؟!! يَعْنِي: لَا تَنْسَى النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا تَنْسَى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، لَا تَنْسَى الِالْتِزَامَ بِالشَّرِيعَةِ فِي هَذَا؟!!
فَقَالَ: ((يَا ابْنَ أَخِي! مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ فَالْهُ عَنْهُ)).
مَاتَ، مَاذَا تَصْنَعُ؟!!
وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ الصُّدُقِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ مِنْ أَصْبَرِ الْخَلْقِ، يُحَوِّلُونَ الْكَلَامَ وَاقِعًا عَمَلِيًّا، وَيُحَوِّلُونَ الْإِيمَانَ إِلَى حَيَاةٍ فَوَّارَةٍ مَوَّاجَةٍ بِالْعَمَلِ، زَاخِرَةٍ هَادِرَةٍ بِذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ وَمِن نَتَائِجِهِ.
هَذَا رَجُلٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، هُوَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَمَّا نَسَبُهُ وَحَسَبُهُ، وَأَمَّا أَصْلُهُ وَفَصْلُهُ فَبَاهِرٌ زَاخِرٌ وَلَا مَزِيدَ.
فَأَمَّا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ؛ فَإِنَّهُ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ وَحَوَارِيُّهُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَمَّا أُمُّهُ فَـ(ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ) أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا وَعَلَى أَبِيهَا وَعَلَى أُمِّهَا وَعَلَى أَصْحَابِ نَبِيِّنَا أَجْمَعِينَ-.
أَمَّا أَسْمَاءُ؛ فَهِيَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الصَّبْرِ، وَهِيَ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، لَمَّا ذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِيهَا فِي الْغَارِ، فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَجْعَلُهُ عِصَامًا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَحْمِلَ فِيهِ زَادَ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرَابَهُ، فَأَخَذَتْ نِطَاقَهَا، وَهُوَ ذَلِكَ الَّذِي تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ وَسَطَهَا، فَجَعَلَتْهُ بِثِنْتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَتِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مُعَلَّقًا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَجَعَلَتْ عَلَى وَسَطِهَا الثَّانِيَ، فَسُمِّيَتْ بِـ(ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ).
أَسْمَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَهِيَ تُحَوِّلُ الْإِيمَانَ حَقِيقَةً وَاقِعِيَّةً، وَقَدْ أَصَابَهَا الضُّرُّ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، وَسَلَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا حَبِيبَتَيْهَا وَأَصَابَهَا الْعَمَى، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُبْصِرَةً بِبَصِيرَتِهَا، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ مُشَاهِدَةً بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهَا.
لَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهَا وَلَدُهَا عَبْدُ اللهِ قَبْلَ الْمَوْقِعَةِ الْفَاصِلَةِ مَعَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَوَصَّتْهُ بِمَا وَصَّتْهُ بِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَذَهَبَ قَتِيلًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَعَلَّقَهُ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوسًا مَصْلُوبًا، وَأَمَّا هِيَ فَاحْتَسَبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَانَتْ صَابِرَةً حَتَّى لَقِيَتْ رَبَّهَا -جَلَّ وَعَلَا-.
وَأَمَّا جَدَّتُهُ لِأَبِيهِ فَهِيَ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَهَذَا الرَّجُلُ بَاذِخٌ مِنْ طَرَفَيْهِ، جَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَأَبُوهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَجَدَّتُهُ لِأَبِيهِ صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
رَزَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْبَعَةً مِنَ الْوَلَدِ؛ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ عُرْوَةَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ (زَيْنَ الْمَوَاكِبِ)؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي بَهَائِهِ وَجَمَالِهِ مَثَلًا مَضْرُوبًا حَتَّى لُقِّبَ بِـ(زَيْنِ الْمَوَاكِبِ).
وَكَانَ عُرْوَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَحَدَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عِلْمَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَتَّى اشْتَفَّهُ، وَإِنَّهُ لَيَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ: «لَوْ مَاتَتِ الْيَوْمَ؛ لَمَا أَسِفْتُ عَلَى حَدِيثٍ هُوَ عِنْدَهَا»؛ مِنْ كَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ عَلَيْهَا، وَسُؤُالِهِ إِيَّاهَا، وَحَمْلِهِ لِلْعِلْمِ الَّذِي عَلَّمَهَا إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَأَرْسَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ دَعْوَةً لِعُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ لِكَيْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ دِمْشَقَ حَاضِرَةَ الْخِلَافَةِ الْأُمَوِيَّةِ، وَاصْطَحَبَ عُرْوَةُ مَعَهُ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ، وَهِشَامًا وَلَدَهُ وَهُوَ مِمَّنْ رَوَى عَنْ أَبِيهِ فَأَكْثَرَ، فَـ(هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-) طَرِيقٌ مَعْلُومَةٌ، وَسَبِيلٌ مَسْلُوكَةٌ، وَمَعْلَمٌ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ بَاهِرٌ.
اصْطَحَبَ عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مَعَهُ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ وَهِشَامًا، فَتَحَصَّلَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَصْرِهِ، فَأَكْرَمَ وِفَادَتَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ إِحْسَانًا كَامِلًا، وَأَمَّا عُرْوَةُ؛ فَقَدْ أَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ شَيْئًا آخَرَ؛ لِكَيْ يَضْرِبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ الْمِثَالَ لِلْأَجْيَالِ اللَّاحِقَةِ، وَإِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّاعَةَ.
أَمَّا عُرْوَةُ فَإِنَّهُ اشْتَكَى رِجْلَهُ مُنْذُ رَحِيلِهِ، حَتَّى كَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ فِي قَصْرِهِ، وَمَا زَالَتِ الْعِلَّةُ تَشْتَدُّ بِالْوَجَعِ عَلَيْهِ حَتَّى قَرَّرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى (أَبِي الْحَكَمِ)، وَهُوَ طَبِيبُهُ النَّصْرَانِيُّ، وَكَانَ رَجُلًا فَارِعَ الطُّولِ، مَشْبُوحَ الْعِظَامِ، قَدْ ذَهَبَ الصَّلَعُ بِشَعْرِ رَأْسِهِ إِلَّا شَعَرَاتٍ بِيضٍ بِجَانِبَيْهِ، وَأَمَّا لِحْيَتُهُ فَقَدْ طَالَتْ وَهِيَ كَثَّةٌ فَلَوْ ضَرَبَتْهَا الرِّيحُ لَطَارَتْ بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ تَسْبِقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِحْيَتُهُ، حَتَّى كَانَ هُنَالِكَ عِنْدَ عُرْوَةَ وَفِي الْمَجْلِسِ مَنْ فِيهِ؛ وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
وَقَامَ الطَّبِيبُ النَّصْرَانِيُّ أَبُو الْحَكَمِ لِفَحْصِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ قَرَّرَ قَرَارًا رَهِيبًا، قَالَ: إِنَّهَا الْأَكِلَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْأَطِبَّاءِ الْيَوْمَ (الْغَرْغَرِينَة).
وَهَذِهِ إِذَا مَا اسْتَشْرَتْ فِي عُضْوٍ بِدَائِهَا؛ تَآكَلَ وَتَأَكَّلَ مِنْهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ بَتْرِهَا مِنْ فَوْقِهَا مِمَّا هُوَ صَحِيحٌ، وَإِلَّا فَإِنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ: هِيَ الْأَكِلَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَتْرِهَا.
وَسَبَقَ هَذَا الْحَدَثَ؛ أَنَّ زَيْنَ الْمَوَاكِبِ كَانَ هُنَالِكَ فَوْقَ سَطْحِ دَارٍ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ تُشْرِفُ عَلَى إِسْطَبْلٍ بِهِ جِيَادُهُ، فَمَا زَالَ نَاظِرًا مُتَطَلِّعًا حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهُ، فَوَقَعَ هُنَالِكَ بَيْنَ الْجِيَادِ، فَرَمَحَهُ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ، فَقَضَى عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الْهَرَجُ فِي الْجِيَادِ، فَمَا زَالَتْ ثَائِرَةً تَرُوحُ وَتَجِيءُ عَلَى جَسَدِهِ حَتَّى فَصَلَتْ رَأْسَهُ عَنْهُ.
وَكَانَ هَذَا الْحَدَثُ بِمَعْزِلٍ عَنْ عُرْوَةَ، وَقَدْ نَزَلَتْ بِهِ الْمُصِيبَةُ فِي جَسَدِهِ، وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ قَالَ لِلطَّبِيبِ: دُونَكَ.
فَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَا بُدَّ أَنْ نَسْقِيَكَ خَمْرًا.
فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخِ سُوءٍ، إِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِحَرَامِ اللهِ عَلَى عَافِيَتِهِ، وَإِنَّا لَا نَتَوَصَّلُ إِلَى مَا نُرِيدُ مِنَ الرَّاحَةِ بِهَذِهِ السَّبِيلِ الْمَسْلُوكَةِ الْخَائِضَةِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
قَالَ: فَإِذَنْ؛ لَا بُدَّ أَنْ نَسْقِيَكَ الْمُرْقِدَ.
وَهُوَ شَيْءٌ كَالْمُخَدِّرِ، إِذَا مَا تَنَاوَلَهُ الْإِنْسَانُ ذَهَبَ عَنْهُ وَعْيُهُ، حَتَّى يُلِمَّ بِهِ هَذَا الْبَتْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَا مَخَافَةٍ عَلَيْهِ؛ إِذْ يَتَفَزَّزُ وَيَتَفَزَّعُ، وَرُبَّمَا نَدَّتْ مِنْهُ حَرَكَةٌ فِي أَثْنَاءِ الْبَتْرِ بِآلَاتِهِ الْبُدَائِيَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَأُصِيبَ فِي مَوْضِعٍ صَحِيحٍ مِنْهُ، أَوْ لَمْ يَقِفْ نَزْفُ الدَّمِ بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ بَتْرِ الْعُضْوِ الْمُصَابِ، وَيَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَا يُحْمَدُ عُقْبَاهُ.
فَقَالَ: فَنَسْقِيكَ الْمُرْقِدَ.
قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا أُحِبُّ أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنِّي عَنِّي إِلَّا وَأَنَا حَامِدٌ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، شَاكِرٌ لَهُ، وَأَنَا مُصَلٍّ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ؛ حَتَّى أَتَحَصَّلَ عَلَى تَمَامِ الْأَجْرِ مِنْ ذَلِكَ، وَاللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.
فَأُتِيَ بِالطَّسْتِ، وَمُدَّتْ رِجْلُ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَوْقَ الطَّسْتِ، وَأَتَى أَبُو الْحَكَمِ بِآلَاتِهِ، فَأَخْرَجَ مِنْشَارًا طَوِيلًا دَقِيقًا صَقِيلًا، يَضْحَكُ الشُّعَاعُ فِيهِ، فَاسْتَلَّهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَفَحَصَهُ، حَتَّى إِذَا مَا رَضِيَهُ، أَقْبَلَ عَلَى الرِّجْلِ الصَّحِيحَةِ مِنْ عِنْدِ الرُّكْبَةِ بَلْ مِنْ فَوْقِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ يُعْمِلُ مِنْشَارَهُ فِي اللَّحْمِ الْحَيِّ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْعَظْمِ الْحَيِّ يَنْشُرُهُ نَشْرًا، وَعُرْوَةُ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ».
وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُومُ بِنَشْرِ رِجْلِهِ مِنَ الْعَظْمِ الْحَيِّ، حَتَّى فَصَلَهَا، فَأُخِذَتْ نَاحِيَةً، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَفُورُ كَأَنَّمَا يَنْبَثِقُ مِنْ يَنْبُوعٍ دَمَوِيٍّ حَيٍّ أَحْمَرَ قَانِيًا، وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُو وَجْهَ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ أَثَرِ النَّزْفِ، وَإِنَّ الْعَرَقَ لَيَتَصَبَّبُ مِنْهُ شَآبِيبَ، يَمْسَحُ ذَلِكَ بِكَفَّيْهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ ذِكْرِهِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ جِيءَ بِمَغَارِفَ فِيهَا زَيْتٌ يَغْلِي، قَدْ أُحْمِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ النَّارُ، فَصُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ عَلَى تِلْكَ الْقَدَمِ الَّتِي قَدْ قُطِعَتْ، يَعْنِي عَلَى الْبَاقِي مِنْهَا عَلَى آثَارِهَا، صُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ فِي غَلَيَانِهِ، فِي تَوَهُّجِهِ، فِي نَارِهِ، صُبَّ عَلَى آثَارِ ذَلِكَ الْجُرْحِ، وَعَلَى بَقَايَا ذَلِكَ النَّزْفِ، وَعَلَى آثَارِ تِلْكَ الْعِظَامِ الْمَنْشُورَةِ، صُبَّ الزَّيْتُ الْمَغْلِيُّ، وَالرَّجُلُ مُتَّصِلٌ بِرَبِّهِ يَذْكُرُ وَيَدْعُو، وَيَأْلَمُ وَلَا يَشْكُو، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحْتَسِبًا صَابِرًا، وَالْأَمْرُ يَتَنَزَّلُ بِالسَّكِينَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحُضُورُ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفَّيْهِ، وَعَلَا النَّشِيجُ بِالْبُكَاءِ وَكَانَتْ مَنَاحَةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَتَأَلَّقُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ، لَا يَبْكِي وَلَا يَشْكُو، وَإِنَّمَا هُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَعْطَى هُوَ الَّذِي أَخَذَ، وَلِأَنَّ الَّذِي مَنَحَ هُوَ الَّذِي مَنَعَ، وَلِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
وَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ مُتَأَلِّقَةٌ قَائِمَةٌ، وَهَذَا الرَّجُلُ الطَّبِيبُ النَّصْرَانِيُّ يَرَى هَذَا الْهَوْلَ كُلَّهُ، وَلَا يَرَى لَهُ فِي نَفْسِ عُرْوَةَ مِنْ أَثَرٍ يُذْكَرُ، يَقُولُ: أَمَا وَاللهِ إِنَّهُ لَتِمْثَالٌ مِنَ الصَّبْرِ فِي إِهَابِ رَجُلٍ، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ.
وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ فَإِنَّ الزَّيْتَ الْمَغْلِيَّ لَمَّا جُعِلَ عَلَى رِجْلِهِ بَعْدَ أَنْ بُتِرَتْ لِأَجْلِ أَنْ يُوقَفَ النَّزِيفُ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ الدَّمُ بِغَلَيَانِهِ وَفَوَرَانِهِ وَثَوْرَتِهِ، حَتَّى لَا يَمُوتَ نَزْفًا بَعْدَ أَنْ كَادَ أَنْ يَمُوتَ مِنَ الْأَكِلَةِ مِنَ الْمَرَضِ، وَهَا هُوَ هَذَا الْعُضْوُ الْمُصَابُ قَدْ أُبْعِدَ نَاحِيَةً، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْجَسَدُ لِيَمُوتَ مِنْ عِلَّةٍ أُخْرَى، إِنَّمَا كَانَتِ الْأُولَى سَبَبًا فِيهَا وَمُؤَدِّيَةً إِلَيْهَا.
وَأَمَّا رِجْلُهُ الَّتِي فُصِلَتْ عَنْهُ، فَإِنَّ الرِّجَالَ لَيُبْعِدُونَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، وَأَمَّا هُوَ فَأَخَذَتْهُ غَاشِيَةٌ فَأُغْشِيَ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَأْخُذُ فِي ذِكْرِهِ وَهُوَ فِي غَاشِيَتِهِ، وَهُوَ فِي إِغْمَائِهِ مُتَّصِلٌ بِرَبِّهِ، حَتَّى إِذَا سُرِّيَ عَنْهُ وَأَفَاقَ، لَمَحَ رَجُلًا يَخْرُجُ بِرِجْلِهِ الَّتِي بُتِرَتْ، فَقَالَ: دُونَكَ، هَلُمَّ إِلَيَّ، فَجَاءَهُ، فَأَخَذَ مِنْهُ رِجْلَهُ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَرَّبَهَا مِنْهُ فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي حَمَلَنِي عَلَيْكِ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنِّي مَا سِرْتُ عَلَيْكِ إِلَى سُوءٍ قَطُّ، وَإِنَّي لَأَحْتَسِبُكِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خُذُوهَا فَوَارُوهَا.
وَأَمَّا هُوَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صَابِرًا، وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ، هَذَانِ أَمْرَانِ لَيْسَ لَهُمَا مِنْ ثَالِثٍ، وَصَبْرُ عُرْوَةَ صَبْرُ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَا، يَنْظُرُ إِلَى قَدَمِهِ الَّتِي فُصِلَتْ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدِ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ، فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ!!»
لَا يَنْظُرُ إِلَى مَا أُخِذَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ.. وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ شَيْئًا، وَلَا يَفْرِضُ عَلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُعْطِي وَيَهَبُ، وَالَّذِي يَجُودُ وَيَتَفَضَّلُ، هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ الْمُدَبِّرُ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
«فَلَمْ يَلْتَفِتِ الرَّجُلُ إِلَى مَا أُخِذَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْتَفَتَ إِلَى مَا بَقِيَ لَدَيْهِ»، وَهِيَ قَاعِدَةٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ زَوَالِ بَعْضِ النِّعَمِ.
وَهَذَا مَا قَالَهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ لِرَجُلٍ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، فَذَهَبَ يَشْكُو إِلَى عَالِمٍ كَانَ هُنَالِكَ رَبَانِيٍّ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ قَالَ: إِنِّي قَدْ ضُيِّقَ عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ، وَأَنَا مِنْ بَعْدُ وَمِنْ قَبْلُ مُصَلٍّ مُزَكٍّ مُتَصَدِّقٌ، وَأَنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ مُسْتَقِيمٌ عَلَى دِينِ رَبِّي -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ غَيْرِي مِنَ الْخَلْقِ مِمَّنْ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَمِمَّنْ لَا يُطِيعُونَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي أَمْرٍ وَلَا يَنْتَهُونَ عَنْ نَهْيٍ، وَمِمَّنْ قَدْ مَرُّوا فِي الْحَيَاةِ وَإِنَّ حِبَالَهُمْ لَعَلَى غَوَارِبِهِمْ، يَسِيرُونَ فِيهَا سَيْرَ الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاوَاتِ!!
إِنَّ فُلَانًا وَفُلَانًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَصْفَتُ مِنْ حَالِهِمْ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ وَلَا يَأْتُونَ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْبَاطِلَ يُجَامِعُونَهُ وَيُوَاقِعُونَهُ وَيُضَاجِعُونَهُ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ!!
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَعْمَى وَلَكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟
فَأَخَذَ الرَّجُلُ يُفَكِّرُ فِي الْأَمْرِ، وَمَا هِيَ إِلَى طَرْفَةُ الْعَيْنِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا حَتَّى قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِائَةَ أَلْفٍ، وَأَنِّي كُنْتُ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ.
فَقَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَصَمَّ لَا تَسْمَعُ وَلَكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟
فَقَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مَشْلُولَ الْيَدَيْنِ وَلَكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ مَشْلولَ الرِّجْلَيْنِ وَلَكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: أَكُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَبْكَمَ لَا تَنْطِقُ وَلَكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لَا وَاللهِ.
قَالَ: يَا هَذَا، لِلهِ عِنْدَكَ نِعَمٌ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ يَغْذُوكَ، وَيَكْسُوكَ، وَيَكْلَؤُكَ، وَيَرْعَاكَ، وَيَحْمِيكَ، وَيُعْطِيكَ، فَاذْهَبْ فَأَدِّ مَا لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ، ثُمَّ طَالِبْ رَبَّكَ بِمَا لَا تَسْتَحِقُّ!!
وَالْأَصْلُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ بِهَذِهِ النِّعَمِ، وَهِيَ فَوْقَ أَنْ تُقَدَّرَ بِمَالٍ، وَذَلِكَ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِمَّنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُسْكَةً مِنْ عَقْلٍ أَوْ ذَرَّةً مِنْ نُهَى.
وَأَمَّا عُرْوَةُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقَاعِدَةَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَنْظُرُ إِلَى مَا تَبَقَّى وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا ذَهَبَ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدِ ابْتَلَيْتَ فِي عُضْوٍ، فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَعْضَاءٍ!!
فَقَدْ أَبْقَيْتَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى، وَأَبْقَيْتَ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ وَالنُّطْقَ وَالْعَقْلَ، وَأَبْقَيْتَ الْيَدَيْنِ، وَأَبْقَيْتَ الْقُوَّةَ، وَأَبْقَيْتَ الْعَافِيَةَ، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِيمَانُ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَعِنْدَئِذٍ يَأْتِي إِلَيْهِ النَّاعِي فَيَقُولُ: عَزَاءَكَ أَبَا عَبْدِ اللهِ.
فَيَقُولُ: وَمَا ذَلِكَ؟ إِنَّ رِجْلِي قَدِ احْتَسَبْتُهَا عِنْدَ اللهِ!
فَيَقُولُ ذَلِكَ النَّاعِي: إِنَّا نُعَزِّيكَ فِي زَيْنِ الْمَوَاكِبِ.
قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟
قَالَ: كَانَ هُنَالِكَ فَوْقَ سَطْحٍ يُشْرِفُ عَلَى إِسْطَبْلِ خُيُولِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَقَعَ، فَرَمَحَتْهُ حَتَّى مَاتَ -رَحْمَةُ اللهُ عَلَيْهِ-.
فَمَا كَانَ مِنْ عُرْوَةَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- إِلَّا أَنْ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ قَدِ ابْتَلَيْتَ فِي وَلَدٍ، فَقَدْ عَافَيْتَ فِي أَبْنَاءٍ».
لَمْ يَنْظُرْ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- إِلَّا مَا سُلِبَ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَّا مَا تَبَقَّى لَدَيْهِ، فَكَانَ مِنْهُ هَذَا الْحَمْدُ وَهَذَا الشُّكْرُ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِنَّ دَمَ رِجْلِهِ لَمْ يَرْقَأْ بَعْدُ، وَإِنَّ دَمَ رِجْلِهِ وَذَلِكَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ آثَارِ الْجُرْحِ مِنْ سَوَائِلِهِ مَا زَالَ يَنِزُّ مِنْ رِجْلِهِ بَعْدُ، وَإِنَّ رَائِحَةَ الشِّوَاءِ لِلَّحْمِ الْحَيِّ، وَإِنَّ الزَّيْتَ الْمَغْلِيَّ مَا زَالَ يَعْمَلُ فِي رِجْلِهِ عَمَلَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.
ثُمَّ لَمَّا حُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ -مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ-، وَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ يُعَزُّونَهُ، كَانَ مِمَّا قِيلَ لَهُ فِي الْعَزَاءِ عَنْ رِجْلِهِ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا، وَعَنْ بَدَنِهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَاللهِ مَا كُنَّا نُعِدُّكَ لِلصِّرَاعِ وَلَا نُعِدُّكَ لِلسِّبَاقِ، وَلَقْدْ أَبْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْكَ مَا نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَهُوَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].
((مِنْ دُرُوسِ سِيَرِ التَّابِعِينَ:
الْوَرَعُ، وَالْحِرْصُ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ))
مِنْ أَهَمِّ الدُّرُوسِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ سِيَرِ التَّابِعِينَ: الْوَرَعُ، وَالْحِرْصُ عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الْأُمَّةَ الْوَرَعَ، وَعَلَى نَهْجِهِ وَدَرْبِهِ سَارَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
قَالَ الْحَسَنُ: ((مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ؛ مَخَافَةَ الْحَرَامِ)).
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ((إِنَّمَا سُمُّوا الْمُتَّقِينَ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّقَوْا مَا لَا يُتَّقَى)).
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((لَا يُصِيبُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الْحَلَالِ، وَحَتَّى يَدَعَ الْإِثْمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ)).
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ اشْتَهَى يَوْمًا عَسَلًا، وَتَعْلَمُ أَنَّهُ رَدَّ كُلَّ مَا كَانَ مَالِكًا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حِلِّهِ فِي مِلْكِهِ إِيَّاهُ، حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا يُغْسَلُ، فَيَظَلُّ هُنَالِكَ سَاتِرًا عَوْرَتَهُ حَتَّى يَجِفَّ ثُمَّ يَلْبَسُهُ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَحْتَ يَدِهِ خَزَائِنُ الْأَرْضِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
اشْتَهَى يَوْمًا عَسَلًا، قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ.. امْرَأَتُهُ -رَحِمَهَا اللهُ- الَّتِي صَبَرَتْ عَلَى مَا أَعَاشَهَا فِيهِ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ؛ تَوَرُّعًا، مَعَ أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، وَارْتِفَاعِ السِّيَادَةِ، وَتَمَلُّكِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ؛ إِذْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ مَا زَالَ قَاصِدًا بِهَا الْمَقْصِدَ الْأَحْمَدَ حَتَّى أَقَامَهَا عَلَى شِبْهِ الزُّهْدِ الْكَامِلِ؛ تَقَشُّفًا وَتَوَرُّعًا، وَحِيَاطَةً لِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَشُوبُهُ أَوْ يُكَدِّرُهُ، فَصَبَرَتْ -رَحِمَهَا اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
فَلَمَّا اشْتَهَى عَسَلًا، وَجَّهَتْ غُلَامًا بِدِينَارٍ إِلَى طَرَسُوسَ، فَأَتَى بِعَسَلٍ جَيِّدٍ، وَمَا كَانَ مَكَانُهُمْ بِمَكَانِ عَسَلٍ يَكُونُ فِيهِ، ثُمَّ قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا طَعِمَ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ وَكَيْفَ جِئْتُمْ بِهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ بِهِ؟
قَالَ الْغُلَامُ: إِنِّي أَخَذْتُ دَابَّةً مِنْ دَوَابِّ الْبَرِيدِ، فَسَيَّرْتُهَا إِلَى طَرَسُوسَ، فَاشْتَرَيْتُ بِدِينَارٍ عَسَلًا فَجِئْتُ بِهِ.
فَرَفَعَ يَدَهُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَقَالَ: ارْفَعْ هَذَا الْعَسَلَ، وَاذْهَبْ بِهِ إِلَى السُّوقِ فَبِعْهُ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْنَا رَأْسَ مَالِنَا، وَاجْعَلْ مَا زَادَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ -رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-: وَلَوْ كَانَ يَنْفَعُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا أَنْ أَقِيئَهُ لَاسْتَقَأْتُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-.
فَكَانَ فِي الْوَرَعِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَمَا هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، تَأْتِيهِ الْوُفُودُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْرِضُوا عَلَيْهِ الْأُمُورَ -أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ-، وَأَنْ يَتَبَاحَثُوا مَعَهُ فِيمَا يُهِمُّ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَذُبَالَةٌ هُنَالِكَ خَافِتَةٌ إِنَّمَا تُسْتَمَدُّ مِنْ زَيْتٍ هُوَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ سُؤَالَاتِهِمْ، وَانْقَضَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ مُتَبَسِّطِينَ قَائِلِينَ: وَكَيْفَ حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَامَ مُسْرِعًا فَزِعًا، فَأَطْفَأَ الْمِصْبَاحَ وَالذُّبَالَةَ، يَقُولُ: أَمَّا الْآنَ فَلَيْسَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
فَهَذَا الضَّوْءُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَسْتَمِدَّهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْتُمْ تَسْأَلُونَ عَنْ حَالِي، وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَمَدُّ مِنْ زَيْتٍ هُوَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَحِلُّ.
وَلَا غَرْوَ أَنْ يَفْعَلَ الْإِمَامُ الْكَبِيرُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، وَيَصْنَعُ كَهَذَا الصَّنِيعِ، فَإِنَّ الْإِمامَ -رَحِمَهُ اللهُ- ظَلَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَطْعَمُ شَيْئًا وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، ثُمَّ اسْتَعَارُوا لَهُ أَمْدَادًا مِنْ دَقِيقٍ، وَبِعِلْمِهِ صُنِعَ، غَيْرَ أَنَّهُ جِيءَ بِالْخُبْزِ عَلَى الْعَجَلَةِ، فَلَمَّا قُدِّمَ إِلَيْهِ قَالَ: كَيْفَ خَبَزْتُمْ بِهَذِهِ الْعَجَلَةِ -أَيْ: بِهَذِهِ السُّرْعَةِ-؟!
قَالُوا: يَا إِمَامُ! التَّنُّورُ فِي بَيْتِ صَالِحٍ مَسْجُورٌ، فَخَبَزْنَا هُنَالِكَ.
فَقَالَ: ارْفَعُوا.
فَرَفَعُوهُ، وَأَمَرَ بِالْخَوْخَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ صَالِحٍ وَلَدِهِ فَسُدَّتْ؛ لِأَنَّ صَالِحًا كَانَ يَصِلُهُ بَعْضُ شَيْءٍ مِنْ صِلَاتِ السَّلَاطِينِ، مَعَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُحَرِّمُهُ، حَتَّى إِنَّ صَالِحًا أَتَى فَزِعًا، يَقُولُ: يَا أَبَتِ، أَحَرَامٌ هِيَ؟!
يَقُولُ: لَا.
وَلَكِنَّهُ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، حَتَّى إِنَّهُ لَيَبْلُغُ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا -عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.
كَانَ قَدْ أُغْشِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، فَانْتَبَهَ، فَوَجَدَ غُلَامًا يُرَوِّحُ عَلَيْهِ بِمِرْوَحَةٍ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: غُلَامٌ لِعَمِّكَ إِسْحَاقَ.
قَالَ: ارْفَعْ هَذِهِ الْمِرْوَحَةَ، وَاغْرُبْ عَنْ وَجْهِي! لِأَنَّ عَمَّهُ كَانَتْ تَصِلُهُ الصِّلَاتُ كَصَالِحٍ -رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-.
حَتَّى نَسَمَةُ الْهَوَاءِ لَا يَقْبَلُهَا الْإِمَامُ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-!
هُوَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتَوَرَّعُ فِيهِ الْمُتَوَرِّعُونَ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَغِشْيَانِ الْحَرَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَالَ نَبِيُّنَا ﷺ: ((يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يُبَالِي النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبُوا، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)).
الْحَلَالُ عِنْدَهُمْ مَا وَقَعَ فِي الْيَدِ!! وَلَوْ كَانَ رِشْوَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً!! مَا دَامَ وَقَعَ فِي الْيَدِ فَهُوَ حَلَالٌ!! وَالْحَرَامُ عِنْدَهُمْ مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْيَدِ!!
وَمَا كَذَلِكَ دِينُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَا عَلَى هَذَا أَخَذَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِيثَاقَنَا أَمْرًا: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ وَأَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي كَسْبِهِ، فَتَعْلَقُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَنَّ غُلَامًا لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ كَتَبَ لَهُ مِنَ الْأَهْوَازِ أَنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ قَدْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ؛ فَاشْتَرِ السُّكَّرَ الَّذِي قِبَلَكَ.
فَاشْتَرَاهُ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى رَبِحَ فِيهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا, فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ الرِّبْحِ، فَذَهَبَ إِلَى الْبَائِعِ، فَقَالَ: يَا هَذَا! إِنَّ غُلَامِي قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْلَمْ؛ فَأَقِلْنِي فِي هَذَا الْبَيْعِ.
فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ.
فَذَهَبَ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ, فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ, فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ وَجْهِهِ, فَأَقِلْنِي فِي هَذَا الْبَيْعِ, فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ!!
وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوَرَعِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَثَّلَ لِلْإِنْسَانِ دَائِمًا بِإِزَاءِ عَيْنِ بَصِيرَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَدَعُ.
وَهَذَا رَجُلٌ جَاءَ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، كَانَ يَتَوَرَّعُ، فَسَأَلَ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، فَدُلَّ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، أَبِي سَعِيدٍ الْإِمَامِ، الْوَرِعِ الزَّاهِدِ، الْعَفِيفِ الْمُتَعَفِّفِ.
فَقَالَ: يَا إِمَامُ! جِئْتُكَ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ أَسْأَلُ عَنِ الْحَلَالِ الصِّرْفِ -عَنِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ-.
فَقَالَ: يَا هَذَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْوُعَّاظِ أَكَلَ مِنْ هَدَايَا الْأَصْحَابِ، وَأَخَذَ مِنْ عَطَايَا الْأَحِبَّاءِ، فَلَسْتُ هُنَالِكَ، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ بِـ(طَرَسُوسَ).
فَهَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ مَزْرَعَةٌ، إِذَا مَا جِئْتَهُ وَجَدَتْهُ قَائِمًا فِيهَا، وَعِنْدَهُ بَقَرَةٌ، جَعَلَهَا تَمُرُّ بِطَرِيقٍ فِيهِ تِبْنٌ وَشَعِيرٌ، وَطَرِيقٌ بِهِ مَاءٌ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالتِّبْنِ وَالشَّعِيرِ عَرَضَهُمَا عَلَى الْبَقَرَةِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ يَعْرِضُهَا عَلَى الْمَاءِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْلَمُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ فَائْتِهِ.
فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ الْحَسَنِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، وَوَصَفَ لِي مِنَ الْأَمْرِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَبَكَى الرَّجُلُ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سَعِيدٍ، وَلَكِنْ شُغِلْتُ يَوْمًا بِصَلَاتِي عَنِ الْبَقَرَةِ، فَذَهَبَتْ إِلَى أَرْضِ جَارِي، فَاخْتَلَطَ بِقَوَائِمِهَا طِينٌ مِنْ أَرْضِ جَارِي، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَلَطَ طِينُ أَرْضِ جَارِي بِأَرْضِي، فَصَارَتْ شُبْهَةً، فَلَمْ أَعُدْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَفَ لَكَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ، فَعُدْ إِلَيْهِ حَتَّى يَدُلَّكَ عَلَى غَيْرِي!!
لَا تَحْسَبَنَّ هَذَا خَيَالًا، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَإِلَّا لَمَا صَارُوا أَئِمَّةً!
تَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ هَيِّنٌ؟!!
هُوَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمٌ!!
لَقَدْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَعْجِنُ عَجِينَهَا، فِيَأَتْي نَعْيُ زَوْجِهَا، فَتُخْرِجُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ، وَتَقُولُ: ((هَذَا طَعَامُ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءُ، هَذَا طَعَامٌ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ وَرَثَةٌ مُشَارِكُونَ!!)).
بَلْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَانَتِ الْوَاحِدَةُ تَجْلِسُ فِي ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ، فَإِذَا جَاءَ نَعْيُ وَلِّيِهَا -نَعْيُ زَوْجِهَا- قَامَتْ، فَأَطْفَأَتِ الْمِصْبَاحَ، تَقُولُ: ((هَذَا زَيْتٌ -زَيْتُ الْمِصْبَاحِ- أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءُ!!)).
وَجَاءَتْ أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ, وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَنَّ لَهَا مَسْأَلَةً.
وَكَانَتْ مَسْأَلَتُهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ، تَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَتَكَسَّبُ عَيْشَهَا مِنْ طَاقَاتِ غَزْلٍ تَأْتِي بِهَا مِنَ السُّوقِ, ثُمَّ تَقُومُ عَلَيْهَا غَزْلًا, ثُمَّ تَبِيعُهَا فِي الْأُسْبُوعِ بَعْدَهُ.
وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الْكَسْبَيْنِ بَيْعًا وَشِرَاءً هُوَ طَعَامُهَا وَهُوَ كَسْبُهَا الَّذِي مِنْهُ تَتَعَيَّشُ بِفَضْلِ رَبِّهَا، إِلَى هُنَا لَا شَيْءَ.
تَقُولُ: وَإِنِّي إِنَّمَا أَقُومُ بِذَلِكَ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ سِرَاجًا يُضِيءُ بِاللَّيْلِ, إِنَّمَا تَقُومُ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي إِذَا كَانَتْ مُقْمِرَةً، فَتَكُونُ عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَغْزِلَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ.
قَالَتْ: فَمَرَّتْ لَيْلَةً جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسَسِ بِاللَّيْلِ, فَوَقَفُوا وَمَعَهُمُ السُّرُجُ بِإِزَاءِ بَيْتِنَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ أَوْ يَصْنَعُونَ شَيْئًا!
قَالَتْ: فَغَزَلْتُ طَاقَةً أَوْ طَاقَتَيْنِ فِي ضَوْءِ تِلْكَ السُّرُجِ وَتِلْكَ الْمَصَابِيحِ, فَهَلْ يَلْحَقُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟!
فَتَعَجَّبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ السُّؤَالِ قَالَ: مَنْ أَنْتِ؟
قَالَتْ: أَنَا فُلَانَةٌ، أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي.
قَالَ: أَمَّا لِلنَّاسِ جَمِيعًا فَحَلَالٌ, وَأَمَّا عَلَى آلِ بِشْرٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ آلُ بَيْتٍ يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْوَرَعِ!!
وَكانَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْ نِسَاءِ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَخْرُجَ طَالِبًا الرِّزْقَ؛ تَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ تَقُولُ لَهُ: ((اتَّقِ اللهَ فِينَا وَلَا تُطعِمُنَا إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ؛ فَإِنَّنَا نَحْثُو التُّرَابَ -نَسْتَفُّهُ- وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، فَضْلًا عَنَ أنْ يَكُونَ مِنْ حَرامٍ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَتَى بِالْحَرَامِ فَأَكَلَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ ثُمَّ تَخَلَّقَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا, فَهَذَا الْجَنِينُ إِنَّمَا يُغَذَّى مِنْ هَذَا الْغِذَاءِ الَّذِي تَنَاوَلَتْهُ, وَهَذَا الْغِذَاءُ حَرَامٌ! فَهَذَا وَلَدُ حَرَامٍ, تَوَلَّدَ مِنْ حَرَامٍ, وَنَمَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنَ الْحَرَامِ, فَأَنَّى يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا؟!!
((دَوَاءُ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ سِيَرِ السَّلَفِ وَاتِّبَاعِهِمْ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَذِهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ كَالرَّجُلِ الْمَرِيضِ الَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْعِلَلُ وَتَجَمَّعَتْ عَلَيْهِ الْأَمْرَاضُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ، وَأَطِبَّاؤُهَا عُلَمَاؤُهَا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
أُمَّةُ النَّبِيِّ ﷺ بِهَا عِلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ قَدِيمٍ فِيهَا الْعِلَلُ، وَيُعْجِبُنِي جِدًّا رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ، حَسَنٌ فِي سَمْتِهِ، بَلِيغٌ فِي قَوْلِهِ، هُوَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-، شَخَّصَ دَاءَ الْأُمَّةِ فِي زَمَنِهِ بِأَنَّهُ قِلَّةُ عِلْمٍ بِسِيرَةِ السَّلَفِ؛ بِسِيرَةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ صَحَابَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وَمِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ ﷺ صَحَابَةً وَأَتْبَاعًا وَتَابِعِي تَابِعِينَ.
الْيَوْمَ عِلَلٌ كَثِيرَةٌ.. وَهَذَا تَشْخِيصٌ لِدَاءٍ مِنْ أَدْوَاءِ الْأُمَّةِ؛ قِلَّةُ عِلْمٍ بِسِيَرِ السَّلَفِ، وَالدَّوَاءُ أَنْ تَزْدَادَ الْأُمَّةُ عِلْمًا بِسِيرَةِ سَلَفِهَا الصَّالِحِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنْهَجَ عَلَى نَهْجِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ، وَأَنْ تَسِيرَ عَلَى خُطَاهُمْ، وَأَنْ تَنْضَوِيَ تَحْتَ رَايَتِهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ الْغَايَةَ بِإِذْنِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
تَتَمَزَّقُ الْأُمَّةُ الْيَوْمَ إِلَى فِرَقٍ وَإِلَى جَمَاعَاتٍ وَإِلَى أَحْزَابٍ وَإِلَى كُتَلٍ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ فِرْقَةٍ وَجَمَاعَةٍ أَمِيرٌ يُنَظِّرُ وَيُقَعِّدُ وَيُقَنِّنُ، وَيُلْزِمُ الْجَمْعَ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِمَا يُسَمِّيهِ سَفَهًا وَبَغْيًا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يُطِيعَ وَأَنْ يَسْمَعَ، وَإِلَّا كَانَ خَارِجًا عَنْ دَائِرَةِ الْإِسْلَامِ وَحَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، خَالِعًا لِرِبْقَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ!!
ثُمَّ يُشَخِّصُ الْعُلَمَاءُ هذه الْآفَةَ وَيُشَخِّصُونَ هَذَا الدَّاءَ بِتَشْخِيصَاتٍ عِدَّةٍ؛ لَا تَجِدُ اثْنَيْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَشْخِيصٍ وَاحِدٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْكَامِنَةِ!!
وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ!! وَلَكِنْ فِي سِيرَةِ السَّلَفِ الشِّفَاءُ وَفِي سِيرَةِ السَّلَفِ الدَّوَاءُ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَنِي وَإِيَّاكُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَنْ يُفَهِّمَنَا دِينَنَا حَقِيقَةَ التَّفْهِيمِ، وَأَنْ يَقْبِضَنَا مُوَحِّدِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَحْزُونِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ