نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ

نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ

((نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ))

فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ أَجَلُّ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7- 8].

وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ، وَحَسَّنَهُ وَقَرَّبَهُ مِنْكُمْ، وَأَدْخَلَهُ فِي قُلُوبِكُمْ حَتَّى اخْتَرْتُمُوهُ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ بِاللهِ وَالْخُرُوجَ عَنْ طَاعَتِهِ مِمَّا يَدْخُلُ فِي كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الصَّغَائِرِ، أُولَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُحَبَّبُ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانُ الْمُزَيَّنُ فِي قُلُوبِهِمْ هُمُ الْمُهْتَدُونَ إِلَى مَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَهَذَا الْخَيْرُ الَّذِي حَصَلَ لَكُمْ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً عَلَيْكُمْ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِكُمْ وَبِمَا فِي قُلُوبِكُمْ، حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ.

هَذِهِ أَكْبَرُ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.

الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: قَوْلُ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

لَا بُدَّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ بِقَلْبِهِ، وَأَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ، فَإِذَا نَقَصَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا.

((الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ)).

قَوْلُ الْقَلْبِ: التَّصْدِيقُ وَالْإِيقَانُ.

وَقَوْلُ اللِّسَانِ: التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ.

وَعَمَلُ الْقَلْبِ: النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ.

وَعَمَلُ اللِّسَانِ: هُوَ مَا لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِهِ؛ كِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ.

عَمَلُ الْجَوَارِحِ: هُوَ الِانْقِيَادُ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ.

فَالْإِيمَانُ: هُوَ الْإِقْرَارُ بِالشَّيْءِ عَنْ تَصْدِيقٍ بِهِ، وَلَيْسَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ.

وَعَلَيْهِ؛ فَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لِلْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ هُوَ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ.

الْإِيمَانُ: نُطْقٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيَتَفَاضَلُ أَهْلُهُ فِيهِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((التَّوْضِيحِ وَالْبَيَانِ لِشَجَرَةِ الْإِيمَانِ)): ((أَمَّا حَدُّ الْإِيمَانِ وَتَفْسِيرِهِ:

فَهُوَ: التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ، وَالِاعْتِرَافُ التَّامُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

فَهُوَ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادُهُ الْمُتَضَمِّنُ لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِ الْبَدَنِ.

وَذَلِكَ شَامِلٌ لِلْقِيَامِ بِالدِّينِ كُلِّهِ.

وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: ((الْإِيمَانُ: قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ)).

وَهُوَ: قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَاعْتِقَادٌ، يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.

فَهُوَ يَشْمَلُ:

1- عَقَائِدَ الْإِيمَانِ.

2- وَأَخْلَاقَهُ.

3- وَأَعْمَالَهُ.

فَالْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِمَا للهِ تَعَالَى مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ الْعُلْيَا وَالْأَفْعَالِ النَّاشِئَةِ عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَكَذَلِكَ الِاعْتِرَافُ بِمَا للهِ مِنَ الْحُقُوقِ الْخَاصَّةِ، وَهُوَ التَّأَلُّهُ وَالتَّعَبُّدُ للهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَالِاعْتِرَافُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَجُنُودِهِ، وَالْمَوْجُودَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، كُلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمِ- وَمَا وُصِفُوا بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ.

كَلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

كَمَا أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ:

1- الِاعْتِرَافُ بِانْفِرَادِ اللهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ.

2- وَعِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

3- وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ.

4- وَالْقِيَامُ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ وَحَقَائِقِهِ الْبَاطِنَةِ.

كُلُّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ.

وَلِهَذَا رَتَّبَ اللهُ عَلَى الْإِيمَانِ: دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ.

وَرَتَّبَ عَلَيْهِ: رُضْوَانَهُ، وَالْفَلَاحُ، وَالسَّعَادَةُ.

وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُمُولِهِ لِلْعَقَائِدِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى فَاتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، حَصَلَ مِنَ النَّقْصِ وَفَوَاتِ الثَّوَابِ وَحُصُولِ الْعِقَابِ بِحَسَبِهِ.

بَلْ أَخْبَرَ اللهُ -تَعَالَى- أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ تُنَالُ بِهِ أَرْفَعُ الْمَقَامَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْآخِرَةِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19].

وَ{الصِّدِّيقُونَ}: هُمْ أَعْلَى الْخَلْقِ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي مَنَازِلِ الْآخِرَةِ.

وَأَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ حَقَّقَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2-4].

فَوَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْقِيَامِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ.

فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ إِيمَانًا ظَهَرَتْ آثَارُهُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَأَنَّهُ مَعَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، يَزْدَادُ إِيمَانُهُمْ كُلَّمَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللهِ، وَيَزْدَادُ خَوْفُهُمْ وَوَجَلُهُمْ كُلَّمَا ذُكِرَ اللهُ.

وَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَسِرَّهِمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ، وَمُعْتَمِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا عَلَيْهِ، مُفَوِّضُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ.

وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ (فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا)، يُقِيمُونَهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُنْفِقُونَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةَ وَالْمُسْتَحَبَّةَ.

وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْخَيْرِ مَطْلَبًا، وَلَا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، وَلِهَذَا قَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَصْفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُحَقِّقُونَ الْقِيَامَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

ثُمَّ ذَكَرَ ثَوَابَهُمُ الْجَزِيلَ:

1- الْمَغْفِرَةُ: الْمُتَضَمِّنَةُ لِزَوَالِ كُلِّ شَرٍّ وَمَحْذُورٍ.

2- وَرِفْعَةُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

3- وَالرِّزْقُ الْكَرِيمُ: الْمُتَضَمِّنُ مِنَ النِّعَمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7-8].

هَذِهِ أَكْبَرُ الْمِنَنِ: أَنْ يُحَبِّبَ الْإِيمَانَ لِلْعَبْدِ، وَيُزَيِّنَهُ فِي قَلْبِهِ، وَيُذِيقَهُ حَلَاوَتَهُ، وَتَنْقَادَ جَوَارِحُهُ لِلْعَمَلِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ؛ وَيُبَغِّضَ اللهُ إِلَيْهِ أَصْنَافَ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِهَذَا الْفَضْلِ، حَكِيمٌ فِي وَضْعِهِ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ.

كَمَا ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).

فَذَكَرَ أَصْلَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ: مَحَبَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ؛ لَا يَكْتَفِي بِمُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّةُ اللهِ مُقَدَّمَةً عَلَى جَمِيعِ الْمَحَابِّ، وَذَكَرَ تَفْرِيقَهَا: بِأَنْ يُحِبَّ للهِ، وَيُبْغِضَ للهِ.

أَخْبَرَ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةٌ فِي الْقَلْبِ، إِذَا وَجَدَهَا الْعَبْدُ سَلَّتْهُ عَنِ الْمَحْبُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَعَنِ الْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَأَوْجَبَتْ لَهُ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ لَهَجَ بِذِكْرِ اللهِ طَبْعًا -فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ- وَاجْتَهَدَ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَقَدَّمَ مُتَابَعَتَهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، وَعَلى إِرَادَةِ النُّفُوسِ، وَأَغْرَاضِهَا.

وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَنَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةٌ، مُسْتَحْلِيَةٌ لِلطَّاعَاتِ، قَدْ انْشَرَحَ صَدْرُ صَاحِبِهَا لِلْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.

وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].

وَكَذَلِكَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ ﷺ قَالَ: ((الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً؛ أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)).

وَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ الْإِيمَانَ يَشْمَلُ أَقْوَالَ اللِّسَانِ، وَأَعْمَالَ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَالْأَخْلَاقَ، وَالْقِيَامَ بِحَقِّ اللهِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى خَلْقِهِ)).

((دَلَالَةُ نِدَاءِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفَوَائِدُهُ))

إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُنَادِي الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّفِيفِ وَالنِّدَاءِ الْكَرِيمِ؛ فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاصِفًا إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ إِنَّهُ إِذَا مَا كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقًّا فَإِنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ أَنْ تَسْتَجِيبُوا للهِ، وَأَنْ تَسْتَجِيبُوا لِرَسُولِهِ ﷺ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْبِرِّ، فَإِذَا مَا دَعَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يُتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا عَلَى الْبِرِّ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الْغِوَايَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الرَّشَادِ، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ؛ مِنْ مَوْتِ الْقُلُوبِ إِلَى حَيَاتِهَا بِصَفَائِهَا وَإِقْبَالِهَا عَلَى رَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا-.

((قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: تَصْدِيرُ الْحُكْمِ بِالنِّدَاءِ دَلِيلٌ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ يُوجِبُ انْتِبَاهَ الْمُنَادَى، ثُمَّ النِّدَاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَنْفِيذَ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ، وَعَلَى أَنَّ فَوَاتَهُ نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ.

قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَارْعَهَا سَمْعَكَ -يَعْنِي: اسْتَمِعْ لَهَا-؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ )) )).

((وَفَائِدَةُ تَوْجِيهِ النِّدَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْخِطَابِ:

أَوَّلًا: الْحَثُّ وَالْإِغْرَاءُ عَلَى قَبُولِ مَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ وَامْتِثَالِهِ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ يَزِيدُ الْإِنْسَانَ قُوَّةً وَشَجَاعَةً.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا يَأْتِي بَعْدَهَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَبُولُهُ وَالْإِتْيَانُ بِهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ؛ كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ مِنْ نَوَاقِصِ الْإِيمَانِ)).

وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- خَاطَبَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِلَفْظِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].

((أَخْبَرَ اللهُ أَنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ وَاتِّبَاعِ رِضْوَانِ اللهِ يُوجِبُ لَهُمْ أَنْ تَنْفَعَ فِيهِمُ الذِّكْرَى، وَتَقَعَ الْمَوْعِظَةُ مِنْهُمْ مَوْقِعَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى: 9-11].

وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مَعَهُ إِيمَانٌ وَلَا اسْتِعْدَادٌ لِقَبُولِ التَّذْكِيرِ؛ فَهَذَا لَا يَنْفَعُ تَذْكِيرُهُ، بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ الَّتِي لَا يُفِيدُهَا الْمَطَرُ شَيْئًا، وَهَؤُلَاءِ الصِّنْفُ لَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لَمْ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)).

((طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي نِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَخِطَابِهِمْ))

((لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِالدُّعَاءِ إِلَى سَبِيلِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ أَيْ: بِأَقْرَبِ طَرِيقٍ مُوصِلٍ لِلْمَقْصُودِ، مُحَصِّلٍ لِلْمَطْلُوبِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي سَلَكَهَا اللهُ فِي خِطَابِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ أَحْسَنُهَا وَأَقْرَبُهَا، فَأَكْثَرُ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ بِالْوَصْفِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ، فَيَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا افْعَلُوا كَذَا، وَاتْرُكُوا كَذَا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ دَعْوَةً لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الْحَثِّ عَلَى الْقِيَامِ بِلَوَازِمِ الْإِيمَانِ، وَشُرُوطِهِ، وَمُكَمِّلَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُومُوا بِمَا يَقْتَضِيهِ إِيمَانُكُمْ؛ مِنِ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالتَّخَلُّقِ بِكُلِّ خُلُقٍ حَمِيدٍ، وَالتَّجَنُّبِ لِكُلِّ خُلُقٍ رَذِيلٍ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ هَكَذَا يَقْتَضِي؛ وَلِهَذَا أَجْمَعَ السَّلَفُ أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ جَمِيعَ شَرَائِعِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا أَحَدُهَا؛ حَيْثُ يُصَدِّرُ اللهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، أَوْ يُعَلِّقُ فِعْلَ ذَلِكَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِذَلِكَ الْمَذْكُورِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْعُوهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: افْعَلُوا كَذَا، أَوِ اتْرُكُوا كَذَا، أَوْ يُعَلِّقُ ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ، يَدْعُوهُمْ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْمِنَّةِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمِنَنِ؛ أَيْ: يَا مَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ قُومُوا بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ بِفِعْلِ كَذَا، وَتَرْكِ كَذَا.

فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: دَعْوَةٌ لَهُمْ أَنْ يُتَمِّمُوا إِيمَانَهُمْ وَيُكْمِلُوهُ بِالشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: دَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى شُكْرِ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ بِبَيَانِ تَفْصِيلِ هَذَا الشُّكْرِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ التَّامُّ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.

وَتَارَةً يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ بِذِكْرِ آثَارِ الْخَيْرِ وَعَوَاقِبِهِ الْحَمِيدَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَبِذِكْرِ آثَارِ الشَّرِّ وَعَوَاقِبِهِ الْوَخِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ الْمُتَنَوِّعَةِ، وَآلَائِهِ الْجَزِيلَةِ، وَأَنَّ النِّعَمَ تَقْتَضِي مِنْهُمُ الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا، وَشُكْرُهَا هُوَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ.

وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَبِذِكْرِ مَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُؤْمِنِينَ الطَّائِعِينَ مِنَ الثَّوَابِ، وَمَا أَعَدَّ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ.

وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ الْعَظِيمِ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومُوا بِعُبُودِيَّتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَتَعَبَّدُوا لَهُ وَيَدْعُوهُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ؛ فَالْعِبَادَاتُ كُلُّهَا تَعْظِيمٌ وَتَكْبِيرٌ للهِ وَإِجْلَالٌ وَإِكْرَامٌ، وَتَوَدُّدٌ إِلَيْهِ، وَتَقَرُّبٌ مِنْهُ.

وَتَارَةً يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَّخِذُوهُ وَحْدَهُ وَلِيًّا، وَمَلْجَأً وَمَلَاذًا وَمَعَاذًا، وَمَفْزَعًا إِلَيْهِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَصَلَاحِهِ وَفَلَاحِهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي وَلَايَةِ اللهِ وَتَوَلِّيهِ الْخَاصِّ؛ تَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ الَّذِي يُرِيدُ لَهُ الشَّرَّ وَالشَّقَاءَ، وَيُمَنِّيهِ وَيَغُرُّهُ حَتَّى يُفَوِّتَهُ الْمَنَافِعَ وَالْمَصَالِحَ، وَيُوقِعَهُ فِي الْمَهَالِكِ -يَعْنِي: الشَّيْطَانَ الرَّجِيمَ-، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطٌ فِي الْقُرْآنِ بِعِبَارَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ.

وَتَارَةً يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْغَفْلَةِ، وَالْإِعْرَاضِ، وَالْأَدْيَانِ الْمُبَدَّلَةِ؛ لِئَلَّا يَلْحَقَهُمْ مِنَ اللَّوْمِ مَا لَحِقَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ؛ كَقَوْلِهِ: {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ)).

((نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ))

لَقَدْ خَاطَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَفْضَلِ صِفَةٍ يُحِبُّهَا -تَعَالَى-، وَيُحِبُّهَا عِبَادُهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.

وَقَدْ وَرَدَتْ فِي تِسْعَةٍ وَثَمَانِينَ مَوْضِعًا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً شَتَّى، مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقِيدَةِ، حَيْثُ أَمَرَ بِهَا؛ كَالْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ، وَحَذَّرَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ، وَمِنَ النِّفَاقِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآدَابِ السَّامِيَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ؛ فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِنَاءٌ مَتِينٌ لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَحِمَايَةٌ لَهُ مِنَ السُّقُوطِ وَالتَّرَدِّي.

((إِنَّ وُرُودَ نِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالٌّ عَلَى رِفْعَةِ شَأْنِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى قَدْرِ الْمَسْؤُولِيَّةِ تِجَاهَ مَا كُلِّفَتْ بِهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَبَيِّنٌ فِيمَا وَرَدَ فِي تِلْكَ النِّدَاءَاتِ مِنِ امْتِثَالِ الْأَحْكَامِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَكَذَلِكَ الْحَثُّ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالتَّحَلِّي بِهَا.

وَمِنْ ثَمَّ فَلِهَذَا النِّدَاءِ أَهَمِّيَّةٌ كُبْرَى؛ إِذْ عَلَيْهِ تُبْنَى جُلُّ التَّشْرِيعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَا يَنْبَغِي عَلَى أُمَّةِ الْإِسْلَامِ امْتِثَالُهُ؛ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ سَمْتُهَا وَمَكَانَتُهَا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ لِذَلِكَ لَا نَجِدُ هَذَا النِّدَاءَ إِلَّا وَهُوَ يَدُورُ عَلَى إِحْكَامِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ، وَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْحَثِّ عَلَى فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالسُّنَنِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، وَبَيَانِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْوُجُوبِ، أَوِ الْحُرْمَةِ، أَوِ النَّدْبِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ)).

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.

اعْلَمْ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- إِذَا ابْتَدَأَ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِمَّا خَيْرٌ تُؤْمَرُ بِهِ، وَإِمَّا شَرٌّ تُنْهَى عَنْهُ؛ فَارْعَهُ سَمْعَكَ، وَاسْتَمِعْ إِلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ)).

وَإِذَا صَدَّرَ اللهُ الْخِطَابَ بِـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ مَا خُوطِبَ بِهِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ نَقْصٌ فِي الْإِيمَانِ.

((نِدَاءَاتُ اللهِ الْعَقَدِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ))

لَقَدْ تَعَدَّدَتِ النِّدَاءَاتُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَقَدِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.

*مِنْ هَذِهِ النِّدَاءَاتِ الْعَقَدِيَّةِ: نِدَاءُ وُجُوبِ اتِّبَاعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 208-209].

((هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً؛ أَيْ: فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الدِّينِ، وَلَا يَتْرُكُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَأَلَّا يَكُونُوا مِمَّنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ؛ إِنْ وَافَقَ الْأَمْرُ الْمَشْرُوعُ هَوَاهُ فَعَلَهُ، وَإِنْ خَالَفَهُ تَرَكَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْهَوَى تَبَعًا لِلدِّينِ، وَأَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ، وَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ يَلْتَزِمُهُ، وَيَنْوِيهِ فَيُدْرِكُهُ بِنِيَّتِهِ.

وَلَمَّا كَانَ الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ كَافَّةً لَا يُمْكِنُ وَلَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ طُرُقِ الشَّيْطَانِ قَالَ: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أَيْ: فِي الْعَمَلِ بِمَعَاصِي اللَّهِ؛ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: وَالْعَدُوُّ الْمُبِينُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَمَا بِهِ الضَّرَرُ عَلَيْكُمْ.

وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ خَلَلٌ وَزَلَلٌ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أَيْ: عَلَى عِلْمٍ وَيَقِينٍ {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وَفِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ مَا يُوجِبُ تَرْكَ الزَّلَلِ؛ فَإِنَّ الْعَزِيزَ الْقَاهِرَ الْحَكِيمَ إِذَا عَصَاهُ الْعَاصِي قَهَرَهُ بِقُوَّتِهِ، وَعَذَّبَهُ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ؛ فَإِنَّ مِنْ حِكْمَتِهِ تَعْذِيبَ الْعُصَاةِ وَالْجُنَاةِ)).

*نِدَاءُ التَّقْوَى وَالتَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ حَتَّى الْمَوْتِ:

لَقَدْ نَادَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخَافُوا اللهَ حَقَّ خَوْفِهِ، وَأَنْ يُدَاوِمُوا عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِإِسْلَامِهِمْ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِمْ؛ لِيَلْقَوُا اللهَ وَهُمْ عَلَيْهِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاتِّحَادِ وَالْوِفَاقِ، وَذَكَّرَهُمْ بِسَابِقِ سُوءِ حَالِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102-105].

((يَقُولُ -جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: يَا مَعْشَرَ مَنْ صَدَّقَ اللهَ وَرَسُولَهُ: {اتَّقُوا اللهَ}: خَافُوا اللهَ وَرَاقِبُوهُ بِطَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ {حَقَّ تُقَاتِهِ}: حَقَّ خَوْفِهِ؛ وَهُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَر، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، {وَلَا تَمُوتُنَّ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ {إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} لِرَبِّكُمْ، مُذْعِنُونَ لَهُ بِالطَّاعَةِ، مُخْلِصُونَ لَهُ الْأُلُوهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ)).

((هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا حَثُّ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُومُوا بِشُكْرِ نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ؛ بِأَنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وَأَنْ يَقُومُوا بِطَاعَتِهِ، وَتَرْكِ مَعْصِيَتِهِ مُخْلِصِينَ لَهُ بِذَلِكَ، وَأَنْ يُقِيمُوا دِينَهُمْ، وَيَسْتَمْسِكُوا بِحَبْلِهِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُ السَّبَبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ دِينُهُ وَكِتَابُهُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ، وَأَنْ يَسْتَدِيمُوا ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ.

وَذَكَّرَهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ النِّعْمَةِ؛ وَهُوَ: أَنَّهُمْ كَانُوا أَعْدَاءً مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَهُمْ بِهَذَا الدِّينِ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانًا، وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الشَّقَاءِ، وَنَهَجَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّعَادَةِ.

{كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إِلَى شُكْرِ اللَّهِ، وَالتَّمَسُّكِ بِحَبْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِتَتْمِيمِ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالسَّبَبِ الْأَقْوَى الَّذِي يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِمْ؛ بِأَنْ يَتَصَدَّى مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَحْصُلُ فِيهَا الْكِفَايَةُ {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}: وَهُوَ الدِّينُ؛ أُصُولُهُ وَفُرُوعُهُ وَشَرَائِعُهُ، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}: وَهُوَ مَا عُرِفَ حُسْنُهُ شَرْعًا وَعَقْلًا، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: وَهُوَ مَا عُرِفَ قُبْحُهُ شَرْعًا وَعَقْلًا، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الْمُدْرِكُونَ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ، النَّاجُونَ مِنْ كُلِّ مَرْهُوبٍ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَالْمُتَصَدُّونَ لِلْخَطَابَةِ وَوَعْظِ النَّاسِ عُمُومًا وَخُصُوصًا، وَالْمُحْتَسِبُونَ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِإِلْزَامِ النَّاسِ بِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْقِيَامِ بِشَرَائِعِ الدِّينِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ.

فَكُلُّ مَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى خَيْرٍ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ، أَوْ قَامَ بِنَصِيحَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْ سُلُوكِ مَسْلَكِ الْمُتَفَرِّقِينَ الَّذِينَ جَاءَهُمُ الدِّينُ وَالْبَيِّنَاتُ الْمُوجِبُ لِقِيَامِهِمْ بِهِ وَاجْتِمَاعِهِمْ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا وَصَارُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَصْدُرْ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ وَضَلَالٍ، وَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ عِلْمٍ، وَقَصْدٍ سَيِّءٍ، وَبَغْيٍ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ})).

*نِدَاءُ وُجُوبِ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَأَرْكَانِهِ وَدَعَائِمِهِ:

وَمِنَ النِّدَاءَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ: نِدَاءُ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُدَاوِمُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِاللهِ -تَعَالَى-، وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَبِالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَّلَهُ عَلَيْهِ، وَبِجَمِيعِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى الرُّسُلِ، وَحَذَّرَهُمْ -جَلَّ وَعَلَا- مِنَ الْكُفْرِ بِهِ -سُبْحَانَهُ-، وَبِمَلَائِكَتِهِ الْمُكَرَّمِينَ، وَكُتُبِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ، وَرُسُلِهِ الَّذِينَ اصْطَفَاهُمْ لِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الَّذِي يَقُومُ النَّاسُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].

((يَأْمُرُ اللهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، وَشُعَبِهِ، وَأَرْكَانِهِ، وَدَعَائِمِهِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، بَلْ مِنْ بَابِ تَكْمِيلِ الْكَامِلِ، وَتَقْرِيرِهِ، وَتَثْبِيتِهِ، وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ؛ كَمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] أَيْ: بَصِّرْنَا فِيهِ، وَزِدْنَا هُدًى، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهِ.

فَأَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ.

وَقَوْلُهُ: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ، {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ}: وَهَذَا جِنْسٌ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

{وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} أَيْ: فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَبَعُدَ عَنِ الْقَصْدِ كُلَّ الْبُعْدِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحديد: 28].

((يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ الْمُرَادُ بِهِمْ: هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} يَعْنِي: اثْبُتُوا عَلَى الْإِيمَانِ، لَا جَدِّدُوا الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ حَصَلَ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بِقُلُوبِهِم! اتَّقُوا اللهَ بِجَوَارِحِكُمْ، {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} أَيْ: حَقِّقُوا الْإِيمَانَ، وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِرَسُولِهِ هُنَا: مُحَمَّدٌ ﷺ، وَالْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ ﷺ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: ٢٨٥] يَعْنِي: فِي الْإِيمَانِ بِهِ، لَا فِي الِاتِّبَاعِ، فِي الِاتِّبَاعِ نَتَّبِعُ مُحَمَّدًا ﷺ، لَكِنِ الْإِيمَانُ كُلُّهُمْ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، نُؤْمِنُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ حَقًّا.

{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: ٢٨] أَيْ: نَصِيبَيْنِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إِذَا آمَنْتُمْ وَحَقَّقْتُمُ الْإِيمَانَ مَعَ التَّقْوَى يُثِيبُكُمْ ثَوَابَيْنِ، {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} أَيْ: عِلْمًا تَسِيرُونَ بِهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى بَصِيرَةٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الْعِلْمِ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} أَيْ: يَسْتُرْهَا عَلَيْكُمْ، وَيَعْفُ عَنْكُمْ، فَلَا عِقَابَ وَلَا فَضِيحَةَ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: ذُو مَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ)).

*نِدَاءُ وُجُوبِ طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَأُولِي الْأَمْرِ، وَالتَّحَاكُمِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 59-60].

((هَذَا إِنْكَارٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُرِيدُ التَّحَاكُمَ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ إِلَى غَيْرِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ فَالْآيَةُ ذَامَّةٌ لِمَنْ عَدَلَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَحَاكَمُوا إِلَى مَا سِوَاهُمَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ هَاهُنَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا})).

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! اسْتَجِيبُوا لِأَوَامِرِ اللهِ -تَعَالَى-، وَلَا تَعْصُوهُ، وَاسْتَجِيبُوا لِلرَّسُولِ ﷺ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَطِيعُوا وُلَاةَ أَمْرِكُمْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنِ اخْتَلَفْتُمْ فِي شَيْءٍ بَيْنَكُمْ فَأَرْجِعُوا الْحُكْمَ فِيهِ إِلَى كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ حَقَّ الْإِيمَانِ بِاللهِ -تَعَالَى- وَبِيَوْمِ الْحِسَابِ، ذَلِكَ الرَّدُّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ التَّنَازُعِ وَالْقَوْلِ بِالرَّأْيِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلًا.

أَلَمْ تَعْلَمْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ- أَمْرَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ -وَهُوَ الْقُرْآنُ-، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، وَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ بَيْنَهُمْ إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَ اللهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِالْبَاطِلِ؟! وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بُعْدًا شَدِيدًا.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ يَقْتَضِي الِانْقِيَادَ لِشَرْعِ اللهِ، وَالْحُكْمَ بِهِ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، وَاخْتَارَ حُكْمَ الطَّاغُوتِ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَهُوَ كَاذِبٌ فِي زَعْمِهِ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) ۞ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 20-23].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا! أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ، وَبَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَلَا تَنْأَوْا وَتَبْتَعِدُوا عَنْ سَمَاعِ نُصُوصِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ بِآذَانِكُمْ هَذِهِ النُّصُوصَ سَمَاعًا لَا يَصِلُ إِلَى مَرَاكِزِ السَّمْعِ الْمُدْرِكَةِ الْوَاعِيَةِ.

وَلَا تَكُونُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ: سَمِعْنَا دَعْوَتَكَ وَأَوَامِرَكَ وَنَوَاهِيَكَ، وَهُمْ لَا يَتَّعِظُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمَوَاعِظِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا سَمَاعًا حَقِيقِيًّا فِيمَا سَبَقَ، وَلَا يَسْمَعُونَ دَوَامًا؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ بَاطِنًا، فَنُفُوسُهُمْ مَصْرُوفَةٌ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ.

إِنَّ شَرَّ مَنْ دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ خَلْقِ اللهِ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، الْبُكْمُ عَنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَالِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ، الَّذِينَ لَا يَفْهَمُونَ عَنِ اللهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَلَا يَقْبَلُونَ، وَلَا يَعْقِلُونَ نُفُوسَهُمْ عَنْ أَهْوَائِهِمُ الْجَانِحَةِ، وَبِذَلِكَ كَانُوا كَافِرِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّهُمْ عَطَّلُوا أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي وَهَبَهُمُ اللهُ إِيَّاهَا، وَاسْتَخْدَمُوهَا فِي ظَوَاهِرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَنْتَقِلُوا إِلَى مَعْرِفَةِ خَالِقِهِمْ، فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَلَا يَعْبُدُونَهُ، وَلَا يَشْكُرُونَهُ.

وَلَوْ عَلِمَ اللهُ بِعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ فِي هَؤُلَاءِ خَيْرًا مِنْ إِيمَانٍ أَوْ إِرَادَةٍ لِلْخَيْرِ؛ لَأَسْمَعَهُمْ سَمَاعَ تَفَهُّمٍ وَانْتِفَاعٍ وَقَبُولٍ لِلْحَقِّ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سَمَاعَ الِانْتِفَاعِ وَالْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُ؛ لِعِنَادِهِمْ، وَجُحُودِهِمُ الْحَقَّ بَعْدَ ظُهُورِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 24-25].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ؛ وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ: الِانْقِيَادُ لِمَا أَمَرَا بِهِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، وَالِاجْتِنَابُ لِمَا نَهَيَا عَنْهُ، وَالِانْكِفَافُ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}: وَصْفٌ مُلَازِمٌ لِكُلِّ مَا دَعَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَيْهِ، وَبَيَانٌ لِفَائِدَتِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ فَإِنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِعُبُودِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلُزُومِ طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ عَلَى الدَّوَامِ.

ثُمَّ حَذَّرَ عَنْ عَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ فَقَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}: فَإِيَّاكُمْ أَنْ تَرُدُّوا أَمْرَ اللَّهِ أَوَّلَ مَا يَأْتِيكُمْ، فَيُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ إِذَا أَرَدْتُمُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، يُقَلِّبُ الْقُلُوبَ حَيْثُ شَاءَ، وَيُصَرِّفُهَا أَنَّى شَاءَ.

فَلْيُكْثِرِ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلِ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ اصْرِفْ قَلْبِي إِلَى طَاعَتِكَ)).

{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ: تُجْمَعُونَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِعِصْيَانِهِ.

{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} بَلْ تُصِيبُ فَاعِلَ الظُّلْمِ وَغَيْرَهُ، وَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ الظُّلْمُ فَلَمْ يُغَيَّرْ فَإِنَّ عُقُوبَتَهُ تَعُمُّ الْفَاعِلَ وَغَيْرَهُ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْفِتْنَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَمْعِ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَأَلَّا يُمَكَّنُوا مِنَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ مَهْمَا أَمْكَنَ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} لِمَنْ تَعَرَّضَ لِمَسَاخِطِهِ وَجَانَبَ رِضَاهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِأَمْرٍ بِهِ تَتِمُّ أُمُورُهُمْ، وَتَحْصُلُ سَعَادَتُهُمُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ؛ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وَالطَّاعَةُ هِيَ: امْتِثَالُ الْأَمْرِ، وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْإِخْلَاصِ وَتَمَامِ الْمُتَابَعَةِ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنْ إِبْطَالِهَا بَعْدَ عَمَلِهَا بِمَا يُفْسِدُهَا؛ مِنْ مَنٍّ بِهَا، وَإِعْجَابٍ، وَفَخْرٍ، وَسُمْعَةٍ، وَمِنْ عَمَلٍ بِالْمَعَاصِي الَّتِي تَضْمَحِلُّ مَعَهَا الْأَعْمَالُ، وَيُحْبَطُ أَجْرُهَا، وَيَشْمَلُ النَّهْيَ عَنْ إِفْسَادِهَا حَالَ وُقُوعِهَا بِقَطْعِهَا، أَوِ الْإِتْيَانِ بِمُفْسِدٍ مِنْ مُفْسِدَاتِهَا.

فَمُبْطِلَاتُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا، وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَيَسْتَدِلُّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ الْفَرْضِ، وَكَرَاهَةِ قَطْعِ النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ نَهَى عَنْ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ فَهُوَ أَمْرٌ بِإِصْلَاحِهَا، وَإِكْمَالِهَا وَإِتْمَامِهَا، وَالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا)).

*نِدَاءُ التَّحْذِيرِ مِنْ إِبْطَالِ الصَّدَقَاتِ بِالْمَنِّ وَالرِّيَاءِ:

نَادَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ مُحَذِّرًا إِيَّاهُمْ مِنْ تَضْيِيعِ ثَوَابِ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُخْرِجُ مَالَهُ لِيَرَاهُ النَّاسُ، فَيُثْنُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ، وَلَا يُوقِنُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ حَجَرٍ أَمْلَسَ عَلَيْهِ تُرَابٌ هَطَلَ عَلَيْهِ مَطَرٌ غَزِيرٌ فَأَزَاحَ عَنْهُ التُّرَابَ، فَتَرَكَهُ أَمْلَسَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُرَاؤُونَ تَضْمَحِلُّ أَعْمَالُهُمْ عِنْدَ اللهِ، وَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى مَا أَنْفَقُوهُ.   

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].

((أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ الصَّدَقَةَ تَبْطُلُ بِمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، فَمَا يَفِي ثَوَابُ الصَّدَقَةِ بِخَطِيئَةِ الْمَنِّ وَالْأَذَى)).

*نِدَاءُ وُجُوبِ نُصْرَةِ دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:

نَادَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَنْصَارَهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ بِالْقِيَامِ بِدِينِ اللهِ، وَالْحِرْصِ عَلَى إِقَامَتِهِ عَلَى الْغَيْرِ، وَجِهَادِ مَنْ عَانَدَهُ وَنَابَذَهُ بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ هَيَّجَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ بِقَوْلِهِ: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، فَابْتَدَرَ الْحَوَارِيُّونَ فَقَالُوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، فَمَضَى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى أَمْرِ اللهِ، وَنَصَرَ دِينَهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا أَنْصَارَ اللهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ؛ بِأَقْوَالِهِمْ، وَأَفْعَالِهِمْ، وَأَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ كَمَا اسْتَجَابَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى حِينَ قَالَ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ}؟ أَيْ: مُعِينِيَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}: وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- {نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ} أَيْ: نَحْنُ أَنْصَارُكَ عَلَى مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَمُوَازِرُوكَ عَلَى ذَلِكَ، { فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} أَيْ: لَمَّا بَلَّغَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رِسَالَةَ رَبِّهِ إِلَى قَوْمِهِ، وَوَازَرَهُ مَنْ وَازَرَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ؛ اهْتَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَضَلَّتْ طَائِفَةٌ فَخَرَجَتْ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَرَمَوْهُ وَأُمَّهُ بِالْعَظَائِمِ -وَهُمُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ-، وَغَلَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُ حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَافْتَرَقُوا فِرَقًا وَشِيَعًا؛ فَمِنْ قَائِلٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، وَقَائِلٍ: إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: الْأَبُ، وَالِابْنُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ، وَمِنْ قَائِلٍ: إِنَّهُ اللهُ.

وَقَوْلُهُ: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ} أَيْ: نَصَرْنَاهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أَيْ: عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِبِعْثَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ )).

((فَأَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ وَدُعَاةَ دِينِهِ؛ يَنْصُرْكُمُ اللهُ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَيُظْهِرْكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ)).

*نِدَاءَاتُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

لَقَدْ تَعَدَّدَتِ النِّدَاءَاتُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَصْلِ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ ((فَالْوَلَاءُ وَالْبَرَاءُ أَصْلٌ عَظِيمٌ جَاءَتْ فِيهِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ، وَلِأَنَّ مُوَالَاةَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَمُدَارَاتَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ يُحِبَّ الْإِنْسَانُ شَيْئًا هُوَ عَدُوٌّ لِمَحْبُوبِهِ.

إِنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ؛ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ.

لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا؛ أَنْ يَكُونَ مُوَالِيًا لِأَعْدَاءِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمُوَالِيًا لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

لَا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ وَوَحَّدَ اللهَ أَنْ يُعَادِيَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ؛ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ، وَلَا يُوَالِيَهُ بِحَالٍ.

وَمُوَالَاةُ الْكُفَّارِ تَكُونُ بِمُنَاصَرَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَمُوَادَّتُهُمْ تَكُونُ بِفِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا مَوَدَّتُهُمْ، فَتَجِدُهُ يُوَادُّهُمْ؛ أَيْ: يَطْلُبُ وُدَّهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَهَذَا -لَا شَكَّ- يُنَافِي الْإِيمَانَ كُلَّهُ أَوْ كَمَالَهُ.

فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مُعَادَاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ إِلَيْهِ، وَبُغْضُهُ، وَالْبُعْدُ عَنْهُ؛ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ نَصِيحَتَهُ وَدَعْوَتَهُ لِلْحَقِّ.

وَمُوَالَاةُ الْكُفَّارِ لَهَا مَظَاهِرُ مُتَعَدِّدَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، مِنْهَا:

-الرِّضَا بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَعَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ، أَوِ الشَّكُّ فِي كُفْرِهِمْ، أَوْ بِتَصْحِيحِ أَيِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْكُفْرِ؛ فَهَذِهِ مُوَالَاةٌ لِلْكُفَّارِ.

-وَمِنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ -أَيْضًا-: التَّشَبُّهُ بِهِمْ فِي عَادَاتِهِمْ، وَأَخْلَاقِهِمْ، وَتَقَالِيدِهِمْ، فَهَذَا مِنْ مُوَالَاتِهِمْ.

وَمِنْ مُوَالَاتِهِمْ -أَيْضًا-: مُعَاوَنَتُهُمْ، وَنُصْرَتُهُمْ، وَمُشَارَكَتُهُمْ فِي أَعْيَادِهِمْ، وَالتَّسَمِّي بِأَسْمَائِهِمْ، وَالسَّفَرُ إِلَى بِلَادِهِمْ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، بَلْ لِلنُّزْهَةِ وَالْمُتْعَةِ، لَا لِضَرُورَةٍ.

وَمُجَامَلَتُهُمْ وَمُدَاهَنَتُهُمْ فِي دِينِ اللهِ -تَعَالَى-.

فَكُلُّ هَذِهِ مِنْ صُوَرِ الْمُوَالَاةِ، وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرْتُهُ-: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 55-57].

((مَا نَاصِرُكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- إِلَّا اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثِ؛ الْأُولَى: يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ كَامِلَةً، لَا اعْوِجَاجَ فِيهَا، وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُهُمُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: هُمْ مُنْقَادُونَ خَاضِعُونَ لِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ.

 وَمَنْ يَجْعَلِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَوْلِيَاءَهُ، يُؤَيِّدُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، وَيُجَاهِدُ جِهَادَهُمْ؛ فَهُوَ فِي حِزْبِ اللهِ وَأَنْصَارِ دِينِهِ، وَإِنَّ أَنْصَارَ دِينِ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ؛ لِأَنَّ نَاصِرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ، وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ مَوْضِعَ اسْتِهْزَاءٍ وَمَزْحٍ، وَمَوْضِعَ لَعِبٍ وَعَبَثٍ، يَسْخَرُونَ مِنَ الدِّينِ، وَيَسْتَهْزِؤُونَ بِأَهْلِهِ، وَيَتَعَابَثُونَ بِهِ، وَيَلْعَبُونَ بِحَقَائِقِهِ، وَيَقْصِدُونَ بِهِ مُجَرَّدَ إِزْجَاءِ الْفَرَاغِ وَالتَّسْلِيَةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، وَمَنْ تَتَبَادَلُونَ مَعَهُ التَّوَادَّ وَالتَّعَاوُنَ وَالتَّنَاصُرَ وَالتَّأْيِيدَ وَالْإِمْدَادَ بِالْأَخْبَارِ وَالْقُوَى؛ فَإِذَا اتَّخَذْتُمْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ عَرَّضْتُمْ أَنْفُسَكُمْ لِعِقَابِ اللهِ.

وَاتَّقُوا اللهَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا.

مِنْ فَوَائِدِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ:

التَّنْبِيهُ عَلَى عَقِيدَةِ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ الَّتِي تَتَلَخَّصُ فِي مُوَالَاةِ وَمَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبُغْضِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَتَجَنُّبِ مَحَبَّتِهِمْ.

وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ مِنْ أُصُولِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهِيَ مِمَّا عَظُمَتْ بِالتَّفْرِيطِ فِيهِ الْمُصِيبَةُ؛ فَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا وَلَاءَ عِنْدَهُمْ وَلَا بَرَاءَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؛ بَلْ إِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِذَلِكَ أَصْلًا، فَهُمْ يُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللهِ، وَأَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ، وَأَعْدَاءَ النَّبِيِّ ﷺ، وَيُنَاصِرُونَهُمْ، وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ، وَيُحِبُّونَهُمْ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَحْتَذُوا حَذْوَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُبْغِضُونَ فِيهِ أَوْلِيَاءَ اللهِ، وَيُحَارِبُونَهُمْ، وَيَنْصُرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيُعِينُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَحْتَقِرُونَهُمْ، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنْ بَقَايَا الْقُرُونِ الْغَابِرَةِ، وَمِنَ الْحَفْرِيَّاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ، وَأَنَّهُمْ رَجْعِيُّونَ، وَأَنَّهُمْ مُتَخَلِّفُونَ، وَأَنَّهُمْ سَبَبُ تَخَلُّفِ الْأُمَّةِ عَنِ اللِّحَاقِ بِرَكْبِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَعْتَقِدُونَ أَوْ يَزْعُمُونَ، بَلْ إِنَّهُمْ لَمَّا وَقَعُوا فِي عَكْسِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ لِلْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ، فَأَحَبُّوا أَعْدَاءَ اللهِ، وَأَبْغَضُوا أَوْلِيَاءَ اللهِ؛ أَدْخَلُوا الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، تَبَعْثَرَتْ بِهِ الْقُوَى، وَتَشَتَّتَتْ بِهِ السُّبُلُ، وَتَفَرَّقَتْ بِهِ الطُّرُقُ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ شِيَعًا وَفِرَقًا وَمِزَقًا، يُقَاتِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا -وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ-.

التَّنْبِيهُ عَلَى عَقِيدَةِ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ الَّتِي تَتَلَخَّصُ فِي مُوَالَاةِ وَمَحَبَّةِ اللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَبُغْضِ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَتَجَنُّبِ مَحَبَّتِهِمْ.

الَّذِي لَا يَأْتِي بِهَذِهِ الْعَقِيدَةِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي نَاقِضٍ مِنْ نَوَاقِضِ الْإِسْلَامِ.

مُوَالَاةُ أَعْدَاءِ اللهِ، وَمُعَادَاةُ أَوْلِيَاءِ اللهِ خُرُوجٌ مِنَ الدِّينِ؛ فَهَذَا نَاقِضٌ مِنْ نَوَاقِضِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ عَقِيدَتَهُ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ فِي آخِرَتِهِ!)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].

((يَقُولُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نَاهِيًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ بِطَانَةً؛ أَيْ: يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقُونَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ لَا يَأْلُونَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَالًا؛ أَيْ: يَسْعَوْنَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وَمَا يَضُرُّهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَبِمَا يَسْتَطِيعُونَهُ مِنَ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، وَيَوَدُّونَ مَا يُعْنِتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُخْرِجُهُمْ ويَشُقُّ عَلَيْهِمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149-150].

((يُحَذِّرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ؛ فَإِنَّ طَاعَتَهُمْ تُورِثُ الرَّدَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ})).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 144-146].

((يَنْهَى -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛ يَعْنِي: مُصَاحَبَتَهُمْ، وَمُصَادَقَتَهُمْ، وَمُنَاصَحَتَهُمْ، وَإِسْرَارَ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ، وَإِفْشَاءَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاطِنَةِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] أَيْ: يُحَذِّرُكُمْ عُقُوبَتَهُ فِي ارْتِكَابِكُمْ نَهْيَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} أَيْ: حُجَّةً عَلَيْكُمْ فِي عُقُوبَتِهِ إِيَّاكُمْ.

ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي أَسْفَلِ النَّارِ؛ جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمُ الْغَلِيظِ، {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} أَيْ: يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ.

ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا تَابَ عَلَيْهِ، وَقَبِلَ نَدَمَهُ إِذَا أَخْلَصَ فِي تَوْبَتِهِ، وَأَصْلَحَ عَمَلَهُ، وَاعْتَصَمَ بِرَبِّهِ فِي جَمِيعِ أَمْرِهِ، فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّه} أَيْ: بَدَّلُوا الرِّيَاءَ بِالْإِخْلَاصِ، فَيَنْفَعُهُمُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَإِنْ قَلَّ، {فَأُولَٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: فِي زُمْرَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا})).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].

((يَنْهَى -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ -قَاتَلَهُمُ اللهُ-، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}))؛ ((لِأَنَّ التَّوَلِّيَ التَّامَّ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى دِينِهِمْ، وَالتَّوَلِّيَ الْقَلِيلَ يَدْعُو إِلَى الْكَثِيرِ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أَيِ: الَّذِينَ وَصْفُهُمُ الظُّلْمُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، وَعَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ؛ فَلَوْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوكَ، وَلَا انْقَادُوا لَكَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 23-24].

((أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- بِمُبَايَنَةِ الْكُفَّارِ بِهِ وَإِنْ كَانُوا آبَاءً أَوْ أَبْنَاءً، وَنَهَى عَنْ مُوَالَاتِهِمْ إِذَا {اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} أَيِ: اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ.

ثُمَّ أَمَرَ -تَعَالَى- رَسُولَهُ أَنْ يَتَوَعَّدَ مَنْ آثَرَ أَهْلَهُ وَقَرَابَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَلَى اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَقَالَ: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أَيِ: اكْتَسَبْتُمُوهَا وَحَصَّلْتُمُوهَا {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أَيْ: تُحِبُّونَهَا لِطِيبِهَا وَحُسْنِهَا؛ أَيْ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} أَيْ: فَانْتَظِرُوا مَاذَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَنَكَالِهِ بِكُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ})).

وَابْتَدَأَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ الَّذِينَ آذَوُا الْمُؤْمِنِينَ؛ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرْكِ الدِّيَارِ وَالْأَوْطَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].

((هَذِهِ الْآيَاتُ فِيهَا النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِلْقَاءِ الْمَوَدَّةِ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْإِيمَانِ، وَمُخَالِفٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَمُنَاقِضٌ لِلْعَقْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الْعَدُوِّ الَّذِي لَا يُبْقِي مِنْ مَجْهُودِهِ فِي الْعَدَاوَةِ شَيْئًا، وَيَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ فِي إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى عَدُوِّهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: اعْمَلُوا بِمُقْتَضَى إِيمَانِكُمْ؛ مِنْ وَلَايَةِ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَادَاهُ؛ فَإِنَّهُ عَدُوٌّ للهِ، وَعَدُوٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ.

فَلَا تَتَّخِذُوا عَدُوَّ اللهِ {وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أَيْ: تُسَارِعُونَ فِي مَوَدَّتِهِمْ، وَفِي السَّعْيِ بِأَسْبَابِهَا؛ فَإِنَّ الْمَوَدَّةَ إِذَا حَصَلَتْ تَبِعَتْهَا النُّصْرَةُ وَالْمُوَالَاةُ، فَخَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْكُفْرَانِ، وَانْفَصَلَ عَنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.

وَهَذَا الْمُتَّخِذُ لِلْكَافِرِ وَلِيًّا عَادِمُ الْمُرُوءَةِ -أَيْضًا-؛ فَإِنَّهُ كَيْفَ يُوَالِي أَعْدَى أَعْدَائِهِ الَّذِي لَا يُرِيدُ لَهُ إِلَّا الشَّرَّ، وَيُخَالِفُ رَبَّهُ وَوَلِيَّهُ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ الْخَيْرَ، وَيَأْمُرُهُ بِهِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ؟!

وَمِمَّا يَدْعُو الْمُؤْمِنَ -أَيْضًا- إِلَى مُعَادَاةِ الْكُفَّارِ: أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَقِّ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُشَاقَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِأَصْلِ دِينِكُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّكُمْ ضُلَّالٌ عَلَى غَيْرِ هُدًى.

وَالْحَالُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ، وَمَنْ رَدَّ الْحَقَّ فَمُحَالٌ أَنْ يُوجَدَ لَهُ دَلِيلٌ أَوْ حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، بَلْ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ رَدَّهُ وَفَسَادِهِ.

وَمِنْ عَدَاوَتِهِمُ الْبَلِيغَةِ: أَنَّهُمْ {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ دِيَارِكُمْ، وَيُشَرِّدُونَكُمْ مِنْ أَوْطَانِكُمْ، وَلَا ذَنْبَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ رَبِّكُمُ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمُ الْقِيَامُ بِعُبُودِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ رَبَّاهُمْ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهُوَ اللهُ -تَعَالَى-.

فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ أَوْجَبُ الْوَاجِبَاتِ، وَقُمْتُمْ بِهِ؛ عَادَوْكُمْ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ دِيَارِكُمْ؛ فَأَيُّ دِينٍ، وَأَيُّ مُرُوءَةٍ وَعَقْلٍ يَبْقَى مَعَ الْعَبْدِ إِذَا وَالَى الْكُفَّارَ الَّذِين هَذَا وَصْفُهُمْ فِي كُلِّ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ؟! وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْهُ إِلَّا خَوْفٌ أَوْ مَانِعٌ قَوِيٌّ.

{إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أَيْ: إِنْ كَانَ خُرُوجُكُمْ مَقْصُودُكُمْ بِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ؛ فَاعْمَلُوا بِمُقْتَضَى هَذَا؛ مِنْ مُوَالَاةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَيَبْتَغُونَ بِهِ رِضَاهُ.

{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أَيْ: كَيْفَ تُسِرُّونَ الْمَوَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ وَتُخْفُونَهَا مَعَ عِلْمِكُمْ أَنَّ اللهَ عَالِمٌ بِمَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ؟! فَهُوَ وَإِنْ خَفِيَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَخْفَى عَلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَسَيُجَازِي الْعِبَادَ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} أَيْ: مُوَالَاةُ الْكَافِرِينَ بَعْدَمَا حَذَّرَكُمُ اللهُ مِنْهَا {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}؛ لِأَنَّهُ سَلَكَ مَسْلَكًا مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، وَلِلْعَقْلِ، وَالْمُرُوءَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13].

((يَنْهَى -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ كَمَا نَهَى عَنْهَا فِي أَوَّلِهَا فَقَالَ: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يَعْنِي: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَسَائِرَ الْكُفَّارِ مِمَّنْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ، وَاسْتَحَقَّ مِنَ اللهِ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ؛ فَكَيْفَ تُوَالُونَهُمْ وَتَتَّخِذُونَهُمْ أَصْدِقَاءَ وَأَخِلَّاءَ وَ{قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ}؛ أَيْ: مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا فِي حُكْمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).

((وَقَوْلُهُ: {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}: حِينَ أَفْضَوْا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَوَقَفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَعَلِمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُمْ لَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ؛ أَيْ: قَدْ أَنْكَرُوهَا، وَكَفَرُوا بِهَا، فَلَا يُسْتَغْرَبُ -حِينَئِذٍ- مِنْهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَسَاخِطِ اللهِ وَمُوجِبَاتِ عَذَابِهِ، وَإِيَاسُهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ، كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رُجُوعِ أَصْحَابِ الْقُبُورِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى-)).

*نِدَاءُ التَّحْذِيرِ مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

نَادَى رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- الْمُؤْمِنِينَ نِدَاءَ تَحْذِيرٍ؛ إِنْ يُطِيعُوا جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِمَّنْ آتَاهُمُ اللهُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ يُضِلُّوهُمْ، وَيُلْقُوا إِلَيْهِمُ الشُّبَهَ فِي دِينِهِمْ؛ لِيَرْجِعُوا جَاحِدِينَ لِلْحَقِّ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، فَحَذَّرَهُمُ اللهُ أَنْ يَأْمَنُوهُمْ عَلَى دِينِهِمْ، وَلَا يَقْبَلُوا لَهُمْ رَأْيًا أَوْ مَشُورَةً.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100-101].

((يُحَذِّرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يُطِيعُوا طَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، الَّذِينَ يَحْسُدُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَمَا مَنَحَهُمْ بِهِ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة: 109].

 ثُمَّ قَالَ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يَعْنِي: أَنَّ الْكُفْرَ بَعِيدٌ مِنُكُمْ، وَحَاشَاكُمْ مِنْهُ؛ فَإِنَّ آيَاتِ اللهِ تَنْزِلُ عَلَى رَسُولِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَهُوَ يَتْلُوهَا عَلَيْكُمْ، وَيُبَلِّغُهَا إِلَيْكُمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أَيْ: وَمَعَ هَذَا فَالِاعْتِصَامُ بِاللهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْعُدَّةُ فِي مُبَاعَدَةِ الْغِوَايَةِ، وَالْوَسِيلَةُ إِلَى الرَّشَادِ وَطَرِيقِ السَّدَادِ وَحُصُولِ الْمُرَادِ)).

*نِدَاءُ التَّحْذِيرِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْكَافِرِينَ:

يَنْهَى -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُشَابِهُوا الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِرَبِّهِمْ، وَلَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ، يَنْهَاهُمْ عَنْ مُشَابَهَتِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 156-158].

((يَنْهَى -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْكُفَّارِ فِي اعْتِقَادِهِمُ الْفَاسِدِ، الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ عَنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْأَسْفَارِ وَفِي الْحُرُوبِ: لَوْ كَانُوا تَرَكُوا ذَلِكَ لَمَا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ} أَيْ: عَنْ إِخْوَانِهِمْ {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: سَافَرُوا لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا {أَوْ كَانُوا غُزًّى} أَيْ: فِي الْغَزْوِ {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا} أَيْ: فِي الْبَلَدِ {مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} أَيْ: مَا مَاتُوا فِي السَّفَرِ، وَلَا قُتِلُوا فِي الْغَزْوِ.

وَقَوْلُهُ: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أَيْ: خَلَقَ هَذَا الِاعْتِقَادَ فِي نُفُوسِهِمْ لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً عَلَى مَوْتِهِمْ وَقَتْلِهِمْ، ثُمَّ قَالَ -تَعَالَى- رَدًّا عَلَيْهِمْ: {وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ: بِيَدِهِ الْخَلْقُ، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ، وَلَا يَحْيَا أَحَدٌ وَلَا يَمُوتُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقَدَرِهِ، وَلَا يُزَادُ فِي عُمُرِ أَحَدٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ: وَعِلْمُهُ وَبَصَرُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.

وَقَوْلُهُ: {وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} تَضَمَّنَ هَذَا أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمَوْتَ -أَيْضًا- وَسِيلَةٌ إِلَى نَيْلِ رَحْمَةِ اللهِ وَعَفْوِهِ وَرِضْوَانِهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَجَمْعِ حُطَامِهَا الْفَانِي.

ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَمَصِيرُهُ وَمَرْجِعُهُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَيَجْزِيهِ بِعَمَلِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَقَالَ: {وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ})).

*نِدَاءُ النَّهْيِ عَنْ خِيَانَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].

يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُؤَدُّوا مَا ائْتَمَنَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ الْأَمَانَةَ قَدْ عَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ؛ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، فَمَنْ أَدَّى الْأَمَانَةَ اسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا بَلْ خَانَهَا اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ الْوَبِيلَ، وَصَارَ خَائِنًا للَّهِ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِأَمَانَتِهِ، مُنْقِصًا لِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ اتَّصَفَتْ نَفْسُهُ بِأَخَسِّ الصِّفَاتِ وَأَقْبَحِ الشِّيَاتِ؛ وَهِيَ الْخِيَانَةُ، مُفَوِّتًا لَهَا أَكْمَلَ الصِّفَاتِ وَأَتَمَّهَا؛ وَهِيَ الْأَمَانَةُ))‏.‏

*نِدَاءُ التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ:

يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِلْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ: مَنْ يَرْجِعْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، فَيُبَدِّلْهُ وَيُغَيِّرْهُ بِدُخُولِهِ فِي الْكُفْرِ؛ إِمَّا فِي الْيَهُودِيَّةِ، أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ؛ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا، وَسَيَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، خَيْرٍ مِنَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَبَدَّلُوا دِينَهُمْ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].

*نِدَاءُ تَحْرِيمِ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ:

نَادَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ مُخْبِرًا إِيَّاهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ رِجْسٌ وَخَبَثٌ؛ فَلَا يُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الِاقْتِرَابِ مِنَ الْحَرَمِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ -التَّاسِعِ مِنَ الْهِجْرَةِ-‏.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].

((يَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} بِاللَّهِ الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ {نَجَسٌ} أَيْ: خُبَثَاءُ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ؛ وَأَيُّ نَجَاسَةٍ أَبْلَغُ مِمَّنْ كَانَ يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا؟!

وَأَعْمَالُهُمْ مَا بَيْنَ مُحَارَبَةٍ لِلَّهِ، وَصَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَنَصْرٍ لِلْبَاطِلِ، وَرَدٍّ لِلْحَقِّ، وَعَمَلٍ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ لَا فِي الصَّلَاحِ؛ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تُطَهِّرُوا أَشْرَفَ الْبُيُوتِ وَأَطْهَرَهَا عَنْهُمْ.

{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}: وَهُوَ سَنَةُ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، حِينَ حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ ابْنَ عَمِّهِ عَلِيًّا أَنْ يُؤَذِّنَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِـ (بَرَاءَةٌ)، فَنَادَى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.

وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا نَجَاسَةَ الْبَدَنِ؛ فَإِنَّ الْكَافِرَ كَغَيْرِهِ طَاهِرُ الْبَدَنِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ وَطْءَ الْكِتَابِيَّةِ وَمُبَاشَرَتَهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَسْلِ مَا أَصَابَ مِنْهَا، وَالْمُسْلِمُونَ مَا زَالُوا يُبَاشِرُونَ أَبْدَانَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَقَذَّرُوا مِنْهَا تَقَذُّرَهُمْ مِنَ النَّجَاسَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ -كَمَا تَقَدَّمَ-: نَجَاسَتُهُمُ الْمَعْنَوِيَّةُ بِالشِّرْكِ، فَكَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ طَهَارَةٌ، فَالشِّرْكُ نَجَاسَةٌ.

وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ خِفْتُمْ} أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ {عَيْلَةً} أَيْ: فَقْرًا وَحَاجَةً مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ بِأَنْ تَنْقَطِعَ الْأَسْبَابُ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}؛ فَلَيْسَ الرِّزْقُ مَقْصُورًا عَلَى بَابٍ وَاحِدٍ وَمَحَلٍّ وَاحِدٍ، بَلْ لَا يَنْغَلِقُ بَابٌ إِلَّا وَفُتِحَ غَيْرُهُ أَبْوَابٌ كَثِيرَةٌ؛ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَجُودَهُ عَظِيمٌ؛ خُصُوصًا لِمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِوَجْهِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.

وَقَدْ أَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَغْنَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَضْلِهِ، وَبَسَطَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ مَا كَانُوا بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْمُلُوكِ.

وَقَوْلُهُ: {إِنْ شَاءَ} تَعْلِيقٌ لِلْإِغْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ؛ فَلِهَذَا عَلَّقَهُ اللَّهُ بِالْمَشِيئَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ وَالدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عِلْمُهُ وَاسِعٌ، يَعْلَمُ مَنْ يَلِيقُ بِهِ الْغِنَى وَمَنْ لَا يَلِيقُ، وَيَضَعُ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا، وَيُنْزِلُهَا مَنَازِلَهَا.

وَتَدُلُّ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ -وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}- أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَمَا كَانُوا هُمُ الْمُلُوكَ وَالرُّؤَسَاءَ بِالْبَيْتِ؛ ثُمَّ صَارَ بَعْدَ الْفَتْحِ الْحُكْمُ لِرَسُولِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، مَعَ إِقَامَتِهِمْ فِي الْبَيْتِ وَمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ ﷺ؛ أَمَرَ أَنْ يُجْلَوْا مِنَ الْحِجَازِ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، وَكُلُّ هَذَا لِأَجْلِ بُعْدِ كُلِّ كَافِرٍ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا})).

*نِدَاءُ الْإِعْلَامِ بِثَمَرَةِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَالِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10-13].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مُوجِعٍ، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا -جَلَّ ثَنَاؤُهُ- مَا تِلْكَ التِّجَارَةُ الَّتِي تُنْجِينَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ فَقَالَ: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَقَوْلُهُ: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}: وَتُجَاهِدُونَ فِي دِينِ اللهِ وَطَرِيقِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ {ذَلِكُمْ}: إِيمَانُكُمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادُكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ {خَيْرٌ لَكُمْ} مِنْ تَضْيِيعِ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيطِ فِيهِ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مَضَارَّ الْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعَهَا.

يَسْتُرْ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ ذُنُوبَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، فَيَصْفَحُ عَنْكُمْ وَيَعْفُو، {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}: وَيُدْخِلْكُمْ بَسَاتِينَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ، {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً}: وَيُدْخِلْكُمْ -أَيْضًا- مَسَاكِنَ طَيِّبَةً {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} يَعْنِي: فِي بَسَاتِينَ إِقَامَةٍ لَا ظَعْنَ عَنْهَا؛ {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}: ذَلِكَ النَّجَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ نَكَالِ الْآخِرَةِ وَأَهْوَالِهَا)).

((وَأَمَّا الثَّوَابُ الدُّنْيَوِيُّ لِهَذِهِ التِّجَارَةِ فَذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} أَيْ: وَيَحْصُلْ لَكُمْ خَصْلَةٌ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا؛ وَهِيَ: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} لَكُمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ، يَحْصُلُ بِهِ الْعِزُّ وَالْفَرَحُ، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} تَتَّسِعُ بِهِ دَائِرَةُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ الْوَاسِعُ)).

 ((نِدَاءَاتُ الْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ))

إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ كِتَابُ تَعْلِيمٍ وَإِرْشَادٍ، وَكِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَلَى أَكْمَلِ الْأَخْلَاقِ، وَأَحْسَنِ الْآدَابِ، وَأَسْمَى الْأَوْصَافِ، وَحَثَّ عَلَيْهَا بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَزَجَرَ عَنْ ضِدِّهَا، وَلَا يُوجَدُ خُلُقٌ كَامِلٌ إِلَّا وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا أَدَبٌ حَمِيدٌ إِلَّا وَقَدْ دَعَا إِلَيْهِ وَبَيَّنَهُ.

وَالْأَخْلَاقُ الْكَامِلَةُ وَالْآدَابُ السَّامِيَةُ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مُسْتَقِيمَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، مُعْتَدِلَ الْأَحْوَالِ، مُكْتَمِلَ الْأَوْصَافِ الْحَسَنَةِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ نَقِيَّهُ مِنْ كُلِّ دَرَنٍ وَآفَةٍ وَنَقْصٍ، قَوِيَّ الْقَلْبِ، مُتَوَجِّهًا قَلْبُهُ إِلَى أَعْلَى الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا، قَائِمًا بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ، مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، قَدْ حَازَ الشَّرَفَ وَالِاعْتِبَارَ الْحَقِيقِيَّ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ وَآفَةٍ، قَدْ تَوَاطَأَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْفَلَاحِ، وَعُلُوِّ مَكَانَةِ الْمُتَخَلِّقِ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ وَآدَابِهِ، لَا يَمْتَرِي فِيهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ أَكْبَرِ الشَّوَاهِدِ عَلَى حُسْنِ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ.

وَلِهَذَا يُنَبِّهُ اللهُ أُولِي الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ، وَيُوَجِّهُ إِلَيْهِمُ الْخِطَابَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَمُلَ عَقْلُ الْإِنْسَانِ عَرَفَ كَمَالَ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ قَانُونٍ أَوْ نِظَامٍ أَوْ غَيْرِهِمَا يُقَارِبُ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَالًا وَفَضْلًا، وَرِفْعَةً وَعُلُوًّا، وَنَزَاهَةً، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِتَتَبُّعِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ.

وَمَنْ تَتَبَّعَ النِّدَاءَاتِ الْإِلَهِيَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَجَدَ كَثِيرًا مِنَ النِّدَاءَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْآدَابِ السَّامِيَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ الْعَالِيَةِ.

*وَمِنْ هَذِهِ النِّدَاءَاتِ: نِدَاءَاتُ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ:

لَقَدْ أَدَّبَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَدَبِ الرَّفِيعِ تِجَاهَ شَرِيعَةِ اللهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ ﷺ، وَهُوَ أَلَّا يُبْرِمُوا أَمْرًا أَوْ يُبْدُوا رَأْيًا أَوْ يَقْضُوا حُكْمًا فِي وُجُودِ الرَّسُولِ ﷺ حَتَّى يَسْتَشِيرُوهُ، وَيَسْتَمْسِكُوا بِإِرْشَادَاتِهِ الْحَكِيمَةِ: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ ﷺ؛ فَبِالرُّجُوعِ إِلَى سُنَّتِهِ.

ثُمَّ انْتَقَلَتْ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ إِلَى أَدَبٍ آخَرَ، وَهُوَ خَفْضُ الصَّوْتِ إِذَا تَحَدَّثُوا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ؛ تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ الشَّرِيفِ، وَاحْتِرَامًا لِمَقَامِهِ السَّامِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَعَامَّةِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ رَسُولُ اللهِ، وَمِنْ وَاجِبِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَأَدَّبُوا مَعَهُ فِي الْخِطَابِ مَعَ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}.

لَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ مِنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَأَنْ يَكُونُوا مَاشِينَ خَلْفَ أَوَامِرِ اللَّهِ، مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، وَأَلَّا يَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ، وَلَا يَأْمُرُوا حَتَّى يَأْمُرَ؛ فَإِنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَفَلَاحِهِ، وَبِفَوَاتِهِ تَفُوتُهُ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنَّعِيمُ السَّرْمَدِيُّ، وَفِي هَذَا: النَّهْيُ الشَّدِيدُ عَنْ تَقْدِيمِ قَوْلِ غَيْرِ الرَّسُولِ ﷺ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَإِنَّهُ مَتَى اسْتَبَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ وَجَبَ اتِّبَاعُهَا، وَتَقْدِيمُهَا عَلَى غَيْرِهَا كَائِنًا مَا كَانَ.

ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ بِتَقْوَاهُ عُمُومًا، وَهِيَ كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: ((أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، تَخْشَى عِقَابَ اللهِ)).

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِجَمِيعِ الْأَصْوَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فِي خَفِيِّ الْمَوَاضِعِ وَالْجِهَاتِ، عَلِيمٌ بِالظَّوَاهِرِ وَالْبَوَاطِنِ، وَالسَّوَابِقِ وَاللَّوَاحِقِ، وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ وَالْجَائِزَاتِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَيْ: لَا تَتَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْمُرَادُ: لَا تَسْبِقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ بِقَوْلٍ أَوْ بِفِعْلٍ.

وَمِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ: الْبِدَعُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا؛ فَإِنَّهَا تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَمِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ: أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ قَوْلًا يُحْكَمُ بِهِ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ -أَوْ فِي عِبَادِ اللهِ- وَلَيْسَ فِي شَرِيعَةِ اللهِ؛ كَأَنْ يَقُولَ: (هَذَا حَرَامٌ)، أَوْ (هَذَا حَلَالٌ)، أَوْ (هَذَا وَاجِبٌ)، أَوْ (هَذَا مُسْتَحَبٌّ) بِدُونِ دَلِيلٍ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وَعَلَى مَنْ قَالَ قَوْلًا وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ؛ حَتَّى لَوْ شَاعَ الْقَوْلُ بَيْنَ النَّاسِ وَانْتَشَرَ، وَعَمِلَ بِهِ مَنْ عَمِلَ مِنَ النَّاسِ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَأَنْ يُعْلِنَ رُجُوعَهُ -أَيْضًا- كَمَا أَعْلَنَ مُخَالَفَتَهُ الَّتِي قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِيهَا إِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنِ اجْتِهَادٍ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنْ تَمَادَى الْإِنْسَانُ فِي مُخَالَفَةِ الْحَقِّ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ ﷺ.

{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ الْتَزِمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، الْتَزِمُوا الْكِتَابَ عَلَى مُرَادِ اللهِ، وَالسُّنَّةَ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَافْهَمُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.

{وَاتَّقُوا اللهَ}: هَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُخَالِفٌ لِلتَّقْوَى؛ لَكِنْ نَصَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ لِأَهَمِّيَّتِهِ.

وَمَعْنَى: {وَاتَّقُوا اللهَ} أَيِ: اتِّخِذُوا وِقَايَةً مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا قَامَ الْإِنْسَانُ بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي، بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ -تَعَالَى-، وَمَحَبَّةً لِثَوَابِهِ، وَتَرْكِ النَّوَاهِي خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

أَمَّا الْأَدَبُ الثَّانِي؛ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَرَ بِالْأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي خِطَابِهِ؛ أَيْ: لَا يَرْفَعُ الْمُخَاطِبُ لَهُ صَوْتَهُ مَعَهُ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَلَا يَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ، بَلْ يَغُضُّ الصَّوْتَ، وَيُخَاطِبُهُ بِأَدَبٍ وَلِينٍ، وَتَعْظِيمٍ وَتَكْرِيمٍ، وَإِجْلَالٍ وَإِعْظَامٍ، وَلَا يَكُونُ الرَّسُولُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ يُمَيِّزُوهُ فِي خِطَابِهِمْ، كَمَا تَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ فِي وُجُوبِ حَقِّهِ عَلَى الْأُمَّةِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْحُبِّ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ؛ فَإِنَّ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ مَحْذُورًا وَخَشْيَةَ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُ الْعَبْدِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، كَمَا أَنَّ الْأَدَبَ مَعَهُ مِنْ أَسْبَابِ حُصُولِ الثَّوَابِ وَقَبُولِ الْأَعْمَالِ.

ثُمَّ مَدَحَ مَنْ غَضَّ صَوْتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِأَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى؛ أَيِ: ابْتَلَاهَا وَاخْتَبَرَهَا، فَظَهَرَتْ نَتِيجَةُ ذَلِكَ بِأَنْ صَلَحَتْ قُلُوبُهُمْ لِلتَّقْوَى، ثُمَّ وَعَدَهُمُ الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِهِمُ الْمُتَضَمِّنَةِ لِزَوَالِ الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ، وَالْأَجْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ وَصْفَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْأَجْرِ الْعَظِيمِ وُجُودُ الْمَحْبُوبِ.

وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُ الْقُلُوبَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمِحَنِ، فَمَنْ لَازَمَ أَمْرَ اللَّهِ، وَاتَّبَعَ رِضَاهُ، وَسَارَعَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدَّمَهُ عَلَى هَوَاهُ؛ تَمَحَّضَ وَتَمَحَّصَ لِلتَّقْوَى، وَصَارَ قَلْبُهُ صَالِحًا لَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّقْوَى.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

((الْآيَةُ الْأُولَى فِيهَا النَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي أَيِّ شَيْءٍ؛ سَوَاءٌ مِنَ الْأَقْوَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ؛ فَهِيَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَقَدُّمٌ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ إِيجَابٍ.

يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}؛ فَإِذَا خَاطَبَكَ النَّبِيُّ ﷺ بِصَوْتٍ؛ فَاخْفِضْ صَوْتَكَ عَنْ صَوْتِهِ، وَإِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَارْفَعْ صَوْتَكَ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَ صَوْتِ الرَّسُولِ ﷺ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}.

{وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} يَعْنِي: لَا تُنَادُوهُ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ كَمَا يُنَادِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بَلْ يَكُونُ جَهْرًا بِأَدَبٍ وَتَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ يَلِيقُ بِهِ ﷺ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} يَعْنِي: إِذَا دَعَاكُمْ لِشَيْءٍ؛ فَلَا تَجْعَلُوا دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، إِنْ شِئْتُمْ أَجَبْتُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَا تُجِيبُوا، بَلْ تَجِبُ عَلَيْكُمُ الْإِجَابَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، وَهُنَا قَالَ: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}، كَذَلِكَ -أَيْضًا- لَا تُنَادُوهُ بِمَا تَتَنَادَوْنَ بِهِ، لَا تَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ! وَلَكِنْ قُولُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، يَا نَبِيَّ اللهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} يَعْنِي: كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ ﷺ، وَعَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ؛ كَرَاهَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.

فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، أَوْ يَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ قَدْ يَحْبَطُ عَمَلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ يَجْعَلُ فِي قَلْبِ الْمَرْءِ اسْتِهَانَةً بِرَسُولِ اللهِ ﷺ، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالرَّسُولِ ﷺ رِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ حُبُوطَ الْعَمَلِ.

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، وَكَانَ مِنْ خُطَبَاءِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ؛ تَغَيَّبَ فِي بَيْتِهِ، وَصَارَ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَافْتَقَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَسَأَلَ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ فِي بَيْتِهِ مُنْذُ نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.

وَأَخْبَرَهُ -أَيْ: أَخْبَرَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ ﷺ- أَنَّهُ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَدَعَاهُ الرَّسُولُ ﷺ، فَحَضَرَ، وَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ -وَالَّذِي فِي الرِّوَايَةِ: أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْبُشْرَى-.

وَلِذَلِكَ كَانَ ثَابِتٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِمَّنْ يُشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِعَيْنِهِ -أَيْ: عَلَى التَّعْيِينِ-؛ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَشْهَدُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَشْهَدُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّهُ فِي النَّارِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ؛ فَنَشْهَدُ لَهُ بِالْعُمُومِ، فَنَقُولُ: كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَكُلُّ كَافِرٍ فِي النَّارِ، وَلَا نَشْهَدُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ إِلَّا مَنْ شَهِدَ لَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَرَسُولُهُ ﷺ.

فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَيَانُ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ ﷺ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْهَرَ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِهِ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى صَوْتِ الرَّسُولِ ﷺ.

لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَأَدَّبَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِذَلِكَ؛ حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ ﷺ مُسَارَّةً، وَلَا يَفْهَمُ الرَّسُولُ ﷺ مَا يَقُولُ مِنْ إِسْرَارِهِ حَتَّى يَسْتَثْبِتَهُ مَرَّةً أُخْرَى.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].

((كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ حِينَ خِطَابِهِمْ لِلرَّسُولِ عِنْدَ تَعَلُّمِهِمْ أَمْرَ الدِّينِ: {رَاعِنَا} أَيْ: رَاعِ أَحْوَالَنَا، فَيَقْصِدُونَ بِهَا مَعْنًى صَحِيحًا، وَكَانَ الْيَهُودُ يُرِيدُونَ بِهَا مَعْنًى فَاسِدًا، فَانْتَهَزُوا الْفُرْصَةَ فَصَارُوا يُخَاطِبُونَ الرَّسُولَ بِذَلِكَ، وَيَقْصِدُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ؛ سَدًّا لِهَذَا الْبَابِ.

فَفِيهِ: النَّهْيُ عَنِ الْجَائِزِ إِذَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَى مُحَرَّمٍ، وَفِيهِ: الْأَدَبُ وَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا الْحَسَنَ، وَعَدَمُ الْفُحْشِ، وَتَرْكُ الْأَلْفَاظِ الْقَبِيحَةِ، أَوِ الَّتِي فِيهَا نَوْعُ تَشْوِيشٍ، أَوِ احْتِمَالٍ لِأَمْرٍ غَيْرِ لَائِقٍ، فَأَمَرَهُمْ بِلَفْظَةٍ لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا الْحَسَنَ فَقَالَ: {وَقُولُوا انْظُرْنَا}؛ فَإِنَّهَا كَافِيَةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ مَحْذُورٍ، {وَاسْمَعُوا}: لَمْ يَذْكُرِ الْمَسْمُوعَ؛ لِيَعُمَّ مَا أَمَرَ بِاسْتِمَاعِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ سَمَاعُ الْقُرْآنِ، وَسَمَاعُ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ الْحِكْمَةُ لَفْظًا وَمَعْنًى وَاسْتِجَابَةً، فَفِيهِ الْأَدَبُ وَالطَّاعَةُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ ۚ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المجادلة: 12].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ! إِذَا نَاجَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ فَقَدِّمُوا أَمَامَ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً تَتَصَدَّقُونَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْحَاجَةِ، {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ}: تَقْدِيمُكُمُ الصَّدَقَةَ أَمَامَ نَجْوَاكُمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ {وَأَطْهَرُ} لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الْمَآثِمِ)).

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّدَقَةِ أَمَامَ مُنَاجَاةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ؛ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَتَعْلِيمًا، وَتَعْظِيمًا لِلرَّسُولِ ﷺ )).

 

وَيَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّأَدُّبِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ﷺ فِي دُخُولِ بُيُوتِهِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].

(({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} أَيْ: لَا تَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ لِلدُّخُولِ فِيهَا لِأَجْلِ الطَّعَامِ، وَأَيْضًا لَا تَكُونُوا نَاظِرِينَ إِنَاهُ؛ أَيْ: مُنْتَظِرِينَ وَمُتَأَنِّينَ لِانْتِظَارِ نُضْجِهِ، أَوْ سِعَةِ صَدْرٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ:

الْإِذْنُ لَكُمْ بِالدُّخُولِ، وَأَنْ يَكُونَ جُلُوسُكُمْ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أَيْ: قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ.

ثُمَّ بَيَّنَ حِكْمَةَ النَّهْيِ وَفَائِدَتَهُ فَقَالَ: {إِنَّ ذَلِكُمْ} أَيِ: انْتِظَارَكُمُ الزَّائِدَ عَلَى الْحَاجَةِ {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أَيْ: يَتَكَلَّفُ مِنْهُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ حَبْسُكُمْ إِيَّاهُ عَنْ شُؤُونِ بَيْتِهِ وَاشْتِغَالِهِ فِيهِ، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أَنْ يَقُولَ لَكُم: (اخْرُجُوا) كَمَا هُوَ جَارِي الْعَادَةِ؛ أَنَّ النَّاسَ -خُصُوصًا أَهْلَ الْكَرَمِ مِنْهُمْ- يَسْتَحْيُونَ أَنْ يُخْرِجُوا النَّاسَ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ؛ فَالْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ وَلَوْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ فِي تَرْكِهِ أَدَبًا وَحَيَاءً فَإِنَّ الْحَزْمَ كُلَّ الْحَزْمِ اتِّبَاعُ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنْ يُجْزَمَ أَنَّ مَا خَالَفَهُ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ فِي شَيْءٍ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِمَا فِيهِ الْخَيْرُ لَكُمْ وَالرِّفْقُ لِرَسُولِهِ كَائِنًا مَا كَانَ.

فَهَذَا أَدَبُهُمْ فِي الدُّخُولِ فِي بُيُوتِهِ.

وَأَمَّا أَدَبُهُمْ مَعَهُ فِي خِطَابِ زَوْجَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ لَا يُحْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَالْأَدَبُ تَرْكُهُ، وَإِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ؛ كَأَنْ يُسْأَلْنَ مَتَاعًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَوَانِي الْبَيْتِ أَوْ نَحْوِهَا؛ فَإِنَّهُنَّ يُسْأَلْنَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَيْ: يَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ سِتْرٌ يَسْتُرُ عَنِ النَّظَرِ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَصَارَ النَّظَرُ إِلَيْهِنَّ مَمْنُوعًا بِكُلِّ حَالٍ، وَكَلَامُهُنَّ فِيهِ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيبَةِ، وَكُلَّمَا بَعُدَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الشَّرِّ فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَهُ وَأَطْهَرُ لِقَلْبِهِ؛ فَلِهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ كَثِيرًا مِنْ تَفَاصِيلِهَا: أَنَّ جَمِيعَ وَسَائِلِ الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ مَمْنُوعَةٌ، وَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ الْبُعْدُ عَنْهَا بِكُلِّ طَرِيقٍ.

ثُمَّ قَالَ كَلِمَةً جَامِعَةً وَقَاعِدَةً عَامَّةً: {وَمَا كَانَ لَكُمْ} يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: غَيْرُ لَائِقٍ وَلَا مُسْتَحْسَنٍ مِنْكُمْ؛ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ شَيْءٍ {أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أَيْ: أَذِيَّةً قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً بِجَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}: هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا يُؤْذِيهِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ لَهُ مَقَامُ التَّعْظِيمِ وَالرِّفْعَةِ وَالْإِكْرَامِ، وَتَزَوُّجُ زَوْجَاتِهِ بَعْدَهُ مُخِلٌّ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُنَّ زَوْجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ فَلِذَلِكَ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ زَوْجَاتِهِ بَعْدَهُ لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ.

{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}: وَقَدِ امْتَثَلَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ هَذَا الْأَمْرَ، وَاجْتَنَبَتْ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! لَا تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلَا تَكُونُوا أَمْثَالَ الَّذِينَ آذَوْا نَبِيَّ اللهِ مُوسَى، فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالزُّورِ، وَكَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمَ الْقَدْرِ وَالْجَاهِ)).

*نِدَاءُ اللَّوْمِ عَلَى مَنْ يَقُولُ وَلَا يَفْعَلُ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3].

(({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} أَيْ: لِمَ تَقُولُونَ الْخَيْرَ وَتَحُثُّونَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا تَمَدَّحْتُمْ بِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَفْعَلُونَهُ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الشَّرِّ، وَرُبَّمَا نَزَّهْتُمْ أَنْفُسَكُمْ عَنْهُ وَأَنْتُمْ مُتَلَوِّثُونَ بِهِ، وَمُتَّصِفُونَ بِهِ.

فَهَلْ تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْحَالَةُ الذَّمِيمَةُ؟! أَمْ مِنْ أَكْبَرِ الْمَقْتِ عِنْدَ اللهِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ مَا لَا يَفْعَلُ؟!)).

*نِدَاءُ النَّهْيِ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ لَا فَائِدَةَ مِنْهَا:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101].

((هَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَهْيٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي السُّؤَالِ وَالتَّنْقِيبِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ أُظْهِرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْأُمُورُ رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهَا)).

*نِدَاءَاتُ آدَابِ الِاسْتِئْذَانِ:

مِنَ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَدَّبَ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ: آدَابُ الِاسْتِئْذَانِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 27-29].

((أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْنِسُوا؛ أَيْ: يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيُسَلِّمُوا بَعْدَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ؛ وَإِلَّا انْصَرَفَ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58-59].

((أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُمْ مَمَالِيكُهُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْهُمْ، قَدْ ذَكَرَ اللهُ حِكْمَتَهُ، وَأَنَّهُ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لِلْمُسْتَأْذَنِ عَلَيْهِمْ؛ وَقْتُ نَوْمِهِمْ بِاللَّيْلِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَعِنْدَ انْتِبَاهِهِمْ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ؛ فَهَذَا -فِي الْغَالِبِ- أَنَّ النَّائِمَ يَسْتَعْمِلُ لِلنَّوْمِ فِي اللَّيْلِ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِهِ الْمُعْتَادِ، وَأَمَّا نَوْمُ النَّهَارِ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي الْغَالِبِ قَلِيلًا قَدْ يَنَامُ فِيهِ الْعَبْدُ بِثِيَابِهِ الْمُعْتَادَةِ؛ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} أَيْ: لِلْقَائِلَةِ وَسَطَ النَّهَارِ.

فَفِي ثَلَاثَةِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ الْمَمَالِيكُ وَالْأَوْلَادُ الصِّغَارُ كَغَيْرِهِمْ، لَا يُمَكَّنُونَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَأَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أَيْ: لَيْسُوا كَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ دَائِمًا، فَيَشُقُّ الِاسْتِئْذَانُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أَيْ: يَتَرَدَّدُونَ عَلَيْكُمْ فِي قَضَاءِ أَشْغَالِكُمْ وَحَوَائِجِكُمْ.

{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ}: وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَنِيِّ يَقَظَةً أَوْ مَنَامًا {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الْآيَةَ)).

*نِدَاءُ آدَابِ الْمَجَالِسِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

((هَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ مُجْتَمَعَاتِهِمْ، وَاحْتَاجَ بَعْضُهُمْ أَوْ بَعْضُ الْقَادِمِينَ عَلَيْهِمْ لِلتَّفَسُّحِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ فَإِنَّ مِنَ الْأَدَبِ أَنْ يُفْسِحُوا لَهُ تَحْصِيلًا لِهَذَا الْمَقْصُودِ.

{وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} أَيِ: ارْتَفِعُوا وَتَنَحَّوْا عَنْ مَجَالِسِكُمْ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ {فَانْشُزُوا} أَيْ: فَبَادِرُوا لِلْقِيَامِ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الْقِيَامَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ)).

*نِدَاءُ آدَابِ الْمُنَاجَاةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 9-10].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ! لَا تَسْلُكُوا طَرِيقَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ؛ إِذَا تَحَدَّثْتُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ سِرًّا فَلَا تَتَحَدَّثُوا بِمَا فِيهِ ذَنْبٌ وَظُلْمٌ، وَتَجَاوُزٌ لِلْحَدِّ الْمَأْذُونِ بِهِ، وَمُخَالَفَةٌ لِأَمْرِ الرَّسُولِ ﷺ، وَتَحَدَّثُوا سِرًّا إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَتَنَاجَوْا بِالتَّوَسُّعِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ مِنْ نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ فَوْقَ حُدُودِ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالِالْتِزَامِ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.

مَا التَّحَدُّثُ خُفْيَةً بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ﷺ إِلَّا مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، يُزَيِّنُ ذَلِكَ لِيُدْخِلَ الْحُزْنَ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّنَاجِي بِمُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا إِلَّا مَا أَرَادَ اللهُ -تَعَالَى-)).

*نِدَاءُ وُجُوبِ التَّثَبُّتِ فِي الْأَخْبَارِ:

يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَأَنْ يَتَرَوَّى فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ، وَالْعَمَلِ بِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ عَلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ جَاءَ بِنَبَإٍ مُمْكِنٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَهَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ الْفَاسِقُ حَقٌّ أَوْ كَذِبٌ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّثَبُّتُ.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يَدُلُّ بِدَليلِ خِطَابِهِ -أَعْنِي: مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ- أَنَّ الْجَائِيَ بِنَبَإٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِقٍ.. بَلْ عَدْلًا؛ لَا يَلْزَمُ التَّبَيُّنُ فِي نَبَئِهِ.. عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَبَيَّنُوا}، وَلَا التَّثَبُّتُ.. عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَثَبَّتُوا} -قَالَ:- وَهُوَ كَذَلِكَ)).

*نِدَاءُ النَّهْيِ عَنِ السُّخْرِيَةِ مِنَ النَّاسِ وَإِيذَائِهِمْ بِاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالْأَلْقَابِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

هَذَا -أَيْضًا- مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ؛ أَلَّا يَسْخَرَ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ بِكُلِّ كَلَامٍ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ دَالٍّ عَلَى تَحْقِيرِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى إِعْجَابِ السَّاخِرِ بِنَفْسِهِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُورُ بِهِ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَالْوَاقِعُ، فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا مِنْ قَلْبٍ مُمْتَلِئٍ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، مُتَحَلٍّ بِكُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ، مُتَخَلٍّ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِحَسَبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ أَيْ: لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ: بِالْقَوْلِ، وَالْهَمْزِ: بِالْفِعْلِ، وَكِلَاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ، مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} الْآيَةُ، وَسُمِّيَ الْأَخُ الْمُسْلِمُ نَفْسًا لِأَخِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا حَالُهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا هَمَزَ غَيْرَهُ؛ أَوْجَبَ لِلْغَيْرِ أَنْ يَهْمِزَهُ، فَيَكُونُ هُوَ الْمُتَسَبِّبَ لِذَلِكَ.

{وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}؛ أَيْ: لَا يُعَيِّرْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَا يُلَقِّبْهُ بِلَقَبِ ذَمٍّ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ التَّنَابُزُ، وَأَمَّا الْأَلْقَابُ غَيْرُ الْمَذْمُومَةِ فَلَا تَدْخُلُ فِي هَذَا.

{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}؛ أَيْ: بِئْسَمَا تَبَدَّلْتُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِاسْمِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، الَّذِي هُوَ التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}: وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَخْرُجَ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بِاسْتِحْلَالِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْمَدْحِ لَهُ مُقَابَلَةً عَلَى ذَمِّه إِيَّاهِ.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}؛ فَالنَّاسُ قِسْمَانِ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ غَيْرُ تَائِبٍ، وَتَائِبٌ مُفْلِحٌ، وَلَا ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا.

*نِدَاءُ النَّهْيِ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ:

((وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا الظَّنُّ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لَدَى الْإِنْسَانِ احْتِمَالَانِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُنَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} وَلَمْ يَقُلْ: اجْتَنِبُوا الظَّنَّ كُلَّهُ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: ظَنُّ خَيْرٍ بِالْإِنْسَانِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ: أَنْ تَظُنَّ بِإِخْوَانِكَ خَيْرًا مَا دَامُوا أَهْلًا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ؛ فَإِنَّ هَذَا يُظَنُّ بِهِ خَيْرًا، وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ إِسْلَامِهِ وَأَعْمَالِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: ظَنُّ السُّوءِ، وَهَذَا يَحْرُمُ بِالنِّسْبَةِ لِمُسْلِمٍ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ تَظُنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، فَقَالُوا -رَحِمَهُمُ اللهُ-: يَحْرُمُ ظَنُّ السَّوْءِ بِمُسْلِمٍ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ.

أَمَّا ظَنُّ السَّوْءِ بِمَنْ قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ؛ فَهَذَا لَا حَرَجَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَظُنَّ السَّوْءَ بِهِ.

{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ وَقَدْ تُوحِي هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَنَّ أَكْثَرَ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ تَمَامًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَقَسَّمْنَاهُ؛ أَنَّ الظَّنَّ نَوْعَانِ: ظَنُّ خَيْرٍ، وَظَنُّ سُوءٍ، ثُمَّ ظَنُّ السُّوءِ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى وُجُودِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}؛ فَمَا هُوَ الظَّنُّ الَّذِي لَيْسَ بِإِثْمٍ؟

هُوَ ظَنُّ الْخَيْرِ، وَظَنُّ السُّوءِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.. فَهَذَا لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ لِأَنَّ ظَنَّ الْخَيْرِ هُوَ الْأَصْلُ، وَظَنُّ السُّوءِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ.. هَذَا -أَيْضًا- أَيَّدَتْهُ الْقَرِينَةُ)).

{وَلَا تَجَسَّسُوا}؛ لَا تُفَتِّشُوا عَنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوهَا، وَاتْرُكُوا الْمُسْلِمَ عَلَى حَالِهِ، وَاسْتَعْمِلُوا التَّغَافُلَ عَنْ أَحْوَالِهِ الَّتِي إِذَا فَتَّشْتَ؛ ظَهَرَ مِنْهَا مَا لَا يَنْبَغِي.

وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».

{وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] أَيْ: وَلَا يَقُلْ بَعْضُكُمْ فِي بَعْضٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مَا يَكْرَهُ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ وَهُوَ مَيِّتٌ؟!!

لَا شَكَّ أَنَّكُمْ تَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَتَعَافُهُ نُفُوسُكُمْ، وَتَتَقَزَّزُ مِنْهُ؛ فَاكْرَهُوا -أَيْضًا- اغْتِيَابَهُ وَذِكْرَهُ بِمَا يَكْرَهُ.

احْذَرِ الْغِيبَةَ فَهْيَ الْفِسْقُ لَا رُخْصَةَ فِيهِ=إِنَّمَا الْمُغْتَابُ كَالْآكِلِ مِنْ لَحْمِ أَخِيهِ

((نِدَاءَاتُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ))

لَقَدْ جَعَلَ اللهُ الْقُرْآنَ تِبْيَانًا لكُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعَ التَّرْبِيَةَ النَّافِعَةَ وَالتَّعْلِيمَ، مَزَجَ هَذَا بِهَذَا، فَمَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، مَفْهُومًا فِيهِ هَدْيَ النَّبِيِّ ﷺ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَنَحْوِهَا؛ اكْتَفَى بِذِكْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ أَمْرًا بِهِ، أَوْ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ، أَوْ ثَنَاءً عَلَى فَاعِلِهِ، وَبَيَانًا لِأَجْرِهِ وَثَوَابِهِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيَكُونُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ مُحَوَّلًا فِيهِ عَلَى مَا عُلِمَ وَعُرِفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُعَامَلَاتُ.

وَكَثِيرٌ مِنَ النِّدَاءَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

وَقَدْ حَفَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِالْعَدِيدِ مِنَ النِّدَاءَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ، تَأْمُرُهُمْ وَتَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِصُنُوفِ الْعِبَادَاتِ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، فَنَادَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ؛ مِنْ أَجْلِ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْقِيَامِ بِالصَّوْمِ، وَأَدَاءِ الْحَجِّ، وَالْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَذِكْرِ اللهِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، وَحَثَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ.

*نِدَاءُ السَّعْيِ إِلَى الصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللهِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].

((يَقُولُ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}: وَذَلِكَ هُوَ النِّدَاءُ؛ يُنَادَى بِالدُّعَاءِ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِلْخُطْبَةِ؛ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ، وَاعْمَلُوا لَهُ.

سَعْيُكُمْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى ذِكْرِ اللهِ، وَتَرْكُ الْبَيْعِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَصَالِحَ أَنْفُسِكُمْ وَمَضَارَّهَا.

فَإِذَا قُضِيَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ إِنْ شِئْتُمْ، ذَلِكَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ لَكُمْ فِي ذَلِكَ.

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: وَاذْكُرُوا اللهَ بِالْحَمْدِ لَهُ وَالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّوْفِيقِ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ؛ لِتُفْلِحُوا فَتُدْرِكُوا طَلَبَاتِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَتَصِلُوا إِلَى الْخُلْدِ فِي جِنَانِهِ)).

*نِدَاءُ فَرْضِ الصِّيَامِ:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الصِّيَامَ بِالإِمْسَاكِ عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالجِمَاعِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مَعَ النِّيَّةِ، كَمَا فُرِضَ الصِّيَامُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالأُمَمِ، وَرَغْبَةَ أنْ تَخْتَارُوا بِإِرَادَتِكُمُ العَمَلَ بِهَذِهِ العِبَادَةِ، فَتَتَّقُوا بِذَلِكَ عِقَابَ اللهِ عَلَى المُخَالَفَةِ، وَتَنْتَظِمُوا فِي زُمْرَةِ المُتَّقِينَ.

*نِدَاءُ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ فِي سَبِيلِهِ سَبِيلِ الْخَيْرِ؛ لِيَدَّخِرُوا ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَلِيكِهِمْ، وَلِيُبَادِرُوا إِلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ {لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} أَيْ: لَا يُبَاعُ أَحَدٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُفَادَى بِمَالٍ لَوْ بَذَلَهُ وَلَوْ جَاءَ بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَلَا تَنْفَعُهُ خُلَّةُ أَحَدٍ، أَيْ: صَدَاقَتُهُ؛ بَلْ وَلَا نَسَابَتُهُ، كَمَا قَالَ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، {وَلَا شَفَاعَةٌ} أَيْ: وَلَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ .

وَقَوْلُهُ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وَلَا ظَالِمَ أَظْلَمُ مِمَّنْ وَافَى اللهَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّفَقَةِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ، وَمِمَّا أَخْرَجَ لَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، فَكَمَا مَنَّ عَلَيْكُمْ بِتَسْهِيلِ تَحْصِيلِهِ فَأَنْفِقُوا مِنْهُ شُكْرًا للهِ، وَأَدَاءً لِبَعْضِ حُقُوقِ إِخْوَانِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَطْهِيرًا لِأَمْوَالِكُمْ، وَاقْصِدُوا فِي تِلْكَ النَّفَقَةِ الطَّيِّبَ الَّذِي تُحِبُّونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَيَمَّمُوا الرَّدِيءَ الَّذِي لَا تَرْغَبُونَهُ، وَلَا تَأْخُذُونَهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْإِغْمَاضِ وَالْمُسَامَحَةِ.

{واعلموا أن الله غني حميد}: فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَنَفْعُ صَدَقَاتِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ عَائِدٌ إِلَيْكُمْ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ حَمِيدٌ عَلَى مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ الْحَمِيدَةِ وَالْخِصَالِ السَّدِيدَةِ؛ فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَمْتَثِلُوا أَوَامِرَهُ؛ لِأَنَّهَا قُوتُ الْقُلُوبِ، وَحَيَاةُ النُّفُوسِ، وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ)).

*نِدَاءُ التَّحْذِيرِ مِنْ فِتْنَةِ الْأَزْوَاجِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن: 14-18].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَاتَّبَعُوا شَرْعَهُ! إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ؛ يَصُدُّونَكُمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَقَدْ يَحْمِلُونَكُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، وَارْتِكَابِ الْآثَامِ، وَالْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي؛ فَاحْذَرُوا أَنْ تُطِيعُوهُمْ، وَلَا تَأْمَنُوا غَوَائِلَهُمْ وَشَرَّهُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9-11].

*نِدَاءُ الْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّقْوَى وَالْعِبَادَةَ وَالْجِهَادَ سَبِيلُ الْفَلَاحِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَهِيَ إِذَا قُرِنَتْ بِالطَّاعَةِ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الِانْكِفَافَ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَهَا: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أَيِ: الْقُرْبَةَ.

وَقَوْلُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: لَمَّا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْمَحَارِمِ، وَفِعْلِ الطَّاعَاتِ؛ أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ الْخَارِجِينَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، التَّارِكِينَ لِلدِّينِ الْقَوِيمِ، وَرَغَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالَّذِي أَعَدَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْفَلَاحِ، وَالسَّعَادَةِ الْعَظِيمَةِ الْخَالِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، الَّتِي لَا تَبِيدُ وَلَا تَحُولُ وَلَا تَزُولُ، فِي الْغُرَفِ الْعَالِيَةِ الرَّفِيعَةِ الْآمِنَةِ، الْحَسَنَةِ مَنَاظِرُهَا، الطَّيِّبَةِ مَسَاكِنُهَا، الَّتِي مَنْ سَكَنَهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ، وَيَحْيَا لَا يَمُوتُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ)).

*نِدَاءُ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَالصِّدْقِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

((‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بِاللَّهِ، وَبِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ! قُومُوا بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِتَقْوَى اللَّهِ -تَعَالَى-؛ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْبُعْدِ عَنْهُ.‏

‏{‏وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَأَفْعَالِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ، الَّذِينَ أَقْوَالُهُمْ صِدْقٌ، وَأَعْمَالُهُمْ وَأَحْوَالُهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا صِدْقًا خَلِيَّةً مِنَ الْكَسَلِ وَالْفُتُورِ، سَالِمَةً مِنَ الْمَقَاصِدِ السَّيِّئَةِ، مُشْتَمِلَةً عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ‏، قَالَ اللهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ‏}‏ الْآيَةَ))‏.‏ 

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! إِنْ تَتَّقُوا اللهَ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ يَجْعَلْ لَكُمْ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَيَمْحُ عَنْكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، وَيَسْتُرْهَا عَلَيْكُمْ، فَلَا يُؤَاخِذُكُمْ بِهَا، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

*نِدَاءُ وُجُوبِ الْجِهَادِ، وَالثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ:

نَادَى رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ وَدَاعِي الْيَقِينِ:  الْمُبَادَرَةَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْمُسَارَعَةَ إِلَى رِضَاهُ، وَجِهَادَ أَعْدَائِهِ، وَالنُّصْرَةَ لِدِينِهِمْ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

((هَذَا شُرُوعٌ فِي عِتَابِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَحَمَّارَةِ الْقَيْظِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَيْ: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} أَيْ: تَكَاسَلْتُمْ، وَمِلْتُمْ إِلَى الْمُقَامِ فِي الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ؛ {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أَيْ: مَا لَكُمْ فَعَلْتُمْ هَكَذَا؛ أَرِضًا مِنْكُمْ بِالدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ؟!

ثُمَّ زَهَّدَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الدُّنْيَا، وَرَغَّبَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ؛ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟! وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ)))).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 71-73].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَخْذِ حِذْرِهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمُ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْأَخْذَ بِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَيُسْتَدْفَعُ مَكْرُهُمْ وَقُوَّتُهُمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].

((أَرْشَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنَّهُمْ يَبْدَؤُونَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَالشِّدَّةِ فِي الْقِتَالِ، وَالشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ.‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ أَيْ‏:‏َ وَلْيَكُنْ لَدَيْكُمْ عِلْمٌ أَنَّ الْمَعُونَةَ مِنَ اللَّهِ تَنْزِلُ بِحَسَبِ التَّقْوَى؛ فَلَازِمُوا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ يُعِنْكُمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ.

وَهَذَا الْعُمُومُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ‏}‏ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي قِتَالِ غَيْرِ الَّذِينَ يَلُونَنَا، وَأَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ كَثِيرَةٌ جِدًّا)).‏

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 16-19].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ! إِذَا قَابَلْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجْتَمِعِينَ، يَزْحَفُونَ زَحْفًا لِقِتَالِكُمْ؛ فَلَا تُدِيرُوا لَهُمْ ظُهُورَكُمْ مُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ؛ وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَّةً.

وَالَّذِي يَنْهَزِمُ وَيُدِيرُ لَهُمْ ظَهْرَهُ يَوْمَ الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ:

- الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فِي تَوَلِّيهِ مُنْعَطِفًا إِلَى الْقِتَالِ، يُرِي عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ الِانْهِزَامَ، وَقَصْدُهُ طَلَبُ الْكَرَّةِ عَلَى الْعَدُوِّ، وَالْعَوْدُ إِلَيْهِ.

- وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُنْضَمًّا وَصَائِرًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُونَ الْعَوْدَةَ إِلَى الْقِتَالِ.

فَمَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ الْحَرْبِ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ؛ فَقَدْ رَجَعَ مُتَلَبِّسًا بِغَضَبِ اللهِ، مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَمَأْوَاهُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].

((يَقُولُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً‏}‏ أَيْ‏:‏ طَائِفَةً مِنَ الْكُفَّارِ تُقَاتِلُكُمْ‏ ‏{‏فَاثْبُتُوا‏}‏ لِقِتَالِهَا، وَاسْتَعْمِلُوا الصَّبْرَ وَحَبْسَ النَّفْسِ عَلَى هَذِهِ الطَّاعَةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي عَاقِبَتُهَا الْعِزُّ وَالنَّصْرُ‏.‏

وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أَيْ‏:‏ُ تُدْرِكُونَ مَا تَطْلُبُونَ مِنَ الِانْتِصَارِ عَلَى أَعْدَائِكُمْ؛ فَالصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ لِلنَّصْرِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 9-22].

((يَقُولُ -تَعَالَى- مُخْبِرًا عَنْ نِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَرْفِهِ أَعْدَاءَهُمْ، وَهَزْمِهِ إِيَّاهُمْ عَامَ تَأَلَّبُوا عَلَيْهِمْ وَتَحَزَّبُوا، وَذَلِكَ عَامَ الْخَنْدَقِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! إِذَا خَرَجْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا تَأْتُونَ وَتَتْرُكُونَ، وَلَا تَنْفُوا الْإِيمَانَ عَمَّنْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا يُخْفِي إِيمَانَهُ، طَالِبِينَ بِذَلِكَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللهُ -تَعَالَى- عِنْدَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْعَطَاءِ مَا يُغْنِيكُمْ بِهِ، كَذَلِكَ كُنْتُمْ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ عَنْ قَوْمِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ، وَأَعَزَّكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْقُوَّةِ؛ فَكُونُوا عَلَى بَيِّنَةٍ وَمَعْرِفَةٍ فِي أُمُورِكُمْ؛ إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- عَلِيمٌ بِكُلِّ أَعْمَالِكُمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى دَقَائِقِ أُمُورِكُمْ، وَسَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! اذْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نِعْمَةِ الْأَمْنِ، وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِكُمُ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَبْطِشُوا بِكُمْ، فَصَرَفَهُمُ اللهُ عَنْكُمْ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوهُ بِكُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاحْذَرُوهُ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَحْدَهُ فِي أُمُورِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَثِقُوا بِعَوْنِهِ وَنَصْرِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

((هَذَا أَمْرٌ مِنْهُ -تَعَالَى- لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْصُرُوا اللهَ بِالْقِيَامِ بِدِينِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَالْقَصْدِ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ نَصَرَهُمُ اللهُ، وَثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۩ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 77-78].

*نِدَاءُ وُجُوبِ تَقْوَى اللهِ وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَقْوَاهُ، وَأَنْ يَعْبُدُوهُ عِبَادَةَ مَنْ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا {قَوْلًا سَدِيدًا} أَيْ : مُسْتَقِيمًا لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ)).

*نِدَاءُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153].

((أَرْشَدَ -تَعَالَى- إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَبَيَّنَ -تَعَالَى- أَنَّ أَجْوَدَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَصَائِبِ الصَّبْرُ وَالصَّلَاةُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اصبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا واتَّقُوا اللهَ لَعلَّكُم تُفلِحُونَ} [آل عمران: 200].

(({يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا}: اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ، وَعَلَى مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنْ ضُرٍّ وَبَلَاءٍ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَكُمْ حَتَّى لَا يَكُونُوا أَشَدَّ صَبْرًا مِنْكُمْ، وَأَقِيمُوا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ، وَخَافُوا اللهَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ؛ رَجَاءَ أَنْ تَفُوزُوا بِرِضَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

*نِدَاءُ النَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].

(({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي : طَرَائِقَهُ وَمَسَالِكَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ، {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}: هَذَا تَنْفِيرٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذَلِكَ بِأَفْصَحِ الْعِبَارَةِ وَأَوْجَزِهَا، وَأَبْلَغِهَا وَأَحْسَنِهَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (ض2): {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: عَمَلُهُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَغَاتُهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)).

*نِدَاءُ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمْ لِرَبِّهِمْ -تَعَالَى-، الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ وَأَصْنَافِ الْمِنَنِ؛ لِمَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وَجَمِيلِ الْمَآبِ)).

*نِدَاءُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ:

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

((وَهَذَا فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى كَمَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَرِفْعَةِ دَرَجَتِهِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، وَرَفْعِ ذِكْرِهِ، {إِنَّ اللَّهَ} -تَعَالَى- {وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} عَلَيْهِ؛ أَيْ: يُثْنِي اللَّهُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَفِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى؛ لِمَحَبَّتِهِ -تَعَالَى- لَهُ، وَتُثْنِي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَيَدْعُونَ لَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}؛ اقْتِدَاءً بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَجَزَاءً لَهُ عَلَى بَعْضِ حُقُوقِهِ عَلَيْكُمْ، وَتَكْمِيلًا لِإِيمَانِكُمْ، وَتَعْظِيمًا لَهُ ﷺ، وَمَحَبَّةً وَإِكْرَامًا، وَزِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ، وَتَكْفِيرًا مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)).

*نِدَاءُ إِصْلَاحِ الْمُؤْمِنِ نَفْسَهُ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصْلِحُوا أَنْفُسَهُمْ، وَيَفْعَلُوا الْخَيْرَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ، مُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ أَمْرَهُ لَا يَضُرُّهُ فَسَادُ مَنْ فَسَدَ مِنَ النَّاسِ؛ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ أَوْ بَعِيدًا)).

((وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَضُرُّ الْعَبْدَ تَرْكُهُمَا وَإِهْمَالُهُمَا؛ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ هُدَاهُ إِلَّا بِالْإِتْيَانِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ، وَأَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ضَلَالُ غَيْرِهِ)).

*نِدَاءُ وُجُوبِ وِقَايَةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ مِنَ النَّارِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعْلِ مَا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَاحْفَظُوا أَهْلِيكُمْ بِمَا تَحْفَظُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنْ نَارٍ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، يَقُومُ عَلَى تَعْذِيبِ أَهْلِهَا مَلَائِكَةٌ أَقْوِيَاءُ، قُسَاةٌ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، لَا يُخَالِفُونَ اللهَ فِي أَمْرِهِ، وَيُنَفِّذُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ)).

*نِدَاءُ وُجُوبِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ:

قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].

((قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} أَيْ: تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً تَمْحُو مَا قَبْلَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَتَلُمُّ شَعَثَ التَّائِبِ وَتَجْمَعُهُ، وَتَكُفُّهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الدَّنَاءَاتِ)).

وَمِنَ النِّدَاءَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ:

*نِدَاءُ الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].

((يَقُولُ -تَعَالَى- آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمْ -تَعَالَى-، وَأَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ كَانُوا عَبِيدَهُ، وَالْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ سَبَبٌ لِتَقَبُّلِ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَرَامِ يَمْنَعُ قَبُولَ الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 87-88].

*نِدَاءُ الْإِعْلَامِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَخُطُورَتِهِ:

نَادَى رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، نَاهِيًا إِيَّاهُمْ عَنْ تَعَاطِي الرِّبَا وَأَكْلِهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً.

قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 275-281].

((لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ حَالَةَ الْمُنْفِقِينَ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَمَا يُكَفِّرُ عَنْهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطِيئَاتِ؛ ذَكَرَ الظَّالِمِينَ أَهْلَ الرِّبَا وَالْمُعَامَلَاتِ الْخَبِيثَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُجَازَوْنَ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَكَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا فِي طَلَبِ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ كَالْمَجَانِينِ؛ عُوقِبُوا فِي الْبَرْزَخِ وَالْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِ بَعْثِهِمْ وَنَشُورِهِمْ {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} أَيْ: مِنَ الْجُنُونِ وَالصَّرَعِ، وَذَلِكَ عُقُوبَةٌ وَخِزْيٌ وَفَضِيحَةٌ لَهُمْ، وَجَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى مُرَابَاتِهِمْ، وَمُجَاهَرَتِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فَجَمَعُوا بِجَرَاءَتِهِمْ بَيْنَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَبَيْنَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَاسْتَبَاحُوا بِذَلِكَ الرِّبَا.

ثُمَّ عَرَضَ -تَعَالَى- الْعُقُوبَةَ عَلَى الْمُرَابِينَ وَغَيْرِهِمْ فَقَالَ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بَيَانٌ مَقْرُونٌ بِهِ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ {فَانْتَهَى} عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الرِّبَا؛ {فَلَهُ مَا سَلَفَ} مِمَّا تَجَرَّأَ عَلَيْهِ وَتَابَ مِنْهُ، {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ زَمَانِهِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى تَوْبَتِهِ فَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

{وَمَنْ عَادَ} بَعْدَ بَيَانِ اللَّهِ وَتَذْكِيرِهِ، وَتَوَعُّدِهِ لِآكِلِ الرِّبَا {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

فِي هَذَا: أَنَّ الرِّبَا مُوجِبٌ لِدُخُولِ النَّارِ، وَالْخُلُودِ فِيهَا؛ وَذَلِكَ لِشَنَاعَتِهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْخُلُودِ مَانِعُ الْإِيمَانِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شُرُوطِهَا، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَلَيْسَ فِيهَا حُجَّةٌ لِلْخَوَارِجِ كَغَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الْوَعِيدِ؛ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُصَدَّقَ جَمِيعُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيُؤْمِنُ الْعَبْدُ بِمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ النُّصُوصُ مِنْ خُرُوجِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنَ الْإِيمَانِ مِنَ النَّارِ، وَمِنِ اسْتِحْقَاقِ هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ لِدُخُولِ النَّارِ إِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا.

ثُمَّ أَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ يَمْحَقُ مَكَاسِبَ الْمُرَابِينَ، وَيُرْبِي صَدَقَاتِ الْمُنْفِقِينَ، عَكْسَ مَا يَتَبَادَرُ لِأَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنَ الْخَلْقِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ يُنْقِصُ الْمَالَ، وَأَنَّ الرِّبَا يَزِيدُهُ؛ فَإِنَّ مَادَّةَ الرِّزْقِ وَحُصُولَ ثَمَرَاتِهِ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، فَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى الرِّبَا يُعَاقِبُهُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ بِالتَّجْرِبَةِ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، وَهُوَ الَّذِي كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَجَحَدَ مِنَّةَ رَبِّهِ، وَأَثِمَ بِإِصْرَارِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ شَكُورًا عَلَى النَّعْمَاءِ، تَائِبًا مِنَ الْمَآثِمِ وَالذُّنُوبِ.

ثُمَّ أَدْخَلَ هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنَ آيَاتِ الرِّبَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} الْآيَةَ؛ لِبَيَانِ أَنَّ أَكْبَرَ الْأَسْبَابِ لِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الْمَكَاسِبِ الرِّبَوِيَّةِ تَكْمِيلُ الْإِيمَانِ وَحُقُوقِهِ، خُصُوصًا إِقَامَةَ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَإِنَّ الزَّكَاةَ إِحْسَانٌ إِلَى الْخَلْقِ يُنَافِي تَعَاطِيَ الرِّبَا الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ لَهُمْ وَإِسَاءَةٌ عَلَيْهِمْ.

ثُمَّ وَجَّهَ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّقُوهُ، وَيَذَرُوَا مَا بَقِيَ مِنْ مُعَامَلَاتِ الرِّبَا الَّتِي كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَنَاعَةِ الرِّبَا؛ حَيْثُ جَعَلَ الْمُصِرَّ عَلَيْهِ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.

ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ تُبْتُمْ} يَعْنِي: مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} النَّاسَ بِأَخْذِ الرِّبَا {وَلا تُظْلَمُونَ} بِبَخْسِكُمْ رُؤُوسَ أَمْوَالِكُمْ، فَكُلُّ مَنْ تَابَ مِنَ الرِّبَا؛ فَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَاتٍ سَالِفَةً فَلَهُ مَا سَلَفَ، وَأَمْرُهُ مَنْظُورٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَاتٍ مَوْجُودَةً وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ، فَإِنْ أَخَذَ زِيَادَةً فَقَدْ تَجَرَّأَ عَلَى الرِّبَا.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَيَانٌ لِحِكْمَةِ الرِّبَا، وَأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الظُّلْمَ لِلْمُحْتَاجِينَ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ، وَتَضَاعُفِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ وَاجِبٌ إِنْظَارُهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أَيْ: وَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ مُعْسِرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ؛ وَجَبَ عَلَى غَرِيمِهِ أَنْ يُنْظِرَهُ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَهُوَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا حَصَلَ لَهُ وَفَاءٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ مُبَاحٍ أَنْ يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ.

وَيُهَوِّنُ عَلَى الْعَبْدِ الْتِزَامَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاجْتِنَابَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَى الْمُعْسِرِينَ عِلْمُهُ بِأَنَّ لَهُ يَوْمًا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَيُوَفِّيهِ عَمَلَهُ، وَلَا يَظْلِمُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، كَمَا خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ})).

*نِدَاءُ تَحْرِيمِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 27-29].

((نَهَى -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَأْكُلُوا أَمْوَالَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِالْبَاطِلِ؛ أَيْ: بِأَنْوَاعِ الْمَكَاسِبِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ؛ كَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِ الْحِيَلِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35].

*نِدَاءُ أَحْكَامِ الدَّيْنِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (28) ۞ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 282-283].

((يَا مَنْ آمَنْتُمْ بِاللهِ، وَاتَّبَعْتُمْ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا ﷺ! إِذَا تَعَامَلْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَاكْتُبُوهُ؛ حِفْظًا لِلْمَالِ، وَدَفْعًا لِلنِّزَاعِ.

وَلْيَقُمْ بِالْكِتَابَةِ رَجُلٌ أَمِينٌ ضَابِطٌ، وَلَا يَمْتَنِعْ مَنْ عَلَّمَهُ اللهُ الْكِتَابَةَ عَنْ ذَلِكَ.

وَلْيَقُمِ الْمَدِينُ بِإمْلَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلْيُرَاقِبْ رَبَّهُ، وَلَا يَنْقُصْ مِنْ دَيْنِهِ شَيْئًا.

فَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِتَبْذِيرِهِ وَإِسْرَافِهِ، أَوْ كَانَ صَغِيرًا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ النُّطْقَ لِخَرَسٍ بِهِ، أَوْ عَدَمِ قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى الْكَلَامِ؛ فَلْيَتَوَلَّ الْإِمْلَاءَ عَنِ الْمَدِينِ الْقَائِمُ بِأَمْرِهِ.

وَاطْلُبُوا شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلَانِ فَاطْلُبُوا شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ تَرْضَوْنَ شَهَادَتَهُمْ؛ حَتَّى إِذَا نَسِيَتْ إِحْدَاهُمَا ذَكَّرَتْهَا الْأُخْرَى، وَعَلَى الشُّهَدَاءِ أَنْ يُجِيبُوا مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَعَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا إِذَا مَا دُعُوا إِلَيْهَا.

وَلَا تَمَلُّوا مِنْ كِتَابَةِ الدَّيْنِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا إِلَى وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ؛ ذَلِكُمْ أَعْدَلُ فِي شَرْعِ اللهِ وَهَدْيِهِ، وَأَعْظَمُ عَوْنًا عَلَى إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَأَقْرَبُ إِلَى نَفْيِ الشَّكِّ فِي جِنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَأَجَلِهِ.

لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَسْأَلَةَ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِأَخْذِ سِلْعَةٍ، وَدَفْعِ ثَمَنِهَا فِي الْحَالِ؛ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْكِتَابَةِ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ؛ مَنْعًا لِلنِّزَاعِ وَالشِّقَاقِ.

وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْكَاتِبِ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا، وَالْكِتَابَةُ كَمَا أَمَرَ اللهُ.

وَلَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ الْإِضْرَارُ بِالْكُتَّابِ وَالشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْكُتَّابِ وَالشُّهُودِ أَنْ يُضَارُّوا بِمَنِ احْتَاجَ إِلَى كِتَابَتِهِمْ أَوْ شَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ تَفْعَلُوا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، وَعَاقِبَةُ ذَلِكَ حَالَّةٌ بِكُمْ.

وَخَافُوا اللهَ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ جَمِيعَ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِكُمْ، وَسَيُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ)).

*نِدَاءُ أَحْكَامِ الْقَصَاصِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178-179].

يَا أَيُّهَا الذِّينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! فُرِضَ عَلَيْكُمُ اعْتِبَارَ المُسَاوَاةِ وَالمُمَاثَلَةِ بَيْنَ القَتْلَى؛ يُقْتَلُ الحُرُّ بِمِثْلِهِ، وَالعَبْدُ بِمِثْلِهِ، وَالْأُنْثَى بِمِثْلِهَا، إذَا كَانَ القَتْلُ عَلَى وَجْهِ العَمْدِ وَالعُدْوَانِ وَطَالَبَ بِهِ أَوْلِيَاءُ القَتِيلِ، فَمَنْ تُركَ لَهُ وصُفِحَ عَنْهُ فِي قَتْلِ العَمْدِ مِنْ وَلِيِّ المَقْتُولِ وَرَضِيَ بِالدِّيَةِ أَوِ العَفْوِ عَنْهَا فَلْيَتَّبِعِ الوَلِيُّ القَاتِلَ بِالمَعْرُوفِ فَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَلَا يُرْهِقُهُ، وَعَلَى القَاتِلِ أَدَاءُ الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ وَلاَ نَقْصٍ.

ذَلِكَ الذِّي ذُكِرَ مِنَ الحِكَمِ بِشَرْعٍ القِصَاصِ، وَالعَفْوِ عَنِ القِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ تَوْسِعَةٌ عَلَيْكُمْ، وَتَيْسِيرٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ بِكُمْ، فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ هَذَا العَفْوِ بِرَفْعِ الْقِصَاصِ عَنْهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ القَتِيلِ وَتَكَرَّرَتِ الجَرِيمَةُ مِنْهُ مِمَّا يُشْعِرُ بِأَنَّ العَفْوَ عَنِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ قَدْ شَجَّعَهُ عَلَى تَكْرَارِ الجَرِيمَةِ، وَقَوَّى فِيهِ دَوَافِعَ الإِجْرَامِ الخَبِيثَةِ؛ فَاعْتِدَاؤُهُ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ لَهُ العَذَابَ الأَلِيمَ.

وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَدَى مِنْ أَوْلِيَاءِ القَتِيلِ عَلَى القَاتِلِ الَّذِي أَعْلَنَ تَوْبَتُهُ وَنَدَمَهُ وَعَزْمَهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فَقَتَلَ الجَانِي بَعْدَ العَفْوِ عَنْهُ، أَوْ قَبُولِ الدِّيَة مِنْهُ؛ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِقَتْلِهِ قِصَاصًا فِي الدُّنْيَا أَوْ بِالنَّارِ فِي الآخِرَةِ.

 {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: وَلَكُمْ فِي تَشْرِيعِ القِصَاصِ فِي القَتْلِ العَمْدِ وَالقَطْعِ وَالجُرُوحِ، وَسَائِرِ الجِنَايَاتِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِذَوَاتِ الأَحْيَاءِ أَنْفُسِهِمْ فَمَا دُونَ ذَلِكَ.. لَكُمْ فِي تَشْرِيعِ القِصَاصِ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ آمِنَةٌ يَا ذَوِي العُقُولِ الخَالِصَةِ مِنْ شَوَائِبِ الأَوْهَامِ المُتَدَبِّرَةِ عَوَاقِبَ الأُمُورِ، المُتَبَصِّرَةِ حِكَمَ التَّشْرِيعِ، لِتَنْتَهُوا عَنِ القَتْلِ خَوْفَ القِصَاصِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالعُدْوَانِ عَلَى فَرْدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ فِي كُلِّ النَّفْسِ -أَيْ: بِالقَتْلِ-، أَوْ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الجَسَدِ بِالجِرَاحَاتِ؛ فَإِنَّ خَوْفَهُ مِنَ القِصَاصِ يُرَوِّعُهُ فَيَكُفَّ عَنِ ارْتِكَابِ الجَرِيمَة، وَبِهَذَا تَقِلُّ جَرَائِمُ القَتْلِ وَالقَطْعِ وَالجُرُوحِ فِي المُجْتَمَعِ إلَى أَدْنَى الحُدُودِ، فَيَعِيشُ أَفْرَادُ المُجْتَمَعِ حَيَاةً آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، كَمَا أَنَّ القِصَاصَ لَا يَتَجَاوَزُ الجَانِيَ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِحِمَايَةِ نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَائِلَةِ الإِسْرَافِ فِي الِانْتِقَامِ.

*نِدَاءُ بَعْضِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَقُومُوا إِلَيْهَا حَالَ السُّكْرِ حَتَّى تُمَيِّزُوا وَتَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ الْقَاطِعِ لِلْخَمْرِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَلَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ فِي حَالِ الْجَنَابَةِ، وَلَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَهَا وَهِيَ الْمَسَاجِدُ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُجْتَازًا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ حَتَّى تَتَطَهَّرُوا.

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي حَالِ مَرَضٍ لَا تَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ حَالِ سَفَرٍ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، أَوْ جَامَعْتُمُ النِّسَاءَ، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً لِلطَّهَارَةِ فَاقْصِدُوا تُرَابًا طَاهِرًا، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- كَانَ عَفُوًّا عَنْكُمْ، غَفُورًا لَكُمْ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].

*نِدَاءُ وُجُوبِ الْعَدْلِ فِي الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ؛ أَيْ: بِالْعَدْلِ، فَلَا يَعْدِلُوا عَنْهُ يَمِينًا وَلَا شَمَالًا، وَلَا تَأَخْذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا يَصْرِفُهُمْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَأَنْ يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ مُتَسَاعِدِينَ مُتَعَاضِدِينَ مُتَنَاصِرِينَ فِيهِ..

وَقَوْلُهُ: {شُهَدَاءَ للهِ} كَمَا قَالَ: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ} أَيْ: لِيَكُنْ أَدَاؤُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ صَحِيحَةً عَادِلَةً حَقًّا، خَالِيَةً مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أَيِ: اشْهِدَ الْحَقَّ وَلَوْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْكَ، وَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْأَمْرِ فَقُلِ الْحَقَّ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَضَرَّةً عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يُضَيِّقُ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} أَيْ: وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى وَالِدَيْكَ وَقَرَابَتِكَ، فَلَا تُرَاعِهِمْ فِيهَا، بَلِ اشْهَدْ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَادَ ضَرَرُهَا عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ حَاكِمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

(({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} أَيْ: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْحَقِّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لَا لِأَجْلِ النَّاسِ وَالسُّمْعَةِ، وَكُونُوا {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أَيْ: بِالْعَدْلِ لَا بِالْجَوْرِ.

وَقَوْلُهْ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا} أَيْ: لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَعْمِلُوا الْعَدْلَ فِي كُلِّ أَحَدٍ صَدِيقًا كَانَ أَوْ عَدُوًّا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} أَيْ: عَدْلُكُمْ أَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى مِنْ تَرْكِهِ)).

*نِدَاءُ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

((هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ؛ أَيْ: بِإِكْمَالِهَا وَإِتْمَامِهَا، وَعَدَمِ نَقْضِهَا وَنَقْصِهَا)).

*نِدَاءُ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ وَأَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! لَا تَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللهِ وَمَعَالِمَهُ، وَلَا تَسْتَحِلُّوا الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ: ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ.

وَلَا تَسْتَحِلُّوا حُرْمَةَ الْهَدْيِ، وَلَا مَا قُلِّدَ مِنْهُ؛ إِذْ كَانُوا يَضَعُونَ الْقَلَائِدَ، وَهِيَ ضَفَائِرُ مِنْ صُوفٍ أَوْ وَبَرٍ فِي الرِّقَابِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ هَدْيٌ وَأَنَّ الرَّجُلَ يُرِيدُ الْحَجَّ.

وَلَا تَسْتَحِلُّوا قِتَالَ قَاصِدِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ مَا يُصْلِحُ مُعَايَشِهِمْ وَيُرْضِي رَبَّهُمْ.

وَإِذَا حَلَلْتُمْ مِنْ إِحْرَامِكُمْ حَلَّ لَكُمُ الصَّيْدُ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ مِنْ أَجْلِ أَنْ مَنَعُوكُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ -كَمَا حَدَثَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ- عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ.

وَتَعَاوَنُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ- عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَتَقْوَى اللهِ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى مَا فِيهِ إِثْمٌ وَمَعْصِيَةٌ وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِ اللهِ، وَاحْذَرُوا مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللهِ فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قَالَ: هُوَ الضَّعِيفُ مِنَ الصَّيْدِ وَصَغِيرُهُ، يَبْتَلِي اللهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي إِحْرَامِهِمْ، حَتَّى لَوْ شَاءُوا يَتَنَاوَلُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، فَنَهَاهُمُ اللهُ أَنْ يَقْرَبُوهُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} يَعْنِي: صِغَارَ الصَّيْدِ وَفِرَاخَهُ {وَرِمَاحُكُمْ} يَعْنِي: كِبَارَهُ.

{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} يَعْنِي: أَنَّهُ -تَعَالَى- يَبْتَلِيهِمْ بِالصَّيْدِ يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِهِ بِالْأَيْدِي وَالرِّمَاحِ سِرًّا وَجَهْرًا؛ لِيَظْهَرَ طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُ مِنْهُمْ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ۖ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُون} [المائدة: 95-96].

 ((صَرَّحَ -تَعَالَى- بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أَيْ: مُحْرِمُونَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ يَشْمَلُ النَّهْيَ عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْقَتْلِ، وَعَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْقَتْلِ، وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى إِنَّ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْهَى الْمُحْرِمَ عَنْ أَكْلِ مَا قُتِلَ أَوْ صِيدَ لِأَجْلِهِ؛ وَهَذَا كُلُّهُ تَعْظِيمٌ لِهَذَا النُّسُكِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلُ وَصَيْدُ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ.

وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} أَيْ: قَتَلَ صَيْدًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ؛ أَيِ: الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ، فَيُنْظَرُ مَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ يَذْبَحُهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُمَاثَلَةِ أَنْ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ؛ أَيْ: عَدْلَانِ يَعْرِفَانِ الْحُكْمَ وَوَجْهَ الشَّبَهِ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَيْثُ قَضَوْا بِالْحَمَامَةِ شَاةً، وَفِي النَّعَامَةِ بِدِنَةً، وَفِي بَقَرِ الْوَحْشِ -عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ- بَقَرَةً، وَهَكَذَا كُلُّ مَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ النَّعَمِ فَفِيهِ مِثْلُهُ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ شَيْئًا فَفِيهِ قِيمَتُهُ، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي الْمَتْلَفَاتِ، وَذَلِكَ الْهَدْيُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَيْ: يُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ.

{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} أَيْ: كَفَّارَةُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ طَعَامُ مَسَاكِينَ؛ أَيْ: يُجْعَلُ مُقَابَلَةَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ طَعَامٌ يُطْعَمُ الْمَسَاكِينَ.

قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يُقَوَّمُ الْجَزَاءُ فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ طَعَامٌ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدَّ بُرٍّ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ صِيَامًا أَيْ: يَصُومُ عَنْ إِطْعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا؛ لِيَذُوقَ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ وَبَالَ أَمْرِهِ، وَمَنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ.

وَإِنَّمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِقَتْلِ الصَّيْدِ مَعَ أَنَّ الْجَزَاءَ يَلْزَمُ الْمُتَعَمِّدَ وَالْمُخْطِئَ كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ -أَنَّ الْمُتْلِفَ لِلنُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ الْمُحْتَرَمَةِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ إِذَا كَانَ إِتْلَافُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَالْعُقُوبَةَ وَالِانْتِقَامَ، وَهَذَا لِلْمُتَعَمِّدِ، وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ، إِنَّمَا عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، (هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَالصَّحِيحُ مَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ: أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ ، كَمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِ).

وَلَمَّا كَانَ الصَّيْدُ يَشْمَلُ الصَّيْدَ الْبَرِّيَّ وَالْبَحْرِيَّ، اسْتَثْنَى -تَعَالَى- الصَّيْدَ الْبَحْرِيَّ فَقَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} أَيْ: أَحِلُّ لَكُمْ -فِي حَالِ إِحْرَامِكُمْ- صَيْدُ الْبَحْرِ، وَهُوَ الْحَيُّ مِنْ حَيَوَانَاتِهِ وَطَعَامُهُ وَهُوَ الْمَيِّتُ مِنْهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حِلِّ مِيتَةِ الْبَحْرِ {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أَيِ: الْفَائِدَةُ فِي إِبَاحَتِهِ لَكُمْ أَنَّهُ لِأَجْلِ انْتِفَاعِكُمْ وَانْتِفَاعِ رُفْقَتِكُمُ الَّذِينَ يَسِيرُونَ مَعَكُمْ.

{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}: وَيُؤْخَذُ مِنْ لَفْظِ (الصَّيْدِ) أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَحْشِيًّا؛ لِأَنَّ الْإِنْسِيَّ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَمَأْكُولًا فَإِنَّ غَيْرَ الْمَأْكُولِ لَا يُصَادُ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّيْدِ.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أَيْ: اتَّقُوهُ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى تَقْوَاهُ بِعِلْمِكُمْ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، فَيُجَازِيكُمْ، هَلْ قُمْتُمْ بِتَقْوَاهُ فَيُثِيبُكُمُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، أَمْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا فَيُعَاقِبُكُمْ؟)).

*نِدَاءُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! إِنَّمَا الْخَمْرُ: وَهِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ يُغَطِّي الْعَقْلَ، وَالْمَيْسَرَ: وَهُوَ الْقِمَارُ، وَذَلِكَ يَشْمَلُ الْمُرَاهَنَاتِ وَنَحْوَهَا مِمَّا فِيهِ عِوَضٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَصَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَالْأَنْصَابُ: وَهِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا تَعْظِيمًا لَهَا، وَمَا يُنْصَبُ لِلْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ، وَالْأَزْلَامُ: وَهِيَ الْقِدَاحُ الَّتِي يَسْتَقْسِمُ بِهَا الْكُفَّارُ قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَى الشَّيْءِ أَوِ الْإِحْجَامِ عَنْهُ.

إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِثْمٌ مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، فَابْتَعِدُوا عَنْ هَذِهِ الْآثَامِ، لَعَلَّكُمْ تَفُوزُونَ بِالْجَنَّةِ)).

*نِدَاءُ الْإِشْهَادِ عَلَى الْوَصِيَّةِ حِينَ الْمَوْتِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 106-108].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- خَبَرًا مُتَضَمِّنًا لِلْأَمْرِ بِإِشْهَادِ اثْنَيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ، إِذَا حَضَرَ الْإِنْسَانَ مُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ وَعَلَائِمُهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ، وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا اثْنَيْنِ ذَوَيْ عَدْلٍ مِمَّنْ تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمَا {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى أَوْ غَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَعُدْمِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: سَافَرْتُمْ فِيهَا)).

*نِدَاءُ تَكْرِيمِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا! لَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا نِسَاءَ آبَائِكُمْ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِمْ، تَتَصَرَّفُونَ فِيهِنَّ بِالزَّوَاجِ مِنْهُنَّ، أَوِ الْمَنْعِ لَهُنَّ، أَوْ تَزْوِيجِهِنَّ لِلْآخَرِينَ وَهُنَّ كَارِهَاتٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تُضَارُّوا أَزْوَاجَكُمْ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ لَهُنَّ؛ لِيَتَنَازَلْنَ عَنْ بَعْضِ مَا آتَيَتْمُوهُنَّ مِنْ مَهْرٍ وَنَحْوِهِ، إِلَّا أَنْ يَرْتَكِبْنَ أَمْرًا فَاحِشًا كَالزِّنَى، فَلَكُمْ -حِينَئِذٍ- إِمْسَاكُهُنَّ حَتَّى تَأْخُذُوا مَا أَعْطَيْتُمُوهُنَّ، وَلْتَكُنْ مُصَاحَبَتُكُمْ لِنِسَائِكُمْ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّكْرِيمِ وَالْمَحَبَّةِ، وَأَدَاءِ مَا لَهُنَّ مِنْ حُقُوقٍ؛ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَاصْبِرُوا، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ وَيَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ)).

*نِدَاءُ بَيَانِ بَعْضِ أَحْكَامِ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49].

((يُخْبِرُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ إِذَا نَكَحُوا الْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ طَلَّقُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَمَسُّوهُنَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ فِي ذَلِكَ عِدَّةٌ يَعْتَدُّهَا أَزْوَاجُهُنَّ عَلَيْهِنَّ، وَأَمَرَهُمْ بِتَمْتِيعِهِنَّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الَّذِي يَكُونُ فِيهِ جَبْرٌ لِخَوَاطِرِهِنَّ، لِأَجْلِ فِرَاقِهِنَّ، وَأَنْ يُفَارِقُوهُنَّ فِرَاقًا جَمِيلًا مِنْ غَيْرِ مُخَاصَمَةٍ وَلَا مُشَاتَمَةٍ وَلَا مُطَالَبَةٍ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ)).

*نِدَاءُ امْتِحَانِ الْمُهَاجِرَاتِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ:

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10].

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِشَرْعِهِ! إِذَا جَاءَكُمُ النِّسَاءُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَاخْتَبِرُوهُنَّ؛ لِتَعَلَمُوا صِدْقِ إِيمَانِهِنَّ، اللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ إِيمَانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَكُمْ مِنَ الْعَلَامَاتِ وَالْبَيِّنَاتِ فَلَا تَرُدُّوهُنَّ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ الْكَافِرِينَ، فَالنِّسَاءُ الْمُؤْمِنَاتُ لَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَتَزَوَجْنَ الْكُفَّارَ، وَلَا يَحِلُّ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمُؤْمِنَاتِ، وَأَعْطُوا أَزْوَاجَ اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ مِنَ الْمُهُورِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوهُنَّ إِذَا دَفَعْتُمْ لَهُنَّ مُهُورُهُنَّ.

وَلَا تُمْسِكُوا بِنِكَاحِ أَزْوَاجِكُمُ الْكَافِرَاتِ، وَاطْلُبُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ مُهُورِ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي ارْتَدَدْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقْنَ بِهِمْ، وَلْيَطْلُبُوا هُمْ مَا أَنْفَقُوا مِنْ مُهُورِ نِسَائِهِمُ الْمُسْلِمَاتِ اللَّاتِي أَسْلَمْنَ وَلَحِقْنَ بِكُمْ.

ذَلِكُمُ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَكُمْ فَلَا تُخَالِفُوهُ، وَاللهُ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، حَكِيمٌ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ)).

***

((نِدَاءُ الْقُرْآنِ الْجَامِعُ لِلْمُؤْمِنِينَ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ النِّدَاءَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الْجَامِعَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نِدَاءَ الِاسْتِجَابَةِ لَهُ -سُبْحَانَهُ- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هَذَا الْأَمْرَ الْجَلِيلَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نَلْحَظَهُ بِعَيْنِ الرِّعَايَةِ، وَأَنْ نُقْبِلَ عَلَيْهِ بِلَحْظِ الْعِنَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ دَائِمًا مَاثِلًا لَنَا تَحْتَ أَبْصَارِنَا، يَدُورُ فِي دِمَائِنَا، وَتَتَلَقَّفُهُ الْأَلْسُنُ حَضًّا عَلَيْهِ وَمُثَابَرَةً لِفِعْلِهِ، وَهُوَ الِاسْتِجَابَةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يُنَادِيهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَاصِفًا إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}: وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْبِرِّ، فَإِذَا مَا دَعَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَّا الْخَيْرُ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يُتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهِ إِلَّا عَلَى الْبِرِّ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمِنَ الْغِوَايَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الرَّشَادِ، أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ؛ مِنْ مَوْتِ الْقُلُوبِ إِلَى حَيَاتِهَا بِصَفَائِهَا وَإِقْبَالِهَا عَلَى رَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا-.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، إِذَا دَعَاكُمْ إِلَى تِلْكَ الْعَقِيدَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا ﷺ؛ لِتُحْيِيَ الْقُلُوبَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهَا، فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا فُرْقَانًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الضَّلَالِ وَالْهُدَى وَبَيْنَ الظَّلَامِ وَالنُّورِ.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}: مِنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الَّتِي يُخْلِصُهَا الْمَرْءُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيَكُونُ عَابِدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقًّا.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} مِنْ شَرِيعَتِهِ الَّتِي تَجْعَلُكُمْ أَحْرَارًا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَلَا سُلْطَانَ لِعَبْدٍ عَلَى عَبْدٍ، وَإِنَّمَا الْجَمِيعُ سَوَاءٌ أَمَامَ وَإِزَاءَ شَرِيعَةِ اللهِ.

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، مِنْ أَجْلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَرْضِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ الرَّايَةُ خَافِقَةً خَفَّاقَةً فِي عُلْيَا السَّمَاوَاتِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ هُوَ رَسُولُهُ حَقًّا وَنَبِيُّهُ صِدْقًا ﷺ.

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دَعَانَا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ ﷺ إِذَا دَعَانَا لِمَا يُحْيِينَا، وَهَذَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ هُوَ الرُّوحُ الَّتِي مَا فَقَدَهَا الْعَبْدُ صَارَ جَسَدًا بِلَا رُوحٍ، وَمَاذَا يَصْنَعُ الْجَسَدُ بِلَا رُوحٍ؟!! وَمَا هُوَ إِلَّا رِمَّةٌ بَعْدُ وَجِيفَةٌ مُنْتِنَةٌ، وَأَمَّا الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ فِي طَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَفِي الِاسْتِجَابَةِ لِأَمْرِ نَبِيِّهِ ﷺ.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يَعْنِي: أَنَّكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَدْ يَحُولُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ وَالْهُدَى وَالرَّشَادِ وَالصَّلَاحِ، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَيُؤَاخِذُكُمْ عَلَى مَا فَرَطْتُمْ فِي جَنْبِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَهَذَا الْجُزْءُ مِنَ الْآيَةِ مُنْذِرٌ جِدًّا، مُحَذِّرٌ جِدًّا، مُرْعِبٌ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَرَّةٌ مِنْ تَقْوَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَضْمَنَ أَنْ يَظَلَّ عَلَى صَلَاحِ حَالٍ وَلَا عَلَى اسْتِقَامَةِ مِنْهَاجٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَيَأْخُذُ بِعَمَلِ الصَّالِحَاتِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

فَلَا يَغْتَرَنَّ أَحَدٌ بِصَلَاحٍ يَأْتِي مِنْهُ، وَلَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ يَعْمَلُهُ؛ فَإِنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا جَمِيعِهِ هُوَ الدَّافِعُ وَالنِّيَّةُ، وَالَّذِي يَتَحَرَّكُ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِخْلَاصِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ أَهْلَ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَخْبَرَنَا بِصِفَاتِهِمْ وَخِصَالِهِمْ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [الشورى: 26].

((يَسْتَجِيبُونَ لِرَبِّهِمْ لِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ وَيُلَبُّونَ دَعْوَتَهُ؛ لِأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا اسْتَجَابُوا لَهُ؛ شَكَرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ الْغَفُورُ الشَّكُورُ.

وَزَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ تَوْفِيقًا وَنَشَاطًا عَلَى الْعَمَلِ، وَزَادَهُمْ مُضَاعَفَةً فِي الْأَجْرِ زِيَادَةً عَنْ مَا تَسْتَحِقُّهُ أَعْمَالُهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ)).

وَقَدْ جَعَلَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثَمَرَةً لِأَهْلِ الِاسْتِجَابَةِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَهِيَ مَحَبَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].

((قُلْ -أَيُّهَا الرَّسُولُ-: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ حَقًّا فَاتَّبِعُونِي وَآمِنُوا بِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ يُحْبِبْكُمُ اللهُ، وَيَمْحُ ذُنُوبَكُمْ، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، رَحِيمٌ بِهِمْ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ اللهِ -تَعَالَى- وَلَيْسَ مُتَّبِعًا لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ حَقَّ الِاتِّبَاعِ، مُطِيعًا لَهُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ فِي دَعْوَاهُ حَتَّى يُتَابِعَ الرَّسُولَ ﷺ حَقَّ الِاتِّبَاعِ)).

الْمُسْتَجِيبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمْ أَهْلُ الْفَلَاحِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، الْفَائِزُونَ بِالْمَطْلُوبِ، النَّاجُونَ مِنَ الْكُرُوبِ، فَتَقَرُّ أَعْيُنُهُمْ، وَتَسْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً، الَّذِينَ صَدَّقُوا إِيمَانَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، سَوَاءً وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ أَوْ خَالَفَهَا، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أَيْ: سَمِعْنَا حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَجَبْنَا مَنْ دَعَانَا إِلَيْهِ، وَأَطَعْنَا طَاعَةً تَامَّةً سَالِمَةً مِنَ الْحَرَجِ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حَصَرَ الْفَلَاحَ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ الْفَلَاحَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ، وَالنَّجَاةُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَلَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ حَكَّمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)).

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الِاسْتِجَابَةِ للهِ وَرَسُولِهِ ﷺ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَفَرَّ مِنْهُ وَلَا مَرَدَّ، يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ} [الشورى: 47].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ، بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَبِالْمُبَادَرَةِ بِذَلِكَ وَعَدَمِ التَّسْوِيفِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي إِذَا جَاءَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ وَاسْتِدْرَاكُ الْفَائِتِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَلْجَأٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ، فَيَفُوتُ رَبَّهُ، وَيَهْرَبُ مِنْهُ.

بَلْ قَدْ أَحَاطَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالْخَلِيقَةِ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَنُودُوا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ}، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَكِيرٌ لِمَا اقْتَرَفَهُ وَأَجْرَمَهُ، بَلْ لَوْ أَنْكَرَ لَشَهِدَتْ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا فِيهَا ذَمُّ الْأَمَلِ، وَالْأَمْرُ بِانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ يُعْرَضُ لِلْعَبْدِ، فَإِنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ)).

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالِاسْتِجَابَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا طَائِعِينَ لِأَمْرِهِ مُنْتَهِينَ عِنْدَ نَهْيِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: نِدَاءَاتُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لِلْمُؤْمِنِينَ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  داعش وذبح الأقباط المصريين
  حَقُّ الزَّمَالَةِ وَالْجِوَارِ
  الرد على الملحدين: من الأدلة المادية على وجود الله
  الزَّارِعُ الْمُجِدُّ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  الشهامةُ وإغاثةُ المَلْهُوفِ
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ الْخَامِسُ: أَذْكَارٌ وَأَدْعِيَةٌ عَظِيمَةٌ وَقْتَ الْمِحَنِ))
  احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  حَقُّ الطِّفْلِ وَالنَّشْءِ وَرِعَايَتُهُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان