بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ

بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ

((بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((أَهَمِّيَّةُ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

فَإِنَّ صِحَّةَ الْفَهْمِ وَسَلَامَةَ الْقَصْدِ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ، بَلْ هُمَا أَجَلُّ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَصِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْقَصْدِ هُمَا سَاقَا الْإِسْلَامِ؛ عَلَيْهِمَا يَقُومُ، وَعَلَيْهِمَا يَرْتَكِزُ.

وَبِصِحَّةِ الْفَهْمِ يُنَجِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنْ سَبِيلِ الضَّالِّينَ، وَأَمَّا بِسَلَامَةِ الْقَصْدِ فَيُنَجِّيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ سَبِيلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.

وَبِصِحَّةِ الْفَهْمِ وَسَلَامَةِ الْقَصْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ وَهَدَاهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي أَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ نَسْأَلَهُ بِأَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا بِالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ كَمَا أَنْعَمَ عَلَى الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَيْهِ، نَطْلُبُ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي كُلِّ صَلَاةٍ.

صِحَّةُ الْفَهْمِ وَسَلَامَةُ الْقَصْدِ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا عَلَى عَبْدِهِ بَعْدَ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ؛ إِذْ وَفَّقَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ لَهُ، وَثَبَّتَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ.

وَصِحَّةُ الْفَهْمِ نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عَبْدِهِ، وَمِنَّةٌ وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَبِهَا تَفَاوَتَتْ سُبُلُ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَلَفَتْ مَنَاهِجُهُمْ؛ فَعُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدٍ.

وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي قَلْبِ مَنْ أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ، وَهِيَ مِنَّةٌ مَمْنُونَةٌ وَنِعْمَةٌ مُنْعَمٌ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ وَأَنْ يُنْعِمَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ دُنْيَا وَآخِرَةً.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ عُمَرَ الْفَارُوقَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يُقَرِّبُهُ وَيُدْخِلُهُ مَجْلِسَهُ الْخَاصَّ -مَجْلِسَ مَشُورَتِهِ مَعَ الْأَشْيَاخِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَدْرٍ-، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: هَذَا مِثْلُ أَبْنَائِنَا! فَكَيْفَ يَدْخُلُ مَعَنَا، وَيَجْلِسُ فِي مِثْلِ مَجْلِسِنَا؟!!

وَعَلِمَ ذَلِكَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: فَقَالَ لِي يَوْمًا: احْضُرْ مَجْلِسَنَا.

قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ.

فَلَمَّا اسْتَتَمَّ الْمَجْلِسُ وَفِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَقْبَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَشْيَاخِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟

فَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ إِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنَّصْرِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ يُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ، وَمِنْ سَاكِتٍ لَا يَنْبِسُ بِبِنْتِ شَفَةٍ.

قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟

قَالَ: قُلْتُ: هُوَ نَعْيُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَهُوَ إِعْلَامٌ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، أَخْبَرَهُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ وَأَعَزَّهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ بِحَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً عَلَى دُنُوِّ أَجَلِهِ وَاقْتِرَابِ نِهَايَةِ عُمُرِهِ.

فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا عَلِمْتَ)).

لَا أَعْلَمُ مِنْهَا سِوَى مَا عَلِمْتَ.. لَا عِلْمَ لِي بِشَيْءٍ فَوْقَ الَّذِي قُلْتَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.

فَمِنْ أَيْنَ أَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِهَذَا الْفَهْمِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ هُنَالِكَ مِنْ دَلَالَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا بَاطِنَةٍ عَلَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْفَهْمِ فِي قَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1-3].

لَيْسَ فِي الْآيَاتِ فِي ظَاهِرِهَا مَا يَدُلُّ دَلَالَةً خَاصَّةً عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ فَهْمِهِ بِالنُّورِ الَّذِي قَذَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي قَلْبِهِ مِنْ صِحَّةِ الْفَهْمِ وَجَوْدَتِهِ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الْمَمْنُونَةِ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِدَعْوَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ.

وَصَدَّقَ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ.. مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، بَلْ إِنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي الْآيَاتِ فَوْقَ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ شَيْئًا.

وَأَمَّا الصَّحَابَةُ الْآخَرُونَ -وَهُمْ أَطْوَلُ مُلَازَمَةٍ لِلنَّبِيِّ الْمَأْمُونِ ﷺ- فَلَمْ يَقْذِفْ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي قُلُوبِهِمْ وَلَا فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ مَا قَذَفَ فِي قَلْبِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا- تِجَاهَ مَا سَأَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ تَأْوِيلٍ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُشَرَّفَاتِ فِي سُورَةِ النَّصْرِ.

صِحَّةُ الْفَهْمِ.. وَهَذَا الْفَهْمُ لَهُ أَدَوَاتٌ بَيَّنَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

فَذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْفُؤَادَ، وَالْقُرْآنُ جَارٍ عَلَى ذِكْرِ الْفُؤَادِ وَالْقَلْبِ عَلَى أَنَّهُ مَجْمَعُ الْإِدْرَاكِ، وَعَلَى أَنَّهُ مَنَاطُ الْفَهْمِ والْمَعْرِفَةِ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعَنْ رَسُولِهِ ﷺ.

فَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا يَسْتَوُونَ؛ عَالِمَهُمْ وَجَاهِلَهُمْ، وَكَاتِبَهُمْ وَقَارِئَهُمْ، وَأُمِّيَّهُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ بَالِغًا الْمَبَالِغَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّثَبُّتِ وَالتَّحْقِيقِ، وَمَنْ كَانَ بَالِغًا الْمَدَارِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَضِدِّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ مَخْرَجًا وَاحِدًا: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} جَمِيعًا.

ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ وَمَا مَيَّزَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنْ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ وَوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ وَطَرَائِقِ الْمَعْرِفَةِ؛ فَقَالَ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُكَلِّفَكُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَأَنْ يَأْمُرَكُمْ وَيَنْهَاكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشُّكْرَ يَرْتَكِزُ عَلَى أُمُورٍ بِأَرْكَانٍ إِذَا مَا أَتَى بِهَا الْمَرْءُ عُدَّ شَاكِرًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا جَمِيعِهَا عُدَّ جَاحِدًا، وَإِلَّا فَنَقْصٌ بِحَسَبِ مَا نَقَصَ.

فَأَمَّا مَدَارُ أَرْكَانِ الشُّكْرِ فَهِيَ تَدُورُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ:

أَنْ يَعْتَرِفَ الْإِنْسَانُ بِالنِّعْمَةِ بَاطِنًا.

وَأَنْ يُقِرَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا -يَعْنِي: بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ النِّعْمَةِ- بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا.

ثُمَّ الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْحُيُودِ عَنْ شُكْرِ رَبِّنَا الْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الَّذِي أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمٍ مُتَوَالِيَاتٍ لَا حَصْرَ لَهَا وَلَا عَدَّ، وَلَكِنْ لَا تُصَرَّفُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ؛ فَلَا يَصِيرُ الشُّكْرُ -حِينَئِذٍ- إِلَّا جُحُودًا وَنُكْرَانًا وَاتِّهَامًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ظَاهِرًا وَحَالًا بِأَنَّهُ مَا أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَانَ.

لَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ الْمَرْءُ بِالنِّعْمَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُعْتَرِفًا بِهَا بَاطِنًا، وَأَنْ يَلْهَجَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا -يَعْنِي: بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ- بِاللِّسَانِ ظَاهِرًا، وَأَنْ يُصَرِّفَهَا فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ وَأَسْدَاهَا إِلَيْهِ.

فَإِذَا اعْتَرَفَ الْمَرْءُ بِالنِّعْمَةِ بَاطِنًا، وَلَهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- بِهَا بِالنُّطْقِ ظَاهِرًا، وَلَمْ يُصَرِّفِ النِّعْمَةَ فِي شُكْرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا فِيهِ فَهُوَ جَاحِدٌ نَاكِرٌ غَيْرُ شَاكِرٍ.

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وَأَنْتُمْ لَمْ تَشْكُرُوا إِلَّا مَنِ اعْتَرَفْتُمْ بِوُجُودِهِ بَدْءًا، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْكُمْ ثَانِيًا، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ لَهُ بِأُلُوهِيَّتِهِ لَكُمْ بِتَصْرِيفِ عِبَادَتِكُمْ لَهُ وَقَصْرِهَا عَلَيْهِ ثَالِثًا، ثُمَّ إِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ مُسْتَحْوِذًا لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا.

وَإِذَنْ؛ فَهَذَا تَوْحِيدٌ خَالِصٌ يَجْعَلُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْفَذَّةِ الْمُفْرَدَةِ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

وَشُكْرُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى (السَّمْعِ) بِأَنْ يَعْتَرِفَ الْمَرْءُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ بَاطِنًا، وَأَنْ يَلْهَجَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِهَا ظَاهِرًا بِالنُّطْقِ لِسَانًا، ثُمَّ أَنْ يُصَرِّفَهَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ قَانُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي شَرْعِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَذَلِكَ (الْبَصَرُ وَالْفُؤَادُ).

إِنَّ الْوَعْيَ بِالْمَخَاطِرِ يَحْتَاجُ إِلَى إِعْمَالِ الْعَقْلِ الَّذِي كَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهِ الْإِنْسَانَ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ: انْظُرُوا بِقُلُوبِكُمْ نَظَرَ اعْتِبَارٍ وَتَذَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ: مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ التَّكْوِينِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ؛ فَإِذَا نَظَرْتُمْ هَذَا النَّظَرَ التَّدَبُّرِيَّ تَحَقَّقْتُمْ مِنْ صِدْقِ رَسُولِكُمْ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ عَنْ رَبِّكُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36].

لَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَدَيِّهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِأَنْ يَسْمَعُوا سَمَاعًا وَاعِيًا وَاصِلًا إِلَى مَدَارِكِهِمْ.

وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].

قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ: هَلْ يَسْتَوِي الْجَاهِلُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالْعَالِمُ بِحَقَائِقِ الدِّينِ الرَّبَّانِيَّةِ؟!! أَفَقَدْتُمْ مَا وَهَبْنَاكُمْ مِنْ عَقْلٍ فَلَا تَتَفَكَّرُونَ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ؟!!

وَحَثَّ اللهُ عَلَى الْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ؛ فَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 11-12].

وَمِنْ جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ -الَّذِينَ عَاقَبَهُمُ اللهُ لِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ- قَوْمُ نُوحٍ؛ أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ فِي الْيَمِّ حِينَ طَغَى الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَعَلَا عَلَى مَوَاضِعِهَا الرَّفِيعَةِ.

وَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ الْمَوْجُودِينَ بِعْدَهُمْ أَنْ حَمَلَهُمْ {فِي الْجَارِيَةِ} -وَهِيَ السَّفِينَةُ- فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمُ الَّذِينَ نَجَّاهُمُ اللَّهُ.

فَاحْمَدُوا اللَّهَ، وَاشْكُرُوا الَّذِي نَجَّاكُمْ حِينَ أَهْلَكَ الطَّاغِينَ، وَاعْتَبِرُوا بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لِنَجْعَلَهَا}؛ أَيِ: الْجَارِيَةَ، وَالْمُرَادُ جِنْسُهَا، {لَكُمْ تَذْكِرَةً} تُذَكِّرُكُمْ أَوَّلَ سَفِينَةٍ صُنِعَتْ، وَمَا قِصَّتُهَا، وَكَيْفَ نَجَّى اللَّهُ عَلَيْهَا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ، وَكَيْفَ أَهْلَكَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ، فَإِنَّ جِنْسَ الشَّيْءِ مُذَكِّرٌ بِأَصْلِهِ.

{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}؛ أَيْ: يَعْقِلُهَا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَيَعْرِفُونَ الْمَقْصُودَ مِنْهَا وَوَجْهَ الْآيَةِ بِهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْإِعْرَاضِ وَالْغَفْلَةِ وَأَهْلِ الْبَلَادَةِ وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمُ انْتِفَاعٌ بِآيَاتِ اللَّهِ لِعَدَمِ وَعْيِهِمْ عَنِ اللَّهِ، وَلِعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ.

وَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، وَالْوَعْيِ وَالْإِدْرَاكِ، قَالَ ﷺ: ((نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا، وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)) . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

فَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى الْحِفْظِ السَّلِيمِ وَالْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).. إِشَارَةٌ إِلَى أَدَاءِ الْكَلَامِ بنَصِّهِ، ((وَبَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا)).

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَا فِقْهَ لَهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى صَاحِبِ الْفَهْمِ الضَّعِيفِ.

وَفِي قَوْلِهِ ﷺ: ((وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ)).. إِشَارَةٌ إِلَى تَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ, وَأَنَّ سَامِعَ الْخَبَرِ قَدْ يَسْتَنْبِطُ مِمَّا سَمِعَ مَا لَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الرَّاوِي الَّذِي نَقَلَ الْكَلَامَ.

هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

إِنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَمِنْ أَطْيَبِ الْخِصَالِ.

وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى فَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ:

مِنْ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وَقَالَ النَّبِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ بِإِجْمَالٍ.. الْفِقْهُ فِي الدِّينِ فِي لِسَانِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ يَشْمَلُ الْفَهْمَ فِي الدِّينِ كُلِّهِ، لَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ، وَالْعِبَادَةَ، وَالْمُعَامَلَةَ، وَيَشْمَلُ الْأَخْلَاقَ وَالسُّلُوكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِدِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

رَتَّبَ النَّبِيُّ الْخَيْرَ كُلَّهُ عَلَى الْفِقْهِ فِي الدِّينِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهِ، وَعِظَمِ شَأْنِهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ : «النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا». هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

«إِذَا فَقِهُوا»: إِذَا صَارُوا فُقَهَاءَ.

فَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْإِسْلَامِ عَظِيمَةٌ، وَدَرَجَتُهُ فِي الثَّوَابِ كَبِيرَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَفَقَّهَ فِي أُمُورِ دِينِهِ، وَعَرَفَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقٍ وَوَاجِبَاتٍ، إِذَا تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَعَرَفَ ذَلِكَ؛ عَبَدَ رَبَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَيُوَفَّقُ لِلْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 ((عَاقِبَةُ إِهْمَالِ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ))

فِي مُقَابِلِ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ يَسْتَخْدِمُ أَدَوَاتِ الْوَعْيِ وَالْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ؛ يُخْبِرُنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَمَّنْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ فِيمَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا وَفِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَخْدَمَ فِيهِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

وَأَعْيُنٌ لَا تَرَى.. {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، فَفَارِقٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالْإِبْصَارِ.

أَمَّا النَّظَرُ فَمُطْلَقٌ يَسْتَوِي فِيهِ كُلُّ نَاظِرٍ مِنْ شَاخِصٍ إِلَى شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُنْصَرِفًا عَنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُدْرِكٍ لِحَقِيقَتِهِ.

النَّظَرُ شَيْءٌ وَالْإِبْصَارُ شَيْءٌ آخَرُ بِنَصِّ الْآيَةِ الْمُكَرَّمَةِ، {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ..} شَاخِصِينَ بِأَبْصَارِهِمْ مُهْطِعِينَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ، {وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179].

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا ذَكَرَ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَفُؤَادٌ.. هَذِهِ أَدَوَاتُ الْفَهْمِ وَأَدَوَاتُ الْإِدْرَاكِ وَأَدَوَاتُ الْمَعْرِفَةِ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَالَ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ لَا يَشْكُرُونَ وَالَّذِينَ لَا يُصَرِّفُونَ هَذِهِ النِّعَمَ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَرَّفَ فِيهِ، فَيَقُولُ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا}؛ أَيْ: خَلَقْنَا وَأَنْشَأْنَا.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}؛ فَذَكَرَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ خَلْقِهِ.. ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ كَلَّفَهُ وَقَبِلَ تَحْمُّلَ الْأَمَانَةِ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ).. ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ آتَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِدْرَاكَ وَالْفَهْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِأَدَوَاتِهِ، ذَلِكَ الْإِدْرَاكُ وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ مِنْ عَقْلٍ يُدْرِكُ وَقَلْبٍ يَعِي، وَمِنْ بَصَرٍ يُبْصِرُ لَا يَنْظُرُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فَيُبْصِرُ، وَمِنْ أُذُنٍ تَسْمَعُ فَتَعِي، وَلَا تَسْمَعُ ثُمَّ لَا تَعِي وَلَا تُدْرِكُ.

بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ هَذِهِ النِّعَمَ يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَلَا يُعَدُّ الْمَرْءُ شَاكِرًا رَبَّهُ عَلَيْهَا.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا}؛ فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ.

يَقُولُ اللهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}.. أَنْشَأْنَا وَخَلَقْنَا وَكَوَّنَّا لِجَهَنَّمَ {كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}.

هَلْ خَلَقَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّارِ بَدْءًا مِنْ غَيْرِ مَا إِعْطَاءِ إِدْرَاكٍ بِفَهْمٍ وَوَعْيٍ وَاخْتِيَارٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَخْتَارُوا بَعْدَمَا بَيَّنَ لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَطَرِيقَ الْهُدَى وَطَرِيقَ الضَّلَالِ، وَطَرِيقَ الْهِدَايَةِ وَطَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ لَعُدَّ ظُلْمًا -وَحَاشَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ}، مِمَّنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ أَدَوَاتِ الْإِدْرَاكِ وَوَسَائِلَ الْفَهْمِ لَا يَسْتَخْدِمُونَهَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمُوهَا فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَوْجِبُونَ دُخُولَ النَّارِ، فَكَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ بِسَابِقِ عِلْمِهِ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ صِفَةُ انْكِشَافٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.

فَهَذَا الْغُلَامُ غُلَامُ الْخَضِرِ وَغُلَامُ مُوسَى الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ كَمَا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ((الصَّحِيحِ)) ؛ إِذْ قَلَعَ رَأْسَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ صَنِيعِ الْخَضِرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عِنْدَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْغُلَامَ كَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا.

هُوَ مَا زَالَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بَعْدُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا مَا كَبُرَ.. وَإِذَا مَا وَصَلَ إِلَى الْحُلُمِ.. وَإِذَا مَا شَبَّ فَاسْتَوَى عَلَى سَاقَيْهِ سَيَكُونُ ضَالًّا يُرْهِقُ أَبَوَيْهِ عُدْوَانًا وَكُفْرَانًا وَإِثْمًا وَظُلْمًا، فَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْدِلَهُمَا خَيْرًا مِنْهُ إِيمَانًا وَأَقْرَبَ إِلَيْهِمَا بِالْإِيمَانِ رَحِمًا وَقُرْبَةً وَقُرْبًا، فَأَرَادَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذَا الْغُلَامِ أَلَّا تَسْتَمِرَّ بِهِ حَيَاةٌ، فَأَمَرَ الْخَضِرَ بِأَنْ يَقْلَعَ رَأْسَهُ كَمَا أَخْبَرَ الرُّسُولُ ﷺ.

هَذَا عِلْمُ مَا لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَحْدُثْ فِي وَاقِعِ النَّاسِ وَفِي دُنْيَا اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَكَانَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا كَانَ، وَمَا سَيَكُونُ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ.

فَيَقُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا}؛ قُلُوبٌ نَابِضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْقِطَعِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ اللَّحْمِيَّةِ تَدُقُّ بَيْنَ الْأَضْلَاعِ مَا تَدُقُّ مُنْذُ الْمَرْحَلَةِ الْجَنِينِيَّةِ إِلَى حِينِ السُّكُوتِ بِهُمُودِ الْوَفَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدُ تُرَابًا، وَفِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَجَاوَزَتْ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ لَا تَجِدُ هَذَا الْقَلْبَ النَّابِضَ الْحَيَّ الْمُتَحَرِّكَ يَذْكُرُ شَيْئًا وَلَا يَعِي أَمْرًا، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَفَكِّرًا.

{وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} سَمَاعًا، لَيْسُوا بِأَصَمِّينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ أَهْلِ السَّمَاعِ؛ وَلَكِنَّهُ سَمَاعٌ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، لَا يَسْمَعُونَ بِهَا سَمَاعًا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، يَفْقَهُونَ بِهِ الرُّشْدَ، يَقْتَرِبُونَ بِهِ مِنْ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.

{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}؛ فَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ الْأَنْعَامَ الَّتِي خَلَقَهَا سَائِمَةً فِي أَرْضِهِ، سَارِحَةً فِي كَوْنِهِ؛ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهَا مِنَ الْكَثْرَةِ وَمِنَ الْغَرِيزَةِ مَا تَسْعَى بِهِ لِنَفْعِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تُؤَدِّيَ الْوَظِيفَةَ الَّتِي نَاطَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِتِلْكَ الْوَظِيفَةِ أَعْنَاقَهَا، فَهِيَ مُؤَدِّيَةٌ لِلْوَظِيفَةِ فِي الْحَيَاةِ عَلَى النَّحْوِ، وَآتِيَةٌ بِالْوَظِيفَةِ عَلَى الْوَجْهِ.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَهُمْ لِوَظِيفَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ فَمَاذَا صَنَعُوا؟!

عَطَّلُوا وَسَائِلَ الْإِدْرَاكِ، وَنَفَوْا وَسَائِلَ الْفَهْمِ وَأَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ جَانِبًا؛ فَصَارُوا أَحَطَّ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَأَضَلَّ مِنْهَا، فَيَأْتِي الْبَيَانُ الدَّامِغُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} يُضْرِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنِ الْوَصْفِ بِالتَّشْبِيهِ بِالْأَنْعَامِ إِلَى مَا هُوَ أَحَطُّ مِنْ دَرَكَةِ الْأَنْعَامِ.

{أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الَّذِينَ غَفَلُوا عَمَّا يُصْلِحُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ نَفْعُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ فَائِدَتُهُمْ، وَعَمَّا فِيهِ حَيَاتُهُمُ الْحَقِيقِيَّةُ، بِالْإِقْبَالِ عَلَى مَنْهَجِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ، وَعَلَى مَنْهَجِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

إِذَنْ؛ صِحَّةُ الْفَهْمِ، وَسَلَامَةُ الْمُعْتَقَدِ.. صِحَّةُ الْفَهْمِ، وَسَلَامَةُ الْإِدْرَاكِ هُمَا الرَّكِيزَتَانِ اللَّتَانِ عَلَيْهِمَا يَقُومُ سَاقَا الْإِسْلَامِ، وَإِذَا مَا أَنْعَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِحَّةِ الْفَهْمِ عَلَى عَبْدِهِ؛ فَقَدِ اصْطَفَاهُ وَقَرَّبَهُ.

ثُمَّ أَخْبَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّ هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدُومُ حَسَرَاتُهُمْ، وَيُعْلِنُونَ نَدَمَهُمْ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10-11].

وَقَالُوا -يَعْنِي الَّذِينَ كَفَرُوا- مُعْتَرِفِينَ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمْ لِلْهُدَى وَالرَّشَادِ: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ فَنَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ طُرُقَ الْهُدَى، وَهِيَ السَّمْعُ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَالْعَقْلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، وَيُوقِفُهُ عَلَى حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ، وَالِانْزِجَارِ عَنْ كُلِّ مَا عَاقِبَتُهُ ذَمِيمَةٌ، فَلَا سَمْعَ لَهُمْ وَلَا عَقْلَ.

وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالْعِرْفَانِ وَأَرْبَابِ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُمْ أَيَّدُوا إِيمَانَهُمْ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَسَمِعُوا مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَجَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَعَمَلًا، وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُعَرِّفَةِ لِلْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ، وَالْحَسَنِ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالْخَيْرِ مِنَ الشَّرِّ، وَهُمْ -فِي الْإِيمَانِ- بِحَسَبِ مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الِاقْتِدَاءِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَخْتَصُّ بِفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَخْذُلُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْخَيْرِ.

قَالَ -تَعَالَى- عَنْ هَؤُلَاءِ الدَّاخِلِينَ لِلنَّارِ، الْمُعْتَرِفِينَ بِظُلْمِهِمْ وَعِنَادِهِمْ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ أَيْ: بُعْدًا لَهُمْ وَخَسَارَةً وَشَقَاءً، فَمَا أَشْقَاهُمْ وَأَرْدَاهُمْ، حَيْثُ فَاتَهُمْ ثَوَابُ اللَّهِ، وَكَانُوا مُلَازِمِينَ لِلسَّعِيرِ الَّتِي تَسْتَعِرُ فِي أَبْدَانِهِمْ، وَتَطَّلِعُ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ!!

((الْوَعْيُ بِأَخْطَرِ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- النَّاسَ أَمْرًا جَازِمًا أَنْ يَتَّخِذُوا الشَّيْطَانَ عَدُوًّا؛ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5-6].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «تَفْسِيرِهِ» (3/1428): «يَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}.. بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.

{حَقٌّ}؛ أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا مِرْيَةَ، وَلَا تَرَدُّدَ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَعْدُهُ حَقًّا، فَتَهَيَّئُوا لَهُ، وَبَادِرُوا أَوْقَاتَكُمُ الشَّرِيفَةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا يَقْطَعَنَّكُمْ عَنْ ذَلِكَ قَاطِعٌ.

{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بِلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَطَالِبِهَا النَّفْسِيَّةِ، فَتُلْهِيَكُمْ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ.

{وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الَّذِي هُوَ (الشَّيْطَانُ)، الَّذِي هُوَ عَدُوُّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.

{فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}؛ أَيْ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ عَدَاوَتُهُ عَلَى بَالٍ، وَلَا تُهْمِلُوا مُحَارَبَتَهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ، وَهُوَ دَائِمًا لَكُمْ بِالْمِرْصَادِ.

{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ هَذَا غَايَتُهُ وَمَقْصُودُهُ مِمَّنْ تَبِعَهُ: أَنْ يُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ».

وَمَعَ أَنَّ أَمْرَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ وَاضِحٌ وُضُوحًا لَا لَبْسَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ يَتَوَهَّجَ الْإِحْسَاسُ بِالْعَدَاوَةِ لِلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ!!

وَإِنَّهُ لَعَجِيبٌ أَنْ تَلْتَحِقَ الْأُمُورُ الْوَاضِحَةُ حَقًّا بِالْأُمُورِ الْغَامِضَةِ جِدًّا؛ حَتَّى يَعْسُرَ الْفَصْلُ، وَيَتَعَذَّرَ التَّحْدِيدُ، وَتَخْتَلِطَ الْمَعَالِمُ، وَتَشْتَبِهَ الدُّرُوبُ.

وَلَا أَعْجَبَ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمُوَالَاةِ، ذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يَتَوَلَّى أَعْدَاءَهُ، وَيُحِبُّ مُبْغِضِيهِ، وَيَسْعَى فِي طَاعَةِ مَنْ يَسْعَى فِي إِهْلَاكِهِ وَتَدْمِيرِ جَسَدِهِ وَرُوحِهِ سَوَاءً!!

قَالَ تَعَالَى: {إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَنَّ اللهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، إِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ؛ {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، وَقَالَ: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، وَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ}.

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ وَلِأَبِيكُمْ وَلَكُمْ، فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ -أَيِ: الشَّيَاطِينَ- {أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}؟!!

{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}؛ أَيْ: بِئْسَ مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَا يَأْمُرُهُمْ إِلَّا بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، عَنْ وَلَايَةِ الرَّحْمَنِ الَّذِي كُلُّ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ وَالسُّرُورِ فِي وَلَايَتِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْحَثُّ عَلَى اتِّخَاذِ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا، وَالْإِغْرَاءُ بِذَلِكَ، وَذِكْرُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا ظَالِمٌ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِ مَنِ اتَّخَذَ عَدُوَّهُ الْحَقِيقِيَّ وَلِيًّا، وَتَرَكَ الْوَلِيَّ الْحَمِيدَ؟!

قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].

 وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30]».

وَلَوْ أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ عَدُوًّا تَقْلِيدِيًّا لِلْإِنْسَانِ لَهَانَ الْأَمْرُ جِدًّا، وَلَكِنَّهُ عَدُوٌّ مُتَفَرِّدٌ فِي عَدَاوَتِهِ، وَمِنْ أَخَصِّ مَا تَمَيَّزَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى الْإِنْسَانَ وَيَرْصُدُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُبْصِرُ مِنْهُ شَيْئًا.

قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «تَفْسِيرِهِ» (2/539): «يَقُولُ -تَعَالَى- مُحَذِّرًا لِبَنِي آدَمَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَعَلَ بِأَبِيهِمْ: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} بِأَنْ يُزَيِّنَ لَكُمُ الْعِصْيَانَ، وَيَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ وَيُرَغِّبَكُمْ فِيهِ فَتَنْقَادُوا لَهُ، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وَأَنْزَلَهُمَا مِنَ الْمَحَلِّ الْعَالِي إِلَى أَنْزَلَ مِنْهُ؛ فَأَنْتُمْ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ بِكُمْ كَذَلِكَ، وَلَا يَأْلُو جَهْدَهُ عَنْكُمْ حَتَّى يَفْتِنَكُمْ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا الْحَذَرَ مِنْهُ فِي بَالِكُمْ، وَأَنْ تَلْبَسُوا لَأْمَةَ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَأَلَّا تَغْفُلُوا عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا إِلَيْكُمْ.

فَـ{إِنَّهُ} يُرَاقِبُكُمْ عَلَى الدَّوَامِ، وَ{يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، فَعَدَمُ الْإِيمَانِ هُوَ الْمُوجِبُ لِعَقْدِ الْوَلَايَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ.

 {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99-100]».

فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِبَنِي آدَمَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِ إِبْلِيسَ أَجْمَعِينَ، بَيَّنَ فِيهِ -تَعَالَى- أَنَّ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ قَدِيمَةٌ، مُنْذُ كَادَ لِأَبِيهِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالْبَلَاءِ، وَمُنْذُ تَسَبَّبَ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ وَظُهُورِ سَوْأَتِهِ، وَكَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.

وَلَا هُدْنَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا مُسَالَمَةَ بَيْنَهُمَا أَبَدًا، وَكَيْفَ وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ لَمْ تَنْقَطِعْ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا؟!!

وَلِشِدَّةِ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، وَعَظِيمِ مَكْرِهِ بِهِ، تَنَوَّعَتْ صُوَرُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ، وَتَنَوُّعُهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ دَائِمُ التَّرَبُّصِ بِالْإِنْسَانِ، دَائِبٌ فِي سَعْيِهِ لِإِضْلَالِهِ وَغِوَايَتِهِ.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ! لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ.

فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي». 

((الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتِ الشَّيْطَانِ))

إِذَا تَمَّ كَمَالُ نَظَرِ الْعَبْدِ فِي شَأْنِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَيْطَانِهِ، أَفَادَهُ النَّظَرُ كَمَالَ الِاحْتِرَازِ وَالتَّحَفُّظِ، وَتَمَامَ الْيَقَظَةِ وَالِانْتِبَاهِ لِمَا يُرِيدُ مِنْهُ عَدُوُّهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «فَإِنَّ عَدُوَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَظْفَرَ بِهِ فِي عَقَبَةٍ مِنْ سَبْعِ عَقَبَاتٍ، بَعْضُهَا أَصْعَبُ مِنْ بَعْضٍ، لَا يَنْزِلُ مِنَ الْعَقَبَةِ الشَّاقَّةِ إِلَى مَا دُونَهَا إِلَّا إِذَا عَجَزَ عَنِ الظَّفَرِ بِهِ فِيهَا.

الْعَقَبَةُ الْأُولَى:

عَقَبَةُ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَدِينِهِ، وَلِقَائِهِ، وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَبِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِهِ فِي هَذِهِ الْعَقَبَةِ بَرُدَتْ نَارُ عَدَاوَتِهِ وَاسْتَرَاحَ، فَإِنِ اقْتَحَمَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْعَقَبَةَ وَنَجَا مِنْهَا بِبَصِيرَةِ الْهِدَايَةِ، وَسَلِمَ مَعَ نُورِ الْإِيمَانِ؛ طَلَبَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى:

الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ:

وَهِيَ عَقَبَةُ الْبِدْعَةِ؛ إِمَّا بِاعْتِقَادِ خِلَافِ الْحَقِّ الَّذِي أَرْسَلَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ، وَإِمَّا بِالتَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ: مِنَ الْأَوْضَاعِ وَالرُّسُومِ الْمُحْدَثَةِ فِي الدِّينِ الَّتِي لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهَا شَيْئًا، وَالْبِدْعَتَانِ فِي الْغَالِبِ مُتَلَازِمَتَانِ، قَلَّ أَنْ تَنْفَكَّ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى.

فَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْعَقَبَةَ، وَخَلَصَ مِنْهَا بِنُورِ السُّنَّةِ، وَاعْتَصَمَ مِنْهَا بِحَقِيقَةِ الْمُتَابَعَةِ وَمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ؛ طَلَبَهُ عَلَى:

الْعَقَبَةِ الثَّالِثَةِ:

وَهِيَ عَقَبَةُ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ فِيهَا زَيَّنَهَا لَهُ، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَسَوَّفَ بِهِ، وَفَتَحَ لَهُ بَابَ الْإِرْجَاءِ، وَقَالَ لَهُ: الْإِيمَانُ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ، فَلَا تَقْدَحُ فِيهِ أَعْمَالُ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ لَهُ عِنْدَ فَتْحِ بَابِ الْإِرْجَاءِ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ، فَلَا تَقْدَحُ فِيهِ الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ وَالْمَعَاصِي.

وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِرْجَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ شَرِّ الْبِدَعِ الَّتِي أَفْسَدَتِ الدِّينَ، وَرُبَّمَا أَجْرَى عَلَى لِسَانِهِ وَأُذُنِهِ كَلِمَةً طَالَمَا أَهْلَكَ بِهَا الْخَلْقَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: ((لَا يَضُرُّ مَعَ التَّوْحِيدِ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ حَسَنَةٌ)).

وَظَفَرُ الشَّيْطَانِ بِالْإِنْسَانِ فِي عَقَبَةِ الْبِدْعَةِ أَحَبُّ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَ الْعَبْدُ هَذِهِ الْعَقَبَةَ بِعِصْمَةِ اللهِ، أَوْ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ تُنَجِّيهِ مِنْهَا؛ طَلَبَهُ عَلَى:

الْعَقَبَةِ الرَّابِعَةِ:

وَهِيَ عَقَبَةُ الصَّغَائِرِ؛ فَيَقُولُ لَهُ: مَا عَلَيْكَ إِذَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ مَا غَشِيتَ مِنَ اللَّمَمِ، أَوَمَا عَلِمْتَ بِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبِالْحَسَنَاتِ، وَلَا يَزَالُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَهَا حَتَّى يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَيَكُونَ مُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ الْخَائِفُ الْوَجِلُ النَّادِمُ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ؛ فَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ أَقْبَحُ مِنْهُ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ.

فَإِنْ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ بِالتَّحَرُّزِ وَالتَّحَفُّظِ وَدَوَامِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَأَتْبَعَ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ؛ طَلَبَهُ عَلَى:

الْعَقَبَةِ الْخَامِسَةِ:

وَهِيَ عَقَبَةُ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهَا؛ فَشَغَلَهُ بِهَا عَنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَعَنْ الِاجْتِهَادِ فِي التَّزَوُّدِ لِمَعَادِهِ، ثُمَّ طَمِعَ فِيهِ أَنْ يَسْتَدْرِجَهُ مِنْهَا إِلَى تَرْكِ السُّنَنِ، ثُمَّ مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَقَلُّ مَا يَنَالُ مِنْهُ تَفْوِيتُهُ الْأَرْبَاحَ وَالْمَكَاسِبَ الْعَظِيمَةَ وَالْمَنَازِلَ الْعَالِيَةَ.

فَإِنْ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْعَقَبَةِ بِبَصِيرَةٍ تَامَّةٍ، وَنُورٍ هَادٍ، طَلَبَهُ الْعَدُوُّ عَلَى:

الْعَقَبَةِ السَّادِسَةِ:

وَهِيَ عَقَبَةُ الْأَعْمَالِ الْمَرْجُوحَةِ الْمَفْضُولَةِ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ فَأَمَرَهُ بِهَا، وَحَسَّنَهَا فِي عَيْنِهِ، وَزَيَّنَهَا لَهُ، لِيَشْغَلَهُ بِهَا عَمَّا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، وَأَعْظَمُ كَسْبًا وَرِبْحًا.

وَلَكِنْ.. أَيْنَ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعَقَبَةِ؟! فَهُمُ الْأَفْرَادُ فِي الْعَالَمِ، وَالْأَكْثَرُونَ قَدْ ظَفِرَ بِهِمْ فِي الْعَقَبَاتِ الْأُولَى.

فَإِنْ نَجَا مِنْهَا بِفِقْهٍ فِي الْأَعْمَالِ وَمَرَاتِبِهَا عِنْدَ اللهِ؛ طَلَبَهُ عَلَى:

الْعَقَبَةِ السَّابِعَةِ:

فَإِنَّهُ مَتَى أَعْجَزَهُ الْعَبْدُ فِي الْعَقَبَاتِ السِّتِّ السَّابِقَةِ، سَلَّطَ عَلَيْهِ حِزْبَهُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّضْلِيلِ وَالتَّبْدِيعِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَقَصَدَ إِخْمَالَهُ وَإِطْفَاءَ نُورِهِ، لِيُشَوِّشَ عَلَيْهِ قَلْبَهُ، وَيَشْغَلَ بِحَرْبِهِ فِكْرَهُ، وَلِيَمْنَعَ النَّاسَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ؛ فَيَبْقَى سَعْيُهُ فِي تَسْلِيطِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَيْهِ».

 ((الْوَعْيُ بِمَا يُرَدُّ بِهِ كَيْدُ الشَّيْطَانِ وَيُدْفَعُ بِهِ شَرُّهُ))

لَمْ يَدَعِ النَّبِيُّ ﷺ خَيْرًا إِلَّا وَدَلَّ الْأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلَا تَرَكَ شَرًّا إِلَّا وَحَذَّرَ الْأُمَّةَ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ الشَّيْطَانِ مِنْ أَخْطَرِ الْأُمُورِ الَّتِي تَلْقَى الْعَبْدَ فِي سَعْيِهِ إِلَى اللهِ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ مَا يَعْتَصِمُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْهُ بَيَانًا شَافِيًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ؛ مِنْ ذَلِكَ:

أَوَّلًا: الِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

اسْتَبَّ رَجُلَانِ: تَشَاتَمَا.

ثَانِيًا: قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ.

وَهُمَا أَفْضَلُ مَا تَعَوَّذَ بِهِمَا الْمُتَعَوِّذُونَ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ مَا تَعَوَّذَ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}».

ثَالِثًا: قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ عِنْدَمَا وَكَّلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ.

فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ قَالَ لَهُ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلَاثٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟!)).

قَالَ: لَا.

قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

رَابِعًا: قِرَاءَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

خَامِسًا: خَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

سَادِسًا: الْحِرْزُ عَظِيمُ الْفَائِدَةِ جَلِيلُ النَّفْعِ، الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

سَابِعًا: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-: «أَمَرَكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ، كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ثَامِنًا: إِمْسَاكُ فُضُولِ النَّظَرِ، وَالْكَلَامِ، وَالطَّعَامِ، وَمُخَالَطَةِ النَّاسِ.

فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ عَلَى ابْنِ آدَمَ وَيَنَالُ مِنْهُ غَرَضَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ.

وَهَذِهِ الْأَحْرَازُ ذَكَرَهَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِبَسْطٍ غَيْرِ هَذَا الْإِيجَازِ.

إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدْ نَبَّهَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مَرَّاتٍ إِلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظَاهِرُ الْعَدَاوَةِ غَيْرُ خَافِيهَا، وَأَمَرَ -تَعَالَى- أَنْ يَتَّخِذَهُ الْإِنْسَانُ عَدُوًّا.

فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ أَنْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ عَدُوَّهُ الَّذِي يَجِدُّ فِي إِهْلَاكِهِ، وَيَسْعَى فِي إِيرَادِهِ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.

وَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عِنْدَمَا يُبْتَلَى بِعَدُوٍّ ظَاهِرٍ يَأْخُذُ حِذْرَهُ، وَيُعِدُّ عُدَّتَهُ، وَيُجْهِدُ نَفْسَهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ خَفِيًّا لَا يَرَاهُ، وَهُوَ يَجْرِي مِنْهُ مَجْرَى الدَّمِ؟!!

لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الِانْتِبَاهُ كَامِلًا، وَالْيَقَظَةُ تَامَّةً، وَإِلَّا تَحَيَّنَ الْعَدُوُّ الْفُرَصَ، وَنَالَ مِنَ الْإِنْسَانِ مَا يَهْوَى، وَأَصَابَ مِنْهُ مَا يُرِيدُ.

((الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتِ الْوَطَنِ الرَّاهِنَةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْوَعْيَ بِقِيمَةِ الْوَطَنِ، وَبِالتَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا، وَبِالْمَخَاطِرِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ أَمْرٌ لَا غِنَى عَنْهُ، خَاصَّةً وَنَحْنُ فِي مَرْحَلَةٍ شَدِيدَةِ الْحَرَجِ فِي تَارِيخِ وَطَنِنَا.

مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّاكِرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَنَّهَا مَلَكَةٌ مُسْتَبِدَّةٌ، وَمِنَ اسْتِبْدَادِهَا بِالْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَذَكَّرُ أُمُورًا مَرَّتْ عَلَيْهَا سَنَوَاتٌ بَلْ عُقُودٌ تَذَكُّرًا تَامًّا وَاضِحًا، كَأَنَّهُ يَحْيَاهَا، يَرَاهَا وَيَسْمَعُهَا، وَتَغِيمُ عَنْهُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ أُمُورٌ قَرِيبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ تَتَوَارَى ظِلَالُهَا فِي آفَاقِ النِّسْيَانِ، فَلَا يَعْرِفُهَا وَلَا يَتَعَرَّفُ عَلَيْهَا.

أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَمْرًا مَرَّ عَلَيْهِ رُبُعُ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ، أَتَذَكَّرُهُ الْآنَ كَأَنِّي حَاضِرُهُ، رَائِيهِ وَسَامِعُهُ، كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ (1992م) إِبَّانَ مَا عُرِفَ بِـ(حَرْبِ الْخَلِيجِ).

وَقَدْ كَانَ مِمَّا بُثَّ وَنُشِرَ أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْحَرْبِ وَوَسَائِلِهَا الْمُسْتَخْدَمَةِ تَسْلِيطَ حُزَمٍ مِنَ الْمَوْجَاتِ الْكَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةِ بِقُوَّةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى مُدُنٍ فِي دُوَلٍ، أَوْ عَلَى قِطَاعَاتٍ مِنْهَا، أَوْ حَتَّى عَلَى دُوَلٍ بِكَامِلِهَا، مِنْ أَقْمَارٍ اصْطِنَاعِيَّةٍ فِي مَدَارَاتِهَا.

فَتُؤَثِّرُ هَذِهِ الْمَوْجَاتُ الْكَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةُ عَلَى أَنْمَاطِ التَّفْكِيرِ، وَوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ، وَطَرَائِقِ الْحُكْمِ عَلَى الْأُمُورِ وَالْأَشْيَاءِ تَأْثِيرًا عُضْوِيًّا مُبَاشِرًا، يَرْجِعُ إِلَى التَّأْثِيرِ الْعُضْوِيِّ الْمُبَاشِرِ عَلَى خَلَايَا الْمُخِّ وَالْأَعْصَابِ.

وَيَقَعُ تَبَعًا لِهَذَا التَّأْثِيرِ اضْطِرَابَاتٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَاخْتِلَافَاتٌ فِي الْأَنْمَاطِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، وَتَحَوُّلَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ.

وَهَذِهِ النَّتَائِجُ كُلُّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا الْمُسْتَهْدَفُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِحُرُوبِ الْجِيلِ الرَّابِعِ، وَتَأْثِيرَاتِ وَسَائِلِ الِاتِّصَالِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَبَثِّ الْفَوْضَى الْفِكْرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعْلُومَاتِيَّةِ فِيمَا يُعْرَفُ بِـ(السُّوشْيَال مِيْدِيَا)؛ لِبَلْبَلَةِ أَفْكَارِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ، وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهِ فِكْرِيًّا وَعَقَدِيًّا، وَأَخْلَاقِيَّا وَسُلُوكِيًّا.

وَهُوَ مَا تَعِيشُهُ الْمُجْتَمَعَاتُ الْبَشَرِيَّةُ الْيَوْمَ كَنَتِيجَةٍ مُبَاشِرَةٍ لِلْحَرْبِ الْمَاسُونِيَّةِ الصُّهْيُونِيَّةِ الْعَالَمِيَّةِ عَلَى جُمُوعِ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجُويِيمِ أَوِ الْأُمَمِيِّينَ، حَتَّى إِنَّ الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةَ الْمُسْتَهْدَفَةَ صَارَتْ لَا تَحْتَاجُ الْيَوْمَ إِلَى أَقْمَارٍ اصْطِنَاعِيَّةٍ تَبُثُّ مَوَجَاتٍ كَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةً لِلتَّأْثِيرِ عَلَى عُقُولِ أَبْنَائِهَا وَأَعْصَابِهِمْ.

وَلَكِنْ مَا الَّذِي جَعَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْقَدِيمَ يَطْفُو ظَاهِرًا مِنْ بَحْرِ النِّسْيَانِ لِيَلُوحَ لِي ظَاهِرًا بَعْدَ رُبُعِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ؟!!

هَلْ هِيَ فَقَطْ الذَّاكِرَةُ الْمُسْتَبِدَّةُ.. هَكَذَا! بِلَا تَفْسِيرٍ وَلَا تَعْلِيلٍ، وَهَلْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ يَأْتِي هَكَذَا بِلَا تَفْسِيرٍ وَلَا تَعْلِيلٍ؟!!

بِالْقَطْعِ لَا، وَلَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّنَا لَا نَمْلِكُ تَرَفَ إِنْفَاقِ الْوَقْتِ فِي بَحْثٍ كَهَذَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَقْطَعُ بِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبًا ظَاهِرًا، أَدَّى إِلَى تَذَكُّرِ ذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَعْوَامِ الطِّوَالِ، وَهُوَ وُجُودُ النَّتِيجَةِ الَّتِي كَانَ يُرَادُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا.

وَمَا الَّذِي أَعْنِيهِ بِذَلِكَ؟

الَّذِي أَعْنِيهِ بِهَذَا هُوَ: أَنَّ الْوَاقِعَ الَّذِي تَعِيشُهُ قِطَاعَاتٌ مُغَرَّرٌ بِهَا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ يَبْدُو فِي لَا مَعْقُولِيَّتِهِ -بَلْ فِي عَبَثِيَّتِهِ- شَبِيهًا.. بَلْ مُنْطَبِقًا عَلَى النَّتِيجَةِ السَّابِقَةِ.

قِطَاعَاتٌ مُغَرَّرٌ بِهَا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، تَعْبَثُ بِعُقُولِهِمْ مَقُولَاتٌ بَاطِلَةٌ، وَشَائِعَاتٌ كَاذِبَةٌ، وَتَلْعَبُ بِهِمْ لَعِبَ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ.

تَجْمُّعَاتٌ مِنَ الْخَوَنَةِ بِاسْمِ الدِّينِ تَارَةً، وَبِاسْمِ السِّيَاسَةِ تَارَةً، وَبِتَهْيِيجِ الْأَطْمَاعِ وَإِثَارَةِ الْأَحْقَادِ تَارَاتٍ.

قِطَاعَاتٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ تَتَعَامَى عَنِ الْمَاضِي الْقَرِيبِ، الَّذِي لَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ عَشْرَةُ أَعْوَامٍ، بَلْ عَنِ الْحَاضِرِ الْمَنْظُورِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَامَرَاتِ وَالْمُخَاطَرَاتِ، وَالْخُطُوبِ الْمُهْلِكَاتِ.

تَتَعَامَى هَذِهِ الْقِطَاعَاتُ الْمُغَرَّرُ بِهَا عَنْ هَذَا وَذَاكَ، وَيَتَّبِعُونَ نَاعِقِي الْبُومِ وَنَاعِبِي الْغِرْبَانِ عَلَى خَرَائِبِ السِّيَاسَةِ الْفَاشِلَةِ، وَالدِّيَانَةِ الْمُحَرَّفَةِ الْبَاطِلَةِ، وَكَأَنَّ تَأْثِيرًا عُضْوِيًّا وَفِكْرِيًّا قَدْ أَلَمَّ بِعُقُولِهِمْ، وَطَرَائِقِ اسْتِيعَابِهِمْ وَتَفْكِيرِهِمْ، فَهُمْ كُتَلٌ مِنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ تُحَرَّكُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، وَيُتَصَوَّرُ لَهَا وَلَا تَتَصَوَّرُ، وَتُسْلِمُ زِمَامَ الْفِكْرِ طَائِعَةً بِلَا تَفَكُّرٍ، وَلَا تَتَفَكَّرُ!!

وَاحَسْرَتَاهُ!!

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا، وَاحْذَرُوا أَنْ تُفْلِتَ فُرْصَتُكُمُ الدَّانِيَةُ الْقَرِيبَةُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَقَدْتُمُوهَا لَنْ تُدْرِكُوهَا!!

فَلَا تَتَّبِعُوا كلَّ مُخرِّبٍ خَائِنٍ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُضَ عُرَى دَوْلَتِكُمْ، وَأَنْ يُشَتِّتَ جُمُوعَكُمْ، تَتَكَفَّفُونَ الدُّوَلَ وَالْمُنَظَّمَاتِ الَّتِي تَرْعَى الْحَيَوَانَاتِ وَلَا تَرْعَى الْبَشَرَ، وَتَأْسَى عَلَى الْكِلَابِ الضَّالَّةِ وَالْقِطَطِ الشَّارِدَةِ، فَتُوَفِّرُ مَأْوًى وَغِذَاءً وَدَوَاءً، وَتُبِيدُ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ مُدُنًا -بَلْ دُوَلًا- قَتْلًا بِدَمٍ بَارِدٍ، أَوْ وَأْدًا لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي رِمَالِ الِاحْتِقَارِ، وَصَحْرَاوَاتِ النَّفْيِ مِنْ حَيَاةِ الْبَشَرِ؛ لِيُعَامَلَ الْمَرْءُ أَدْنَى مِنْ مُعَامَلَةِ الْحَيَوَانِ!!

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اتَّقُوا اللهَ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.

تَمَاسَكُوا، وَتَعَاضَدُوا، وَاجْعَلُوا الْغَايَاتِ الصَّغِيرَةَ، وَالْأَهْدَافَ الرَّخِيصَةَ، وَالِاهْتِمَامَاتِ الزَّائِفَةَ.. تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَاحْرِصُوا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِوَطَنِكُمْ.

فَاسْتِقْرَارُ وَطَنِكُمُ اسْتِقْرَارٌ لِدِينِكُمْ، وَتَقَدُّمُهُ تَمْكِينٌ لِأُصُولِهِ وَمَبَادِئِهِ؛ لِيُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْعَمَ النَّاسُ بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ فِي أَفْيَائِهِ وَشَرَائِعِهِ.

دَرْسٌ مُهِمٌّ مِنْ دُرُوسِ التَّارِيخِ يَجِبُ حِفْظُهُ، الْأَغْبِيَاءُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ أَخْطَاءَهُمْ.

الْإِنْسَانُ يَعِيشُ فِي جَمَاعَةٍ.. وَالْفِيلُ أَيْضًا، وَيَتَمَتَّعُ بِالذَّكَاءِ.. وَالثَّعْلَبُ أَيْضًا، وَالْإِنْسَانُ يَمْتَلِكُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَلَامِ.. وَالْبَبَّغَاءُ قَدْ يَبْدُو كَذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ يُفَكِّرُ.. وَقَدْ يُفَكِّرُ الْكَلْبُ أَيْضًا، وَالْإِنْسَانُ يَضْحَكُ.. وَقَدْ يَبْدُو الْقِرْدُ ضَاحِكًا، وَلَكِنَّ فَارِقًا فَارِقًا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى؛ وَهُوَ التَّارِيخُ.

الْإِنْسَانُ كَائِنٌ لَهُ تَارِيخٌ، يَسْتَفِيدُ مِنْ أَخْطَائِهِ، يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَيَتَجَاوَزُهَا.

إِنَّ الْفَأْرَ يَقَعُ فِي الْمَصْيَدَةِ مُنْذُ آلَافِ السِّنِينِ بِقِطْعَةِ الْجُبْنِ الشَّهِيَّةِ ذَاتِهَا دُونَ تَغْيِيرٍ.

وَمُنْذُ وَقَعَ أَوَّلُ أَسَدٍ فِي شَبَكَةِ أَوَّلِ صَيَّادٍ وَحَفَدَةُ الْأَسَدِ يَقَعُونَ فِي الشَّبَكَةِ ذَاتِهَا دُونَ تَعَلُّمٍ، وَيَسْهُلُ جَرْجَرَةُ فِيلٍ إِلَى حَدِيقَةِ حَيَوَانٍ بِقَلِيلٍ مِنَ الْخُضْرَةِ كَمَا حَدَثَ مَعَ جَدِّهِ الْأَوَّلِ دُونَ خِبْرَةٍ.

أَمَّا الْإِنْسَانُ؛ فَكُلُّ تَجْرِبَةٍ تَمُرُّ بِهِ تُكْسِبُهُ مَعْرِفَةً، وَكُلُّ مَأْسَاةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا يَجِبُ أَلَّا يُكَرِّرَهَا، وَكُلُّ جُحْرٍ لُدِغَ مِنْهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى إِلَّا إِذَا كَانَ حَيَوَانًا، مُنْتَهَى الْإِهَانَةِ لِلْحَيَوَانِ!!

الْأَغْبِيَاءُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ أَخْطَاءَهُمْ.. وَالْمِصْرِيُّونَ أَذْكِيَاءُ، وَلَنْ يُكَرِّرُوا أَخْطَاءَهُمْ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--، وَلَنْ يَدَعُوا أَحَدًا يُرِيدُ الْعَبَثَ بِعُقُولِهِمْ وَالتَّأْثِيرَ عَلَى قَرَارِهِمْ.

وَلَا سَبِيلَ لِلْمِصْرِيِّينَ لِلْخُرُوجِ مِنَ النَّفَقِ، وَتَجَاوُزِ الْأَزْمَةِ.. إِلَّا بِالِالْتِفَافِ حَوْلَ قِيَادَتِهِمْ، وَتَفْوِيتِ الْفُرْصَةِ عَلَى أَعْدَاءِ دِينِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِمْ.

وَمِصْرُ فِي حَالَةِ حَرْبٍ حَقِيقِيَّةٍ، يَخُوضُهَا الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ الْبَاسِلُ فِي جَبَهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَظْهَرُهَا أَرْضُ الْفَيْرُوزِ -شِبْهُ جَزِيرَةِ سَيْنَاءَ- وَمَا تَمُوجُ بِهِ مِنَ التَّحَدِيَّاتِ وَالْمَخَاطِرِ، وَمَا تَزْخَرُ بِهِ مِنْ صُنُوفِ الْحَاقِدِينَ عَلَى مِصْرَ وَجَيْشِهَا وَأَمْنِهَا، وَشَعْبِهَا وَقِيَادَتِهَا، فِي مُحَاوَلَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ مُسْتَمِيتَةٍ لِإِسْقَاطِ الدَّوْلَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَقْوِيضِ بُنْيَانِهَا، وَهَدْمِ بِنَائِهَا.

وَيُعَاضِدُهُمْ بِطَرِيقَةٍ مُبَاشِرَةٍ وَغَيْرِ مُبَاشِرَةٍ أَقْوَامٌ مِنَ الْخَوَنَةِ الْمُنْتَمِينَ لِهَذَا الْبَلَدِ، يُهَاجِمُونَ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ، وَيَفْتَرُونَ الْأَكَاذِيبَ، مُتَوَهِّمِينَ أَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ جُزْءٌ مِنَ النِّظَامِ، مَعَ أَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ جُزْءٌ مِنَ الدَّوْلَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنِ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ يَوْمًا جُزْءًا مِنَ النُّظُمِ الْحَاكِمَةِ.

وَلَوْ كَانَتِ الْجُيُوشُ تُولَدُ مِنْ رَحِمِ الدُّوَلِ الْمُتَطَوِّرَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، فَإِنَّ الدَّوْلَةَ الْمِصْرِيَّةَ خَاصَّةً وُلِدَتْ مِنْ رَحِمِ الْمُؤَسَّسَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ الْقَوِيَّةِ.

وَأَمَّا شِعَارُهُمُ الْفَاجِرُ: ((لَا لِحُكْمِ الْعَسْكَرِ))، فَلَا هُمْ يَعْرِفُونَ تَارِيخَهُ، وَلَا هُمْ يَدْرُونَ مَبْعَثَهُ، وَلَا هُمْ يَفْقَهُونَ مَعْنَاهُ.

وَالْمُؤَكَّدُ أَنَّ هَذَا الشِّعَارَ مُسْتَوْرَدٌ مِنْ أَمْرِيكَا اللَّاتِينِيَّةِ، وَعَبَّرَتْ عَنْهُ كِتَابَاتُ (غَارْسِيَا مَارْكِيز) الَّتِي أَثَّرَتْ فِي الْأَجْيَالِ الَّتِي نَضَجَتْ مَعَ دُوَلِ الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، دُونَ أَنْ تَعْرِفَ هَذِهِ الْأَجْيَالُ أَنَّ بِدَايَةَ الْجِنِرَالَاتِ فِي أَمْرِيكَا اللَّاتِينِيَّةِ كَانَتْ قِيَادَةَ عِصَابَاتِ الْمُخَدِّرَاتِ، لَبِسَتْ -بَعْدَ أَنْ كَوَّنَتْ ثَرْوَاتٍ- ثِيَابَ الْقَادَةِ، وَوَضَعَتِ الرُّتَبَ وَالنَّيَاشِينَ.

ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي مَرْحَلَةٍ لَاحِقَةٍ عُمَلَاءَ لِوَكَالَةِ الْمُخَابَرَاتِ الْأَمْرِيكِيَّةِ، فَلَا هُمْ يَنْتَمُونَ بِجُذُورٍ وَتَقَالِيدَ عَسْكَرِيَّةٍ إِلَى الْعَسْكَرِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَمُوا إِلَيْهَا، وَلَا هُمْ عَرَفُوا الِانْتِمَاءَ وَالْوَطَنِيَّةَ.

عَلَيْنَا -نَحْنُ الْمِصْرِيِّينَ- أَنْ نَحْذَرَ الْحَذَرَ كُلَّهُ مِنْ مُؤَامَرَاتِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَصِيبَةِ، وَلْنَأْخُذْ بِالْأَسْبَابِ أَخْذًا صَحِيحًا، مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِنَجْتَازَ هَذِهِ الْفَتْرَةَ الْخَطِرَةَ مِنْ تَارِيخِنَا، مُحَافِظِينَ عَلَى دِينِنَا؛ لِنَبْنِيَ وَطَنَنَا عَلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَاتِّبَاعِ نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ ﷺ.

وَمِمَّا يَتَوَجَّبُ أَنْ يُدَافِعَ الْمُسْلِمُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَدُوَّ الَّذِي يُحَاوِلُ اغْتِصَابَهَا وَاحْتِلَالَهَا، وَأَنْ يُجَاهِدَ دُونَهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ احْتِفَاظًا بِمَالِ أَهْلِهَا فِي وَطَنِهِمْ، مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَتَقْلُّبِهِمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَصَوْنِ حَرِيمِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي مَعَائِشِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ.

وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ، فَيَقْضِيَ عَلَى شَرَفِ دِينِهِمْ، وَيَمْنَعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَمُقْتَنَيَاتِهِمْ، وَيَهْتِكَ حُرَمَهُمْ، وَيَمْحُوَ تَارِيخَ مَجْدِهِمْ، وَيُفْنِيَ لُغَتَهُمْ وَعُلُومَهُمْ فِي رَطَانَتِهِ وَعَوَائِدِهِ.

فَكُلُّ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ مِمَّا يَنْوِيهِ الْعَدُوُّ الْغَاصِبُ لِلْوَطَنِ تِلْقَاءَ أَهْلِهِ؛ وَلِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ دُونَهُ لِوَجْهِ اللهِ وَفِي سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَتَحَابُّوا وَلَا يَتَعَادَوْا، وَأَنْ يَتَنَاصَرُوا وَلَا يَتَخَاذَلُوا، وَأَنْ يَأْتَلِفُوا وَلَا يَخْتَلِفُوا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ دِينِهِمْ، وَحِفْظَ أَعْرَاضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَذْمُومَةِ؛ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْجِنْسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ.

أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: ((أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ)).

فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، إِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ)).

وَمِيزَانُ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ التَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

 ((الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتٍ تُهَدِّدُ أَمْنَ الْوَطَنِ))

إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ التَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي تُوَاجِهُنَا تِلْكَ التَّحَدِّيَّاتُ الَّتِي تُهَدِّدُ أَمْنَنَا وَاسْتِقْرَارَنَا فِي أَوْطَانِنَا؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

لَقَدِ امْتَنَّ اللهُ عَلَى أَهْلِ حَرَمِهِ الْآمِنِ بِالْأَمْنِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]؛ أَيْ: أَجَهِلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ قِيمَةَ النِّعْمَةِ الَّتِي هُمْ فِيهَا، وَلَمْ يُدْرِكُوا وَيُشَاهِدُوا أَنَّا جَعَلْنَا بَلَدَهُمْ مَكَّةَ حَرَمًا آمِنًا، يَأْمَنُونَ فِيهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَعَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ النَّاسَ مِنْ حَوْلِهِمْ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ؟!

وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ حَوْلَ مَكَّةَ يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَغَاورُونَ وَيَتَنَاهَبُونَ، يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ مَالَ غَيْرِهِ، وَأَهْلُ مَكَّةَ مُسْتَقِرُّونَ فِيهَا آمِنُونَ، لَا يُعْتَدَى عَلَيْهِمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ غَيْرِهِمْ، فَذَكَّرَهُمُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ.. بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ.

وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِلتَّوْبِيخِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْجُحُودِ وَالْكُفْرِ لِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى.

أَفَبَعْدَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الْجَلِيلَةِ يُؤْمِنُونَ بِالْأَصْنَامِ، وَبِنِعْمَةِ اللهِ الَّتِي تَسْتَدْعِي اسْتِجَابَتَهُمْ لِلْحَقِّ يَكْفُرُونَ؟!!

وَكَانَ أَمْنُ أَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ مَدَحَهُ اللهُ -تَعَالَى- مَدْحًا عَظِيمًا؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].

فَجَعَلَهُ اللهُ مَرْجِعًا لِلنَّاسِ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَلَاذًا وَحِصْنًا لَهُمْ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ، فَهُوَ مَوْضِعُ أَمْنِهِمْ وَاطْمِئْنَانِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].

وَذَكَرَ -تَعَالَى- مِنَّتَهُ عَلَى سَبَأٍ؛ فَقَالَ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا».

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ جَمِيعًا فِي يَقَظَةٍ وَوَعْيٍ وَحَيْطَةٍ وَحَذَرٍ، وَفِي التَّارِيخِ عِبْرَةٌ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ.

هَذَا إِذَا جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلنَّاسِ بَقِيَّةً مِنْ عَقْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْصِمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا رَحْمَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَشْمَلُهُمْ، وَإِلَّا عِنَايَتُهُ تَعُمُّهُمْ، يَهْدِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَذْعَنُوا لِلْحَقِّ، وَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ؛ خُذُوا أُهْبَتَكُمْ، وَاحْتَرِزُوا مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَتَيَقَّظُوا لَهُ، وَلَا تُمَكِّنُوهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.

إِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا.. يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

 ((الْوَعْيُ بِالتَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا))

إِنَّ مِنْ أَهَمِّ التَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي نُوَاجِهُهَا: التَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةَ؛ فَيَجِبُ التَّعَاوُنُ لِمُوَاجَهَةِ هَذِهِ التَّحَدِّيَّاتِ بِالْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ حَثَّ عَلَى الْعَمَلِ وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»، وَهَذَا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ﷺ يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

وَمُوَاجَهَةُ التَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ -أَيْضًا- يَكُونُ بِالتَّخْطِيطِ الِاقْتِصَادِيِّ وَالزِّرَاعِيِّ وَالتَّمْوِينِيِّ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 43-49].

وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدْ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدْ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.

يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرَ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.

قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.

وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعِبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ، فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ، أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ، فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى، سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلِيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.

لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.

قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهِمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنَ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.

{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}، لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.

لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.

وَمِنْ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحِقْبَةِ: سَعْيُ رِجَالِ الْأَعْمَالِ الْمُخْلِصِينَ الْوَطَنِيِّينَ لِاسْتِثْمَارِ أَمْوَالِهِمْ فِي بَلَدِهِمْ، وَتَوْفِيرِ فُرَصِ الْعَمَلِ لِأَبْنَاءِ هَذَا الْوَطَنِ الْجَمِيلِ.

أَيُّهَا الْمُصْرِيُّونَ! اعْمَلُوا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُ لَا خُرُوجَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَزْمَةٍ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ.. أَنْ يَعْمَلَ كُلٌّ مِنَّا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ حَتَّى هَذِهِ لَا يَعْمَلُونَهَا؛ يَعْنِي هُمْ لَا يَعْمَلُونَ أَصْلًا، لَا عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَلَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، هُمْ تَعَوَّدُوا عَلَى الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، وَهَذَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَرْضَاهُ هَذَا الدِّينُ الْحَنِيفُ.

 ((بِنَاءُ الْوَعْيِ لِمُوَاجَهَةِ الْإِشَاعَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! مَنْ نَظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَاصَّةً, وَفِي التَّارِيخِ عَامَّةً؛ يَعْلَمُ يَقِينًا مَا لِلشَّائِعَاتِ مِنْ خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَأَثَرٍ بَلِيغٍ، فَالشَّائِعَاتُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَشْخَاصِ.

وَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ, وَحَطَّمَتْ عُظَمَاءَ، وَهَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ، وَهَدَمَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ, وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَأَخَّرَتْ مِنْ سَيْرِ أَقْوَامٍ!!

لِخَطَرِهَا وَجَدْنَا الدُّوَلَ تَهْتَمُّ بِهَا، وَالْحُكَّامَ يَرْقُبُونَهَا، مُعْتَبِرينَ إِيَّاهَا مِقْيَاسَ مَشَاعِرِ الشَّعْبِ نَحْوَ الْإِدَارَةِ صُعُودًا وَهُبُوطًا، وَبَانِينَ عَلَيْهَا تَوقُّعَاتِهِمْ لِأَحْدَاثٍ مَا, سَوَاءٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الْمَحَلِّيِّ أَوِ الْمُسْتَوَى الْخَارِجِيِّ.

وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ)) .

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)) .

وَأَثَرُ الشَّائِعَاتِ سَيِّئٌ جِدُّ سَيِّئٍ, وَيَنْتُجُ عَنْهَا غَالِبًا آثَارٌ أُخْرَى أَسْوَءُ مِنْهَا.

إِنَّ الشَّائِعَاتِ تُخِلُّ بِالْأَمْنِ، وَتَجْلِبُ الْوَهَنَ، وَتُحَقِّقُ مُرَادَ الْأَعْدَاءِ فِي تَرْكِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِضْعَافِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَيْئِيسِهِمْ، وَقَتْلِ رُوحِ الْمُقَاوَمَةِ فِي نُفُوسِهِمْ.

وَالَّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ الْإِشَاعَاتِ:

*أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيِهِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ طَلَبُ الدَّلِيلِ الْبَاطِنِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَأَنْ يُنْزِلَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ وَحْدَةُ الصَّفِّ الدَّاخِلِيِّ: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12].

*وَأنْ يَطْلُبَ الدَّلِيلَ الْخَارِجِيَّ الْبُرْهَانِيَّ: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13].

*وَأَلَّا يَتَحَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ وَلَا يَنْشُرَهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ لَمَاتَتْ فِي مَهْدِهَا، وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُحْيِيهَا إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: {ولَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16].

*وَأَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُشِيعُ النَّاسُ بَيْنَ النَّاسِ الشَّائِعَاتِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ الْمُهِمَّةِ، وَالَّتِي لَهَا أَثَرُهَا الْوَاقِعِيُّ؛ كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].

وَقَدْ تَعَامَلَ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِبَثِّ الثِّقَةِ وَالْأَمَلِ وَالتَّفَاؤُلِ بِنَصْرِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَسْدِيدِهِ مَهْمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَدًّا عَلَى الشَّائِعَاتِ الْمُرْجِفَةِ الَّتِي كَانَ يُطْلِقُهَا الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].

فَقَدْ كَانَ رَدُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى الْمُرْجِفِينَ بِمُخَاطَبَةِ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- : «أَبْشِرُوا بِفَتْحِ اللهِ وَنَصْرِهِ».

*وَتُعَامَلُ الشَّائِعَاتُ بِالصَّمْتِ، وَعَدَمِ الْخَوْضِ فِيهَا: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».

فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ شَيْئًا، كَمَا يَخْسَرُ حِينَ يَخُوضُ فِيمَا لَا يُحْسِنُهُ أَوْ يَتَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ، وَأَلَّا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ, وَأَنْ يَرُدَّهَا إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.

 ((الْوَعْيُ بِخَطَرِ الِانْحِرَافِ الْفِكْرِيِّ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهِ))

((لَقَدْ نَهَى اللهُ عَنِ الغُلُوِّ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77])) .

وَفِي الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ  ﷺ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: ((هَاتِ، الْقُطْ لِي)). فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: ((بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)). وَالحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ.. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ.. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ: الْمُتَعَمِّقُونَ، الْغَالُونَ، الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُودَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهُمُ الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ خَبَرٌ عَنْ حَالِ الْمُتَنَطِّعِينَ، إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، فَهُوَ خَبَرِيٌّ لَفْظًا إِنْشَائِيٌّ مَعْنًى، وَفِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ عَنِ التَّنَطُّعِ، وَعَنِ الْغُلُوِّ، وَعَنِ التَّعَمُّقِ، وَعَنِ الْمُجَاوَزَةِ لِلْحَدِّ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ دِينَ اللهِ يُسْرٌ، وَاللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لَمْ يَتَعَبَّدْنَا بِمَا لَا نَسْتَطِيعُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَنَا دَائِمًا مِنْ أَمْرِنَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهُوَ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.

إِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الإِسْلَامِ: الِاعْتِدَالَ وَالتَّوَازُنَ، وَالِاسْتِقَامَةُ مِنْ أَهَمِّ مَعَالِمِ الدِّينِ؛ قَالَ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7].

قَالَ الأَوْزَاعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا مِنْ أَمْرٍ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِهِ إِلَّا عَارَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِخَصْلَتَيْنِ؛ لَا يُبَالِي أَيَّهُمَا أَصَابَ: الغُلُوُّ، أَوِ التَّقْصِيرُ)).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ))، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: ((هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ))، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَغَيْرُهُمْ.

وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَقْتَضِي مَعْنَى الْخَيْرِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ طَرَفَيِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ.

*وَالنَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا التَّوَازُنَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، نَبِيُّكُمْ ﷺ يُوَضِّحُ لَكُمْ: أَنَّ حَيَاتَكُمْ وَآخِرَتَكُمْ رَهْنٌ بِاسْتِقَامَتِكُمْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ, وَ        ثَلَاثَةُ النَّفَرِ الَّذِينَ أَرَادُوا الْخِصَاءَ لِكَيْ يَخْرُجُوا مِنْ حَدِّ الشَّهَوَاتِ بِاسْتِعَارِهَا فِي الدِّمَاءِ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتَبَتَّلُوا، فَفَكَّرُوا فِي الْخِّصَاءِ لِكَيْ تَنْقَطِعَ الْمَادَّةُ بِشَهْوَتِهَا، وَلِكَيْ يَصِيرُوا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهَا.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ: ((ثَلَاثَةَ رَهْطٍ جَاءُوا إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؟! قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.

قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا.. فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».

 ((الْوَعْيُ بِتَحَدِّيِ الْإِرْهَابِ وَكَيْفِيَّةِ مُوَاجَهَتِهِ))

إِنَّ لِلْإِرْهَابِ مَخَاطِرَ كَثِيرَةً، وَالْوَعْيُ الْحَقِيقِيُّ مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَتِهِ وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِ، «وَالْإِرْهَابُ هُوَ: الْعُدْوَانُ الَّذِي يُمَارِسُهُ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ أَوْ دُوَلٌ بَغْيًا عَلَى الْإِنْسَانِ دِينِهِ وَدَمِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.

وَيَشْمَلُ صُنُوفَ التَّخْوِيفِ وَالْأَذَى وَالتَّهْدِيدِ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِصُوَرِ الْحِرَابَةِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُنْفِ أَوِ التَّهْدِيدِ يَقَعُ تَنْفِيذًا لِمَشْرُوعٍ إِجْرَامِيٍّ فَرْدِيٍّ أَوْ جَمَاعِيٍّ، وَيَهْدُفُ إِلَى إِلْقَاءِ الرُّعْبِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ تَرْوِيعِهِمْ؛ بِإِيذَائِهِمْ أَوْ تَعْرِيضِ حَيَاتِهِمْ أَوْ حُرِّيَّتِهِمْ أَوْ أَمْنِهِمْ أَوْ أَحْوَالِهِمْ لِلْخَطَرِ.

وَمِنْ صُنُوفِهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْبِيئَةِ أَوْ بِأَحَدِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَمْلَاكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، أَوْ تَعْرِيضُ أَحَدِ الْمَوَارِدِ الْوَطَنِيَّةِ أَوِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلْخَطَرِ.

فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]».

كَلِمَةُ الْإِرْهَابِ: هِيَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفُ الْآمِنِينَ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ الْمُعَاهَدِينَ، وَاسْتِهْدَافُ الْأَبْرِيَاءِ، وَتَدْمِيرُ الْمُنْشَآتِ، وَتَشْوِيهُ سُمْعَةِ الدِّينِ الْعَظِيمِ.

فَكُلُّ أَعْمَالِ الْعُنْفِ الَّتِي تُرْتَكَبُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ، تَجُرُّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَتَاهَاتٍ مُعْتِمَةٍ، وَمَشَاكِلَ جَمَّةٍ، وَتَسْتَعْدِي عَلَيْهِمُ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ، وَتَجْلِبُ لَهُمُ الْمَشَقَّةَ وَالْعَنَتَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاضِحٌ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.

لِذَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ هَذَا الِاسْمَ وَنَعْرِفَ حَقِيقَةَ الْمُسَمَّى، وَنَعْرِفَ أَثَرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ مَنْ يَتَلَبَّسُونَ بِسَمْتِ الْإِسْلَامِ، وَيَقَعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ، هُمْ بَعِيدُونَ كُلَّ الْبُعْدِ عَنْ نَهْجِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ الَّذِي كَانَ يُؤْذَى فِي نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ لَهُمْ بِالصَّبْرِ، وَتَقْوِيَةِ الصِّلَةِ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ حِينَئِذٍ بِرَدِّ الْعُدْوَانِ عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، أَوِ الْقِيَامِ بِأَعْمَالِ عُنْفٍ، أَوْ قَتْلٍ أَوْ نَهْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ السَّبِيلُ الْأَوْحَدُ عِنْدَهُمُ الصَّبْرَ وَالْكَفَّ وَالصَّفْحَ حَتَّى عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ فِي دِينِ اللهِ.

وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَيْفَ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَبَيْنَ الْجَمَاهِيرِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي تَحْرِصُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَتَتَمَسَّكُ بِكَثِيرٍ مِنْ عُرَى الدِّينِ، فَكَيْفَ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُجْتَمَعَاتِ؟!

فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ يَهْتَدُونَ بِهِ، أَوْ خِبْرَةٌ فِي الْحَيَاةِ تَحْمِيهِمْ مِنْ مَزَالِقِ الْخَطَرِ.. مَا بَالُهُمْ يَنْجَرِفُونَ وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ وَدَاعٍ إِلَى نَشْرِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ وَالدَّمَارِ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ.

إِنَّ هَذِهِ الْفِئَةَ تَحْتَاجُ لِمُرَاجَعَةِ أَمْرِهَا، وَتَحْدِيدِ مَسَارِهَا، وَالْعَوْدَةِ إِلَى عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ الْعَامِلِينَ؛ لِأَنَّ لِلْإِرْهَابِ أَثَرًا شَنِيعًا، لِكُلِّ زَرْعٍ حَصَادٌ، وَلِكُلِّ غِرَاسٍ جَنًى، الَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا، وَالطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ.

وَمَنْ يَحْرُثْ بِمَحَارِيثِ الطَّيْشِ، وَيَبْذُرِ الْفِتْنَةَ، وَيَرْوِهَا بِالْعُنْفِ، سَوْفَ يَتَجَرَّعُ غُصَّةَ الشَّوْكِ فِي حَلْقِهِ، وَسَوْفَ يَكْتَوِي بِالنَّارِ الَّتِي يُؤَجِّجُ لَهِيبَهَا.

مِنْ آثَارِ الْإِرْهَابِ الَّتِي يَرَاهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ:

  • هَلَاكُ الْأَنْفُسِ وَإِهْلَاكُهَا.
  • تَدْمِيرُ الْمُمْتَلَكَاتِ.
  • تَحْطِيمُ الْمُنْشَآتِ.
  • نَشْرُ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ.
  • زَرْعُ الضَّغِينَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
  • تَحْجِيرُ الْخَيْرِ.
  • إِضْعَافُ الْأُمَّةِ وَتَبْدِيدُ مَكَاسِبِهَا.
  • تَسَلُّطُ أَعْدَاءِ اللهِ وَتَمَكُّنُهُمْ مِنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

    فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَرْضَى لِغَيْرِهِ تِلْكَ الْأُمُورَ؟!!

    الْإِرْهَابُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِشَتَّى صُوَرِهِ، بَلْ لَعَلَّهُ لَمْ تُوجَدْ قَضِيَّةٌ مُعَاصِرَةٌ يَكُونُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِجْمَاعِ مِثْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ أَعْمَالِ الْإِرْهَابِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَقْتَدِي بِأَفْضَلِ الْخَلْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ.. أَنْ يُغَامِرَ بِنَفْسِهِ وَدِينِهِ إِلَى حَافَّةِ الْهَاوِيَةِ وَمَصِيرِ الْهَلَاكِ.

    الْإِسْلَامُ بَرِيءٌ مِنَ الْإِرْهَابِ، بَلْ إِنَّ الْإِسْلَامَ يَرَى الْإِرْهَابَ عَارِضًا قَدْ عَرَضَ، وَمَرَضًا خَبِيثًا قَدْ نَزَلَ، ابْتُلِيَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي أَخْلَاقِهَا، وَمَزَّقَ كَلِمَتَهَا، وَشَتَّتَ شَمْلَهَا، وَأَفْسَدَ أَمْنَهَا، وَقَدِ اتَّخَذَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ الْوَسَائِلِ الْمُمْكِنَةِ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الْإِرْهَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَلِلْعِلَاجِ إِذَا مَا وَقَعَ.

    الْعِلَاجُ الْإِسْلَامِيُّ لِلتَّطَرُّفِ وَالْعُنْفِ وَالْإِرْهَابِ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ الْأُمَمِ، وَنَصَّ عَلَى حِفْظِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَحِمَايَةِ عِرْضِهِ وَمَالِهِ وَدِينِهِ وَعَقْلِهِ، مِنْ خِلَالِ حُدُودٍ وَاضِحَةٍ مَنَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ تَجَاوُزِهَا.

    {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وَهَذَا تَوْجِيهٌ لِعُمُومِ الْبَشَرِ، وَتَحْقِيقًا لِهَذَا التَّكْرِيمِ مَنَعَ الْإِسْلَامُ بَغْيَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَخِيهِ الْإِنْسَانِ، وَحَرَّمَ كُلَّ عَمَلٍ يُلْحِقُ الظُّلْمَ بِهِ.

    وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33].

    وَشَنَّعَ عَلَى الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّاسَ فِي أَرْجَاءِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يُحَدِّدْ ذَلِكَ بِدِيَارِ الْمُسْلِمِينَ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ}، وَلَمْ يُحَدِّدْ بِأَنَّهَا أَرْضُ الْإِسْلَامِ وَأَرْضُ الْمُسْلِمِينَ.

    وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 205-206].

    أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِالِابْتِعَادِ عَنْ كُلِّ مَا يُثِيرُ الْفِتَنَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَذَّرَ مِنْ مَخَاطِرِ ذَلِكَ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

    جَعَلَ الْإِسْلَامُ وِقَايَاتٍ تَقِي الْمُجْتَمَعَ مِنْ هَذَا الْإِرْهَابِ.. مِنْ هَذَا الْغُولِ الَّذِي يَفْتِكُ بِأَمْنِ الْمُسْلِمِينَ وَيُدَمِّرُ سَعَادَتَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَبِالتَّالِي يَصْرِفُهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ.

    فَمِنْ وَسَائِلِ الْوِقَايَةِ مِنَ الْإِرْهَابِ:

    أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الظُّلْمَ وَأَوْجَبَ الْعَدْلَ، وَجَعَلَ ذَلِكَ أَسَاسَ الِاجْتِمَاعِ، وَتَوَعَّدَ الظَّالِمِينَ بِعِقَابٍ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقْتَصُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْبَهَائِمِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، فَيَقْتَصُّ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

    أَوْجَبَ اللهُ نَشْرَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُزِيلُ الْغَبَشَ، وَيَمْنَعُ الِانْحِرَافَ، وَكِثيٌر مِمَّا تَرَاهُ الْآنَ مِنْ مَظَاهِرِ الْإِرْهَابِ وَالْقَتْلِ وَالتَّفْجِيرِ وَالتَّدْمِيرِ وَالتَّكْفِيرِ.. كُلُّهُ بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَسُوءِ الْفَهْمِ، كَمَا وَقَعَ مِنَ الْخَوَارِجِ؛ ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)) ، فَأَنَّى يَفْهَمُونَ؟!

    وَالْخَوَارِجُ الْمُحْدَثُونَ كَالْخَوَارِجِ الْمُتَقَدِّمِينَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ: ((يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)).

    أَوْجَبَ طَاعَةَ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَحَرَّمَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُظْهِرُوا كُفْرًا بَوَاحًا بَيِّنًا عِنْدَ النَّاسِ مِنَ اللهِ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ.

    وَأَيْضًا لَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ الْخُرُوجَ إِلَّا بِإِعْدَادِ الْعُدَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا عَلَى الْأَصْلِ.

    الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ رَكَّزَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الرَّحْمَةِ، دِينُ الْإِحْسَانِ، وَتِلْكَ نَقِيضَةُ الْإِرْهَابِ:

    {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

    {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].

    وَفِيمَا وَصَفَ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]؛ أَيْ: لَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَهْتَدُوا.

    فَتَأَمَّلْ فِي وَصْفِ الرَّسُولِ، وَتَأَمَّلْ فِيمَا عَلَيْهِ الْقَوْمُ:

    حِرْصُهُمْ عَلَى الْقَتْلِ!

    حِرْصُهُمْ عَلَى الْإِبَادَةِ!

    حِرْصُهُمْ عَلَى الِاسْتِئْصَالِ!

    وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيُعَاتِبُهُ رَبُّهُ لِشَدِيدِ حُزْنِهِ، وَعَظِيمِ هَمِّهِ لِعَدَمِ اهْتِدَاءِ قَوْمِهِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

    النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ قُوَّادَهُ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ -فِي وَصِيَّتِهِ لِقَادَةِ الْجُيُوشِ- أَلَّا يَقْتُلُوا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا رَاهِبًا، وَلَا عَابِدًا.

    وَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ- امْرَأَةً مَقْتُولَةً غَضِبَ، وَقَالَ: ((مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ))؛ أَيْ: لَمْ تُقَاتِلْ هَذِهِ، فَلِمَ تُقْتَلُ؟! وَلَا يَحِلُّ قَتْلُهَا بِحَالٍ، لَمْ تَكُنْ مُحَارِبَةً، فَعَاتَبَهُمْ فِي قَتْلِهَا.

    حَرَّمَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا يُغَذِّي الْإِرْهَابَ وَيَنْشُرُهُ مِنْ مَدْحِ الْمُجْرِمِينَ، وَإِضْفَاءِ صِفَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى جَرَائِمِهِمْ، كَوَصْفِ فِعْلِهِمْ بِأَنَّهُ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَوَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، كَمَا تَسْمَعُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الَّتِي تُحَارِبُهُمْ، يَقُولُ: مِنَ الْجِهَادِيِّينَ!

    يُجَاهِدُونَ الْإِسْلَامَ، أَمْ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الْإِسْلَامِ؟!

    أَيُّ جِهَادٍ هَذَا؟!

    هَذَا إِرْهَابٌ، هَذَا عُنْفٌ لَمْ يَشْرَعْهُ اللهُ وَلَا رَسُولُهُ ﷺ.

    وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُتَّبِعُونَ، فَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَا يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، كَنَشْرِ الْإِرْهَابِ بِالْإِشَاعَةِ، وَتَخْوِيفِ النَّاسِ وَتَفْزِيعِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْشُرُ الْإِرْهَابَ، وَيَجْعَلُهُ مَقْبُولًا فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَيُعَظِّمُ أَثَرَهُ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ.

    عَالَجَ الْإِسْلَامُ الْإِرْهَابَ بِعِلَاجٍ حَاسِمٍ، آخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، فَشَرَعَ حَدَّ الْحِرَابَةِ، هُوَ حَدٌّ شَرَعَهُ اللهُ -تَعَالَى- لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْقَضَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، الَّتِي تُرَوِّعُ الْأَبْرِيَاءَ وَتَقْتُلُهُمْ، وَتُخِيفُ سُبُلَهُمْ، وَتُضْعِفُ أَمْنَهُمْ، وَتُفَجِّرُ دُورَهُمْ وَمُنْشَآتِهِمْ، وَتُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِمْ، وَتُضَيِّعُ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ حَدًّا، آخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ.

    {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].

    وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا -تَعَالَى- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ:

  • مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ.
  • وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ.
  • وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا، نُفِيَ فِي الْأَرْضِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَهَذَا هُوَ الْحَسْمُ الْقَاطِعُ، وَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ النَّاجِعُ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

 ((خُطُورَةُ تَغْيِيبِ وَعْيِ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ))

إِنَّ أَعْدَاءَنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُضَيِّقُونَ عَلَيْنَا الْحَلْقَةَ، وَيَجْتَهِدُونَ فِي مَحْقِنَا وَفِي قَتْلِنَا، وَفِي إِزَالَتِنَا، وَفِي مَحْوِ تَارِيخِنَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَنَحْنُ لَا نُبَالِي!!

وَأَخْطَرُ مِنَ الْخَطَرِ أَلَّا يُحِسَّ مَنْ هُوَ فِي خَطَرٍ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُحِسًّا بِأَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَسَيَسْعَى حَتْمًا لِتَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ, وَأَمَّا أَلَّا يُحِسَّ مَنْ هُوَ فِي الْخَطَرِ، بَلْ فِي عَيْنِ الْخَطَرِ وَسَوَائِهِ.. أَلَّا يُحِسَّ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ فَهَذَا أَكْبَرُ مِنَ الْخَطَرِ!

هَذِهِ مَرْحَلَةٌ فَاصِلَةٌ مِنْ تَارِيخِ هَذَا الْوَطَنِ، نَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُمَرِّرَهَا عَلَيْنَا بِأَمْنٍ وَسَلَامٍ.

إِنَّ حَرْبَ أَعْدَاءِ الْأُمَّةِ بِتَغْيِيبِ وَعْيِ أَبْنَائِهَا قَدِيمٌ، وَذَلِكَ بِقَلْبِ الْحَقَائِقِ وَكَيْلِ الِاتِّهَامَاتِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4-7].

وَعَجِبَ كُفَّارُ مَكَّةَ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ بَشَرٌ مِنْهُمْ يُخَوِّفُهُمْ عَذَابَ اللهِ بَعْدَ أَنْ بَلَّغَهُمْ، وَبَيَّنَ لَهُمْ، وَأَقَامَ لَهُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ؛ وَقَالَ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ الْمُعَانِدُونَ الْمُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمُ السَّاتِرُونَ لِأَدِلَّةِ الْحَقِّ وَبَرَاهِينِهِ الْوَاضِحَةِ؛ قَالُوا: هَذَا سَاحِرٌ مُمَوِّهٌ شَدِيدُ الْكَذِبِ؛ أَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْآلِهَةَ الْمُتَعَدِّدَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟!! إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ وَدَعَا إِلَيْهِ لَشَيْءٌ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ أَشَدَّ التَّعَجُّبِ.

وَذَهَبَ رُؤَسَاءُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنْ مَجْلِسِهِمْ مُسْرِعِينَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اُمْضُوا عَلَى طَرِيقَةِ آبَائِكُمْ، وَاثْبُتُوا صَابِرِينَ عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمُ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَا تَتَأَثَّرُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ دَعْوَةً إِلَى التَّوْحِيدِ، وَنَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ؛ فَمَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ شَيْءٌ مُدَبَّرٌ يُقْصَدُ مِنْهُ الرِّيَاسَةُ وَالْمُلْكُ.

مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ فِي مِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمِلَلِ! مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ إِلَّا كَذِبٌ وَافْتِعَالٌ.    

وَكَذَلِكَ يُغَيِّبُونَ الْوَعْيَ بِعَدَمِ إِفْسَاحِ الْمَجَالِ لِمُجَرَّدِ سَمَاعِ كَلِمَةِ الْحَقِّ؛ قَالَ -سُبْحَانَهُ- حِكَايَةً عَنْهُمْ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].

وَقَالَ أَئِمَّةُ الشِّرْكِ فِي مَكَّةَ لِجَمَاهِيرِ قَوْمِهِمْ لَمَّا انْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ حَوْلَ الْقُرْآنِ، وَرَأَوا تَأْثِيرَهُ الْعَجِيبَ عَلَى قُلُوبِ النَّاسِ؛ قَالُوا لَهُمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ؛ لِئَلَّا تَشْغَلُوا أَفْكَارَكُمْ بِدَلَالَاتِ آيَاتِهِ، وَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالصِّيَاحِ وَالصَّفِيرِ وَالتَّخْلِيطِ عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَا يَسْتَمِعُ لِتِلَاوِتَهَ أَحَدٌ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ بِتَشْوِيشِكُمْ بَيَانَاتِ الْقُرْآنِ وَتَأْثِيرَهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ.

لَجَأَ الْكَافِرُونَ فِي جِدَالِهِمْ إِلَى أُسْلُوبِ الْمُشَاغَبَةِ رَجَاءَ أَنْ يَغْلِبُوا الْحَقَّ؛ وَهَذَا الْأُسْلُوبُ الْغَوْغَائِيُّ أَتْقَنَهُ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَأَحْزَابُ الْفِتْنَةِ وَالتَّخْرِيبِ فِي كُلِّ زَمَانٍ.

وَاللُّجُوءُ إِلَى خُطَّةِ الْمُشَاغَبَةِ يُقَدِّمُ الدَّلِيلَ ضِدَّ الْمُشَاغِبِينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ غَدَوْا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ مُنْهَزِمِينَ فِي مَعْرَكَةِ الْبَيَانِ وَالْقُرْآنِ، وَمُتَحَوِّلِينَ إِلَى مَعْرَكَةِ اللَّغَطِ وَالضَّجِيجِ وَالْغَوْغَائِيَّةِ.    

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! مَا أَشَدَّ جُرْمَ مَنْ يَسْعَى لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى، وَإِطْلَاقِ الْغَرَائِزِ مِنْ قُيُودِهَا!!

وَمَا أَكْبَرَ إِثْمَ مَنْ سَعْيُهُ لِإِضَاعَةِ مَكَاسِبِ الْإِسْلَامِ فِي بَلَدٍ يُنَعَّمُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَذَا الدِّينِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ.

فَمِصْرُ أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهَا، وَأَنْ يَحْفَظَ أَهْلَهَا، وَأَنْ يُدِيمَ عَلَيْهَا أَمْنَهَا وَأَمَانَهَا، وَسَلَامَهَا وَإِسْلَامَهَا، وَأَنْ يَكْبِتَ أَعْدَاءَهَا، وَأَنْ يُسَلِّمَهَا وَجَمِيعَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المصدر: بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  داعش وذبح الأقباط المصريين
  الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
  أهل القبلة
  حُرْمَةُ المَالِ العَامِّ وَخطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ
  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ
  الصِّحَّةُ الْإِنْجَابِيَّةُ بَيْنَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَقِّ الطِّفْلِ
  الْحَجُّ فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ
  دُرُوسٌ مِنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَدَوْرُهُ التَّجْدِيدِيُّ فِي عَصْرِهِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان