كَلِمَةُ (أَنَا) نُورٌ وَنَارٌ!

كَلِمَةُ (أَنَا) نُورٌ وَنَارٌ!

((كَلِمَةُ (أَنَا) نُورٌ وَنَارٌ!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْقَوْلُ السَّدِيدُ))

فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! خَافُوا عِقَابَ اللهِ إِذَا عَصَيْتُمُوهُ، وَقُولُوا قَوْلًا صَوَابًا قَاصِدًا إِلَى الْحَقِّ وَالسَّدَادِ؛ يَتَقَبَّلِ اللهُ حَسَنَاتِكُمْ، وَيَمْحُو ذُنُوبَكُمْ.

وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ظَفِرَ بِالْخَيْرِ الْعَظِيمِ بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].

مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ حَقًّا يَقِينًا: عَدَمُ الْعَدْلِ بِالْقَوْلِ فِي حُكْمٍ، أَوْ شَهَادَةٍ، أَوْ رِوَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلْتُمْ قَوْلًا فَاصْدُقُوا فِيهِ، وَقُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْمَشْهُودُ لَهُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ مَحَابَاتَهُ بِقَوْلٍ مَائِلٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ ذَا قَرَابَةٍ.

وَقَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

مَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ مِنْ كَلَامٍ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، وَمَا يَعْمَلُ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا عِنْدَهُ مَلَكٌ حَافِظٌ يَكْتُبُ قَوْلَهُ، مُعَدٌّ مُهَيَّأٌ لِذَلِكَ، حَاضِرٌ عِنْدَهُ لَا يُفَارِقُهُ.

لَقَدْ مَيَّزَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْإِنْسَانَ بِالْبَيَانِ، وَمَنَحَهُ نِعْمَةَ الْإِبَانَةِ، فَغَدَا بِفَضْلِ رَبِّهِ مُفْصِحًا مُبِينًا.

وَبِالْبَيَانِ خَرَجَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ إِلَى حَدِّ الْإِنْسَانِ النَّاطِقِ الْمُبِينِ، قَالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4].

وَلَمَّا كَانَتِ (الْكَلِمَةُ) حَجَرَ الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ، كَانَ حَظُّهَا مِنَ الْفَضِيلَةِ إِنْ حَسُنَتْ فَسَمَتْ، عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهَا مِنَ الرَّذِيلَةِ إِنْ سَاءَتْ فَتَرَدَّتْ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ -تَعَالَى-، مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

(الْكَلِمَةُ) إِنَّمَا تَصْدُرُ مِنْ قَائِلِهَا مُلَوَّنَةً بِأَلْوَانٍ بَاطِنَةٍ، مُبِينَةً عَنْ ذَاتِ نَفْسِهِ وَدَخِيلَةِ قَلْبِهِ، وَلَوْ أَنَّنَا جَرَيْنَا عَلَى سَنَنِ الْبَدَاهَةِ لَيَمَّمْنَا وُجُوهَنَا شَطْرَ (الْقَلْبِ) لَا شَطْرَ (اللِّسَانِ)، وَأَلْقَيْنَا عَلَى بَابِهِ رِحَالَنَا، ثُمَّ قَرَّرْنَا فِي تَسْلِيمٍ أَنَّهُ:

إِنْ كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا فَقَدْ صَلَحَتِ (الْكَلِمَةُ)، وَإِنْ كَانَ طَالِحًا فَقَدْ فَسَدَتِ (الْكَلِمَةُ)؛ فَصَلَاحُ (الْكَلِمَةِ) وَفَسَادُهَا، فَرْعُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَفَسَادِهِ، سُنَّةُ اللهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ (أَدَبِ النَّفْسِ) وَ(أَدَبِ اللَّفْظِ) أَوْثَقُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا أَوْ يُشَارَ إِلَيْهَا، وَمَا مِنْ سُوءِ أَدَبٍ فِي اللَّفْظِ إِلَّا وَالنَّفْسُ مَنْبَعُهُ وَحَمْأَتُهُ، وَفِيهَا مَبَاءَتُهُ وَبُؤْرَتُهُ، وَمَا أَجْمَلَ وَأَصْدَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: «إِنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ إِذَا اتَّسَخَتْ، كَانَ كَلَامُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ يُغْسَلَ بِالْمَاءِ وَالصَّابُونِ!».

وَوَاضِحٌ أَنِّي أَعْنِي بِـ(الْكَلِمَةِ) أَمْرًا تَكْمُنُ وَرَاءَهُ الْإِرَادَةُ وَالْخُلُقُ وَأَثَرُ الدِّينِ جَمِيعًا، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ كَلَامًا يُمْكِنُ أَلَّا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى مُسْتَكِنٍّ فِي النَّفْسِ، مُتَوَارٍ بَيْنَ الْحَنَايَا، فَقَدْ عَنَى مُسْتَحِيلًا وَقَصَدَ عَدَمًا.

((كَلِمَةُ (أَنَا) فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ))

إِنَّ الْكَلِمَةَ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ، سَهْلَةُ النُّطْقِ وَالْجَرَيَانِ؛ وَلَكِنْ لَهَا قِيمَةٌ وَأَحْكَامٌ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ، وَكَلِمَةُ (أَنَا) لَا حَرَجَ فِي قَوْلِهَا إِذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْكِبْرُ أَوِ الرِّيَاءُ أَوْ تَعْظِيمُ النَّفْسِ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُتَحَدِّثًا عَنْ نَفْسِهِ مُعَرِّفًا بِخَصَائِصِهِ، وَبِالْمِنَنِ الَّتِي وَهَبَهُ إِيَّاهَا رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِقَوْلِهِ: ((أَنَا))؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَزَعِ النَّاسِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، قَالَ ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، «فَيَقُولُ عِيسَى: اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ...». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ إِلَى قَوْلِهِ: ((وَأَنَا الْعَاقِبُ))، وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَا)).

قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَا)).

قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَنَا)).

فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَنَا)).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَا حُكْمُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ مُتَحَدِّثًا عَنْ نَفْسِهِ: أَنَا عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا؟

فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَا حَرَجَ فِي هَذَا؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ))، وَقَالَ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ: ((لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)).

لَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَنْكَرَ عَلَى مَنِ اسْتَأْذَنَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَ الْمُسْتَأْذِنِ: أَنَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنَا؛ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، بَقِيَ مَجْهُولًا، وَلَكِنَّ الْمُسْتَأْذِنَ يَقُولُ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ؛ حَتَّى يُعَرِّفَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ)).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ طُغْيَانِ (أَنَا) وَ (لِي) وَ (عِنْدِي)؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ ابْتُلِيَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَفِرْعَوْنُ، وَقَارُونُ؛ {فَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لِإِبْلِيسَ، وَ {لِي مُلْكُ مِصْرَ} لِفِرْعَوْنَ، وَ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} لِقَارُونَ.

وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَتْ (أَنَا) فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: ((أَنَا الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ، الْمُخْطِئُ، الْمُسْتَغْفِرُ، الْمُعْتَرِفُ)).

وَنَحْوُهُ: (لِي) فِي قَوْلِهِ: ((لِيَ الذَّنْبُ، وَلِيَ الْجُرْمُ، وَلِيَ الْمَسْكَنَةُ، وَلِيَ الْفَقْرُ وَالذُّلُّ)).

وَ (عِنْدِي) فِي قَوْلِهِ: ((اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي)).

(( (أَنَا) فِي كَلَامِ رَبِّنَا الْعَلِيِّ الْأَعْلَى))

إِنَّ الْهِدَايَةَ الْكَامِلَةَ وَالنُّورَ التَّامَّ فِي كَلَامِ الرَّبِّ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى عَنْ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-.

* كَلِمَةُ (أَنَا) وَإِعْلَانُ التَّوْحِيدِ -زُبْدَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَمَدَارُهَا-: يُنَزِّلُ اللهُ الْمَلَائِكَةَ بِالْوَحْيِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ: بِأَنْ خَوَّفُوا النَّاسَ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَنَّهُ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا أَنَا، فَاتَّقُونِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِفْرَادِي بِالْعِبَادَةِ، وَالْإِخْلَاصِ، قَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].

((ذَكَرَ -تَعَالَى- الْوَحْيَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ مِمَّا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِي ذِكْرِ مَا يُنْسَبُ للهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَقَالَ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} أَيْ: بِالْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْأَرْوَاحِ {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}: مِمَّنْ يَعْلَمُهُ صَالِحًا لِتَحَمُّلِ رِسَالَتِهِ.

وَزُبْدَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَمَدَارُهَا عَلَى قَوْلِهِ: {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} أَيْ: عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ -تَعَالَى- وَتَوَحُّدِهِ فِي صِفَاتِ الْعَظَمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَهِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ بِهَا كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَجَعَلَ الشَّرَائِعَ كُلَّهَا تَدْعُو إِلَيْهَا، وَتَحُثُّ وَتُجَاهِدُ مَنْ حَارَبَهَا وَقَامَ بِضِدِّهَا)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 10-14].

(({إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا}: هَذَا أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ؛ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدْنِي} أَيْ: وَحِّدْنِي، وَقُمْ بِعِبَادَتِي مِنْ غَيْرِ شَرِيكٍ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قِيلَ: مَعْنَاهُ: صَلِّ لِتَذْكُرَنِي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ ذِكْرِكَ لِي)).

وَقَالَ : قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي؛ تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

* كَلِمَةُ (أَنَا) وَإِعْلَامُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30].

((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}: فَأَخْبَرَ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَتَأَلُّهِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}))، {أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أَيِ: الَّذِي يُخَاطِبُكَ وَيُكَلِّمُكَ هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي ذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ -سُبْحَانَهُ-!)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9].

((أَخْبَرَهُ اللهُ أَنَّهُ اللهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}، {الْعَزِيزُ}: الَّذِي قَهَرَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَأَذْعَنَتْ لَهُ كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ، {الْحَكِيمُ}: فِي أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ، وَمِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ الَّذِي عَلِمَ اللهُ مِنْهُ أَنَّهُ أَهْلٌ لِرِسَالَتِهِ وَوَحْيِهِ وَتَكْلِيمِهِ، وَمِنْ عِزَّتِهِ أَنْ تَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، وَلَا تَسْتَوْحِشَ مِنَ انْفِرَادِكَ، وَكَثْرَةِ أَعْدَائِكَ وَجَبَرُوتِهِمْ؛ فَإِنَّ نَوَاصِيَهُمْ بِيَدِ اللهِ، وَحَرَكَاتِهِمْ وَسُكُونَهُمْ بِتَدْبِيرِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49].

(({نَبِّئْ عِبَادِي} أَيْ: أَخْبِرْهُمْ خَبَرًا جَازِمًا مُؤَيَّدًا بِالْأَدِلَّةِ {أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا عَرَفُوا كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ سَعَوْا فِي الْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ لَهُمْ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَأَقْلَعُوا عَنِ الذُّنُوبِ، وَتَابُوا مِنْهَا؛ لِيَنَالُوا مَغْفِرَتَهُ)).

((أَيْ : أَخْبِرْ -يَا مُحَمَّدُ- عِبَادِي أَنِّي ذُو رَحْمَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ)).

وَالْغَفُورُ: الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ فِي الْآخِرَةِ، وَيَتَجَاوَزُ عَنِ الْعُقُوبَةِ فِيهَا.

الرَّحِيمُ: ذُو الرَّحْمَةِ الْوَاصِلَةِ، الْمُوصِلُ رَحْمَتَهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت: 21] .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} [البقرة: 160].

(({التَّوَّابُ} أَيِ: الرَّجَّاعُ عَلَى عِبَادِهِ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ بَعْدَ الذَّنْبِ إِذَا تَابُوا، وَبِالْإِحْسَانِ وَالنِّعَمِ بَعْدَ الْمَنْعِ إِذَا رَجَعُوا، {الرَّحِيمُ}: الَّذِي اتَّصَفَ بِالرَّحْمَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَتَابُوا وَأَنَابُوا، ثُمَّ رَحِمَهُمْ بِأَنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لُطْفًا وَكَرَمًا، هَذَا حُكْمُ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ يَهُودِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: ((يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: ((أَنَا الْمَلِكُ)). فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67])).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لَهُ)).

فَفِي الْحَدِيثِ: قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((أَنَا الْمَلِكُ)): وَالْمَلِكُ: هُوَ التَّامُّ الْمُلْكِ، الْجَامِعُ لِأَصْنَافِ الْمَمْلُوكَاتِ، الْمُنْفَرِدُ بِالْمُلْكِ، لَا يَمْلِكُ الْخَلْقَ إِلَّا خَالِقُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 189].

* كَلِمَةُ (أَنَا) فِي بَيَانِ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- عِنْدَ يَقِينِ عَبْدِهِ لَهُ فِي الِاعْتِمَادِ عَلَى فَضْلِهِ، وَالِاسْتِيثَاقِ بِوَعْدِهِ، وَالرَّهْبَةِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، يُعْطِيهِ إِذَا سَأَلَهُ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُ إِذَا دَعَاهُ؛ فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).

(( كَلِمَةُ (أَنَا) هِدَايَةٌ وَنُورٌ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ))

لَقَدْ وَرَدَتْ كَلِمَةُ (أَنَا) عَلَى لِسَانِ بَعْضِ أَنْبِيَاءِ اللهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْهُدَى وَالرَّشَادِ؛ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ كَلِمَةُ هِدَايَةٍ وَنُورٍ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي بَيَانِهِ لِلتَّوْحِيدِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَحْذِيرِهِ مِنْهُ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].

(({إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} أَيْ: للهِ وَحْدَهُ، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُعْرِضًا عَمَّنْ سِوَاهُ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: فَتَبَرَّأَ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَذْعَنَ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ الْبُرْهَانَ)).

وَأَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- عَنْ مُخَاطَبَةِ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَوْمَهُ؛ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَلَى دَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ لِتَوْحِيدِ اللهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ مَالًا يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَلَكِنْ ثَوَابُ نُصْحِهِ لَهُمْ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۚ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29].

((هَذَا خَبَرٌ مِنَ اللهِ عَنْ قِيلِ نُوحٍ لِقَوْمِهِ، أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ! لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى نَصِيحَتِي لَكُمْ، وَدِعَايَتِكُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ {مَالًا}: أَجْرًا عَلَى ذَلِكَ، فَتَتَّهِمُونِي فِي نَصِيحَتِي، وَتَظُنُّونَ أَنَّ فِعْلِي ذَلِكَ طَلَبُ عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}: يَقُولُ: مَا ثَوَابُ نَصِيحَتِي لَكُمْ وَدِعَايَتِكُمْ إِلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا عَلَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجَازِينِي وَيُثِيبُنِي عَلَيْهِ))، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}: وَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ طَرْدَ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ، فَقَالَ لَهُمْ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: مَا يَنْبَغِي لِي وَلَا يَلِيقُ بِي ذَلِكَ، بَلْ أَتَلَقَّاهُمْ بِالرَّحْبِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْإِعْزَازِ وَالْإِعْظَامِ، {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}: فَمُثِيبُهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ.

{وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}: حَيْثُ تَأْمُرُونَنِي بِطَرْدِ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَإِبْعَادِهِمْ عَنِّي، وَحَيْثُ رَدَدْتُمُ الْحَقَّ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ، وَحَيْثُ اسْتَدْلَلْتُمْ عَلَى بُطْلَانِ الْحَقِّ بِقَوْلِكُمْ إِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ فَضْلٍ)).

وَجَاءَتْ كَلِمَةُ (أَنَا) عَلَى لِسَانِ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69].

((لَمَّا دَخَلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَلَى يُوسُفَ {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أَيْ: شَقِيقَهُ، وَهُوَ (بِنْيَامِين) الَّذِي أَمَرَهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِهِ، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِ إِخْوَتِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَ {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ} أَيْ: لَا تَحْزَنْ {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ خَيْرٌ لَنَا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

وَهَذَا شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَنْصَحُ قَوْمَهُ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ، قَالَ تَعَالَى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [هود: 86].

(({بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: يَكْفِيكُمْ مَا أَبْقَى اللهُ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا هُوَ لَكُمْ، فَلَا تَطْمَعُوا فِي أَمْرٍ لَكُمْ عَنْهُ غُنْيَةٌ، وَهُوَ ضَارٌّ لَكُمْ جِدًّا، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: فَاعْمَلُوا بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أَيْ: لَسْتُ بِحَافِظٍ لِأَعْمَالِكُمْ وَوَكِيلٍ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَحْفَظُهَا اللهُ -تَعَالَى-، وَأَمَّا أَنَا فَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ)).

((كَلِمَةُ (أَنَا) عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ هِدَايَةٌ وَنُورٌ))

لَقَدْ وَرَدَتْ كَلِمَةُ (أَنَا) كَثِيرًا عَلَى لِسَانِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى لِسَانِهِ ﷺ تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ، وَنُصْحٌ وَبَيَانٌ، وَهِدَايَةٌ وَنُورٌ.

* قَالَ نَبِيُّنَا ﷺ (أَنَا) مُبَيِّنًا طَرِيقَتَهُ وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ ﷺ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ عَلَى حُجَّةٍ مِنَ اللهِ وَيَقِينٍ أَنَا وَمَنِ اقْتَدَى بِي، مُنَزِّهًا اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَنِ الشُّرَكَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

((يَقُولُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {قُلْ} لِلنَّاسِ {هَذِهِ سَبِيلِي} أَيْ: طَرِيقِي الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا، وَهِيَ السَّبِيلُ الْمُوصِلَةُ إِلَى اللهِ وَإِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْعِلْمِ بِالْحَقِّ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِيثَارِهِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ للهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} أَيْ: أَحُثُّ الْخَلْقَ وَالْعِبَادَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى رَبِّهِمْ، وَأُرَغِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأُرَهِّبُهُمْ مِمَّا يُبْعِدُهُمْ عَنْهُ.

وَمَعَ هَذَا فَأَنَا {عَلَى بَصِيرَةٍ} مِنْ دِينِي، أَيْ: عَلَى عِلْمٍ وَيَقِينٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا امْتِرَاءٍ وَلَا مِرْيَةٍ، {وَ} كَذَلِكَ {مَنِ اتَّبَعَنِي} يَدْعُو إِلَى اللهِ كَمَا أَدْعُو عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ}: عَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، أَوْ يُنَافِي كَمَالَهُ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: فِي جَمِيعِ أُمُورِي، بَلْ أَعْبُدُ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)).

* وَتَكَلَّمَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ -أَيْضًا- بِكَلِمَةِ (أَنَا) مُعْلِنًا التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ الْتَزَمَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُحَذِّرًا مِنَ الشِّرْكِ وَمُنَفِّرًا مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {قُلْ}: يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تَتَّبِعَ أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ مِنْ عِبَادَةِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ))، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} أَيْ: ذَبْحِي؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْنِ وَفَضْلِهِمَا، وَدَلَالَتِهِمَا عَلَى مَحَبَّةِ اللهِ -تَعَالَى-، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ، وَالْجَوَارِحِ، وَبِالذَّبْحِ الَّذِي هُوَ بَذْلُ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ مِنَ الْمَالِ لِمَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهَا؛ وَهُوَ اللهُ -تَعَالَى-، وَمَنْ أَخْلَصَ فِي صَلَاتِهِ وَنُسُكِهِ؛ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ إِخْلَاصَهُ للهِ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ.

وَقَوْلُهُ: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أَيْ: مَا آتِيهِ فِي حَيَاتِي، وَمَا يُجْرِيهِ اللهُ عَلَيَّ، وَمَا يُقَدِّرُ عَلَيَّ فِي مَمَاتِي، الْجَمِيعُ {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {لَا شَرِيكَ لَهُ}: فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ، وَلَيْسَ هَذَا الْإِخْلَاصُ للهِ ابْتِدَاعًا مِنِّي، وَبِدْعًا أَتَيْتُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، بَلْ {بِذَلِكَ أُمِرْتُ}: أَمْرًا حَتْمًا، لَا أَخْرُجُ مِنَ التَّبِعَةِ إِلَّا بِامْتِثَالِهِ، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}: مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 66].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ -يَا مُحَمَّدُ- لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ: {إِنِّي نُهِيتُ}: أَيُّهَا الْقَوْمُ {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}: مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ، {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي}: لَمَّا جَاءَنِيَ الْآيَاتُ الْوَاضِحَاتُ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، وَذَلِكَ آيَاتُ كِتَابِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: وَأَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَذِلَّ لِرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكِ كُلِّ خَلْقٍ بِالْخُضُوعِ، وَأَخْضَعَ لَهُ بِالطَّاعَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ  عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

((يَقُولُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {قُلْ}: لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فَمَنْ زَعَمَ أَنِّي كَاذِبٌ فَلْيَأْتِ بِمِثْلِ مَا جِئْتُ بِهِ؛ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فِيمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْمَاضِي عَمَّا سَأَلْتُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مِمَّا هُوَ مُطَابِقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَوْلَا مَا أَطْلَعَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أُخْبِرُكُمْ {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ}: الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ {إِلَهٌ وَاحِدٌ}: لَا شَرِيكَ لَهُ، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أَيْ: ثَوَابَهُ وَجَزَاءَهُ الصَّالِحَ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}: مَا كَانَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللَّهِ، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: وَهُوَ الَّذِي يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذَانِ رُكْنَا الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ؛ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، صَوَابًا عَلَى شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ )).

* وَقَالَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ: (أَنَا) مُبَيِّنًا أَنَّ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِيَدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ، مُوَضِّحًا رِسَالَتَهُ وَمُهِمَّتَهُ أَنَّهُ رَسُولٌ يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ، وَيُخَوِّفُ مِنْ عِقَابِهِ، وَيُبَشِّرُ بِثَوَابِهِ، قَالَ تَعَالَى: {قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: قُلْ -يَا مُحَمَّدُ- لِسَائِلِيكَ عَنِ السَّاعَةِ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} {لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا}: لَا أَقْدِرُ عَلَى اجْتِلَابِ نَفْعٍ إِلَى نَفْسِي، وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ يَحِلُّ بِهَا عَنْهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَمْلِكَهُ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ يُقَوِّيَنِي عَلَيْهِ وَيُعِينَنِي، {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ}: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَا هُوَ كَائِنٌ مِمَّا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ {لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}: لَأَعْدَدْتُ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَيْرِ.. مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}: وَمَا مَسَّنِيَ الضُّرُّ، {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}: مَا أَنَا إِلَّا رَسُولٌ للهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، أُنْذِرُ عِقَابَهُ مَنْ عَصَاهُ مِنْكُمْ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، وَأُبَشِّرُ بِثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ مِنْكُمْ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}: يُصَدِّقُونَ بِأَنِّي للهِ رَسُولٌ، وَيُقِرُّونَ بِحَقِّيَّةِ مَا جِئْتُهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89].

((قُمْ بِمَا عَلَيْكَ مِنَ النِّذَارَةِ، وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَالتَّبْلِيغِ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} [يونس: 108].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: {قُلْ} -يَا مُحَمَّدُ- لِلنَّاسِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ} يَعْنِي: كِتَابَ اللهِ، فِيهِ بَيَانُ كُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، {فَمَنِ اهْتَدَىٰ}: فَمَنِ اسْتَقَامَ فَسَلَكَ سَبِيلَ الْحَقِّ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنَ الْبَيَانِ؛ {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}: فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى الْهُدَى، وَيَسْلُكُ قَصْدَ السَّبِيلِ لِنَفْسِهِ، فَإِيَّاهَا يَبْغِي الْخَيْرَ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، لَا غَيْرَهَا، {وَمَنْ ضَلَّ}: وَمَنِ اعْوَجَّ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَتَاهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَخَالَفَ دِينَهُ وَمَا بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا، وَالْكِتَابَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ؛ {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}: فَإِنَّ ضَلَالَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجْنِي بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، لَا عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِذَلِكَ غَيْرُهَا، وَلَا يُورَدُ بِضَلَالِهِ ذَلِكَ الْمَهَالِكَ سِوَى نَفْسِهِ، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [فاطر: 18]، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِمُسَلَّطٍ عَلَى تَقْوِيمِكُمْ، إِنَّمَا أَمْرُكُمْ إِلَى اللهِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَوِّمُ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ مُبَلِّغٌ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ)).

* وَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَلِمَةِ (أَنَا) فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ؛ مُبَيِّنًا خَصَائِصَهُ، وَمُوَضِّحًا أُصُولًا عَظِيمَةً أَرْسَلَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِهَا، فِيهَا الْهِدَايَةُ وَالنُّورُ، وَالرَّشَادُ وَالْفَلَاحُ، وَالْفَوْزُ وَالنَّجَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

- تَحَدَّثَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

- وَتَحَدَّثَ ﷺ عَنْ أَسْمَائِهِ الشَّرِيفَةِ؛ فَقَالَ ﷺ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي -وَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبِ، وَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِلْأَنْبِيَاءِ-، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

 - وَتَحَدَّثَ ﷺ عَنْ خَصَائِصِهِ الَّتِي اخْتَصَّهُ اللهُ بِهَا.. وَقَدْ خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ أَفْرَدَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّصْنِيفِ، وَكَذَا خَصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالْكَثِيرِ مِنَ الْخَصَائِصِ.

وَقَدْ وَرَدَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ تُصَرِّحُ بِعُلُوِّ مَنْزِلَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَأَنَّهُ أَعْلَى النَّاسِ قَدْرًا، وَأَعْظَمُهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ مَحَاسِنًا وَفَضْلًا، وَأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَكْرَمَهُ بِخَصَائِصَ لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، فَضْلًا عَنْ سَائِرِ الْبَشَرِ.

- مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي تَحَدَّثَ عَنْهَا نَبِيُّنَا ﷺ بِلَفْظَةِ (أَنَا): أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ الْعَرْضِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَفَزَعِ النَّاسِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، قَالَ ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، «فَيَقُولُ عِيسَى: اذهْبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا ﷺ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ...». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَمِنْ خَصَائِصِهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- جَعَلَهُ رَحْمَةً مُهْدَاةً؛ فَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ رَحْمَةً لِلْخَلَائِقِ عَامَّةً؛ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَإِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ، وَجَعَلَهُ رَؤُوفًا رَحِيمًا بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً، فَمَنْ قَبِلَ الرَّحْمَةَ وَشَكَرَ النِّعْمَةَ سَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدَّهَا وَجَحَدَهَا خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ». وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ)) وَقَالَ: ((صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا)) وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَهُمَا غَيْرُهُمَا.

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَ((الْمُقَفِّي)): الْمُوَلِّي الذَّاهِبُ، يَعْنِي: أَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ يَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-.

- وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا لِذَاتِهِ فِي الدُّنْيَا: أَنْ جَعَلَهُ أَمَنَةً لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ فَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَجَعَلَ وُجُودَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَمَنَةً لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ؛ بِخِلَافِ مَا حَصَلَ لِبَعْضِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، حَيْثُ عُذِّبُوا فِي حَيَاةِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَكَانَ ﷺ أَمَنَةً لِأَصْحَابِهِ كَذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ، وَالْحُرُوبِ، وَارْتِدَادِ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أُنْذِرَ بِهِ صَرِيحًا، وَوَقَعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ، قَالَ: فَجَلَسْنَا فَخَرَجَ عَلَيْنَا)).

فَقَالَ: «مَا زِلْتُمْ هَاهُنَا؟».

قُلْنَا: ((يَا رَسُولَ اللهِ! صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ)).

قَالَ: «أَحْسَنْتُمْ، أَوْ أَصَبْتُمْ».

قَالَ: ((فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(( (أَنَا) وَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ وَالتَّوَاضُعُ لِلرَّبِّ))

إِنَّ مِنْ أَجَلِّ وَأَعْظَمِ حَالَاتِ قَوْلِ (أَنَا): عِنْدَ التَّوَاضُعِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْخُضُوعِ لَهُ -سُبْحَانَهُ-، وَالِافْتِقَارِ لَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَالِاعْتِرَافِ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالذَّنْبِ وَالْعَيْبِ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَأَحْسَنُ مَا وُضِعَتْ (أَنَا) فِي قَوْلِ الْعَبْدِ: ((أَنَا الْعَبْدُ الْمُذْنِبُ، الْمُخْطِئُ، الْمُسْتَغْفِرُ، الْمُعْتَرِفُ)).

((الرَّبُّ -تَعَالَى- هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ، الَّذِي كُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ؛ فَهُوَ الْغَنِيُّ الَّذِي غِنَاهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدٌ لَهُ، مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، مُصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِ، لَوْ أَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ عِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، قَالَ تَعَالَى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17].

فَلَهُ الْغِنَى الْكَامِلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَاللهُ -سُبْحَانَهُ- يُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُمْ إِلَيْهِ، وَشِدَّةَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَنَّهُمْ لَا غِنَى لَهُمْ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَذْكُرُ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَعَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْغَنِيُّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ أَحَدٌ ذَرَّةً مِنَ الْخَيْرِ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا ذَرَّةً مِنَ الشَّرِّ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ)).

(({يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].

بَيَّنَ -سُبْحَانَهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ فَقْرَ الْعِبَادِ إِلَيْهِ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُمْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمْ، كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيدًا أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، فَغِنَاهُ وَحَمْدُهُ ثَابِتٌ لَهُ لِذَاتِهِ، لَا لِأَمْرٍ أَوْجَبَهُ، وَفَقْرُ مَنْ سِوَاهُ إِلَيْهِ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ لِذَاتِهِ، لَا لِأَمْرٍ أَوْجَبَهُ، فَلَا يُعَلَّلُ هَذَا الْفَقْرُ بِحُدُوثٍ وَلَا إِمْكَانٍ، بَلْ هُوَ ذَاتِيٌّ لِلْفَقِيرِ، فَحَاجَةُ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ لِذَاتِهِ، لَا لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ تِلْكَ الْحَاجَةَ، كَمَا أَنَّ غِنَى الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ- لِذَاتِهِ، لَا لِأَمْرٍ أَوْجَبَ غِنَاهُ، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-:

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدا                 =        كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي

فَالْخَلْقُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إِلَى رَبِّهِ بِالذَّاتِ لَا بِعِلَّةٍ -بِالذَّاتِ لَا بِعِلَّةٍ، الْخَلْقُ فَقِيرٌ إِلَى اللهِ بِالذَّاتِ-، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- غَنِيٌّ بِذَاتِهِ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- أَخْبَرَ عَنْ حَقِيقَةِ الْعِبَادِ وَذَوَاتِهِمْ بِأَنَّهَا فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَحَقِيقَتِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، فَالْفَقْرُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَابِتٌ لِذَوَاتِهِمْ وَحَقَائِقِهِمْ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ثَابِتٌ لِذَاتِهِ -تَعَالَى- وَحَقِيقَتِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِلَّا فَقِيرًا، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ -تَعَالَى- إِلَّا غَنِيًّا، كَمَا أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِلَّا عَبْدًا، وَالرَّبُّ إِلَّا رَبًّا.

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْفَقْرُ فَقْرَانِ:

* فَقْرٌ اضْطِرَارِيٌّ، وَهُوَ فَقْرٌ عَامٌّ، لَا خُرُوجَ لِبَرٍّ وَلَا فَاجِرٍ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي مَدْحًا وَلَا ذَمًّا، وَلَا ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِ الْمَخْلُوقِ مَخْلُوقًا وَمَصْنُوعًا.

* وَالْفَقْرُ الثَّانِي: فَقْرٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَهُوَ نَتِيجَةُ عِلْمَيْنِ شَرِيفَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ.

وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ.

فَمَتَى حَصَلَتْ لَهُ هَاتَانِ الْمَعْرِفَتَانِ أَنْتَجَتَا لَهُ فَقْرًا هُوَ عَيْنُ غِنَاهُ، وَعُنْوَانُ فَلَاحِهِ وَسَعَادَتِهِ.

وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي هَذَا الْفَقْرِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَعْرِفَتَيْنِ.

فَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْغِنَى الْمُطْلَقِ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ الْمُطْلَقِ!

وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْعَجْزِ التَّامِّ!

وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِزِّ التَّامِّ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْمَسْكَنَةِ التَّامَّةِ!

وَمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بِالْعِلْمِ التَّامِّ وَالْحِكْمَةِ عَرَفَ نَفْسَهُ بِالْجَهْلِ؛ فَاللهُ -تَعَالَى- أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى عَطَاءٍ وَلَا مَنْعٍ، وَلَا ضَرٍّ وَلَا نَفْعٍ، وَلَا شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، فَكَانَ فَقْرُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ إِلَى مَا بِهِ كَمَالُهُ أَمْرًا مَشْهُودًا مَحْسُوسًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَمَا بِالذَّاتِ دَائِمٌ بِدَوَامِهَا، وَهُوَ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ الْغِنَى، بَلْ لَمْ يَزَلْ عَبْدًا فَقِيرًا بِذَاتِهِ إِلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ.

فَلَمَّا أَسْبَغَ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِ رَحْمَتَهُ، وَسَاقَ إِلَيْهِ أَسْبَابَ كَمَالِهِ وَوُجُودِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ مَلَابِسَ إِنْعَامِهِ، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَعَلَّمَهُ وَأَقْدَرَهُ، وَصَرَّفَهُ وَحَرَّكَهُ، وَمَكَّنَهُ مِنِ اسْتِخْدَامِ بَنِي جِنْسِهِ، وَسَخَّرَ لَهُ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَسَلَّطَهُ عَلَى دَوَابِّ الْمَاءِ، وَاسْتِنْزَالِ الطَّيْرِ مِنَ الْهَوَاءِ، وَقَهْرِ الْوُحُوشِ الْعَادِيَةِ، وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَشَقِّ الْأَرْضِ، وَتَعْلِيَةِ الْبِنَاءِ، وَالتَّحَيُّلِ عَلَى جَمِيعِ مَصَالِحِهِ، وَالتَّحَرُّزِ وَالتَّحَفُّظِ مِمَّا يُؤْذِيهِ؛ ظَنَّ الْمِسْكِينُ أَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنَ الْمُلْكِ، وَادَّعَى لِنَفْسِهِ مُلْكًا مَعَ اللهِ -تَعَالَى-، وَرَأَى نَفْسَهُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْعَيْنِ الْأُولَى، وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَالَةِ الْإِعْدَامِ وَالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ؛ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ ذَلِكَ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجَ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ شَخْصًا آخَرَ سِوَاهُ، كَمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ)) مِنْ حَدِيثِ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ الْقُرَشِيِّ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ، فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: ((قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: يَا ابْنَ آدَمَ! أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟!)). أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي ((الطَّبَقَاتِ))، وَأَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْبُخَارِيُّ فِي ((التَّارِيخِ الْكَبِيرِ))، وَابْنُ مَاجَه، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَمِنْ هُنَا خُذِلَ مَنْ خُذِلَ، وَوُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فَحُجِبَ الْمَخْذُولُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَنَسِيَ نَفْسَهُ، فَنَسِيَ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، فَطَغَى وَبَغَى، وَعَدَى وَتَعَتَّى وَتَكَبَّرَ فَحَقَّتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ، قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} [العلق: 6-7].

وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ} [الليل: 5-10].

فَأَكْمَلُ الْخَلْقِ أَكْمَلُهُمْ عُبُودِيَّةً، وَأَعْظَمُهُمْ شُهُودًا لِفَقْرِهِ وَضَرُورَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَذُلِّهِ إِلَى رَبِّهِ، وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ؛ لِهَذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ سَيِّدِ الْخَلْقِ ﷺ: ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ)).

وَكَانَ يَدْعُو: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، يَعْلَمُ أَنَّ قَلْبَهُ بِيَدِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لَا يَمْلِكُ هُوَ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَنَّ اللهَ يُصَرِّفُهُ كَمَا يَشَاءُ، كَيْفَ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: { وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]؟!

فَضَرُورَتُهُ ﷺ إِلَى رَبِّهِ وَفَاقَتُهُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْهُ، وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَهَذَا أَمْرٌ إِنَّمَا بَدَا مِنْهُ لِمَنْ بَعْدَهُ مَا يَرْشَحُ مِنْ ظَاهِرِ الْوِعَاءِ)).

((كَلِمَةُ (أَنَا) فِي حَالَاتٍ تَكُونُ نَارًا وَهَلَاكًا!))

إِنَّ كَلِمَةَ (أَنَا) رُبَّمَا قِيلَتْ فِي أَحْوَالٍ كَانَتْ عَلَى قَائِلِيهَا وَبَالًا وَهَلَاكًا، وَأَعْتَى مَنْ قَالَ (أَنَا) الْمُهْلِكَةَ: إِبْلِيسُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].

((أَمَرَ اللهُ الْمَلَائِكَةَ الْكِرَامَ أَنْ يَسْجُدُوا لِآدَمَ؛ إِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا، وَإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ، فَامْتَثَلُوا أَمْرَ رَبِّهِمْ، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ؛ إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ؛ تَكَبُّرًا عَلَيْهِ، وَإِعْجَابًا بِنَفْسِهِ، فَوَبَّخَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَيْ: شَرَّفْتُهُ وَفَضَّلْتُهُ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، فَعَصَيْتَ أَمْرِي، وَتَهَاوَنْتَ بِي؟!

قَالَ إِبْلِيسُ مُعَارِضًا لِرَبِّهِ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، ثُمَّ بَرْهَنَ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.

وَمُوجِبُ هَذَا أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنْ نَارٍ أَفْضَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنْ طِينٍ؛ لِعُلُوِّ النَّارِ عَلَى الطِّينِ وَصُعُودِهَا، وَهَذَا الْقِيَاسُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْيِسَةِ؛ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ:

مِنْهَا: أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَالْقِيَاسُ إِذَا عَارَضَ النَّصَّ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَصٌّ يُقَارِبُ الْأُمُورَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ تَابِعًا لَهَا، فَأَمَّا قِيَاسٌ يُعَارِضُهَا، وَيَلْزَمُ مِنَ اعْتِبَارِهِ إِلْغَاءُ النُّصُوصِ؛ فَهَذَا الْقِيَاسُ مِنْ أَشْنَعِ الْأَقْيِسَةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} بِمُجَرَّدِهَا كَافِيَةٌ لِنَقْصِ إِبْلِيسَ الْخَبِيثِ؛ فَإِنَّهُ بَرْهَنَ عَلَى نَقْصِهِ بِإِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ وَتَكَبُّرِهِ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَأَيُّ نَقْصٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟!

وَمِنْهَا: أَنَّهُ كَذَبَ فِي تَفْضِيلِ مَادَّةِ النَّارِ عَلَى مَادَّةِ الطِّينِ وَالتُّرَابِ؛ فَإِنَّ مَادَّةَ الطِّينِ فِيهَا الْخُشُوعُ وَالسُّكُونُ وَالرَّزَانَةُ، وَمِنْهَا تَظْهَرُ بَرَكَاتُ الْأَرْضِ مِنَ الْأَشْجَارِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ، وَأَمَّا النَّارُ فَفِيهَا الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْإِحْرَاقُ)).

وَمِنْ حَالَاتِ كَلِمَةِ (أَنَا) الْمُهْلِكَةِ الْمُدَمِّرَةِ: إِنْكَارُ رُبُوبِيَّةِ اللهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَادِّعَاءُ الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وَالْمَلِكُ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ تَعَالَى: {اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ} [النازعات: 17].. إِلَى أَنْ قَالَ: {فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ (22) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ} [النازعات: 21-26].

((فَجَمَعَ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ وَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الَّذِي لَا رَبَّ فَوْقَهُ؛ فَانْتَقَمَ اللهُ مِنْهُ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَعَلَهُ عِبْرَةً وَنَكَالًا لِأَمْثَالِهِ مِنَ الْمُتَمَرِّدِينَ؛ إِنَّ فِي فِرْعَوْنَ وَمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمَوْعِظَةً لِمَنْ يَتَّعِظُ وَيَنْزَجِرُ)).

وَادَّعَى النُّمْرُودُ -مُجَادِلًا إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-- الرُّبُوبِيَّةَ بِأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ بِقَوْلِهِ: (أَنَا) أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].

((يَقُصُّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ وَالسَّالِفِينَ مَا بِهِ تَتَبَيَّنُ الْحَقَائِقُ، وَتَقُومُ الْبَرَاهِينُ الْمُتَنَوِّعَةُ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَأَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ ﷺ؛ حَيْثُ حَاجَّ هَذَا الْمَلِكَ الْجَبَّارَ، وَهُوَ نُمْرُودُ الْبَابِلِيُّ الْمُعَطِّلُ الْمُنْكِرُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَانْتُدِبَ لِمُقَاوَمَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمُحَاجَّتِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ شَكًّا وَلَا إِشْكَالًا وَلَا رَيْبًا، وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَرُبُوبِيَّتُهُ الَّذِي هُوَ أَجْلَى الْأُمُورِ وَأَوْضَحُهَا؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ غَرَّهُ مُلْكُهُ وَأَطْغَاهُ؛ حَتَّى وَصَلَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ نَفَاهُ، وَحَاجَّ إِبْرَاهِيمَ الرَّسُولَ الْعَظِيمَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ مَا لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنَ الرُّسُلِ سِوَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ مُنَاظِرًا لَهُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ: هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، فَذَكَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ أَظْهَرَهَا، وَهُوَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ، فَقَالَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ مُبَاهِتًا: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}: وَعَنَى بِذَلِكَ أَنِّي أَقْتُلُ مَنْ أَرَدْتُ قَتْلَهُ، وَأَسْتَبْقِي مَنْ أَرَدْتُ اسْتِبْقَاءَهُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا تَمْوِيهٌ وَتَزْوِيرٌ وَحَيْدَةٌ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِإِيجَادِ الْحَيَاةِ فِي الْمَعْدُومَاتِ، وَرَدِّهَا عَلَى الْأَمْوَاتِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمِيتُ الْعِبَادَ وَالْحَيَوَانَاتِ بِآجَالِهَا، بِأَسْبَابِ رَبْطِهَا، وَبِغَيْرِ أَسْبَابٍ.

فَلَمَّا رَآهُ الْخَلِيلُ مُمَوِّهًا تَمْوِيهًا رُبَّمَا رَاجَ عَلَى الْهَمَجِ الرَّعَاعِ؛ قَالَ إِبْرَاهِيمُ -مُلْزِمًا لَهُ بِتَصْدِيقِ قَوْلِهِ إِنْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُ-: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أَيْ: وَقَفَ، وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ، وَاضْمَحَلَّتْ شُبْهَتُهُ.

وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْخَلِيلِ انْتِقَالًا مِنْ دَلِيلٍ إِلَى آخَرَ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْزَامٌ لِنُمْرُودَ، بِطَرْدِ دَلِيلِهِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَأَتَى بِهَذَا الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّرْوِيجَ وَالتَّزْوِيرَ وَالتَّمْوِيهَ، فَجَمِيعُ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْفِطْرِيَّةِ قَدْ قَامَتْ شَاهِدَةً بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، مُعْتَرِفَةً بِانْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَنَّ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ، وَجَمِيعُ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ مُمَاثِلٌ لِهَذَا الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، فَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ)).

وَأَهْلَكَتْ كَلِمَةُ (أَنَا) حَدَائِقَ وَثَمَرَ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ الَّذِي قَالَ: (أَنَا)؛ فَخْرًا وَاسْتِكْبَارًا وَجُحُودًا، قَالَ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا}.. {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف: 32-43].

((يَقُولُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ ﷺ: اضْرِبْ لِلنَّاسِ مَثَلَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ الشَّاكِرِ لِنِعْمَةِ اللهِ، وَالْكَافِرِ لَهَا، وَمَا صَدَرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَمَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْعِقَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَالثَّوَابِ؛ لِيَعْتَبِرُوا بِحَالِهِمَا، وَيَتَّعِظُوا بِمَا حَصَلَ عَلَيْهِمَا.

أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْكَافِرُ لِنِعْمَةِ اللهِ الْجَلِيلَةِ جَعَلَ اللهُ لَهُ جَنَّتَيْنِ، أَيْ: بُسْتَانَيْنِ حَسَنَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أَيْ: فِي هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.

قَالَ صَاحِبُ الْجَنَّتَيْنِ لِصَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ وَهُمَا يَتَحَاوَرَانِ، أَيْ: يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْمَاجْرِيَاتِ الْمُعْتَادَةِ؛ مُفْتَخِرًا عَلَيْهِ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا}: فَخْرٌ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، وَعِزَّةِ أَنْصَارِهِ مِنْ عَبِيدٍ وَخَدَمٍ وَأَقَارِبَ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ؛ وَإِلَّا فَأَيُّ افْتِخَارٍ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ لَيْسَ فِيهِ فَضِيلَةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَلَا صِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلِهِ فَخْرِ الصَّبِيِّ بِالْأَمَانِيِّ الَّتِي لَا حَقَائِقَ تَحْتَهَا.

ثُمَّ لَمْ يَكْفِهِ هَذَا الِافْتِخَارُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى حَكَمَ بِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، وَظَنَّ لَمَّا دَخَلَ جَنَّتَهُ فَـ {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ} أَيْ: تَنْقَطِعُ وَتَضْمَحِلُّ هَذِهِ أَبَدًا، فَاطْمَأَنَّ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا، وَرَضِيَ بِهَا، وَأَنْكَرَ الْبَعْثَ، فَقَالَ: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي}: عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ {لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} أَيْ: لَيُعْطِيَنِّي خَيْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَيَكُونُ زِيَادَةَ كُفْرٍ إِلَى كُفْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا ظَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَكُونُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ، وَأَبْخَسِهِمْ حَظًّا مِنَ الْعَقْلِ؛ فَأَيُّ تَلَازُمٍ بَيْنَ عَطَاءِ الدُّنْيَا وَعَطَاءِ الْآخِرَةِ حَتَّى يَظُنَّ بِجَهْلِهِ أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا أُعْطِيَ فِي الْآخِرَةِ؟! بَلِ الْغَالِبُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَزْوِي الدُّنْيَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ، وَيُوَسِّعُهَا عَلَى أَعْدَائِهِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحَالِ؛ وَلَكِنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}: فَإِثْبَاتُ أَنَّ وَصْفَهُ الظُّلْمُ فِي حَالِ دُخُولِهِ -الَّذِي جَرَى مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ مَا جَرَى- يَدُلُّ عَلَى تَمَرُّدِهِ وَعِنَادِهِ.

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أَيْ: أَصَابَهُ عَذَابٌ أَحَاطَ بِهِ وَاسْتَهْلَكَهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْإِحَاطَةُ بِالثَّمَرِ يَسْتَلْزِمُ تَلَفَ جَمِيعِ أَشْجَارِهِ وَثِمَارِهِ وَزَرْعِهِ، فَنَدِمَ كُلَّ النَّدَامَةِ، وَاشْتَدَّ لِذَلِكَ أَسَفُهُ، {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أَيْ: عَلَى كَثْرَةِ نَفَقَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهَا؛ حَيْثُ اضْمَحَلَّتْ وَتَلَاشَتْ، فَلَمْ يَبْقَ لَهَا عِوَضٌ، وَنَدِمَ -أَيْضًا- عَلَى شِرْكِهِ وَشَرِّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} أَيْ: لَمَّا نَزَلَ الْعَذَابُ بِجَنَّتِهِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا كَانَ يَفْتَخِرُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ لِصَاحِبِهِ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا}، فَلَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا أَشَدَّ مَا كَانَ إِلَيْهِمْ حَاجَةً، وَمَا كَانَ بِنَفْسِهِ مُنْتَصِرًا، وَكَيْفَ يَنْتَصِرُ؛ أَيْ: يَكُونُ لَهُ أَنْصَارٌ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ الَّذِي إِذَا أَمْضَاهُ وَقَدَّرَهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى إِزَالَةِ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يَقْدِرُوا؟!

وَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْجَنَّةِ -الَّتِي أُحِيطَ بِهَا- تَحَسَّنَتْ حَالُهُ، وَرَزَقَهُ اللَّهُ الْإِنَابَةَ إِلَيْهِ، وَرَاجَعَ رُشْدَهُ، وَذَهَبَ تَمَرُّدُهُ وَطُغْيَانُهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَظْهَرَ النَّدَمَ عَلَى شِرْكِهِ بِرَبِّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْهُ مَا يُطْغِيهِ، وَعَاقَبَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا،  وَفَضْلُ اللَّهِ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَوْهَامُ وَالْعُقُولُ، وَلَا يُنْكِرُهُ إِلَّا ظَالِمٌ جَهُولٌ)).

(( (أَنَا) وَالْكِبْرُ طَرِيقُ الْهَلَاكِ وَالضَّلَالِ))

إِنَّ كَلِمَةَ (أَنَا) عِنْدَمَا تُقَالُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِكْبَارِ وَالِاسْتِعْلَاءِ؛ فَإِنَّهَا تُهْلِكُ صَاحِبَهَا، وَتُورِدُهُ سُبُلَ الرَّدَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 11-13].

((قَالَ -تَعَالَى- مُنْكِرًا عَلَى إِبْلِيسَ تَرْكَ السُّجُودِ: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟! فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَفْضَلُ مِنْهُ خَلْقًا؛ لِأَنِّي مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ طِينٍ؛ فَرَأَى أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ.

قَالَ اللهُ لِإِبْلِيسَ: فَاهْبِطْ مِنَ الْجَنَّةِ؛ فَمَا يَصِحُّ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، فَاخْرُجْ مِنَ الْجَنَّةِ؛ إِنَّكَ مِنَ الذَّلِيلِينَ الْحَقِيرِينَ)).

الْكِبْرُ عَوَاقِبُهُ وَخِيمَةٌ، وَرُبَّمَا أَوْرَدَتْ كَلِمَةُ (أَنَا) اسْتِعْلَاءً وَكِبْرًا صَاحِبَهَا سُبُلَ الْهَلَاكِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

فَقَالَ رَجُلٌ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَعَرَّفَهُ، وَحَدَّدَهُ؛ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَهُ، وَأَنْ يَحْذَرَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يُسَامِحُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ؛ لَنْ يُدْخِلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَ((مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)): شَيْءٌ يَسِيرٌ، شَيْءٌ قَلِيلٌ، شَيْءٌ لَا وَزْنَ لَهُ؛ وَلَكِنَّهُ إِنْ دَخَلَ الْقَلْبَ أَفْسَدَهُ، وَاسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ النَّارَ.

((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).

اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْأَمْرَ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَأَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً))، فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُفَسِّرًا، وَمُوَضِّحًا، وَمُبَيِّنًا: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) يَعْنِي: هَذَا لَيْسَ مِنَ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا إِنْ قُصِدَ بِهِ أَنْ يَعْلُوَ النَّاسُ بِهِ النَّاسَ، فَمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اسْتَكْبَرَ بِهِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحِبُّهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ جَمِيلًا مَقْبُولًا فِي غَيْرِ مَا إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ، وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَلَا عُجْبٍ؛ فَهَذَا لَا شَيْءَ فِيهِ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

((بَطَرُ الْحَقِّ)): دَفْعُهُ، وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهِ؛ إِمَّا لِاخْتِلَافِ مَذْهَبِهِ، وَإِمَّا لِصِغَرِ سِنِّهِ، وَإِمَّا لِحَقَارَةِ أَصْلِهِ، وَإِمَّا لِفَقْرِهِ، الْمُهِمُّ أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ.

رَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمَأْمُونُ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَانَ فَقِيرًا، وَلِأَنَّهُ ﷺ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَشْيَاخِهِمْ صَغِيرًا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف: 31]، لَيْسَ إِلَّا هَذَا؟! هُوَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ!!

يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُمُ الَّذِينَ وَصَفُوهُ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، فَرَدُّوا الْحَقَّ عَلَيْهِ.

رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ مُهْلِكٌ، وَالنَّاسُ فِي رَدِّ الْحَقِّ طَبَقَاتٌ:

* مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَكْبِرُ عَلَى الْحَقِّ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهُ.

أَبُو جَهْلٍ وَقَدْ حَارَبَ الرَّسُولَ ﷺ حَرْبَهُ، فَلَمَّا مَكَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْهُ فِي بَدْرٍ -وَكَانَ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ-؛ جَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا رَآهُ مُجَنْدَلًا وَفِيهِ حَيَاةٌ قَالَ: ((عَدُوُّ اللهِ أَبُو جَهْلٍ!))، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي بَدَنِهِ قِلَّةٌ، لَمَّا رَآهُ الْأَصْحَابُ يَوْمًا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِسِوَاكٍ مِنْ شَجَرَةِ أَرَاكٍ، فَانْكَشَفَتْ رِجْلُهُ، انْكَشَفَتْ سَاقُهُ، فَضَحِكَ الْأَصْحَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((تَضْحَكُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، وَحُمُوشَةِ رِجْلَيْهِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُمَا لَأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ)).

فَلَمَّا وَجَدَ أَبَا جَهْلٍ فِي تِلْكَ الْحَالِ؛ صَعِدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ -سَيْفَ نَفْسِهِ-، وَأَرَادَ أَنْ يَحْتَزَّ عُنُقَهُ؛ لِيَأْتِيَ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَمَّا أَنْ قَعَدَ عَلَى صَدْرِ أَبِي جَهْلٍ؛ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ!!)).

كِبْرُهُ لَا يُفَارِقُهُ؛ حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالِ!!

كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا الْآنَ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، لَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ، وَأَعَزَّهُ، وَأَعَزَّ دِينَهُ...؛ وَلَكِنْ.. كِبْرُهُ لَا يُفَارِقُهُ إِلَّا بِطُلُوعِ رُوحِهِ!! ((لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ!!))، ثُمَّ لَمْ يَرْتَضِ لِنَفْسِهِ أَنْ يُذْبَحَ بِسَيْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: ((أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ؛ خُذْ سَيْفِي فَاحْتَزَّ بِهِ رَقَبَتِي!!))، فَكَانَ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)).

إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ الْحَقُّ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَتَّبِعَهُ، لَا تَنْظُرْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ، وَلَا الْأَجْدَادُ، وَلَا مَا نَشَأْتَ عَلَيْهِ فِي بِيئَتِكَ، وَلَا مَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يُجْمِعُونَ عَلَى الْخَطَأِ وَالْبَاطِلِ، لَا عَلَى الصَّوَابِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ بَعَثَهُ اللهُ فِي قَوْمٍ مُشْرِكِينَ، يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَيُقَدِّسُونَ الْأَصْنَامَ، وَيَكْفُرُونَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيُشْرِكُونَ بِهِ، وَكَانُوا مُطْبِقِينَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّ الرَّأْيَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي عَلَى صَوَابٍ؟!!

كَانَ الرَّأْيُ الْعَامُّ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ!!

وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ؛ فَكَانُوا قِلَّةً، وَأَمَّا الَّذِينَ تَعَلَّمُوا عِلْمَ الْكِتَابِ السَّابِقِ -كَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ-؛ فَكَانُوا لَا يُعَدُّونَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ مِنْ قِلَّتِهِمْ.

فَهَلْ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ لِهَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِحُجَّتِهِمْ: نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا -أَيْ: مَا وَجَدْنَا- عَلَيْهِ آبَاءَنَا؟! هَلَ سَلَّمَ لَهُمْ؟! كَانَ آبَاؤُهُمْ مُشْرِكِينَ، كَانُوا جَهَلَةً كَافِرِينَ.

فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَتَجَرَّدَ، وَقَدْ دَعَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى ذَلِكَ، نَبِيُّكُمْ رَسُولُ اللهِ، خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، هُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ؛ لَمَّا أَنْ حَارَبُوهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ؛ كَانَتْ أَمَانَاتُهُمْ عِنْدَهُ، يَأْتَمِنُونَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيَثِقُونَ فِي عَقْلِهِ؛ وَلَكِنْ لَا يُسَلِّمُونَ لَهُ فِي دِينِهِ، يَقُولُونَ: يَعِيبُ آلِهَتَنَا وَدِينَ آبَائِنَا، وَيُسَفِّهُ حُلُومَنَا وَحُلُومَ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا!!

كِبْرٌ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّسُولُ ﷺ عِنْدَهُمْ هُوَ الصَّادِقُ الْأَمِينُ، مَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ، كَمَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ: ذَلِكَ رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا أَتَى بِهِ بِالصَّادِقِ الْأَمِينِ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمَّا أَتَاهُمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ، كَذَّبُوهُ؛ لِلْعَصَبِيَّةِ: أَنَتْبَعُ هَذَا؟! أَنَسِيرُ وَرَاءَهُ؟! مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَاتِ فِي عِنَادِهِمْ، وَكِبْرِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ.

نَصَحَهُمُ اللهُ؛ لِأَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ هَذِهِ النَّصِيحَةَ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46]، هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ!! تَقُولُونَ: مَجْنُونٌ!! لَقَدْ ظَلَّ فِيكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَكُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ الْحَكِيمُ فِيكُمْ، وَهُوَ الصَّادِقُ وَالْأَمِينُ؛ فَمَا الَّذِي جَدَّ؟!!

النَّبِيُّ ﷺ.. عَانَدُوهُ، وَحَارَبُوهُ، فَاحْذَرْ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي الْكِبْرِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ.

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ)): إِيَّاكَ أَنْ تَدْفَعَ الْحَقَّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ، إِذَا تَبَيَّنَ لَكَ الْحَقُّ -مِنْ: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ-، إِذَا رَدَدْتَهُ؛ فَأَنْتَ عَلَى خَطَرٍ كَبِيرٍ، لَا تَرُدُّهُ إِلَّا كِبْرًا!!

((الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)): احْتِقَارُهُمْ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِمْ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ، وَعَدُّهُمْ هَبَاءً لَا قِيمَةَ لَهُمْ، وَمَا يَعْلَمُ التَّقِيَّ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا اللهُ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ الْإِكْرَامُ عِنْدَ اللهِ: تَقْوَى اللهِ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ.. يَنْصَحُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، وَكَفَرُوا بِهِ، وَعَانَدُوهُ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى}؛ دَعُوكُمْ مِنَ الْجَمْعِ، لَا تُفَكِّرُوا فِي جَمَاعَةٍ؛ فَإِنَّ التَّفْكِيرَ الْجَمَاعِيَّ تَفْكِيرٌ كَتَفْكِيرِ الْقَطِيعِ.

وَأَنْتَ تَجِدُ الْقَطِيعَ يَسِيرُ لَا يَدْرِي إِلَى أَيْنَ يَسِيرُ!! وَإِنَّمَا حَيْثُ يَقُودُهُ قَائِدُهُ، مِنَ الْأَنْعَامِ، مِنَ التُّيُوسِ، أَوْ مِنَ الْحَمِيرِ، أَوِ الْبِغَالِ!! هُوَ قَطِيعٌ يَسِيرُ!!

لَا تُفَكِّرْ تَفْكِيرًا جَمَاعِيًّا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ نَهَاكَ عَنْ ذَلِكَ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}.

ابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَكْثَرَ؛ يَعْنِي: إِنْ كُنْتَ مُنْغَمِسًا فِي شَيْءٍ، فَلَنْ تَرَى سِوَاهُ، فَإِذَا ابْتَعَدْتَ عَنْهُ قَلِيلًا، تَسْتَطِيعُ أَنْ تَرَاهُ.

هَذِهِ الْوَرَقَةُ فِيهَا كَلَامٌ مَكْتُوبٌ، لَوْ أَنِّي جَعَلْتُهَا هَكَذَا مُلْصَقَةً بِعَيْنَيَّ؛ فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْرَأَهَا، وَلَوِ ابْتَعَدْتُ عَنْهَا قَلِيلًا، رَأَيْتُهَا رُؤْيَةً حَسَنَةً؛ فَابْتَعِدْ قَلِيلًا كَيْ تَرَى أَفْضَلَ، أَمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْغَمِسًا، تُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْقَطِيعُ؛ هَذَا حَرَامٌ، هَذَا لَا يَجُوزُ، تَدْمِيرٌ لِلْأُمَّةِ، وَعَبَثٌ بِمُقَدَّرَاتِهَا وَبِمُسْتَقْبَلِهَا.

الْحَقُّ فِي: قَالَ اللهُ، قَالَ رَسُولُهُ، قَالَ الصَّحَابَةُ.

هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ، وَهَذَا هُوَ الدِّينُ، وَهَذِهِ هِيَ الْعِصْمَةُ؛ لِأَنَّ اللهَ جَعَلَ الْعِصْمَةَ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

(( (أَنَا) وَعَوَاقِبُ الْغُرُورِ))

إِنَّ كَلِمَةَ (أَنَا) عِنْدَمَا تُقَالُ غُرُورًا فَإِنَّهَا تَكُونُ مُهْلِكَةً؛ فَإِنَّ الْغُرُورَ هُوَ أُمُّ الشَّقَاوَاتِ، وَمَنْبَعُ الْمُهْلِكَاتِ.

 الْغُرُورُ آفَةٌ مِنْ آفَاتِ النَّفْسِ قَلَّمَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا فَصْلًا وَاضِحًا حَاسِمًا فِي حَالَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ حَالَاتِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ؛ بَلْ إِنَّ آفَةَ الْغُرُورِ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، لَا تَنْفَكُّ عَنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِحَالٍ؛ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَالْأَصْلِ الَّذِي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ، وَكَالتُّرْبَةِ الَّتِي تَنْبُتُ فِيهَا، وَكَالْمَاءِ الْكَدِرِ الَّذِي يَرْوِيهَا.

إِنَّ إِمَامَ الْمَغْرُورِينَ وَقَائِدَهُمْ وَحَامِلَ لِوَائِهِمْ إِلَى النَّارِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَقَدْ غَرَّتِ اللَّعِينَ نَفْسُهُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، فَتَأَبَّى عَلَى السُّجُودِ لِآدَمَ؛ إِذْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ طِينٍ، فَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا، وَاسْتَنْتَجَ نَتِيجَةً فَاسِدَةً، فَتَمَرَّدَ عَلَى الْأَمْرِ، وَعَصَى رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُ إِبْلِيسَ -لَعَنَهُ اللهُ-: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي -لَعَنَهُ اللهُ-: وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ؛ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ، وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَقَاسَ اللَّعِينُ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، فَشَذَّ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ لِتَرْكِ السُّجُودِ؛ فَلِهَذَا أُبْلِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ: أُويِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَأَخْطَأَ -قَبَّحَهُ اللهُ- فِي قِيَاسِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ.

أَيْضًا فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ؛ وَلِهَذَا خَانَ إِبْلِيسَ عُنْصُرُهُ، وَنَفَعَ آدَمَ عُنْصُرُهُ بِالرُّجُوعِ وَالْإِنَابَةِ، وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَالِاعْتِرَافِ، وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ)).

وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ أَنْ يَغُرَّهُمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، فَيَقُودَهُمْ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} يَعْنِي: الْكَافِرَ وَالْمُؤْمِنَ، أَيْ: خَافُوهُ وَوَحِّدُوهُ، {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} أَيِ: الْبَعْثُ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} أَيْ: لَا تَخْدَعَنَّكُمُ {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بِزِينَتِهَا وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، فَتَتَّكِلُوا عَلَيْهَا، وَتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، وَتَتْرُكُوا الْعَمَلَ لِلْآخِرَةِ،  {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}: هُوَ الشَّيْطَانُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَغُرُّ الْخَلْقَ وَيُمَنِّيهِمُ الدُّنْيَا، وَيُلْهِيهِمْ عَنِ الْآخِرَةِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء: 120])).

وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- عَنْ صِفَةٍ لَازِمَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَهِيَ الْغُرُورُ، وَكَيْفَ تَغُرُّهُمُ الْأَمَانِيُّ وَالْأَبَاطِيلُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ غَافِلُونَ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنَادُونَهُمْ} أَيْ: يُنَادِي الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي: نُصَلِّي مِثْلَمَا تُصَلُّونَ، وَنَغْزُو مِثْلَمَا تَغْزُونَ، وَنَفْعَلُ كَمَا تَفْعَلُونَ، {قَالُوا بَلَى} أَيْ: يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: بَلَى قَدْ كُنْتُمْ مَعَنَا فِي الظَّاهِرِ، {وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أَيِ: اسْتَعْمَلْتُمُوهَا فِي الْفِتْنَةِ، {وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} أَيْ: وَتَرَبَّصْتُمْ بِالنَّبِيِّ ﷺ الْمَوْتَ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ الدَّوَائِرَ، وَقِيلَ: تَرَبَّصْتُمْ بِالتَّوْبَةِ، {وَارْتَبْتُمْ} أَيْ: شَكَكْتُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ، {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} أَيِ: الْأَبَاطِيلُ، وَقِيلَ: طُولُ الْأَمَلِ، وَقِيلَ: هُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنُزُولِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: ((الْأَمَانِيُّ هُنَا خُدَعُ الشَّيْطَانِ))، وَقِيلَ: ((الدُّنْيَا))، قَالَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَقَالَ أَبُو سِنَانٍ: ((هُوَ قَوْلُهُمْ: سَيُغْفَرُ لَنَا))، وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: ((ذِكْرُكَ حَسَنَاتِكَ، وَنِسْيَانُكَ سَيِّئَاتِكَ غِرَّةٌ))، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله} يَعْنِي: الْمَوْتُ، وَقِيلَ: هِيَ نُصْرَةُ نَبِيِّهِ ﷺ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ((إِلْقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ))، {وَغَرَّكُمْ} أَيْ: خَدَعَكُمْ {بِاللهِ الْغَرُورُ} أَيِ: الشَّيْطَانُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ)).

لَقَدْ نَسِيَ الْمَغْرُورُ أَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي سَوَّلَ لَهُ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- كَانُوا يَتَوَاضَعُونَ، وَيُؤْثِرُونَ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ.

وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ عَرَضَتْ لَهُ مَخَاضَةٌ -وَهِيَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَخَضْخَضُ مَاؤُهُ، فَيُخَاضُ عِنْدَ الْعُبُورِ-، فَنَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ، وَنَزَعَ خُفَّيْهِ وَأَمْسَكَهُمَا، وَخَاضَ الْمَاءَ وَمَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: ((لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ صُنْعًا عَظِيمًا عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ!)).

فَصَكَّ عُمَرُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: ((أَوَّهْ! لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَذَلَّ وَأَحْقَرَ النَّاسِ فَأَعَزَّكُمُ اللهُ بِرَسُولِهِ، فَمَهْمَا تَطْلُبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ يُذِلَّكُمُ اللهُ)).

(( (أَنَا) وَعَاقِبَةُ الْعُجْبِ الْمُهْلِكَةُ))

إِنَّ كَلِمَةَ (أَنَا) إِذَا قِيلَتْ مِنْ إِنْسَانٍ مُعْجَبٍ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا تُهْلِكُهُ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ -كَلِمَةُ (أَنَا)- عِنْدَئِذٍ نَارًا.

إِنَّ خُلُقَ الْكِبْرِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَهُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنِ ابْتُلِيَ بِهِ.

وَلِلْكِبْرِ أَخَوَاتٌ مِنْ مَذْمُومِ الصِّفَاتِ: الْكِبْرُ، وَالْفَخْرُ، وَالْعُجْبُ، وَالْخُيَلَاءُ، وَتُعَدُّ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْإِنْسَانِ أَدْوَاءً خَطِيرَةً يُبْغِضُهَا اللهُ -تَعَالَى- وَيَمْقُتُهَا، وَتَرْجِعُ فِي جُمْلَتِهَا إِلَى بُؤْرَةٍ مَشِينَةٍ فِي النَّفْسِ، يُلَازِمُهَا حَمَاقَاتٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالسُّلُوكِ.

 الْعُجْبُ: اعْتِدَادٌ بِالنِّعَمِ، وَاسْتِعْظَامٌ لَهَا، وَرُكُونٌ إِلَيْهَا، مَعَ نِسْيَانِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ بِهَا.

وَيُلَازِمُ دَاءَ الْعُجْبِ نُكْرَانٌ لِلْجَمِيلِ، وَغَفْلَةٌ عَنِ الشُّكْرِ، وَتَكَبُّرٌ بِهَذِهِ النِّعَمِ عَلَى الْخَلْقِ.

وَهَذَا قَارُونُ الَّذِي أَعْجَبَتْهُ النِّعْمَةُ فَأَبْطَرَتْهُ، فَاسْتَخَفَّ بِالْخَلْقِ، وَلَمْ يَشْكُرِ الْخَالِقَ الْعَظِيمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} [القصص: 76-81].

وَبَعْدَ هَذَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

وَقَالَ ﷺ: ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ رَأْسَهُ، يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ؛ إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ ﷺ: ((مَا مِنْ رَجُلٍ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَيَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ إِلَّا لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ)).

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي ((الطَّبَقَاتِ)): ((عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُجْبَ قَطَعَهُ، وَإِذَا كَتَبَ كِتَابًا فَخَافَ فِيهِ الْعُجْبَ مَزَّقَهُ، وَيَقُولُ: اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي)).

اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا شَرَعَ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَبْتَغِي فِيهِ مَرْضَاةَ اللهِ، مُطَالِعًا فِيهِ مِنَّةَ اللهِ عَلَيْهِ بِهِ، وَتَوْفِيقَهُ لَهُ فِيهِ، وَأَنَّهُ بِاللهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَلَا بِمَعْرِفَتِهِ وَفِكْرِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ هُوَ بِالَّذِي أَنْشَأَ لَهُ اللِّسَانَ، وَالْقَلْبَ، وَالْعَيْنَ، وَالْأُذُنَ؛ فَالَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَغِبْ ذَلِكَ عَنْ مُلَاحَظَتِهِ وَنَظَرِ قَلْبِهِ؛ لَمْ يَحْضُرْهُ الْعُجْبُ الَّذِي أَصْلُهُ رُؤْيَةُ نَفْسِهِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ شُهُودِ مِنَّةِ رَبِّهِ وَتَوْفِيقِهِ وَإِعَانَتِهِ.

وَلَا شَيْءَ أَفْسَدُ لِلْأَعْمَالِ مِنَ الْعُجْبِ وَرُؤْيَةِ النَّفْسِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا أَشْهَدَهُ مِنَّتَهُ وَتَوْفِيقَهُ وَإِعَانَتَهُ لَهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ، فَلَا يُعْجَبُ بِهِ، ثُمَّ أَشْهَدَهُ تَقْصِيرَهُ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى لِرَبِّهِ بِهِ، فَيَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَيَسْتَغْفِرُهُ، وَيَسْتَحِي أَنْ يَطْلُبَ عَلَيْهِ أَجْرًا)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ مِنْ أَبْوَابِ التَّوْبَةِ، وَالنَّدَمِ وَالِانْكِسَارِ، وَالذُّلِّ وَالِافْتِقَارِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَصِدْقِ اللَّجْأِ إِلَيْهِ، وَدَوَامِ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْحَسَنَاتِ مَا تَكُونُ تِلْكَ السَّيِّئَةُ بِهِ رَحْمَتُهُ؛ حَتَّى يَقُولَ عَدُوُّ اللهِ: يَا لَيْتَنِي تَرَكْتُهُ وَلَمْ أُوقِعْهُ.

وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الذَّنْبَ يَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ يَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، قَالُوا: كَيْفَ؟! قَالَ: يَعْمَلُ الذَّنْبَ فَلَا يَزَالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، مِنْهُ مُشْفِقًا وَجِلًا، بَاكِيًا نَادِمًا، مُسْتَحْيِيًا مِنْ رَبِّهِ -تَعَالَى-، نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ لَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الذَّنْبُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ بِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا سَعَادَةُ الْعَبْدِ وَفَلَاحُهُ؛ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ الذَّنْبُ سَبَبَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ، وَيَفْعَلُ الْحَسَنَةَ فَلَا يَزَالُ يَمُنُّ بِهَا عَلَى رَبِّهِ، وَيَتَكَبَّرُ بِهَا وَيَرَى نَفْسَهُ، وَيُعْجَبُ بِهَا، وَيَسْتَطِيلُ بِهَا، وَيَقُولُ: فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ، فَيُورِثُهُ مِنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالِاسْتِطَالَةِ مَا يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ -تَعَالَى- بِهَذَا الْمِسْكِينِ خَيْرًا ابْتَلَاهُ بِأَمْرٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُذِلُّ بِهِ عُنُقَهُ، وَيُصَغِّرُ بِهِ نَفْسَهُ عِنْدَهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ خَلَّاهُ وَعُجْبَهُ وَكِبْرَهُ، وَهَذَا هُوَ الْخِذْلَانُ الْمُوجِبُ لِهَلَاكِهِ)).

الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ صِفَاتٌ تَبْعَثُ عَلَى اشْمِئْزَازِ النَّاسِ مِنْ صَاحِبِهَا، وَنُفْرَتِهِمْ مِنْهُ، وَكَرَاهِيَتِهِمْ لَهُ، مَعَ مَا يَسْتَجِرُّهُ مِنْ سَخَطِ اللهِ -تَعَالَى- وَغَضَبِهِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَذَكَّرَ دَائِمًا بِدَايَتَهُ وَنِهَايَتَهُ، وَيَسْتَشْعِرَ ضَعْفَهُ، فَيَئُوبَ إِلَى رُشْدِهِ، فَيَخْضَعَ لِرَبِّهِ، وَيَتَوَاضَعَ لِإِخْوَانِهِ، فَيَنَالَ الْحُظْوَةَ عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمَحَبَّةَ عِنْدَ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ.

(( (أَنَا) بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى اللهِ))

إِنَّ أَعْظَمَ الْحَالَاتِ الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا الْعَبْدُ بِكَلِمَةِ (أَنَا): عِنْدَ اعْتِرَافِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ التَّامَّةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَعِنْدَ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْمَلِكِ ذِي الْجَلَالِ، وَالنُّطْقُ بِـ(أَنَا) عِنْدَ الِافْتِقَارِ إِلَى الرَّبِّ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ -سُبْحَانَهُ-.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ ((الصَّحِيحِ)): «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ؛ فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ».

((فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ)).

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِالْعُبُودِيَّةِ -بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ- فِي أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ.

فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ أَيْ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، يُرِيدُونَ إِيصَالَ الضُّرِّ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعَ الْمَكْرُوهِ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}: فَوَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ.

بَلْ فِي مَقَامِ الْكِفَايَةِ وَالْحِفْظِ ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟

بَلَى كَافٍ.

وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.

وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ -فِي مَقَامِ التَّحَدِّي- وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ.

وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ الْعُلَى حَتَّى كَانَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاخْتَرَقَ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جَهَارًا وَكِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَلَّفَهُ رَبُّهُ بِمَا كَلَّفَهُ ﷺ.

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ وَصَفَهُ رَبُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

فَوَصَفَهُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَمَّا هُوَ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَقَّقَ هَذَا الْوَصْفَ تَحْقِيقًا، وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ ﷺ، فَإِذَا رُوجِعَ: أَلَيْسَ قَدَ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

فَلِمَ هَذَا الْعَنَاءُ؟!!

لَيْسَ بِعَنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَابٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ﷺ!)) .

الْعِبَادَةُ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمُرْضِيَةُ لَهُ، وَالَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَبِهَا أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19- 20].

وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6].

وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...} الْآيَاتِ [الفرقان: 63- 77].

وَقَالَ -تَعَالَى- عَنِ الْمَسِيحِ -الَّذِي ادُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

وَبِالْعُبُودِيَّةِ نَعَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 45-47].

كَلِمَةُ (أَنَا) إِقْرَارًا بِالْعُبُودِيَّةِ للهِ -تَعَالَى-، وَالْتِزَامًا بِمَنْهَجِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمُطَالَعَةً لِمِنَّةِ الْوَهَّابِ، وَاعْتِرَافًا بِعَيْبِ النَّفْسِ وَتَقْصِيرِهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْعَارِفِينَ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ التَّوْفِيقَ أَلَّا يَكِلَكَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَى نَفْسِكَ، وَالْخِذْلَانَ أَنْ يَكِلَكَ اللهُ -تَعَالَى- إِلَى نَفْسِكَ، فَمَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَدَوَامَ اللُّجْأِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَالِافْتِقَارَ إِلَيْهِ، وَرُؤْيَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَجَهْلَهَا وَعُدْوَانَهَا، وَمُشَاهَدَةَ فَضْلِ رَبِّهِ، وَإِحْسَانِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَجُودِهِ، وَبِرِّهِ، وَغِنَاهُ، وَحَمْدِهِ.

فَالْعَارِفُ سَائِرٌ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَنَاحَيْنِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسِيرَ إِلَّا بِهِمَا، فَمَتَى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ كَالطَّيْرِ الَّذِي فَقَدَ أَحَدَ جَنَاحَيْهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: الْعَارِفُ يَسِيرُ إِلَى اللهِ بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)).

فَجَمَعَ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي)) مُشَاهَدَةَ الْمِنَّةِ، وَمُطَالَعَةَ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ.

 فَمُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ تُوجِبُ لَهُ الْمَحَبَّةَ، وَالْحَمْدَ، وَالشُّكْرَ لِوَلِيِّ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ، وَمُطَالَعَةُ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ تُوجِبُ لَهُ الذُّلَّ وَالِانْكِسَارَ، وَالِافْتِقَارَ، وَالتَّوْبَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَأَلَّا يَرَى نَفْسَهُ إِلَّا مُفْلِسًا.

وَأَقْرَبُ بَابٍ دَخَلَ مِنْهُ الْعَبْدُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- هُوَ الْإِفْلَاسُ، فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ حَالًا وَلَا مَقَامًا وَلَا سَبَبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا وَسِيلَةً مِنْهُ يَمُنُّ بِهَا، بَلْ يَدْخُلُ عَلَى اللهِ -تَعَالَى- مِنْ بَابِ الِافْتِقَارِ الصِّرْفِ، وَالْإِفْلَاسِ الْمَحْضِ، دُخُولَ مَنْ كَسَرَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ قَلْبَهُ؛ حَتَّى وَصَلَتْ تِلْكَ الْكَسْرَةُ إِلَى سُوَيْدَائِهِ فَانْصَدَعَ، وَشَمِلَتْهُ الْكَسْرَةُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ، وَشَهِدَ ضَرُورَتَهُ إِلَى رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَمَالَ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فَاقَةً تَامَّةً وَضَرُورَةً كَامِلَةً إِلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ هَلَكَ وَخَسِرَ خَسَارَةً لَا تُجْبَرُ إِلَّا أَنْ يَعُودَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ، وَيَتَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ)).

(أَنَا) يَقُولُهَا الْعَبْدُ؛ افْتِقَارًا إِلَى الرَّبِّ، وَانْكِسَارًا وَذُلًّا بَيْنَ يَدَيْهِ:

أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ السَّمَاوَاتِ        =      أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي

أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي         =      وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَاتِي

لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ        =     وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ

وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي             =    وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي

إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا              =    إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا جَا فِي الْآيَاتِ

وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا           =    وَلَا شَرِيكَ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ

وَلَا ظَهِيرٌ لَهُ كِي يَسْتَعِينَ بِهِ               =    كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ

وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا     =     كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي

وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ      =     وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي

فَمَنْ بَغَى مَطْلَبًا مِنْ غَيْرِ خَالِقِهِ      =     فَهُوَ الْجَهُولُ الظَّلُومُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي

وَالْحَمْدُ للهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ        =    مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي

------

فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَرِّفَنَا قَدْرَهُ، وَأَنْ يُعَرِّفَنَا قَدْرَنَا؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- رَبُّنَا وَإِلَهُنَا وَمَوْلَانَا وَسَيِّدُنَا وَمَلْجَأُنَا، وَإِلَيْهِ حَاجَتُنَا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: كَلِمَةُ (أَنَا) نُورٌ وَنَارٌ!

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) الدَّرْسُ الثَّالِثُ ((دُرُوسُ التَّوْحِيدِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ))
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  أُمَّةُ اقْرَأْ.. أُمَّةُ أَتْقِنْ..بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَاءِ الْفِتْنَةِ
  ((الْفَسَادُ صُوَرُهُ وَمَخَاطِرُهُ)) مُهَذَّبٌ مِنْ كِتَاب: ((حَدِيثُ الْقُرْآنِ عَنْ بُغَاةِ الْفِتْنَةِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ))
  الْمَسْجِدُ.. مَكَانَتُهُ وَآدَابُهُ وَدَوْرُهُ فِي الْمُجْتَمَعِ
  حُرْمَةُ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْإِفْسَادِ وَإِشَاعَةِ الْفَوْضَى
  [ طليعة الرد على الحلبي [ الجزء الأول
  أَكْلُ الْحَلَالِ
  السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ وَمَكَانَتُهَا فِي التَّشْرِيعِ وَرَدُّ شُبُهَاتِ الطَّاعِنِينَ فِيهَا
  حُسْنُ الخُلُقِ سَبَبُ بِنَاءِ المُجْتَمِعِ الصَّالِحِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان