((تَكْرِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ
وَرَدُّ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ حَوْلَهَا))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ َّ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((تَكْرِيمُ النِّسَاءِ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ))
فَإِنَّ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ تُوصَفَ الْحَسَنَاتُ بِأَنَّهَا سَيِّئَاتٌ، وَمِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ أَنْ يُوصَفَ الْحُسْنُ وَالْمَلَاحَةُ بِالْقُبْحِ وَالدَّمَامَةِ، وَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دِينٌ كَامِلٌ، لَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ بِحَالٍ أَبَدًا، أَكْمَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَتَمَّهُ، وَأَتَمَّ بِهِ النِّعْمَةَ عَلَى عِبَادِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صَالِحًا مُنَاسِبًا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَضَبَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ نِسَبَ الْأَشْيَاءِ، فَلَا تَجِدُ فِيهِ خَلَلًا أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْحُقُوقِ لِلنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَا تُسَاوِي شَيْئًا، كَانَتْ تُورَثُ إِذَا مَاتَ مَنْ يَمْتَلِكُهَا -يَعْنِي: إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا فَإِنَّهَا تُورَثُ كَمَا تُورَثُ الْأَشْيَاءُ-.
وَنَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ أَنْ يَرِثَ الْوَارِثُ الْمَرْأَةَ إِذَا مَاتَ الْمُوَرِّثُ.
وَأَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ الْحُقُوقَ الْكَثِيرَةَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ الْآنَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ مَزِيَّةٌ وَلَا عَطِيَّةٌ وَلَا مِيزَةٌ تَتَمَتَّعُ بِهَا امْرَأَةٌ فِي الْعَالَمِ مَا دَامَتْ هَذِهِ الْمَزِيَّةُ وَالْمِنْحَةُ وَالْعَطِيَّةُ مُوَافِقَةً لِلشَّرْعِ -يَعْنِي: غَيْرَ خَارِجَةٍ عَنْ حُدُودِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ- لَيْسَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ تَتَمَتَّعُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بِمِيزَةٍ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ أَمْ فِي غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ؛ حَتَّى عِنْدَ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْعِبَادَاتِ الْكَافِرَةِ وَالْمُلْحِدَةِ، كُلُّ ذَلِكَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ أَنْوَارِ الْإِسْلَامِ فِيمَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّسَاءَ مِنْ تِلْكَ الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَنْ يُحْصِيَهَا وَلَا أَنْ يَعُدَّهَا.
مِنَحٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، أَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ حَقَّهَا وَأَعَادَهَا إِلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ؛ إِنْسَانَةٌ لَهَا قَلْبٌ تُحِسُّ وَتَشْعُرُ، وَتُحِبُّ وَتَكْرَهُ، وَتَرِثُ؛ لِأَنَّهُ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِنْجِلِيزِ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ-؛ بَلْ وَلَيْسَ لِلْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدَ الِابْنِ الْبِكْرِ مِنْ نَصِيبٍ فِي الْمِيرَاثِ!! يَصِيرُ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ إِلَى الِابْنِ الْبِكْرِ، وَلَا يَرِثُ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، لَا مِنَ الرِّجَالِ وَلَا مِنَ النِّسَاءِ!!
وَأَمَّا عِنْدَنَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْحُقُوقَ وَفَصَّلَهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا آتَاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَفْرَادَ هَذِهِ الْأُمَّةِ: مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ حُقُوقِ النِّسَاءِ.
((حَالُ الْمَرْأَةِ فِي الْعَصْرِ الْجَاهِلِيِّ))
الْمَرْأَةُ فِي الْعَصْرِ الْجَاهِلِيِّ وَقَبْلَ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ-، عِنْدَمَا كَانَ النَّاسُ فِي فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، لَمْ يَأْتِهِمْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ إِلَّا عَلَى الْمَدَى الْمُتَطَاوِلِ، ((نَظَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَبْلَ بَعْثَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَمَقَتَهُمْ -فَأَبْغَضَهُمْ وَكَرِهَهُمْ- عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعِيشُونَ فِي الصَّوَامِعِ وَالدَّيَّارَاتِ وَفِي الْمَعَابِدِ يَعْبُدُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَنْتَظِرُونَ مُحَمَّدًا ﷺ )).
الْمَرْأَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَانَتْ تَعِيشُ حَيَاةً عَصِيبَةً جِدًّا؛ خُصُوصًا فِي الْمُجْتَمَعِ الْعَرَبِيِّ، كَانَ الرِّجَالُ يَكْرَهُونَ وِلَادَةَ الْبَنَاتِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَكَمَا وَصَفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--، يَكْرَهُونَ وِلَادَتَهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدْفِنُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ، كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً، وَيَجْعَلُونَ هَذَا الْأَمْرَ -يَعْنِي: لَوْ أَنَّ الْبِنْتَ ظَلَّتْ حَيَّةً- يَجْعَلُونَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى حَيَاةِ الْمَذَلَّةِ وَالْمَهَانَةِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)} [النحل: 58-59].
{أَيُمْسِكُهُ} يَعْنِي: يُبْقِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفِنَهَا حَيَّةً، تَصَوَّرْ هَذَا!! يَحْفِرُ لَهَا الْقَبْرَ، وَلَمْ تَكُنِ الْقُبُورُ كَقُبُورِنَا نَحْنُ -حُجُرَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ-، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُحْفَرُ، فَكَانَ يَحْفِرُ لَهَا الْقَبْرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ يَضَعُهَا حَيَّةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتُلَهَا، يَجْعَلُهَا حَيَّةً، ثُمَّ يُهِيلُ فَوْقَهَا التُّرَابَ وَيَمْضِي!!
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8].
فَالَّتِي تُدْفَنُ حَيَّةً تُسَمَّى مَوْءُودَةً: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير: 8].
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «الْمَوْءُودَةُ: هِيَ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدُسُّونَهَا فِي التُّرَابِ كَرَاهِيَةَ الْبَنَاتِ، فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ تُسْأَلُ الْمَوْءُودَةُ عَلَى أَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَهْدِيدًا لِقَاتِلِهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا سُئِلَ الْمَظْلُومُ فَمَا ظَنُّ الظَّالِمِ إِذَنْ؟!!».
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَهِيَ الَّتِي كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ تَفْعَلُهُ مِنْ دَفْنِ الْبَنَاتِ وَهُنَّ أَحْيَاءٌ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ إِلَّا خَشْيَةَ الْفَقْرِ، فَتُسْأَلُ: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا ذَنْبٌ، وَلَكِنْ هَذَا فِيهِ تَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ لِقَاتِلِيهَا».
الْمَوْءُودَةُ: الْبِنْتُ الَّتِي تُدْفَنُ حَيَّةً حَتَّى تَمُوتَ تَحْتَ التُّرَابِ، إِنْ سَلِمَتْ مِنَ الْمَمَاتِ وَظَلَّتْ فِي الْحَيَاةِ؛ تَعِيشُ حَيَاةَ الْمَهَانَةِ؛ لَيْسَ لَهَا حَظٌّ مِنَ الْمِيرَاثِ، مَهْمَا كَبُرَتْ وَمَهْمَا كَثُرَتْ أَمْوَالُ الْمُوَرِّثِ لَا تَأْخُذُ مِنْ نَصِيبِهَا فِي الْمِيرَاثِ شَيْئًا، وَمَهْمَا عَانَتْ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا شَيْءٌ، يَخُصُّونَ بِالْمِيرَاثِ الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ؛ بَلْ كَانَتْ هِيَ نَفْسُهَا -الْمَرْأَةُ- تُوَرَّثُ عَنْ زَوْجِهَا الْمَيِّتِ كَمَا يُوَرَّثُ مَالُهُ، وَكَانَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ النِّسَاءِ يَعِشْنَ تَحْتَ زَوْجٍ وَاحِدٍ -يَعْنِي: كَانَ يُمْكِنُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ عَدَدٍ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيُّ ﷺ-، لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ يَجِدُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَضَاضَةً، يَتَزَوَّجُ مَا شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَجْمَعُ فِي بَيْتِهِ مَا شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ عَدَدًا كَثِيرًا.
وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عِنْدَمَا يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا، لَا تَقْرَبُ طِيبًا، وَلَا تَمْتَشِطُ، وَلَا تُغَيِّرُ ثِيَابَهَا -لَا تُبَدِّلُ الثِّيَابَ-، عِنْدَمَا مَاتَ الزَّوْجُ وَهِيَ فِي ثِيَابٍ تَظَلُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَلَا تَغْسِلُ رَأْسَهَا، وَلَا تَضَعُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهَا.
فَإِذَا مَا مَرَّ الْعَامُ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحِدَادِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ، تَمْتَشِط، تُغَيِّرُ الثِّيَابَ، وَتُورَثُ، يَرِثُهَا مَنْ هُنَالِكَ مِمَّنْ يَرِثُ الْمَيِّتَ، يَرِثُهَا كَمَا يَرِثُ الْمَتَاعَ، كَأَنَّهُ تَرَكَ حَيَوَانًا!! يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْحَيَوَانُ مَا هُنَالِكَ مِنَ النِّسَاءِ؛ مَهْمَا بَلَغْنَ مِنَ الْعَدَدِ!!
هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَالُ قَبْلَ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأُمُورٌ أَسْوَأُ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ جِدًّا.
((رَفْعُ الْإِسْلَامِ الظُّلْمَ عَنِ الْمَرْأَةِ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّرَ الْمَرْأَةَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْمَرْأَةُ مَظْلُومَةٌ مَهْضُومَةٌ، تُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَقَطُ الْمَتَاعِ؛ حَتَّى قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَاللهِ مَا كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَعُدُّ النِّسَاءَ شَيْئًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ دُرَّةً مَصُونَةً وَجَوْهَرَةً مَكْنُونَةً، حَرَّرَهَا مِنْ ظُلْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَعْطَاهَا حُقُوقَهَا الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُنَاسِبُ فِطْرَتَهَا وَطَبِيعَتَهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.
لَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ رَفَعَ الْمَظَالِمَ عَنِ الْمَرْأَةِ، وَأَعَادَ لَهَا الِاعْتِبَارَ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ بَدْءًا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13].
فَهُنَا تَسَاوٍ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ.
وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهَا شَرِيكَةٌ لِلرَّجُلِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، فَسَوَّى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْعَمَلِ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
فَسَوَّى فِي قَاعِدَةِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لَا فَارِقَ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73].
فَالثَّوَابُ يَصِلُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَالْعِقَابُ يَصِلُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ عِنْدَمَا يَكُونُ هُنَاكَ عَمَلَ فَاسِدٌ وَطَالِحٌ.
حَرَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الرِّجَالِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ -وَكَانَ هَذَا مَعْمُولًا بِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ-؛ حَرَّمَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْرُوثَاتِ، يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
أَيْ: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَيَمُوتُ الرَّجُلُ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَيَأْتِي ابْنُهُ مِنْ غَيْرِهَا فَيَرِثُهَا، فَتُصْبِحُ مِيرَاثًا لَهُ، إِنْ شَاءَ بَقِيَتْ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ سَرَّحَهَا، فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُنَّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، فَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَحَقُّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَتَحْبِسُوهُنَّ لِأَنْفُسِكُمْ كَمَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ، هَذَا مَمْنُوعٌ.
وَأَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَرْأَةَ حَقَّهَا، وَرَدَّ عَلَيْهَا كَرَامَتَهَا؛ حَتَّى كَانَتْ نِسَاءُ النَّبِيِّ ﷺ يُرَاجِعْنَهُ -يُرَاجِعْنَ الرَّسُولَ ﷺ- وَيَسْأَلْنَهُ النَّفَقَةَ؛ حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ اعْتَزَلَهُنَّ ﷺ، وَهُوَ أَطْيَبُ الْخَلْقِ خُلُقًا وَأَحْسَنُهُم شِيمَةً ﷺ.
عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا جَاءَ وَظَنَّ ﷺ -وَالظَّنُّ هَاهُنَا: الِاعْتِقَادُ- أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَنْ يُضَيِّعَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَبْقِينَ عِنْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ ﷺ، جَاءَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -وَكَانَ قَدْ ظَنَّ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ نِسَاءَهُ-، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقِ النِّسَاءَ بَعْدُ، وَالْمُسْلِمُونَ جَالِسُونَ يَبْكُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ طَلَّقَ نِسَاءَهُ؛ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، -لِأَنَّهُنَّ يُرَاجِعْنَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يَعْلَمُ-، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ رَأَيْتُنِي وَابْنَةُ خَارِجَةَ -يَعْنِي: زَوْجَتَهُ؛ زَوْجَةَ عُمَرَ- تَسْأَلُنِي النَّفَقَةَ وَأَنَا أَجَأُ فِي عُنُقِهَا حَتَّى اسْتَلْقَتْ لِقَفَاهَا، فَظَلَّ النَّبِيُّ ﷺ يَضْحَكُ)).
النَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: هِيَ وَقَفَتْ تَقُولُ لِي: أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا، وَالْيَوْمَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَشْتَرِيَ مِنَ السُّوقِ كَذَا وَكَذَا، تَسْأَلُهُ النَّفَقَةَ وَهُوَ يَجَأُ بِأُصْبُعَيْهِ فِي عُنُقِهَا -بِأُصْبُعَيْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-! (وَأَنَا أَجَأُ فِي عُنُقِهَا بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ حَتَّى اسْتَلْقَتْ لِقَفَاهَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ).
النَّبِيُّ ﷺ أَرْفَقُ الْخَلْقِ ﷺ.
((مِنْ مَظَاهِرِ حِيَاطَةِ وَتَكْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْمَرْأَةِ))
إِنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَمَا يَمْنَعُ الْمَرْأَةَ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ فِي مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهَا أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْحَجِّ وَإِلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى الْحَجِّ وَلَا إِلَى الْعُمْرَةِ مَا دَامَ لَيْسَ عِنْدَهَا مَحْرَمٌ؛ وَلَوْ كَانَتْ تَملِكُ مَالَ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتْ صِحَّتُهَا مِثْلَ صِحَّةِ الْجَمَلِ -صِحَّةِ النَّاقَةِ-، يَعْنِي: لَوْ كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً بِالِاسْتِطَاعَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ وَلَيْسَ عِنْدَهَا مَحْرَمٌ؛ لَا يَلْزَمُهَا، وَلَا يَسْأَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِمَ لَمْ تَحُجِّي؛ لِأَنَّ عِنْدَهَا الْعُذْرَ فِي عَدَمِ أَدَاءِ الْفَرِيضَةِ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِ الْمَحْرَمِ.
لَا يَجُوزُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ لِلْحَجِّ وَلَا لِلْعُمْرَةِ وَلَا لِسَفَرٍ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا مَحْرَمٌ؛ حِيَاطَةً لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَجْعَلِ الْمَرْأَةَ سِلْعَةً؛ يُبَاعُ جَسَدُهَا، وَتُتَأَمَّلُ مَفَاتِنُهَا، وَيُتَاجَرُ بِعِرْضِهَا أَبَدًا، جَعَلَهَا الْإِسْلَامُ مَصُونَةً.
وَجَعَلَهَا الْإِسْلَامُ مَحْجُوبَةً عَنِ الْأَعْيُنِ أَنْ تَنُوشَهَا وَأَنْ تَنتَهِكَ عِرْضَهَا، لَمْ يَجْعَلْهَا الْإِسْلَامُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا الْإِسْلَامُ دُمْيَةً لَيْسَ لَهَا قِيمَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْإِسْلَامُ الْمَرْأَةَ فِي مَوْضِعِهَا إِنْسَانَةً لَهَا جَمِيعُ الْحُقُوقِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِلْإِنْسَانَةِ الْحَقَّةِ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمِيرَةً فِي بَيْتِهَا، أَمِيرَةً عَلَى أَبْنَائِهَا، وَفَرَضَ عَلَى الْأَوْلَادِ الطَّاعَةَ لِلْأُمِّ فَرْضًا مُؤَبَّدًا مَرَّةً مِنْ بَعْدِ مَرَّةٍ مِنْ بَعْدِ مَرَّةٍ، وَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِلرَّجُلِ: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ قَدَمَيْهَا». هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الْمَكْذُوبُ أَوْ غَيْرُ الصَّحِيحِ: الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ؛ فَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ ثَابِتٍ.
الثَّابِتُ: «الْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا». كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
الْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، فَهِيَ أَمِيرَةٌ عَلَى أَوْلَادِهَا.
وَأَوْجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا مَهْمَا كَانَتْ هِيَ تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ، مَهْمَا كَانَتْ تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ.. كَانَتْ ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ فِيهَا قَدْرٌ كَبِيرٌ مِنَ الْمَالِ مُتَعَلِّقٌ بِهَا، تَمْلِكُهُ مِلْكَ يَمِينٍ، إِذَا هِيَ حَجَبَتْ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا هِيَ أَنْ تُنْفِقَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا عَلَى نَفْسِهَا.
أَيُّ كَرَامَةٍ أَعْلَى مِنْ هَذَا لِلْمَرْأَةِ؟!!
فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي نَفْسِهَا.
كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُونَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا وَلَا إِذْنِهَا وَلَا رِضَاهَا، فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَأَعْطَتِ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا فِي ذَلِكَ.
فِي الزَّوَاجِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا أَنْ يُزَوِّجَ الْوَلِيُّ وَلِيَّتَهُ إِطْلَاقًا مِنْ غَيْرِ مَا رِضًا مِنْهَا، وَلَوْ حَدَثَ فَهَذَا الزَّوَاجُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً؛ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا، ثَيِّبًا كَانَتْ أَمْ بِكْرًا لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا.
لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رَاضِيَةً بِالْإِقْنَاعِ وَبِالْحُسْنَى، وَهِيَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا مُطْلَقًا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ رِضَا وَلِيِّهَا، «وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُهَا الرَّسُولُ ﷺ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ -أَيِ الثَّيِّبُ- حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَحْنَافُ وَأَخَذُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الثَّيِّبِ أَوِ الْعَاقِلِ الرَّشِيدِ مِنَ النِّسَاءِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا؛ هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَفِيهِ شُبْهَةُ زِنًى وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ هُوَ الَّذِي قَالَ مَا قَالَ.
وَبَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ وَمِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا يُسَمَّى (بِالشِّغَارِ)، يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي، أَوْ زَوِّجْنِي أُخْتَكَ وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي دُونَ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَهْرِ وَدُونَ رِضَاهَا، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا النِّكَاحَ الَّذِي فِيهِ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، فَقَالَ: «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ وَالرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ مَا شَاءَ ثُمَّ يُرَاجِعُ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
فَرُفِعَ الظُّلْمُ عَنِ الْمَرْأَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ.
وَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْيَهُودُ إِذَا حَاضَتْ فِيهِمُ الْمَرْأَةُ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا, وَلَمْ يَجْتَمِعُوا مَعَهَا تَحْتَ سَقْفٍ, فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ».
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتْ فِيهِمُ الْمَرْأَةُ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا, وَلمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَألَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- قَوْلَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ».
فَبَلَغَ ذَلِكَ اليَهُودَ، فَقَالُوا: ((مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ)). رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَبَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ ﷺ وَأَهلُ الْجَاهِليَّةِ لَا يَرَوْنَ النِّسَاءَ شَيْئًا, فَأَعْطَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ حُقُوقَهُنَّ، وَأَوْصَى بِهِنَّ خَيْرًا.
الْمَرْأَةُ فَاعِلَةٌ وَمَشُورَتُهَا قَائِمَةٌ؛ فَالرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَخَذَ بِمَشُورَةِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي مَسْأَلَةِ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ عِنْدَمَا جَاءَ الْحُدَيْبِيَّةِ، وَعَقَدَ الْعَقْدَ مَعَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ أَنْ يَعُودَ ﷺ، وَخَرَجَ يَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِأَنْ يَتَحَلَّلُوا مِنَ الْإِحْرَامِ.
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُرِيدُ أَنْ نَدْخُلَ، الْبَيْتُ مِنَّا عَلَى رَمْيَةِ حَجَرٍ، نَحْنُ فِي وَادِي الْحُدَيْبِيَّةِ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ، وَنَحْنُ سُقْنَا الْهَدْيَ، وَالْهَدْيُ أَكَلَ جِلْدَهُ.. أَكَلَ صُوفَهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا احْتُبِسَ، يُرِيدُونَ أَنْ يُهْدُوا هَذِهِ الْهَدَايَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ يَحُجُّوا بَيْتَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَهُمْ فِي مَلَابِسِ الْإِحْرَامِ، وَخَرَجُوا مُهَلِّلِينَ وَمُلَبِّينَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَمْنَعُونَ الْكُفَّارَ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ؛ فَكَيْفَ يَمْنَعُونَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ ﷺ؟!!
كَانَ الْأَمْرُ شَدِيدًا، وَخَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ بَعْدَ الْمُعَاهَدَةِ يَقُولُ لَهُمْ: ((قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، قالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))، فَتَلَكَّئُوا، فَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ فِي اتِّبَاعِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ﷺ.
((فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ)).
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: ((يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ)).
فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ؛ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا)).
خَرَجَ الرَّسُولُ ﷺ فَدَعَا حَالِقَهُ، فَأَخَذَ يَحْلِقُ رَأْسَهُ، فَلَمَّا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- نَفَّذَ الْأَمْرَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ، وَهُمْ تَخَلَّفُوا وَتَأَخَّرُوا؛ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ رَأْسَ بَعْضٍ، وَتَسِيلُ الدِّمَاءُ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-.
إِذَنِ؛ الرَّسُولُ ﷺ أَخَذَ بِمَشُورَةِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ جِدًّا أَنْقَذَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ الصَّحَابَةَ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ عِقَابٌ مِنَ اللهِ؛ لِتَأَخُّرِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ أَمْرِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.
وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى تَعْلِيمِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِندَهُ أَمَةٌ فَأدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ». أَخرَجَهُ ابنُ مَاجَه بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ, وَهَذَا يَشمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاء.
وَعَن مَالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا ﷺ، فَقَالَ: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ, وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي, وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ أَولَادِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ».
فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: ((وَاثْنَيْنِ)).
فَقَالَ: «وَاثْنَيْنِ». أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ.
عِبَادَ اللهِ، الْإِسْلَامُ كَرَّمَ الْمَرْأَةَ إِنسَانًا مُنْذُ أَعْلَنَ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ كَالرَّجُل, وَأَنَّهَا مُثَابَةٌ وَمُعَاقَبَةٌ مِثْلُهُ, وَأَنَّهَا أَحَدُ شِقَّيِ الْإِنْسَانِيَّةِ, فَلَا بَقَاءَ لِلنَّوعِ بِغَيرِهَا، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ} [الحجرات: 13].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران: 195].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائقُ الرِّجَال».
وَكَرَّمَهَا بِنتًا؛ فَأَنْكَرَ أَشَدَّ الْإِنكَارِ وَأْدَهَا خَشْيَةَ الْإِمْلَاقِ، أَوْ خَوْفَ الْعَارِ, أَوْ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ؛ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَضْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا تَحْرِيمُ هَذِهِ الْعَادَةِ الْقَبِيحَةِ لَكَفَاهَا فَخْرًا.
كَمَا أَوْجَبَ حُسْنَ تَأْدِيبِهَا, وَأَوْجَبَ تَعلِيمَهَا وَرِعَايَتَهَا وَالْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ, وَفَرَضَ عَلَى أَبِيهَا أَلَّا يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِرِضَاهَا وَإِذْنِهَا, وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا تَسْتَحْيِي مِنْ إِظْهَارِ الْإِذْنِ وَالرِّضَا بَالْقَوْلِ؛ فَجَعَلَ إِذْنَهَا صُمَاتَهَا.
كَرَّمَهَا بِنْتًا؛ فَرَتَّبَ الشَّرْعُ عَلَى تَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَرَّمَهَا زَوْجَةً؛ فَجَعَلَ لَهَا مِثْلَ مَا لِلرَّجُلِ مِنْ حُقُوقٍ؛ إِلَّا فِي دَرَجَةِ الْقَوَامَةِ وَالْمَسْؤُولِيَّةِ عَنِ الْأُسْرَةِ فَجَعَلَهَا لِلرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ بَصَرًا بِالْعَوَاقِبِ مِنَ الْمَرْأَةِ, وَلِأَنَّهُ الْغَارِمُ فِي بِنَاءِ الْأُسْرَةِ، فَيَظَلُّ حَرِيصًا عَلَى بَقَائِهَا, قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
وَأَوْجَبَ لَهَا النَّفَقَةَ، وَتَمَامَ الْكِفَايَةِ، وَالْمُعَامَلَةَ بِالْحُسْنَى, فَقَالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
وَكَرَّمَهَا أُمًّا، وَأَمَرَ بِحُسْنِ مُصَاحَبَتِهَا وَمُعَاشَرَتِهَا؛ إِكْرَامًا لِأُمُومَتِهَا, وَجَزَاءً لِمَا عَانَتْ فِي سَبِيلِ أَوْلَادِهَا, قَالَ تَعَالَى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَرَّمَهَا بِاعْتِبَارِهَا عُضْوًا فِي الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ, فَأَنْكَرَ اعْتِبَارَهَا عِنْدَ مَوْتِ زَوْجِهَا شَيْئًا يُورَثُ كَمَا يُورَثُ الْمَتَاعُ وَالدَّوَابُّ, قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
*وَقَرَّرَ أَهْلِيَّتَهَا لِلتَّمَلُّكِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ؛ فَهِيَ تَمْلِكُ كَمَا يَمْلِكُ الرَّجُلُ, قَالَ تَعَالَى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32].
وَأَصْبَحَ لِلْمَرْأَةِ حَظٌّ مِنَ الْإِرْثِ الَّذِي كَانَ مَقْصُورًا عَلَى الرِّجَالِ، قَالَ تَعَالَى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7].
فَهَلْ بَعْدَ كُلِّ مَا سَبَقَ يَمْتَرِي ذُو لُبٍّ فِي أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ السَّمْحَاءَ الَّتِي جَاءَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ أَنْصَفَتِ الْمَرْأَةَ، وَأَعْطَتْهَا حُقُوقَهَا الْعَادِلَةَ بَعْدَمَا ظَلَمَتْهَا الْجَاهِلِيَّةُ كُلُّهَا، فَحَرَّرَهَا الْإِسْلَامُ مِنْ قُيُودِهَا، وَكَرَّمَهَا وَأَعْلَى مَكَانَتَهَا بِاعْتِبَارِهَا إِنْسَانًا، وَبِنْتًا، وَزَوْجَةً، وَأُمًّا، وَعُضْوًا فِي الْأُسْرَةِ وَالْمُجْتَمَعِ؟!!
كَرَّمَهَا إِنْسَانًا مُنْذُ أَعْلَنَ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ كَالرَّجُلِ، وَأَنَّهَا مُثَابَةٌ وَمُعَاقَبَةٌ مِثْلُهُ، وَأَنَّهَا أَحَدُ شِقَّيِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَلَا بَقَاءَ لِلنَّوْعِ بِغَيْرِهَا.
((دَوْرُ الْمَرْأَةِ فِي بِنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ))
إِنَّ مِيزَانَ صَلَاحِ الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ؛ تَحْفَظُ بَيْتًا، وَتُرَبِّي جِيلًا.
لَا شَكَّ أَنَّ دَوْرَ الْمَرْأَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ دَوْرٌ عَظِيمٌ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْعُصُورِ الْمُتَأخِّرَةِ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَثَّرُوا عَلَى الْمَرْأَةِ، فَأَخْرَجُوهَا مِنْ خِدْرِهَا، وَنَزَعُوا عَنْهَا بُرْقَعَ حَيَائِهَا، وَصَارَتْ مُسْتَغَرَبَةً فِي جُمْلَةِ أُمُورِهَا، فَوَقَعَ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ خَلَلٌ عَظِيمٌ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا تَتَعَدَّاهَا وَلَا تَنْتَهِكُهَا دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهَا، وَحُسْنِ اسْتِقَامَةِ سَرِيرَتِهَا، وَطَهَارَةِ قَلْبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِهَانَةَ الْمَرْأَةِ بِحُدُودِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِقْدَامَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِهَا، وَاعْوِجَاجِ فِطْرَتِهَا، وَمَرَضِ قَلْبِهَا، وَنَقْصِ حَيَائِهَا.
((رَدُّ اعْتِدَاءِ الْغَرْبِ وَالْعَلْمَانِيِّينَ عَلَى الْمَرْأَةِ))
إِنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ يُرِيدُونَ -الْيَوْمَ- أَنْ يُخْرِجُوا الْمَرْأَةَ مِمَّا هِيَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ؛ لِكَيْ تَكُونَ سِلْعَةً تُبَاعُ وَتُشْتَرَى، وَيُتَاجَرُ بِجَسَدِهَا، وَيَنْظُرَ الرِّجَالُ مِنْ هَاهُنَا وَهُنَالِكَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْفَجَرَةِ وَالْكَفَرَةِ وَالْمَرَقَةِ إِلَى جَسَدِهَا، وَكَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].
هَذَا مُرَادُ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ الَّذِين يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَقِّ وَأَهْلُ الِاتِّبَاعِ الصَّحِيحِ لِلرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّهُمْ يُنْزِلُونَ الْأُمُورَ فِي مَنَازِلِهَا.
وَلَا نُصِيخُ لِعَصْرِيٍّ يَفُوهُ بِمَا = يُنَاقِضُ الشَّرْعَ أوْ إِيَّاهُ يَعْتَقِدُ
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَدْ أَضْحَى زَنَادِقَةٌ = كَثِيرُهُمْ لِسَبِيلِ الغَيِّ قَدْ قَصَدُوا
يَرَوْنَ أَنْ تَبْرُزَ الأُنْثَى بِزِينَتِهَا = وَبَيْعَهَا الْبُضْعَ تَأْجِيلًا وَتَنْتقِدُ
وَأَمَّا الْبُضْعُ فَهُوَ: النِّكَاحُ.
((الدَّعْوَةُ الْخَبِيثَةُ إِلَى تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ وَخُطُورَتُهَا عَلَى الْأُمَّةِ))
إِنَّ مِنْ نَتَائِجِ الْفِكْرِ الْإِبَاحِيِّ وَالْإِلْحَادِيِّ الَّذِي انْتَشَرَ فِي مُعْظَمِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنْ بَرَزَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ، هَذِهِ الدَّعْوَةُ كَانَ لَهَا مُفَكِّرُونَ مُتَخَصِّصُونَ يَعْمَلُونَ لَيْلَ نَهَارَ فِي إِنْجَاحِهَا، وَتَثْبِيتِ أَرْكَانِهَا؛ مِثْلُ: قَاسِم أَمِين وَهُدَى شَعْرَاوِي فِي مِصْرَ.
وَقَدْ تَأَثَّرَ قَاسِم أَمِين بِمُحَمَّد عَبْدُه؛ كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّهُ اسْتَقَى كِتَابَهُ عَنْ تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ مِنْ تَوْجِيهَاتِ مُحَمَّد عَبْدُه)).
وَذَكَرَ لُطْفِي السَّيِّد فِي كِتَابِهِ «قِصَّةُ حَيَاتِي» أَنَّ قَاسِم أَمِين قَرَأَ عَلَيْهِ وَعَلَى مُحَمَّد عَبْدُه كِتَابَ «تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ» فِي (جِنيف) قَبْلَ نَشْرِهِ.
وَمَسْأَلَةُ (تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ) فِي ظَاهِرِهَا دَعْوَةٌ رَنَّانَةٌ تَجْتَذِبُ كَثِيرًا مِنَ النِّسَاءِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ بَرِيقٍ وَإِغْرَاءٍ يُوهِمَانِ بِتَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ مَادِّيًّا، وَتَحْسِينِ أَوْضَاعِهَا النَّفْسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ وَلَكِنَّهَا فِي وَاقِعِ الْأَمْرِ تُخْفِي وَرَاءَهَا كَثِيرًا مِنَ الْمَخَاطِرِ، لَا عَلَى الْمَرْأَةِ فَحَسْبُ، بَلْ عَلَى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيرَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي تَحْرِيرَهَا مِنَ الضَّوَابِط الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْإِسْلَامُ وَكَلَّفَهَا بِهَا، وَشَدَّدَ فِي الْتِزَامِهَا، وَعَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْهَا.
هَوَّنَ دُعَاةُ تَحْرِيرِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَمْرِ الْحِجَابِ الشَّرْعِيِّ لِلْمَرْأَةِ، وَدَعَوُا النِّسَاءَ لِلتَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ، وَإِظْهَارِ الزِّينَةِ الْكَامِلَةِ، كَمَا حَرَّضُوهَا عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْعَمَلِ مَعَ الرَّجُلِ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ فِي كُلِّ الْمَيَادِينِ الَّتِي تُنَاسِبُهَا وَالَّتِي لَا تُنَاسِبُهَا، وَدَفَعُوا بِهَا إِلَى عَالَمِ الْفُنُونِ وَالْغَرَائِزِ؛ مِنَ السِّينِمَا، وَالْمَسْرَحِ، وَالْغِنَاءِ، وَغَيْرِهَا.
وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ عَمَّتِ الْبَلْوَى بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الْخَطِيرَةِ، فَاسْتَجَابَ لَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَصْبَحَ مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تَفْعَلَ بِجَسَدِهَا مَا تَشَاءُ، وَأَنْ تَنْتَفِعَ بِهِ مَادِّيًّا، وَعَلَى الْقَانُونِ حِمَايَتُهَا، وَكَفُّ أَذَى الْمُحَافِظِينَ عَلَيْهَا!!
وَبَيْعَهَا الْبُضْعَ تَأْجِيلًا وَتَنْتقِدُ!
فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ؛ حَيْثُ يُسْمَحُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ التِّجَارَةِ الرَّخِيصَةِ مِمَّا يَهْدِمُ الْأَخْلَاقَ وَالْقِيَمَ الْإِنْسَانِيَّةَ، وَيُهَوِّنُ شَأْنَ الْفَاحِشَةِ بَيْنَ النَّاسِ، الَّتِي نَهَانَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا؛ حَيْثُ قَالَ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
وَقَدْ تَبْدُو هَذِهِ الْأُمُورُ غَيْرَ ذَاتِ قِيمَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا تَتَعَرَّضُ لَهُ الْأُمَّةُ مِنَ الْمَخَاطِرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّ هَذَا هُوَ السُّوسُ الَّذِي نَخَرَ فِي بُنْيَانِ الْأُمَّةِ حَتَّى تَدَاعَتْ أَرْكَانُهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَشْهَدُهُ النَّاسُ وَيُبْصِرُونَهُ.
فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَفَكَّكَتْ بِسَبَبِهَا الرَّوَابِطُ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَبِّيَةً عَلَى الْقِيَمِ وَالْمُثُلِ؛ تَرَبَّى جِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَتَلَقَّفَتْهُ أَيْدِي الْغُوَاةِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَهُ عَلَى أَعْيُنِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ حَرْبًا عَلَى أُمَّتِهِ، وَحَتَّى يَصِيرَ بَلَاءً عَلَى دِينِهِ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ الْآنَ فِيهَا جِيلٌ لَا يَنْتَمِي لِأَرْضٍ، وَلَا يَنْتَمِي لِعِرْضٍ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْتَمِيَ إِلَى دِينٍ.
الْفَاحِشَةُ صَارَتْ عَلَى طَرَفِ الْبَنَانِ، وَصَارَ الْأَمْرُ أَمْرًا عَظِيمًا لَا يُتَدَارَكُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِالإِفْرَنْجِ قَدْ شُغِفُوا = بِهِمْ تَزَيَّوْا وَفي زِيِّ التُّقى زَهِدُوا
لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ الْفِرِنْجَةِ؛ فَقَدْ فُتِنُوا بِهِمْ، وَأَمْعَنُوا فِي مُحَاكَاتِهِمْ، وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي أَزْيَائِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، تَارِكِينَ لِبَاسَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا فِيهِ مِنْ سِتْرٍ وَوَقَارٍ، وَمُتَجَاهِلِينَ نَهْيَ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ مُحَاكَاةِ الْكُفَّارِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَالتَّشْدِيدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ حَيْثُ قَالَ ﷺ: ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَدْ تَبْدُو يَسِيرَةً؛ وَلَكِنَّهَا فِي النِّهَايَةِ تُذِيبُ الْأُمَّةَ، وَتُذِيبُ مَبَادِئَهَا وَقِيَمَهَا فِي بَوْتَقَةِ أَعْدَائِهَا؛ وَعَلَيْهِ فَإِنَّهَا تَفْقِدُ مَنَاعَتَهَا الَّتِي إِنَّمَا تَكْتَسِبُهَا مِنْ دِينِهَا الَّذِي أَرْسَى قِيَمَهَا وَمُثُلَهَا، وَمَا أَكْثَرَ مَا انْهَارَتِ الْقِيَمُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ، وَصَارَ النَّاسُ فِي انْهِيَارٍ أَخْلَاقِيٍّ عَجِيبٍ.
إِنَّ مُحَاكَاةَ أَهْلِ الضَّلَالِ لَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى اللِّبَاسِ وَحْدَهُ، بَلْ تَعَدَّتْهَا إِلَى سَائِرِ الْعَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ اللهِ، وَبِذَلِكَ غَيَّرُوا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَالْإِسْلَامُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِتَبْيِينِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَحَثَّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الشَّرْعِ، وَذَهَبَ إِلَى مَا ابْتَدَعَهُ الْكُفَّارُ؛ فَقَدْ وَقَعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفِطْرَةِ لَا مَحَالَةَ.
يُغَيِّرُونَ تَقَالِيدَ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ بِفِرَقٍ تَمْثِيلِيَّةٍ فَنِّيَّةٍ، يُعَلِّمُونَ الْمُخَدَّرَاتِ مِنَ الْعَذَارَى الْمَكْنُونَاتِ اللَّوَاتِي لَا تَرَاهُنَّ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ، وَفِيهِنَّ حَيَاءٌ وَخَفَرٌ، وَهُنَّ لِلْغَيْبِ حَافِظَاتٌ؛ يُعَلِّمُوهُنَّ الْعُرْيَ وَالسُّفُورَ وَالْفُجُورَ؛ حَتَّى خَرَجَتِ النِّسَاءُ فِي حَوَاضِرِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُظَاهَرَاتِ، وَبِتْنَ فِي الْمَيَادِينِ وَالشَّوَارِعِ مُحْتَجَّاتٍ وَمُعْتَصِمَاتٍ، تَتَقَارَبُ الْأَنْفَاسُ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ أَوْ تَتَلاصَقُ الْأَبْشَارُ!!
أَخْرَجُوا الْمَرْأَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْمُسْلِمَةَ الْمَكْنُونَةَ الْمَصُونَةَ الْمُخَدَّرَةَ مِنْ خِدْرِهَا؛ حَتَّى صَارَتْ يُسْمَعُ لَهَا الْيَوْمَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ هُتَافٌ، وَتُرَى صُورَتُهَا تَنْظُرُ إِلَيْهَا كُلُّ عَيْنٍ فَاجِرَةٍ، مَا كَانَتْ تَطْمَعُ -قَطُّ- فِي رُؤْيَةِ سَوَادِهَا بِثِيَابِهَا، فَصَارَتْ تَخْرُجُ رَافِعَةً مِعْصَمَهَا، وَهِيَ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي إِنْ لَمْ تُنَشَّأْ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِحَيَائِهِ فَهِيَ عَرَبِيَّةٌ، وَلِلْعَرَبِيَّةِ حَيَاؤُهَا، تَمُوتُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا، لِلْعَرَبِيَّةِ خَفَرُهَا، لِلْعَرَبِيَّةِ دِينُهَا، فَصَارَتْ تَخْرُجُ هَاتِفَةً مُعْتَصِمَةً!!
أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ.
إِنَّ الْمَخْدُوعِينَ بِالْغَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَدْ عَكَفُوا عَلَى مُدَوَّنَاتِ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنْ كُتُبٍ، وَمَجَلَّاتٍ، وَصُحُفٍ، وَغَيْرِهَا، فَهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى قِرَاءَتِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا إِعْجَابًا بِهَا، وَإِيمَانًا بِمَا تَحْتَوِيهِ مِنْ كُفْرٍ وَأَبَاطِيلَ، وَهَؤُلَاءِ أَنْفُسُهُمْ لَوْ سَمِعُوا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لَمَا الْتَفَتُوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يُلْقُوا لَهَا بَالًا.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7].
لَقَدْ رَكَّزُوا عَلَى الْمَرْأَةِ فَأَفْسَدُوهَا، وَأَخْرَجُوهَا مِنْ خِدْرِهَا، وَنَزَعُوا عَنْهَا جِلْبَابَ حَيَائِهَا؛ حَتَّى صَارَتِ الْمَرْأَةُ الشَّرْقِيَّةُ تُنَافِسُ الْمَرْأَةَ الْغَرْبِيَّةَ فِي تَبَذُّلِهَا وَتَهَتُّكِهَا، وَتَبَرُّجِهَا وَسُفُورِهَا، وَقِلَّةِ بَلِ انْعِدَامِ حَيَائِهَا.
فِي هَذَا الْمَيْدَانِ الْقَذِرِ أَخَذُوا يَلْعَبُونَ حَتَّى أَخْرَجُوا النِّسَاءَ مِنْ خُدُورِهِنَّ، وَكَانَتْ قَبْلُ دُرَّةً مَصُونَةً وَجَوْهَرَةً مَكْنُونَةً، وَكَانَ الرِّجَالُ فِي هَنَاءَةِ عَيْشٍ، وَهُدُوءِ خَاطِرٍ، وَنَفْيٍ لِبَلْبَالِ الْقُلُوبِ.
إِنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ أَصَاخَتِ السَّمْعَ لِدُعَاةِ الْحُرِّيَّةِ وَمَنْ يَدَّعُونَ تَحْرِيرَ الْمَرْأَةِ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: يَدْعُونَ إِلَى تَجْرِيرِ الْمَرْأَةِ، لَا إِلَى تَحْرِيرِهَا؛ فَسَوْفَ تَشْقَى وَتُشْقِي.
قَالَ الرَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: فِي وَصِيَّتِهِ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ: ((احْذَرِي تَهَوُّسَ الْأُورُبِّيَّةَ فِي طَلَبِ الْمُسَاوَاةِ بِالرَّجُلِ، لَقَدْ سَاوَتْهُ فِي الذَّهَابِ إِلَى الْحَلَّاقِ؛ وَلَكِنَّ الْحَلَّاقَ لَمْ يَجِدِ اللِّحْيَةَ فِي وَجْهِهَا!!)).
وَقَالَ: ((احْذَرِي أَنْ تَخْسَرِي الطِّبَاعَ الَّتِي هِيَ الْأَلْيَقُ بِأُمٍّ أَنْجَبَتِ الْأَنْبِيَاءَ فِي الشَّرْقِ.
أُمٌّ عَلَيْهَا طَابَعُ النَّفْسِ الْجَمِيلَةِ، تَنْشُرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ جَوَّ نَفْسِهَا الْعَالِيَةِ، فَلَوْ صَارَتِ الْحَيَاةُ غَيْمًا وَرَعْدًا وَبَرْقًا لَكَانَتْ هِيَ فِيهَا الشَّمْسُ الطَّالِعَةُ، وَلَوْ صَارَتِ الْحَيَاةُ قَيْظًا وَحَرُورًا وَاخْتِنَاقًا لَكَانَتْ هِيَ فِيهَا النَّسِيمُ يَتَخَطَّرُ.
أُمٌّ لَا تُبَالِي إٍلَّا أَخْلَاقَ الْبُطُولَةِ وَعَزَائِمَهَا؛ لِأَنَّ جَدَّاتِهَا وَلَدْنَ الْأَبْطَالَ)).
حُرِّيَّةُ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْمَدَنِيَّةِ أَوَّلُهَا مَا شِئْتَ مِنْ أَوْصَافٍ وَأَسْمَاءٍ؛ لَكِنَّ آخِرَهَادَائِمًا إِمَّا ضَيَاعُ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا فَسَادُ الْمَرْأَةِ.
((ضَوَابِطُ عَمَلِ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ))
إِنَّ الْمَرْأَةَ كَرَّمَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي دِينِ الْإِسْلَامِ تَكْرِيمًا كَبِيرًا، وَجَعَلَ لَهَا خَصَائِصَ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لَهَا خَصَائِصَ تَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْجَسَدِيَّةِ، فَخَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى خِلْقَةً مُتَفَرِّدَةً، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ صَالِحَةً لِمَا خُلِقَتْ لَهُ، وَحَدَّدَ لَهَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَظِيفَتَهَا، وَهِيَ مُتَنَاسِبَةٌ لِمَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْحَيْضِ، وَالْحَمْلِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْإِرْضَاعِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الْوَحَمِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِي قَلْبِهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُومَ عَلَى رِعَايَةِ أَوْلَادِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْوَظِيفَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ، الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنَ كُلَّهُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْأَرْضِ مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ.
((الْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ عَمَلَ الْمَرْأَةِ وَلَا تِجَارَتَهَا؛ فَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- شَرَعَ لِلْعِبَادِ الْعَمَلَ وَأَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]، وَقَالَ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وَهَذَا يَعُمُّ الْجَمِيعَ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَشَرَعَ التِّجَارَةَ لِلْجَمِيعِ.
لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُلَاحَظَ فِي الْعَمَلِ وَفِي التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الْمَرْأَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَاطٌ بِالرِّجَالِ وَلَا تَسَبُّبٌ لِلْفِتْنَةِ، وَتَكُونُ كَذَلِكَ تِجَارَتُهَا، هَكَذَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ فِتْنَةٌ، مَعَ الْعِنَايَةِ بِالْحِجَابِ وَالسِّتْرِ، وَالْبُعْدِ عَنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ.
فَبَيْعُهُنَّ وَشِرَاؤُهُنَّ عَلَى حِدَةٍ بَيْنَهُنَّ لَا بَأْسَ بِهِ، وَالرِّجَالُ عَلَى حِدَةٍ، وَهَكَذَا أَعْمَالُهُنَّ، هَذِهِ تَعْمَلُ طَبِيبَةً لِلنِّسَاءِ، مُمَرِّضَةً لِلنِّسَاءِ، تُعَلِّمُ النِّسَاءَ، لَا بَأْسَ.
فَلَا بُدَّ مَعَ السَّمَاحِ بِالْعَمَلِ لَهَا وَلِلرَّجُلِ، وَالتِّجَارَةِ لَهَا وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ خَطَرٌ عَلَى دِينِهَا وَعِرْضِهَا، وَلَيْسَ خَطَرًا عَلَى الرَّجُلِ)).
((فَخُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا لِلْحَاجَةِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ خُرُوجُهَا لِدَفْعِ حَاجَةِ غَيْرِهَا؛ مِثْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ لِتُعَلِّمَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مُثَابَةً عَلَى خُرُوجِهَا؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ لِقَضَاءِ حَاجَةِ غَيْرِهَا، وَتَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ؛ وَلَكِنْ يَجِبُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا أَلَّا تَخْرُجَ مُتَبَرِّجَةً مُتَزَيِّنَةً مُتَطَيِّبَةً، وَأَنْ تَكُونَ مُتَحَجِّبَةً الْحِجَابَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَمَا يَحْصُلُ بِكَشْفِهِ الْفِتْنَةُ، وَأَلَّا تَخْتَلِطَ بِالرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ بِالرِّجَالِ سَبَبٌ لِلْفِتْنَةِ)).
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} أَيْ: جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ {يَسْقُونَ}: يَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} يَعْنِي: سِوَى الْجَمَاعَةِ، مُنْتَحِيًا عَنْهُمُ {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ، قَالَ الْحَسَنُ: ((تَكُفَّانِ الْغَنَمَ عَنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِأَغْنَامِ النَّاسِ)).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ((تَكُفَّانِ النَّاسَ عَنْ أَغْنَامِهِمَا، وَقِيلَ: تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنْ أَنْ تَشِذَّ وَتَذْهَبَ)).
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ؛ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ.
لَا تُزَاحِمَانِ، وَهَذَا مِنَ الشُّرُوطِ.
وَيَأْتِي شَرْطٌ آخَرُ فِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْعَمَلِ: أَنْ تَكُونَ مُحْتَاجَةً إِلَى ذَلِكَ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، وَلَيْسَ هُنَالِكَ مَنْ يَسْقِي لَهُمَا، ثُمَّ إِذَا مَا خَرَجَتَا انْتَحَيَتَا جَانِبًا.
((الرَّدُّ عَلَى شُبْهَة: ظُلْمُ الْمَرْأَةِ فِي الْمِيرَاثِ))
كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَرْأَةَ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ وَرَكِبَ الْفَرَسَ، فَأَعْطَتْ شَرِيعَةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا مِنَ الْمِيرَاثِ، فَوَرَّثَتْهَا.. أُمًّا، وَجَدَّةً، وَبِنْتًا، وَزَوْجَةً، وَأُخْتًا.
اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ضَمِنَ لِلْمَرْأَةِ اسْتِقْلَالَ الشَّخْصِيَّةِ، فَجَعَلَهَا وَارِثَةً لَا مَوْرُوثَةً، وَجَعَلَ لَهَا حَقًّا فِي الْمِيرَاثِ مِنْ مَالِ قَرِيبِهَا: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 7].
انْظُرْ إِلَى مَا أَعْطَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّسَاءَ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}؛ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].
وَلَمَّا حَدَّدَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَدَّ هَذِهِ الْأَنْصِبَةِ؛ يَعْنِي يَقُولُ لَكَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ، فَإِنَّ الْبِنْتَ تَأْخُذُ نِصفَ نَصِيبِ الْأَخِ -نِصْفَ نَصِيبِ الذَّكَرِ-، وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا؟!!
هِيَ عِنْدَمَا تُرِيدُ أَنْ تَتَزَوَّجَ لَيْسَتْ مُكَلَّفَةً بِأَنْ تُنْفِقَ شَيْئًا، الَّذِي أَخَذَ ضِعْفَ مَا أَخَذَتْ أُخْتُهُ هُوَ سَيَأْتِي بِامْرَأَةٍ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، هِيَ سَيَأْتِيهَا رَجُلٌ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَلَيْسَتْ مُكَلَّفَةً بِشَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْإِسْلَامِ مِمَّا آتَاهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْعَمَ عَلَيْهَا بِهِ.. كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَتَصَدَّقُ عَلَى زَوْجِهَا وَعَلَى أَوْلَادِهَا مِنْ مَالِهَا، تَتَصَدَّقُ؛ يَعْنِي يُمْكِنُ أَنْ تُخْرِجَ الْمَرْأَةُ زَكَاةَ الْمَالِ لِزَوْجِهَا.
زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ عِنْدَهَا مَالٌ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَتَصَدَّقَ، وَوَجَدَتْ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا عَيْبٌ، هِيَ لَمْ تَجِدْ فِي نَفْسِهَا اسْتِعْلَاءً عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، لَا، هِيَ تَعْلَمُ قَدْرَهُ، وَلَكِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَسْأَلَ الرَّسُولَ ﷺ عَمَّا تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ بِهِ مِنْ أَمْرِ هَذَا الْعَمَلِ، هَلَ هَذَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟
ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ بِلَالًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَتْ: ((يَا بِلَالُ! اسْتَئْذِنْ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَوِ اسْأَلْهُ هَذَا السُّؤَالَ وَلَا تُخْبِرْهُ بِشَأْنِي))؛ يَعْنِي لَا تَقُلْ لَهُ إِنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ هِيَ الَّتِي تَسْأَلُ، قُلْ لَهُ: امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ تَسْأَلُ وَلَا تَذْكُرْ شَخْصِي.
دَخَلَ بِلَالٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ زَيْنَبَ تَسْأَلُ هَلْ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُخْرِجَ زَكَاةَ مَالِهَا لِزَوْجِهَا؟)).
فَقَالَ: «أَيُّ الزَّيَانِبِ هِيَ؟».
قَالَ لَهُ: ((امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ)).
قَالَ: «نَعَمْ، هِيَ صَدَقَةٌ وَصِلَةُ رَحِمٍ».
انْظُرْ إِلَى مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ عَلَى يَدِ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ.
((رَدُّ شُبْهَةِ ظُلْمِ الْمَرْأَةِ كَزَوْجَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ))
لَا يُعْلَمُ دِينًا كَرَّمَ الْمَرْأَةَ، وَرَفَعَ شَأْنَهَا، وَأَنْصَفَهَا إِلَّا الْإِسْلَامُ، أَنْزَلَ اللهُ أَحْكَامًا خَاصَّةً بِالنِّسَاءِ، وَأَنْزَلَ سُورَةً بِاسْمِهَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيُعْلِيَ مِنْ شَأْنِهَا، وَيَرْفَعَ مَكَانَتَهَا، وَيُنْصِفَهَا.
لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ حَدٌّ مَحْدُودٌ فِي النِّكَاحِ؛ فَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ الْعَشْرُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَكْثَرُ وَالْأَقَلُّ، فَقَصَرَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعٍ، إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِنَّ، وَالْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ، فَإِنْ خَافَ عَدَمَ الْعَدْلِ فَلْيَكْتَفِ بِوَاحِدَةٍ. وَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَلْتَزِمُونَ الْعَدْلَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَكَانُوا يُسِيئُونَ عِشْرَتَهُنَّ، وَيَهْضِمُونَ حُقُوقَهُنَّ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَنْصَفَهُنَّ، وَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِنَّ فِي الْعِشْرَةِ، وَقَرَّرَ لَهُنَّ حُقُوقًا مَا كُنَّ يَحْلُمْنَ بِهَا.
وَكَانَتْ هُنَاكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْكِحَةٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا الصَّحِيحُ: الَّذِي هُوَ كَأَنْكِحَتِنَا الْيَوْمَ بِخِطْبَةٍ وَوَلِيٍّ وَمَهْرٍ، وَمِنْهَا الْفَاسِدُ؛ فَمِنَ الْفَاسِدِ: نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ، وَنِكَاحُ التَّوَاطُؤِ، وَنِكَاحُ الْبَغَايَا, وَنِكَاحُ الشِّغَارِ، وَنَحْوُهَا.
وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ كَانَ يَلْتَزِمُهُ أَكْثَرُ الْعَرَبِ، لَاسِيَّمَا الْأَشْرَافُ مِنْهُمْ، وَإِلَيْكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((إِنَّ النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ -النَّحْوُ أَيِ: الضَّرْبُ وَزْنًا وَمَعْنًى، أَوِ النَّوْعُ- كَانَ النِّكَاحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ:
فَنِكَاحٌ مِنْهَا: نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فَيُصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا.
وَنِكَاحٌ آخَرُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ. وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا، وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا إِذَا أَحَبَّ؛ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ. فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ.
وَنِكَاحٌ آخَرُ: يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ، وَمَرَّ لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا؛ تَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ، وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ. تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ، فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِهِ الرَّجُلُ.
وَنِكَاحٌ رَابِعٌ: يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ، لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا، وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا، فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا، جُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا لَهَا الْقَافَةَ -وَهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ شَبَهَ الْوَلَدِ بِالْوَالِدِ بِالسِّمَاتِ الْخِلْقِيَّةِ، جَمْعُ: قَائِفٍ- فَإِذَا حَمَلَتْ إِحْدَاهُنَّ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا، جُمِعُوا لَهَا، وَدَعَوْا لَهَا الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فَالْتَاطَ بِهِ، وَدُعِيَ ابْنَهُ، لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ.
فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ بِالْحَقِّ، هَدَمَ نِكَاحَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)).
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْحَاءً أُخْرَى لَمْ تَذْكُرْهَا عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
كَنِكَاحِ الْخِدْنِ: وَهُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]، كَانُوا يَقُولُونَ: مَا اسْتَتَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا ظَهَرَ فَهُوَ لَوْمٌ، وَهُوَ إِلَى الزِّنَى أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى النِّكَاحِ.
وَكَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ: وَهُوَ النِّكَاحُ الْمُعَيَّنُ بِوَقْتٍ.
وَنِكَاحِ الْبَدَلِ: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: انْزِلْ لِي عَنِ امْرَأَتِكَ، وَأَنْزِلُ لَكَ عَنِ اِمْرَأَتِي وَأَزِيدُكَ.
وَمِنَ الْأَنْكِحَةِ الْبَاطِلَةِ: نِكَاحُ الشِّغَارِ: وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ.
فَهَذَا كَانَ كُلُّهُ مِنْ أَنْكِحَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَا كَانَ صَحِيحًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
مِنْ تَكْرِيمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَرْأَةِ أَنَّهُ شَرَعَ لَهَا الزَّوَاجَ، وَسَمَّى الزَّوَاجَ مِيثَاقًا غَلِيظًا، وَجَعَلَهُ قَائِمًا عَلَى الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20-21].
وَإِنْ أَرَدْتُمْ -يَا مَعْشَرَ الرِّجَالِ- طَلَاقَ زَوْجَةٍ وَاسْتِبْدَالَ زَوْجَةٍ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَكَانَ صَدَاقُ مَنْ تُرِيدُونَ طَلَاقَهَا مَالًا كَثِيرًا؛ فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قِبَلِهَا نُشُوزٌ وَسُوءُ عِشْرَةٍ.
أَفَتَأْخُذُونَهُ مُفْتَرِينَ فَاعِلِينَ فِعْلًا تَتَحَيَّرُ الْعُقُولُ فِي سَبَبِهِ، آثِمِينَ بِفِعْلِهِ إِثْمًا وَاضِحًا مُعْلَنَ الْوُضُوحِ، مُسْتَنْكَرَ الْوُقُوعِ.
فَلَا تَفْعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ مَعَ ظُهُورِ قُبْحِهِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ.
وَلِأَيِّ وَجْهٍ تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا بَذَلَهُ لِزَوْجَتِهِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ وَصَلَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالْجِمَاعِ وَالْخَلْوَةِ، وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ عَهْدًا شَدِيدًا مُؤَكَّدًا وَهِيَ كَلِمَةُ النِّكَاحِ الَّتِي تُسْتَحَلُّ بِهَا فُرُوجُ النِّسَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].
وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ -أَيُّهَا الرِّجَالُ- أَزْوَاجًا؛ لِتَمِيلُوا إِلَيْهِنَّ وَتَأْلَفُوهُنَّ، وَتُصِيبُوا مِنْهُنَّ مُتْعَةً وَلَذَّةً، وَجَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ نَوْعًا مِنَ الْحُبِّ الْهَادِئِ الثَّابِتِ، وَعَاطِفَةً نَفْسِيَّةً تَدْفَعُكُمْ إِلَى الْعَطَاءِ وَالْمُسَاعَدَةِ، وَمُشَارَكَةِ الْمَعْطُوفِ فِي آلَامِهِ وَآمَالِهِ.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لِعَلَامَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ جَلِيلَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَفْكِيرًا عَمِيقًا مُتَأَنِّيًّا فِيمَا خَلَقَ اللهُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مِنْ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ وَسَكَنٍ نَفْسِيٍّ.
وَمِنْ تَكْرِيمِ الْمَرْأَةِ زَوْجَةً أَنْ جَعَلَ الشَّارِعُ لِلنِّكَاحِ شُرُوطًا، ((وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شُرُوطٍ؛ لِأَجْلِ أَنْ تَتَّحِدَ الْأُمُورُ وَتَنْضَبِطَ وَتَتَّضِحَ، وَلَوْلَا هَذِهِ الشُّرُوطُ لَكَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فَوْضَى، كُلٌّ يَتَزَوَّجُ عَلَى مَا شَاءَ، وَكُلٌّ يَبِيعُ عَلَى مَا شَاءَ، وَكُلٌّ يُصَلِّي كَيْفَ شَاءَ، لَكِنْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَعَالَى- فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ)).
وَمِنْ شُرُوطِ الزَّوَاجِ -وَهَذَا الشَّرْطُ مِنْ مَظَاهِرِ تَكْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْمَرْأَةِ بِنْتًا-: ((رِضَا الزَّوْجَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، وَلَا تُنْكَحَ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ».
قَالُوا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟)) أَيِ: الْبِكْرُ؟
قَالَ: «أَنْ تَصْمُتَ»، حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي يُزَوِّجُ، وَالدَّلِيلُ: الْعُمُومُ: «لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ»، لَمْ يَسْتَثْنِ الْأَبُ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) خَاصَّةٌ بِالْأَبِ حَيْثُ قَالَ ﷺ: «وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا»، فَنَصَّ عَلَى الْبِكْرِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْ أَخْطَرِ الْعُقُودِ.
وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ فِي الْبَيْعِ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ فَفِي النِّكَاحِ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَخْطَرُ وَأَعْظَمُ؛ إِذْ إِنَّ الْبَيْعَ إِذَا لَمْ تَصْلُحْ لَكَ السِّلْعَةُ سَهُلَ عَلَيْكَ بَيْعُهَا، لَكِنَّ الزَّوَاجَ مُشْكِلٌ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا أَحَدَ يُجْبِرُ الْبِنْتَ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الْوَلِيُّ، فَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يُجْبِرَهَا، وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ)).
لَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْمَرْأَةَ زَوْجَةً، وَجَعَلَ لَهَا حُقُوقًا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَقَابُلَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ، فَمَا مِنْ حَقٍّ إِلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ يُقَابِلُهُ الْحَقُّ، وَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ حَقًّا وَهُوَ حَقٌّ كَبِيرٌ؛ كَذَلِكَ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا.
عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْلَمْنَ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ أَزْوَاجَهُنَّ مِنْحَةً وَمِحْنَةً.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهُ اطَّلَعَ فِي النَّارِ فَوَجَدَ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، يَكْفُرْنَ، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! يَكْفُرْنَ بِاللهِ؟
قَالَ: «يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا؛ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ».
وَقَالَ ﷺ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ؛ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا)).
وَالرَّسُولُ ﷺ عَلَّقَ دُخُولَ الْمَرْأَةِ الْجَنَّةَ عَلَى رِضَا زَوْجِهَا عَنْهَا، فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا؛ قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ)).
عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا فِيمَا يَأْمُرُهَا بِهِ فِي حُدُودِ اسْتِطَاعَتِهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَضَّلَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ، وَجَعَلَ الْقِوَامَةَ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ الْمَرْأَةُ ((لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ -يَعْنِي: حَاضِرٌ غَيْرُ مُسَافِرٍ- إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ غَيْرَ رَمَضَانَ -إِلَّا الْفَرْضَ-، وَلَا تَأْذَنُ فِي بَيْتِهِ لِأَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ)).
وَ((إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلَمْ تَأْتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانًا عَلَيْهَا؛ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ؛ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا».
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((لَا تُؤْذِي امْرَأَةٌ زَوْجَهَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا قَالَتْ زَوْجَتُهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ: لَا تُؤْذِيهِ قَاتَلَكِ اللَّهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ دَخِيلٌ يُوشِكُ أَنْ يُفَارِقَكِ إِلَيْنَا)).
وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهَا.
فِي الْمُقَابِلِ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حَقًّا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَزْوَاجًا نَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ الْمَوَدَّةَ وَالرَّحْمَةَ دَوْحَةً نَسْتَظِلُّ بِهَا.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)).
لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:
1*الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَلْ أَدَّى إِلَيْهَا حَقَّهَا، أَمْ فَرَّطَ وَضَيَّعَ؟
قَالَ ﷺ: «إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ». أَخرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ ﷺ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ؛ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُلَاطَفَةُ النِّسَاءِ وَالْإِحسَانُ إِلَيْهِنَّ، وَالصَّبْرُ عَلَى عِوَجِ أَخْلَاقِهِنَّ، وَاحْتِمَالُ ضَعْفِ عُقُولِهِنَّ، وَكَرَاهِيَةُ طَلَاقِهِنَّ بِلَا سَبَبٍ، وَأنَّهُ لَا يُطْمَعُ بِاسْتِقَامَتِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ».
وَقَالَ ﷺ: «لا يَفْرِكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ». رَوَاهُ مُسلِمٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَيْ: يَنْبَغِي أَلَّا يُبْغِضَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَكْرَهُهُ؛ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يَرْضَاهُ، بِأَنْ تَكُونَ شَرِسَةَ الأَخلَاقِ؛ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ، أَوْ عَفِيفَةٌ، أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ».
2*وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا: أَلَّا يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) قَالَ ﷺ: ((يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ)).
وَالْقَانُونُ عِنْدَ السَّلَفِ -رَحِمَهُمُ اللهُ-: أَنَّهُ لَيْسَ الْإِحْسَانُ إِلَى الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُفَّ الْأَذَى عَنْهَا، وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ فِي عِشْرَتِهَا أَنْ تَتَحَمَّلَ الْأَذَى مِنْهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ قَدْ أَمَرَ الرِّجَالَ أَلَّا يَضْرِبُوا النِّسَاءَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ))؛ يَعْنِي: النِّسَاءَ.
فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: ((زَئِرْنَ النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ))؛ يَعْنِي: نَشَزْنَ وَتَجَرَّأْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ.
فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ ﷺ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نِسَاءٌ كَثِيرٌ بِشَكْوَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلرِّجَالِ: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
((لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ» يَعْنِي: لَيْسَ الضَّارِبُونَ بِخِيَارِكُمْ، فَهَذَا حَقٌّ.
الْوَصِيَّةُ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ امْتِثَالًا لِقوْلِ اللهِ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
3*مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ: حُسْنُ العِشْرَةِ مَعَهَا:
قَالَ ﷺ: «خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهلِهِ، وَأَنَا خَيرُكُم لِأَهلِي» .
وَقَالَ ﷺ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلبَانِيُّ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ حَسَنَ الْعِشْرَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ ﷺ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي».
وَكَانَ ﷺ فِي الْبَيْتِ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ؛ فَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟
قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ –تَعْنِي: خِدْمَةَ أَهْلِهِ-، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ؛ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ فِي التَّواضُعِ وَتَرْكِ التَّكَبُّرِ، وَفِيهِ: خِدْمَةُ الرَّجُلِ أَهْلَهُ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ : «مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ: التَّوَاضُعُ، وَالْبُعْدُ عَنِ التَّنَعُّمِ، وَامْتِهَانُ النَّفْسِ؛ لِيُسْتَنَّ بِهِمْ، وَلِئَلَّا يَخْلُدُوا إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الْمَذْمُومَةِ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَنَّهَا سُئِلْتُ؛ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟
قَالَتْ: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ؛ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ». أَخْرَجَهُ أَحمَدُ بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ مَهْمَا قُدِّمَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ؛ لَمْ يَذُمَّهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِلَّا تَرَكَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمَا ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ امْرَأةً قَطُّ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا بِيَدِهِ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمُ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِِ -عَزَّ وَجَلَّ-». رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَمِنْ رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِأَزْوَاجِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-: أَنَّهُ أَمَرَ سَائِقَ إِبِلِهِنَّ أَنْ يَرْفُقَ بِهِنَّ؛ فَعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ! رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ» .
وَعَنهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَان لِرَسُولِ اللهِ ﷺ حَادٍ حَسَنُ الصَّوتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «رُوَيدًا يَا أَنجَشَةُ، لَا تَكْسِرِ القَوَارِيرَ»؛ يَعنِي: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ، رَوَاهُ مُسلِمٌ.
4*وَمِنَ الْحُقُوقِ: إِعْطَاؤُهَا حُقُوقَهَا، وَعَدَمُ بَخْسِهَا؛ فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟
فَقَالَ ﷺ: ((أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبَ الوَجْهَ، وَلَا يُقَبِّحَ، وَلَا يَهْجُرَ إِلَّا فِي البَيْتِ)) . وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه.
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَلَا يُقَبِّح)) يَعْنِي: لَا يَقُولُ لَهَا: قَبَّحَكِ اللهُ.
فَبَعْضُ النَّاسِ يَأْخُذُهُ الْكَرَمُ وَالسَّخَاءُ مَعَ الْأَصْدِقَاءِ وَالرُّفَقَاءِ، وَيَنْسَى حَقَّ الزَّوْجَةِ!! مَعَ أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْجَرُ عَلَى إِنْفَاقِهِ فِي بَيْتِهِ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ –يَعْنِي: عِتْقًا-، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
5*وَمِنْ حُقُوقِهَا: تَعْلِيمُهَا الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَاتِ، وَحَثُّهَا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].
قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَعَنْ أَبِيهَا-: ((نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا، وَمُسْلِمٌ مَوْصُولًا.
وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُتَابِعَ تَعْلِيمَهَا الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَالسُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ بِنَفْسِهِ، وَيُشَجِّعَهَا وَيُعِينَهَا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].
وَقَالَ ﷺ: ((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ -وَالنَّضْحُ: أَنْ تَغْمِسَ أَصَابِعَكَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُ هَذَا الْمَاءَ فِي وَجْهِهَا، لَا أَنْ تَأْتِيَ بِالْمَاءِ فَتَجْعَلَهُ عَلَى رَأْسِهَا سَكْبًا!!-، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ وَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، وَالنَّسَائِيُّ.
وَفِيهِ عَلَاقَةٌ شَفِيفَةٌ، فِيهَا الْحِرْصُ، وَفِيهَا الْأُلْفَةُ وَالْمَوَدَّةُ، وَفِيهَا الْأَدَاءُ الْحَسَنُ بِالتَّلَصُّصِ عَلَى سُبُلِ الْمَشَاعِرِ الْمَدْفُونَةِ مِنْ أَجْلِ إِخْرَاجِهَا؛ لَتَزْكُوَ بَعْدُ وَتَزْدَهِرَ.
6*وَمِنْ حُقُوقِهَا: مُعَامَلَتُهَا الْمُعَامَلَةَ الْحَسَنَةَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى شُعُورِهَا، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي)) يَعْنِي: زَوْجَتَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228])) .
وَمِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي أَوْسَاطِ بَعْضِ الْأُسَرِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِهَا: بَذَاءَةُ اللِّسَانِ، وَتَقْبِيحُ الْمَرْأَةِ خِلْقَةً وَخُلُقًا، وَالتَّأَفُّفُ مِنْ أَهْلِهَا بِذِكْرِ نَقَائِصِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، مَعَ سَبِّهَا وَشَتْمِهَا، وَمُنَادَاتِهَا بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَلْقَابِ الْقَبِيحَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: إِظْهَارُ النُّفُورِ وَالِاشْمِئْزَازِ مِنْهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: تَجْرِيحُهَا بِذِكْرِ مَحَاسِنِ نِسَاءٍ أُخَرَ، وَأَنَّهُنَّ أَجْمَلُ وَأَفْضَلُ، وَأَحْلَى وَأَكْمَلُ!! وَذَلِكَ يُكَدِّرُ خَاطِرَهَا فِي أَمْرٍ لَيْسَ لَهَا فِيهِ يَدٌ.
وَمِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى شُعُورِ الزَّوْجَةِ، وَمِنْ إِكْرَامِهَا: مُنَادَاتُهَا بِأَحَبِّ أَسْمَائِهَا إِلَيْهَا، وَإِلْقَاءُ السَّلَامِ عَلَيْهَا حِينَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ، وَالتَّوَدُّدُ إِلَيْهَا بِالْهَدِيَّةِ وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ.
وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَطِيبِ الْمُعَاشَرَةِ: عَدَمُ تَصَيُّدِ أَخْطَائِهَا وَمُتَابَعَةِ زَلَّاتِهَا، بَلِ الْعَفْوُ، وَالصَّفْحُ، وَالتَّغَاضِي؛ خَاصَّةً فِي أُمُورٍ تَجْتَهِدُ فِيهَا، وَقَدْ لَا تُوَفَّقُ فِي أَدَائِهَا؛ فَتَأَمَّلْ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
7*وَمِنْ حُقُوقِ الْمَرْأَةِ -أَيْضًا- عَلَى زَوْجِهَا: الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَسَادِ، وَإِظْهَارُ الْغَيْرَةِ عَلَيْهَا، وَحَثُّهَا عَلَى الْقَرَارِ فِي الْبَيْتِ، وَإِبْعَادُهَا عَنْ رَفِيقَاتِ السُّوءِ، وَالْحِرْصُ عَلَى أَلَّا تَذْهَبَ إِلَى الْأَسْوَاقِ، وَإِنْ ذَهَبَتْ فَاذْهَبْ مَعَهَا.
وَلَا تَدَعْهَا تُسَافِرُ بِدُونِ مَحْرَمٍ، وَاسْتَشْعِرْ أَنَّ هَذِهِ أَمَانَةٌ عِنْدَكَ، وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) .
8*وَمِنْ حُقُوقِهَا: إِعْفَافُهَا، وَتَلْبِيَةُ حَاجَاتِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْفَظُهَا، فَهُوَ يُغْنِيهَا عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِهِ، وَاحْرِصْ عَلَى إِشْبَاعِ حَاجَاتِهَا الْعَاطِفِيَّةِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَالثَّنَاءِ الْحَمِيدِ، وَاقْتَطِعْ مِنْ وَقْتِكَ لَهَا، وَاجْعَلْ لِبَيْتِكَ نَصِيبًا مِنْ بَشَاشَتِكَ وَدَمَاثَةِ خُلُقِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ الْحُقُوقَ الْمَفْرُوضَةَ مَعْلُومَةً؛ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟))
قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ((فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)) . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟
قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ؛ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلالٍ؛ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
النَّبِيُّ ﷺ فِي مُعَامَلَتِهِ لِأَزْوَاجِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ- كَانَ الْمَثَلَ الْكَامِلَ ﷺ؛ فَالتَّأَسِّي بِخَيْرِ الْأَزْوَاجِ فِي مُؤَانَسَةِ الزَّوْجَةِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهَا، وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُشَاوِرُ زَوْجَاتِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، مِثْلَمَا شَاوَرَ أُمَّ سَلَمَةَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَخَذَ بِمَشُورَتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَنَجَّى اللهُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّلَكُّؤِ فِي إِنْفَاذِ أَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ بِالتَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
9*وَمِنْ حُقُوقِهَا: أَنْ تَتَحَمَّلَ أَذَاهَا، وَأَنْ تَصْبِرَ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ طُولَ الْحَيَاةِ، وَكَثْرَةَ الْأُمُورِ لَا بُدَّ أَنْ تُوجِدَ فِي الْحَيَاةِ مَا يُنَغِّصُ، وَالزَّوْجَةُ كَأَيِّ إِنْسَانٍ خَلَقَهُ اللهُ، فِيهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ قُصُورٌ، فَتَحَمَّلِ الْأَذَى إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ؛ مِنْ تَأْخِيرِ صَلَاةٍ، أَوْ تَرْكِ صِيَامٍ، فَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحْتَمَلُ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ: مَا يَعْتَرِضُ طَرِيقَ الزَّوْجِ خَاصَّةً، وَعَلَى وَجْهِ التَّحْدِيدِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الزَّوْجَةُ مُضْطَرِبَةً؛ لِاخْتِلَافِ أَمْرِهَا بِمَا تَمُرُّ بِهِ مِنْ ظَرْفٍ شَهْرِيٍّ مُقَدَّرٍ، فَهَذَا يُسِيءُ الْأَخْلَاقَ، وَيُعَكِّرُ الْمِزَاجَ، وَيَجْعَلُ الْأُمُورَ لَا عَلَى السَّوَاءِ.
10*وَمِنْ حُقُوقِهَا: أَنْ يُحَافِظَ عَلَى مَالِهَا، وَأَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُ إِلَّا بِإِذْنِهَا؛ فَقَدْ يَكُونُ لَهَا مَالٌ مِنْ إِرْثٍ، أَوْ مِنْ عَطِيَّةٍ، وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَكُونُ أَغْنَى مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى مَالِهَا، وَلَا أَنْ يُؤْذِيَهَا لِيَسْتَحْلِبَ مَا لَدَيْهَا مِمَّا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ بِطِيبِ الْعِشْرَةِ، وَحُسْنِ الْمَوَدَّةِ، وَعَقْدِ آصِرَةِ الْمَحَبَّةِ تَصِيرُ الْأُمُورُ شَيْئًا وَاحِدًا.
11*وَمِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ الَّتِي عَدَّدَ زَوْجُهَا: الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْبَقَاءِ وَالْمُكْثِ مَعَ كُلِّ زَوْجَةٍ، مَعَ التَّسْوِيَةِ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانَ}.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ عَدَّدَ؛ مَالَ، وَالرَّسُولُ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
وَمِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُدَّعَاةِ: ظُلْمُ الْإِسْلَامِ الْمَرْأَةَ عَبْرَ تَشْرِيعِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ دَاحِضَةٌ؛ فَـ((تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ شَيْءٌ شَرَعَهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ لِلزَّوْجَيْنِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا)).
يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ التَّعَدُّدَ أَنْ يَسْتَشْعِرَ حِكَمَهُ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَدَى مُلَائِمَةِ التَّعَدُّدِ لَهُ؛ فَالتَّعَدُّدُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوعًا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ لَهُ أَسْبَابًا تَدْعُو إِلَيْهِ؛ مِنْهَا:
سُلُوكُ الزَّوْجَةِ السَّيِّءُ؛ فَقَدْ تَسْلُكُ الزَّوْجَةُ فِي مُعامَلَةِ الزَّوْجِ مَسْلَكًا سَيِّئًا يُرْغِمُ الزَّوْجَ عَلَى التَّعَدُّدِ بَدَلًا مِنْ أَنْ يُطَلِّقَهَا.
وَمِنْهَا: الرَّغْبَةُ فِي الذُّرِّيَّةِ؛ فَقَدْ لَا يَكُونُ لَدَى الزَّوْجَةِ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِنْجَابِ؛ لِمَرَضٍ أَوْ عُقْمٍ، فَيَضْطَرُّ الزَّوْجُ إِلَى التَّعَدُّدِ رَغْبَةً فِي الذُّرِّيَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةِ الزَّوْجَةِ فَقَدْ يُرْزَقُ الزَّوْجُ بِالذُّرِّيَّةِ وَيُبْقِي عَلَى زَوْجَتِهِ الْأُولَى، بَلْ رُبَّمَا شُفِيَتْ فِيمَا بَعْدُ وَرُزِقَتْ بِالذُّرِّيَّةِ، فَيَكُونُ التَّعَدُّدُ فِي مَصْلَحَتِهَا إِنْ أَبْقَى عَلَيْهَا الزَّوْجُ.
وَمِنْهَا: الْحِرْصُ عَلَى الْعَفَافِ؛ فَقَدْ يَجِدُ الزَّوْجُ أَنَّ زَوْجَتَهُ لَا تَكْفِيهِ، فَيُضْطَرُّ إِلَى الزَّوَاجِ حِرْصًا عَلَى الْعَفَافِ.
وَمِنْهَا: الْتِمَاسُ الْأَجْرِ؛ فَقَدْ يَتَزَوَّجُ بِامْرَأَةٍ لِيَرْعَاهَا، وَيُعِفَّهَا، وَيَكْفُلَهَا، وَيَحْفَظَهَا مِنْ أَيْدٍ قَدْ تَنَالُهَا بِسُوءٍ.
وَمِنْهَا: مَرَضُ الزَّوْجَةِ؛ فَقَدْ تُصَابُ الزَّوْجَةُ بِدَاءٍ عُضَالٍ؛ كَالشَّلَلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالزَّوْجُ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَرْعَاهُ، فَبَدَلًا مِنْ طَلَاقِ الْأُولَى يُبْقِي عَلَيْهَا وَيَتَزَوَّجُ بِثَانِيَةٍ.
وَمِنْهَا: شُعُورُ الرَّجُلِ بِكَرَاهِيَتِهِ لِزَوْجَتِهِ؛ فَقَدْ يَجِدُ هَذَا الشُّعُورَ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يُطَلِّقُ الزَّوْجَةَ؛ حِمَايَةً لِحَقِّ الْوَفَاءِ، وَرِعَايَةً لِلتَّذَمُّمِ، وَحِفَاظًا عَلَى الْأَوْلَادِ، فَيَتَزَوَّجُ بِثَانِيَة وَيُبْقِي عَلَى الْأُولَى.
فَهَذِهِ بَعْضُ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ لِلتَّعَدُّدِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ دَاعٍ لِلتَّعَدُّدِ، أَوْ كَانَ التَّعَدُّدُ مَبْنِيًّا عَلَى أَغْرَاضٍ لَا تَنْبَغِي؛ فَالْأَوْلَى لِلْمُسْلِمِ أَلَّا يُعَدِّدَ.
وَفَرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الزَّوْجِ الْعَدْلَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَحَذَّرَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَالْمَيْلِ إِلَى إِحْدَاهُمَا، قَالَ ﷺ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَرَادَ السَّفَرَ؛ أَقْرَعَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا؛ خَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَكَانَ ﷺ يُرَاعِي الْعَدْلَ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَيَنْتَقِلُ -وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ- إِلَى الَّتِي عَلَيْهَا النَّوْبَةُ لِتُمَرِّضَ، حَتَّى أَذِنَّ لَهُ فِي أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَهُ امْرَأَتَانِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ هَذِهِ؛ لَمْ يَشْرَبْ مِنْ بَيْتِ الْأُخْرَى مَاءً ؛ لِيَعْدِلَ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ فَحَيَّهَلَّا، وَإِلَّا فَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ!!
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مَعَهُ زَوْجَةٌ وَخَافَ إِذَا تَزَوَّجَ ثَانِيَةً أَلَّا يَعْدِلَ، فَالنِّكَاحُ حَرَامٌ -حِينَئِذٍ-؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].
فَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ إِذَا خِفْنَا عَدَمَ الْعَدْلِ، وَيُسْتَحَبُّ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ.
وَمِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ: شُبْهَةُ ضَرْبِ الزَّوْجَةِ، وَلَكِنْ ضَرْبُ أَيٍّ مِنَ الزَّوْجَاتِ؟ وَمَتَى يَكُونُ؟ وَمَا صِفَتُهُ؟ الْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى الضَّرْبِ -إِذَا وَصَلْنَا إِلَيْهِ- مَعْنَى التَّأْدِيبِ وَطَلَبِ الِاسْتِقَامَةِ لَا عَلَى مَعْنَى الْإِهَانَةِ وَالْإِذْلَالِ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ تَعْتَرِيهَا بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي قَدْ تَنَالُ مِنَ الصَّفَاءِ الْأُسَرِيِّ؛ لِذَلِكَ نَجِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ وَضَعَ الْعِلَاجَ النَّاجِعَ لَهَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الصُّلْحِ، وَالتَّوَافُقِ، وَالتَّرَاضِي، وَالْإِحْسَانِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
((النُّشُوزُ: مَعْصِيَتُهَا إِيَّاهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا، فَإِذَا ظَهَرَ مِنْهَا أَمَارَاتُهُ بِأَلَّا تُجِيبَهُ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ، أَوْ تُجِيبُهُ مُتَبَرِّمَةً أَوْ مُتَكَرِّهَةً؛ وَعَظَهَا.
وَالنُّشُوزُ ييءئَكُونُ مِنَ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ مِنَ الزَّوْجَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34].
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} [النساء: 128].
((يَعِظُهَا)): وَالْمَوْعِظَةُ: هِيَ التَّذْكِيرُ بِمَا يُرَغِّبُ أَوْ يُخَوِّفُ، فَيَعِظُهَا بِذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَبِذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْمُحَذِّرَةِ مِنْ عِصْيَانِ الزَّوْجِ.
فَيَعِظُهَا أَوَّلًا، فَإِنْ أَصَرَّتْ هَجَرَهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ؛ أَيْ: يَتْرُكُهَا فِي الْمَضْجَعِ مَا شَاءَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَتَرْكُهَا فِي الْمَضْجَعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَلَّا يَنَامَ فِي حُجْرَتِهَا، وَهَذَا أَشَدُّ شَيْءٍ.
الثَّانِي: أَلَّا يَنَامَ عَلَى الْفِرَاشِ مَعَهَا، وَهَذَا أَهْوَنُ مِنَ الْأَوَّلِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنَامَ مَعَهَا فِي الْفِرَاشِ؛ وَلَكِنْ يُلْقِيهَا ظَهْرَهُ وَلَا يُحَدِّثُهَا، وَهَذَا أَهْوَنُهَا.
فَيَبْدَأُ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ.
فَمَتَى اسْتَقَامَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ الْهَجْرِ.
فَإِنْ أَصَرَّتْ ضَرَبَهَا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ.
فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبُوهُنَّ}.
فَعَلَيْهِ نَقُولُ: الْمَسْأَلَةُ عِلَاجٌ وَدَوَاءٌ، فَنَبْدَأُ بِالْأَخَفِّ: الْمَوْعِظَةُ، ثُمَّ الْهَجْرُ فِي الْمَضَاجِعِ، وَيُضَافُ إِلَيْهَا الْهَجْرُ فِي الْمَقَالِ، ثُمَّ الضَّرْبُ.
لَيْسَ الضَّرْبُ كَمَا يُرِيدُ، فَلَا يَأْتِي بِخَشَبَةٍ مِثْلَ الذِّرَاعِ وَيَضْرِبُهَا، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَضْرِبَهَا بِسَوْطٍ مِثْلِ الْأُصْبَعِ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ أَخْطَأَ لَا شَكَّ، فَيَضْرِبُهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهَا فِي الْوَجْهِ، وَلَا فِي الْمَقَاتِلِ، وَلَا فِيمَا هُوَ أَشَدُّ أَلَمًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّأْدِيبُ.
فَإِنْ لَمْ يُفِدْ؛ أَيْ: أَنَّهُ وَعَظَهَا، ثُمَّ هَجَرَهَا، ثُمَّ ضَرَبَهَا وَلَا فَائِدَةَ؛ فَمَاذَا نَصْنَعُ؟
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ شِقَاقًا وَمُخَالَفَةً بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى الْفِرَاقِ؛ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِمَا حَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ، وَحَكَمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ؛ لِيَنْظُرَا فِي أَمْرِهِمَا، وَيَحْكُمَا بِمَا يَرَيَانِهِ مَصْلَحَةً مِنَ الْجَمْعِ أَوِ التَّفْرِيقِ.
إِنْ يُرِدِ الزَّوْجَانِ إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، فَيَجْعَلُ كُلَّ قَلْبٍ يَلْتَقِي مَعَ الْآخَرِ، إِنَّ اللهَ كَانَ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ عَلِيمًا عِلْمًا كَامِلًا شَامِلًا، خَبِيرًا بِظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ وَبَوَاطِنِهَا عِلْمَ حُضُورٍ وَشُهُودٍ وَتَدْبِيرِ.
فَصَارَتِ الْمَرَاتِبُ أَرْبَعًا:
وَعْظٌ، هَجْرٌ، ضَرْبٌ، إِقَامَةُ الْحَكَمَيْنِ.
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَكْرِيمِ الْإِسْلَامِ لِلْمَرْأَةِ: حَقُّهَا فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ اسْتِحَالَةِ الْعِشْرَةِ مَعَ زَوْجِهَا، مَعَ حِفْظِ حُقُوقِهَا، وَمُعَامَلَتِهَا بِإِحْسَانٍ؛ فَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ الطَّلَاقَ عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الشِّقَاقُ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتُصْبِحُ الْحَيَاةُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحِيلَةً، وَحَدَّدَ الدِّينُ الْحَنِيفُ طُرُقًا شَرْعِيَّةً وَسُبُلًا أَخْلَاقِيَّةً لِلطَّلَاقِ؛ حَتَّى يَكُونَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [البقرة: 130].
وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا التَّلَاؤُمُ، وَأَرَادَا الْفُرْقَةَ؛ يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ فَضْلِهِ وَغِنَاهُ وَرِزْقِهِ، وَكَانَ اللهُ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ وَاسِعَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، حَكِيمًا فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.
وَتَشْرِيعُ الطَّلَاقِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عِنْدَمَا يَتَعَذَّرُ إِزَالَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ تَشْرِيعٌ حَكِيمٌ، فِيهِ دَرْءٌ لِمَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ وَخَطِيرَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَى إِجْبَارِ الزَّوْجَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ أَنْ يَعِيشَا مَعَ بَعْضِهِمَا وَهُمْ فِي تَنَافُرٍ وَخِصَامٍ مُسْتَمِرَّيْنِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُؤَثِّرُ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَيَمْتَدُّ فَسَادُهُ إِلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُحِيطِ بِالْأُسْرَةِ.
أَمَرَ -تَعَالَى- الْأَزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا أَمْسَكَهَا بِعِشْرَةٍ حَسَنَةٍ، وَإِنْ فَارَقَهَا فَلْيَكُنْ عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ بِطُمَأْنِينَةٍ مِنْ غَيْرِ مُغَاضَبَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا عَدَاوَاتٍ تَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا.
وَمِنَ التَّسْرِيحِ بِالْمَعْرُوفِ: أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ تَتَمَتَّعُ بِهِ، وَيَنْجَبِرُ بِهِ خَاطِرُهَا، وَتَذْهَبُ عَنْ زَوْجِهَا شَاكِرَةً، وَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْفِرَاقِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إِلَّا الْعَوَاقِبُ الطَّيِّبَةُ لِلطَّرَفَيْنِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ الْبَارِي هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْجَلِيلَةَ غَايَةَ التَّبْيِينِ، وَكَانَ الْقَصْدُ بِهَا أَنْ يَعْلَمَهَا الْعِبَادُ وَيَعْمَلُوا بِهَا، وَيَقِفُوا عِنْدَهَا وَلَا يَتَجَاوَزُوهَا؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْزِلْهَا عَبَثًا، بَلْ أَنْزَلَهَا بِالْعِلْمِ وَالصِّدْقِ وَالْحَقِّ النَّافِعِ وَالْجِدِّ، نَهَى عَنِ اتِّخَاذِهَا هُزُوًا، أَيْ: لَعِبًا بِهَا، وَهُوَ التَّجَرِّي عَلَيْهَا، وَعَدَمُ الِامْتِثَالِ لِوَاجِبِهَا؛ مِثْلَ الْمُضَارَّةِ فِي الْإِمْسَاكِ وَالْإِرْسَالِ، أَوْ كَثْرَةِ الطَّلَاقِ.
((الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ ظُلْمِ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِ الْقِوَامَةِ لِلرَّجُلِ))
مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ: ادِّعَاءُ ظُلْمِ الْمَرْأَةِ بِإِعْطَاءِ الْقِوَامَةِ لِلرَّجُلِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْمُسَاوَاةِ بِالرَّجُلِ فِي الْقِوَامَةِ؛ فَمِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَتَبَرَّمُ مِنْ قِوَامَةِ الرَّجُلِ عَلَيْهَا، فَتُرِيدُ أَنْ تُسَاوِيَهُ فِي جَمِيعِ تَصَرُّفَاتِهِ؛ بَلْ قَدْ يُعْجِبُهَا أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ قِيَادَهُ لَهَا، وَتَكُونَ إِرَادَتُهُ تَابِعَةً لِإِرَادَتِهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهَا الْقَوْلَ، وَرَأْيُهَا الْفَصْلَ، فَتَفْرِضُ عَلَيْهِ سَيَاجًا مُحْكَمًا لَا مَعْدَى عَنْهُ وَلَا مَحِيصَ مِنْهُ.
وَالَّذِي قَدْ يَدْفَعُهَا إِلَى ذَلِكَ دَافِعُ الْغُرُورِ بِالْمَالِ، أَوِ الْجَاهِ، أَوِ الْجَمَالِ، أَوِ الْحَسَبِ، أَوِ الْمُسْتَوَى الْعِلْمِيِّ، وَقَدْ يَدْفَعُهَا إِلَى ذَلِكَ تَأَثُّرِهَا بِالدَّعَايَاتِ الَّتِي تُنَادِي بِمُسَاوَاةِ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ، وَتَحْرِيرِهَا مِنْ سُلْطَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَوْقِفُهَا مِنْهُ مَوْقِفَ النِّدِّ لِلنِّدِّ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ خِلَافُ مَا تَأْمُرُ بِهِ الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ السَّوِيَّةُ؛ بَلْ وَالتَّجَارِبُ الْإِنْسَانِيَّةُ، فَالْمَرْأَةُ الْعَاقِلَةُ –إِذَنْ- هِيَ الَّتِي تَعْرِفُ قَدْرَهَا، وَتَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهَا، فَالْقِوَامَةُ حَقٌّ لِلرَّجُلِ، وَتَشْرِيفٌ لِلْمَرْأَةِ، فَالْإِسْلَامُ أَنْقَذَ الْمَرْأَةَ مَنْ أَيْدِي الَّذِينَ يَزْدَرُونَ مَكَانَتَهَا، وَتَأْخُذُهُمُ الْجَفْوَةُ فِي مُعَاشَرَتِهَا، فَقَرَّرَ لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ مَا يَكْفُلُ رَاحَتَهَا، وَيُنَبِّهُ عَلَى رِفْعَةِ مَنْزِلَتِهَا، ثُمَّ جَعَلَ لِلرَّجُلِ حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَإِقَامَةَ السِّيَاجِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا يَخْدِشُ كَرَامَتَهَا.
وَمِنَ الشَّاهِدِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
(({وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: وَلِلنِّسَاءِ عَلَى بُعُولَتِهِنَّ مِنَ الْحُقُوقِ وَاللَّوَازِمِ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ لِأَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.
وَمَرْجِعُ الْحُقُوقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ: الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَذَلِكَ الزَّمَانِ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْعَوَائِدِ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَالْمُعَاشَرَةَ وَالْمَسْكَنَ، وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ، الْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْرُوفِ، فَهَذَا مُوجِبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا مَعَ الشَّرْطِ فَعَلَى شَرْطِهِمَا، إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا.
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أَيْ: رِفْعَةٌ وَرِيَاسَةٌ وَزِيَادَةُ حَقٍّ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَنْصِبُ النُّبُوَّةِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَسَائِرِ الْوِلَايَاتِ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ، وَلَهُ ضِعْفَا مَا لَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، كَالْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أَيْ: لَهُ الْعِزَّةُ الْقَاهِرَةُ وَالسُّلْطَانُ الْعَظِيمُ، الَّذِي دَانَتْ لَهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ عِزَّتِهِ حَكِيمٌ فِي تَصَرُّفِهِ)).
فَقَرَّرَتِ الْآيَةُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْحُقُوقِ مِثْلَ مَا لِلرَّجُلِ، وَإِذَا كَانَ أَمْرُ الْأُسْرَةِ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا بِقَائِدٍ يُدَبِّرُهُ، فَأَحَقُّهُمْ بِالْقِيَادَةِ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي شَأْنُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى دَفْعِ الْأَذَى عَنْهَا، وَهَذَا مَا اسْتَحَقَّ بِهِ الدَّرَجَةَ الْمُشَارَةَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْقِوَامَةَ حَقٌّ لِلرَّجُلِ وَخَصِيصَةٌ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ جُعِلَ أَصْلَهَا، وَجُعِلَتِ الْمَرْأَةُ فَرْعَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]، وَأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِهِ الْعَوْجَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ أَعْوَجَ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْقِوَامَةَ حَقٌّ لِلرَّجُلِ وَخَصِيصَةٌ مِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ نَاقِصَةُ عَقْلٍ وَدِينٍ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ: ((مَا رَأَيْتُ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْكُنَّ)).
قَالَتِ امْرَأَةٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟)).
قَالَ: ((أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ)).
فَلَا يُمْكِنُ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ- أَنْ تَسْتَقِلَّ بِالتَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَذَلِكَ نَقْصُ قُوَّتِهَا؛ فَلَا تُقَاتِلُ، وَلَا يُسْهَمُ لَهَا، وَكَذَلِكَ مَا يَعْتَرِيهَا مِنَ الْعَوَارِضِ الطَّبِيعِيَّةِ؛ مِنْ حَمْلٍ، وَوِلَادَةٍ، وَحَيْضٍ، وَنِفَاسٍ، فَيَشْغَلُهَا عَنْ مُهِمَّةِ الْقِوَامَةِ الشَّاقَّةِ.
فَالْقِوَامَةُ -إِذَنْ- حَقٌّ لِلرَّجُلِ، وَلَكِنْ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْقِوَامَةِ أَنَّهَا تَعْنِي التَّسَلُّطَ وَالِاسْتِبْدَادَ وَالْقَهْرَ وَالْعَسْفَ وَالْجَبَرُوتَ، وَإِنَّمَا هِيَ تَكْليفٌ وَتَذَمُّمٌ، وَرِعَايَةٌ، وَرَحْمَةٌ، كَمَا لَا يُفْهَمُ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا لَا تُسْتَشَارُ، وَلَا تَعْقِلُ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَلَّا تَتَرَفَّعَ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ هِيَ أَعْقَلُ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ تَبْقَى الْقَاعِدَةُ وَالْأَصْلُ أَلَا وَهِيَ: أَنَّ الْقِوَامَةَ بِيَدِ الرَّجُلِ.
بَلْ إِنَّ الْمَرْأَةَ الْعَاقِلَةَ لَا تُفَضِّلُ مِنَ الرِّجَالِ إِلَّا مَنْ كَانَ قَائِمًا بِالْقِوَامَةِ عَلَيْهَا، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ طِبَاعَ النِّسَاءِ السَّلِيمَاتِ الْفِطْرَةِ مِنْ جِنَايَاتِ سُوءِ التَّرْبِيَةِ وَفَسَادِ النِّظَامِ؛ يَرَى أَنَّ الثَّابِتَ فِي غَرَائِزِهِنَّ أَنَّ خَيْرَ الْأَزْوَاجِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاخْتِيَارِ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَحِمَايَةِ النَّسْلِ وَصِيَانَتِهِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَرْبِيَتُهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
ثُمَّ إِنَّ ضَعْفَ الْمَرْأَةِ الْخِلْقيَّ لَا يُعَدُّ مِنْ مَسَاوِئِهَا، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِهَا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّعْفَ الْخِلْقِيَّ وَالْعَجْزَ عَنِ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ عَيْبٌ نَاقِصٌ فِي الرِّجَالِ مَعَ أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِ النِّسَاءِ الَّتِي تَجْذِبُ إِلَيْهَا الْقُلُوبَ.
قَالَ جَرِيرٌ:
إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرٌ = قَتَّلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ = وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أَرْكَانًا
وَقَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ:
بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا لَهُ = بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ
فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ الْبَرِيءِ وَلَمْ تَزَلْ = بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالُ مُرِيبُ
فَالْأَوَّلُ تَشْبِيبٌ بِهِنَّ بِضَعْفِ أَرْكَانِهِنَّ، وَالثَّانِي بِعَجْزِهِنَّ عَنِ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
فَإِذَا عَرَفْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ: أَنَّ الْأُنُوثَةَ نَقْصٌ خِلْقِيٌّ، وَضَعْفٌ طَبِيعِيٌّ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ الَّذِي يُدْرِكُ الْحِكَمَ وَالْأَسْرَارَ يَقْضِي بِأَنَّ النَّاقِصَ الضَّعِيفَ بِخِلْقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ نَظَرِ الْكَامِلِ فِي خِلْقَتِهِ، الْقَوِيِّ بِطَبِيعَتِهِ؛ لِيَجْلِبَ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ مِنَ الضُّرِّ)).
وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ؛ أَنَّ الْقِوَامَةَ حَقٌّ لِلرَّجُلِ، وَتَكْرِيمٌ لِلْمَرْأَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا بِحَالٍ أَنْ تَرْفَضَ قِوَامَةَ الرَّجُلِ عَلَيْهَا، وَلَا أَنْ تَتَضَجَّرَ مِنْهَا طَالَمَا أَنَّهُ لَمْ يَحِدْ عَنْ أَمْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَلَنْ يَطِيبَ لِلْمَرْأَةِ عَيْشٌ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي كَنَفِ رَجُلٍ يَحُوطُهَا، وَيَقُومُ عَلَى رِعَايَتِهَا.
((الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ عَدَمِ وُجُوبِ خِدْمَةِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا))
مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا حُجَّةٍ: عَدَمُ وُجُوبِ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ مِنْ نَحْوِ صِنَاعَةِ الطَّعَامِ، وَغَسِيلِ الثِّيَابِ، وَتَنْظِيفِ الْمَنْزِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَهَذَا مِنَ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ.
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَمَّةِ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ حِينَ سَأَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ: ((أَذَاتُ بَعْلٍ أَنْتِ؟)).
قَالَتْ: ((نَعَمْ)).
قَالَ: ((فَأَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ؟)).
قَالَتْ: ((مَا آلُوا إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ))؛ أَيْ: مَا أُقَصِّرُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ.
قَالَ: ((فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ؛ إِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ عِظَمَ حَقِّ الزَّوْجِ قَوْلُهُ ﷺ: ((حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ فَلَحَسَتْهَا، أَوْ انْتَثَرَ مِنْخَرَاهُ صَدِيدًا أَوْ دَمًا ثُمَّ ابْتَلَعَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ)). أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((حَسَنٌ صَحِيحٌ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)). بِنَحْوِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
وَمِمَّا يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الزَّوْجِ: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَمَسْؤُولَةٌ عَنْهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الرِّعَايَةُ عَامَّةٌ لِلزَّوْجِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ: هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَخْدُمَهُ فِي مِثْلِ فِرَاشِ الْمَنْزِلِ، وَمُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْخَبْزِ، وَالطَّحْنِ، وَالطَّعَامِ لِمَمَالِيكِهِ وَبَهَائِمِهِ، وَمِثْلِ عَلْفِ دَابَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَجِبُ الْخِدْمَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ كَضَعْفِ مَنْ قَالَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِشْرَةُ وَالْوَطْءُ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَاشَرَةً بِالْمَعْرُوفِ.
وَقِيلَ -وَهُوَ الصَّوَابُ-: وُجُوبُ الْخِدْمَةِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ سَيِّدُهَا فِي كِتَابِ اللهِ، وَهِيَ عَانِيَةٌ عِنْدَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَعَلَى الْعَانِي وَالْعَبْدِ الْخِدْمَةُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ.
ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: تَجِبُ الْخِدْمَةُ الْيَسِيرَةُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: تَجِبُ الْخِدْمَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ)).
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ مَنْ خَاطَبَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِكَلَامِهِ، وَأَمَّا تَرْفِيهُ الْمَرْأَةِ، وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ لَهَا، وَكَنْسُهُ، وَطَحْنُهُ، وَعَجْنُهُ، وَغَسِيلُهُ، وَفَرْشُهُ، وَقِيَامُهُ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ فَمِنِ الْمُنْكَرِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وَيَقُولُ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34].
وَإِذَا لَمْ تَخْدَمْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْخَادِمُ لَهَا، فَهِيَ الْقَوَّامَةُ عَلَيْهِ!
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَهْرَ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ، وَكُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللهُ -تَعَالَى- نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا وَمَسْكَنَهَا فِي مُقَابَلَةِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا وَخِدْمَتِهَا وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَزْوَاجِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعُقُودَ الْمُطْلَقَةَ إِنَّمَا تُنَزَّلُ عَلَى الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ وَقِيَامُهَا بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ الدَّاخِلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ خِدْمَةَ فَاطِمَةَ وَأَسْمَاءَ كَانَتْ تَبَرُّعًا وَإِحْسَانًا، يَرُدُّهُ أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ تَشْتَكِي مَا تَلْقَى مِنَ الْخِدْمَةِ، وَلَمْ يَقُلِ النَّبِيُّ ﷺ لِعَلِيٍّ: لَا خِدْمَةَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَيْكَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يُحَابِي فِي الْحُكْمِ أَحَدًا، وَلَمَّا رَأَى أَسْمَاءَ وَالْعَلَفَ عَلَى رَأْسِهَا وَالزُّبَيْرُ مَعَهُ لَمْ يَقُلْ لَهُ: لَا خِدْمَةَ عَلَيْهَا، وَهَذَا ظُلْمٌ لَهَا، بَلْ أَقَرَّهُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا، وَأَقَرَّ سَائِرَ أَصْحَابِهِ عَلَى اسْتِخْدَامِ أَزْوَاجِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ مِنْهُنَّ الْكَارِهَةَ وَالرَّاضِيَةَ، هَذَا أَمْرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَلَا يَصِحُّ التَّفْرِيقُ بَيْنَ شَرِيفَةٍ وَدَنِيئَةٍ، وَفَقِيرَةٍ وَغَنِيَّةٍ، فَهَذِهِ أَشْرَفُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ -يَعْنِي: فَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- كَانَتْ تَخْدُمُ زَوْجَهَا، وَجَاءَتْهُ ﷺ تَشْكُو إِلَيْهِ الْخِدْمَةَ، فَلَمْ يُشْكِهَا -أَيْ: لَمْ يُزِلْ شَكْوَاهَا-)).
إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجْدُرُ بِالزَّوْجَةِ الْعَاقِلَةِ أَنْ تَقُومَ عَلَى خِدْمَةِ زَوْجِهَا بِنَفْسٍ رَاضِيَةٍ، فَتَقُومُ عَلَى رِعَايَةِ مَنْزِلِهِ، وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلَادِهِ، وَتَوْفِيرِ كَافَّةِ سُبُلِ الرَّاحَةِ لَهُ، وَإِعْدَادِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ، وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَكَيِّهَا؛ حَتَّى تَكْسِبَ رِضَا رَبِّهَا، وَحُبَّ زَوْجِهَا.
وَلْتَعْلَمْ أَنَّهَا مُعَانَةٌ وَمُسَدَّدَةٌ مِنَ اللهِ إِذَا هِيَ أَخْلَصَتِ النِّيَّةَ، وَأَحْسَنَتِ الْعَمَلَ.
وَمَعَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ وُجُوبِ قِيَامِ الْمَرْأَةِ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا مَا اسْتَطَاعَتْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُكَلِّفَهَا مَا لَا تُطِيقُ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفُقَ بِهَا، وَأَنْ يُعِينَهَا عَلَى شُؤُونِ بَيْتِهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَفْعَلُ.
قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حِينَ سُئِلَتْ: ((مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ؟)).
قَالَتْ: ((يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي: خِدْمَتَهُمْ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَتْ إِلَى الصَّلَاةِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا سُئِلَتْ: ((مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟)).
قَالَتْ: ((كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ؛ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلِبُ شَاتَهُ)).
فَإِذَا لَمْ يَقُمِ الزَّوْجُ بِذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُسْمِعَ زَوْجَتَهُ كَلِمَةَ ثَنَاءٍ، وَأَنْ يُرِيَهَا ابْتِسَامَةَ رِضًا.
((الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ عَدَمِ وُجُوبِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ))
مِنَ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ: الزَّعْمُ عَدَمُ وُجُوبِ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ، إِنَّ ((الرَّضَاعَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحِكْمَتِهِ؛ فَالطِّفْلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يَتَغَذَّى بِالدَّمِ عَنْ طَرِيقِ السُّرَّةِ، ثُمَّ إِذَا انْفَصَلَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ وِعَاءَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ فِي صَدْرِ الْأُمِّ، وَاخْتَارَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَكُونَ فِي الصَّدْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى كَوْنِ الْأُمِّ تَحْتَضِنُ الْوَلَدَ، وَتَرِقُّ لَهُ وَتَحِنُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذَا الْوِعَاءَ وِعَاءَ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ اللَّبَنُ كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَارُورَةِ، لَكِنَّهُ يَجْتَمِعُ بَيْنَ عَصَبٍ وَلَحْمٍ وَشَحْمٍ مُتَفَرِّقًا؛ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِلْأُمِّ مِمَّا لَوْ كَانَ يَرْتَجُّ كَمَا لَوْ كَانَ فِي قَارُورَةٍ.
وَبِهَذَا كُلِّهِ تَتَبَيَّنُ حِكْمَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ بِإِسْقَائِهِ لَبَنًا أَجْنَبِيًّا كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ، مَعَ أَنَّ الْأَطِبَّاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لَبَنَ الْأُمِّ خَيْرٌ لِلطِّفْلِ مِنْ أَيِّ لَبَنٍ آخَرَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللهِ -تَعَالَى- الْكَوْنِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَلَّا تَدَعَ إِرْضَاعَ وَلَدِهَا لِمُدَّةِ سَنَتَيْنِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233])).
لَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ -تَعَالَى- الْوَالِدَاتِ: أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ سَنَتَانِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}.
وَهَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ؛ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَقَرِّرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرٍ بِأَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ يُطْلَقُ عَلَى الْكَامِلِ وَعَلَى مُعْظَمِ الْحَوْلِ، قَالَ: كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ.
فَإِذَا تَمَّ لِلرَّضِيعِ حَوْلَانِ؛ فَقَدْ تَمَّ رَضَاعُهُ، وَصَارَ اللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَغْذِيَةِ، فَلِهَذَا كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، لَا يُحَرِّمُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233].
وَالْأُمَّهَاتُ سَوَاءٌ أَكُنَّ أَزْوَاجًا لِآبَاءِ الْأَوْلَادِ، أَوْ كُنَّ مُطَلَّقَاتٍ مِنْهُنَّ، يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ فِي حُكْمِ اللهِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَ.
فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْوَالِدَاتِ ذَوَاتِ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى أَطْفَالِهِنَّ، وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ بِرَبِّهِنَّ أَنْ يَتْرُكْنَ إِرْضَاعَ أَوْلَادِهِنَّ دُونَ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6].
أَسْكِنُوا الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ نِسَائِكُمْ فِي أَثْنَاءِ عِدَّتِهِنَّ مَكَانًا مِنْ مَسْكَنِكُمْ عَلَى قَدْرِ سَعَتِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ، وَلَا تُؤْذُوهُنَّ فِي مَسَاكِنِهِنَّ فَيَخْرُجْنَ، وَإِنْ كَانَتْ نِسَاؤُكُمْ الْمُطَلَّقَاتُ ذَوَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَيَخْرُجْنَ مِنْ عِدَّتِهِنَّ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أَوْلَادَكُمْ بَعْدَ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عَلَى إِرْضَاعِهِنَّ.
وَلْيَأْتَمِرْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِمَا تُعُورِفَ عَلَيْهِ مِنْ سَمَاحَةٍ وَطِيبِ نَفْسٍ، فَلَا يُقَصِّرُ الرَّجُلُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَنَفَقَتِهَا، وَلَا الْمَرْأَةُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَرَضَاعِهِ.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَ: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعَدْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ..)).
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ مَشَاهِدَ رَآهَا، قَالَ ﷺ: ((ثُمَّ انْطَلَقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِنِسَاءٍ تَنْهَشُ ثَدْيَهُنَّ الْحَيَّاتُ، قُلْتُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ؟ قِيلَ: هَؤُلَاءِ يَمْنَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَلْبَانَهُنَّ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: بَلْ إِذَا كَانَتْ فِي عِصْمَةِ الزَّوْجِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُرْضِعَهُ))، وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَصَحُّ، إِلَّا إِذَا تَرَاضَتْ هِيَ وَالْوَالِدُ بِأَنْ يُرْضِعَهُ غَيْرُهَا فَلَا حَرَجَ، أَمَّا إِذَا قَالَ الزَّوْجُ: لَا يُرْضِعُهُ إِلَّا أَنْتِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا، حَتَّى وَإِنْ وَجَدْنَا مَنْ يُرْضِعُهُ، أَوْ وَجَدْنَا لَهُ لَبَنًا صِنَاعِيًّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَغَذَّى بِهِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: لَا بُدَّ أَنْ تُرْضِعِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُتَكَفِّلٌ بِالنَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ فِي مُقَابِلِ الزَّوْجِيَّةِ وَالرَّضَاعِ.
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ أُرْضِعَ ابْنِي مِنَ اللَّبَنِ الصِّنَاعِيِّ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْأَمْرَاضِ وَشِبْهِهَا، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: بَلْ أَنَا سَأُرْضِعُهُ فَالْحَقُّ هُنَا لِلزَّوْجَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا)).
قَالَ عُلَمَاءُ اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ لِلْإِفْتَاءِ: ((الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُحَافِظَ عَلَى إِرْضَاعِ أَوْلَادِهَا وَأَسْبَابِ صِحَّتِهِمْ، وَلَيْسَ لَهَا الِاكْتِفَاءُ بِالْحَلِيبِ الْمُسْتَوْرَدِ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا بِرِضَا زَوْجِهَا بَعْدَ التَّشَاوُرِ فِي ذَلِكَ، وَعَدَمِ وُجُودِ ضَرَرٍ عَلَى الْأَوْلَادِ)).
((رِسَالَةٌ إِلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ))
عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّقيَ اللهَ -تَعَالَى- فِي دِينِهَا وَفِى نَفْسِهَا، وَأَنْ تَبْتَعِدَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ.
فَلْتُسَارِعِ الْمُسْلِمَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَلْتَفْتَحْ صَفْحَةً جَدِيدَةً فِي حَيَاتِهَا، وَلْتَجْتَهِدْ فِي تَزْيينِهَا بِطَاعَةِ اللهِ، وَلْتُجَمِّلْهَا بِصِدْقِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللهِ، وَلْتُحَاسِبْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبَ: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89]. عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنْ تَحْذَرَ أَنْ تَعْصِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ تُخَالِفَ أَمْرَهُ.
عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَسَتِّرَةً مُتَحَجِّبَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ وَلَا مُتَطَيِّبَة وَلَا رَافِعَةً صَوْتًا وَلَا مُبْدِيَةً زِينَةً، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أَيْ: لَكِنْ مَا ظَهَرَ مِنْهَا فَلَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَهُوَ الْجِلْبَابُ -الْعَبَاءَةُ- وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ، وَابْتِعَادًا عَنِ الْفِتْنَةِ.
وَلْتَتَشَبَّهِ الْمُسْلِمَةُ بِنِسَاءِ الصَّحَابَةِ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَنَا وَأَنْ يَهْدِيَ نِسَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا أَجْمَعِينَ لِلْعَمَلِ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ، إِنَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
المصدر:تَكْرِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِوَرَدُّ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ حَوْلَهَا