حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ

حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ

((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْغَايَةُ مِنْ خَلْقِ الْخَلْقِ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ))

فَالْعِبَادَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

الْحَيَاةُ كُلُّهَا عِبَادَةٌ، كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ كُلُّ ذَلِكَ هُوَ الْعِبَادَةُ.

أَمَرَنَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نَصْرِفَ ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ.

إِذَنْ؛ تَنْصَرِفُ الْحَيَاةُ بِجَمِيعِ نَشَاطَاتِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ؛ فَلَهُ الْكَمَالُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

خَلَقَ وَحْدَهُ، لَمْ يُشَارِكْهُ أَحَدٌ فِي الْخَلْقِ، وَيَرْزُقُ وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي الرِّزْقِ، وَيُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَحْدَهُ، لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي التَّدْبِيرِ؛ إِذَنْ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِصَرْفِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ وَحْدَهُ، وَصَرْفُهَا لِغَيْرِهِ أَظْلَمُ الظُّلْمِ.

فَأَظْلَمُ الظُّلْمِ: الشِّرْكُ؛ صَرْفُ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ.

فَالْمُشْرِكُ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ، وَالشِّرْكُ هُوَ أَظْلَمُ ظُلْمٍ كَانَ وَيَكُونُ.

اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَّا لِصَرْفِ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ هُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ، جَاءَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ التَّوْحِيدِ.

أَرْسَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيًا إِلَى صَرْفِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أَيْ: إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي، وَهُوَ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].

وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].

هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ.

((وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23].

فَهَذِهِ دَعْوَةُ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعْدَ حُدُوثِ الشِّرْكِ.

وَقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].

وَقَالَ صَالِحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وَقَالَ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَقَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ -لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ-: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَقُولُ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ».

وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ لَمَّا يَزَلْ عَلَى شِرْكِهِ بَعْدُ، لَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ، فَهَذَا كَانَ فِي فَتْرَةِ الْمُوَادَعَةِ بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ.

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَعْوَةَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّمَا هِيَ: ((دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ)).

أَوَّلُ شَيْءٍ: دَعْوَةٌ إِلَى إِفْرَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، هَذِهِ دَعْوَةُ الرُّسُلِ، فَلَمْ يَبْدَؤُوا أَقْوَامَهُمْ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ هَذَا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 11-12].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.

((عِبَادَةُ اللهِ وَاجِبَةٌ حَتَّى آخِرِ عُمُرِ الْمُسْلِمِ))

((إِنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ حَيًّا وَلَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ يُمَيِّزُ بِهِ فَالْعِبَادَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَلْيُصَلِّ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَهَكَذَا قَالَ -تَعَالَى- عَنْ نَبِيِّهِ عِيسَى -عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)): ((بَابُ: إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعَدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ))، وَقَالَ عَطَاءٌ: ((إِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ))، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: ((صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ)).

وَنَحْوُ هَذَا مَعْلُومٌ; قَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وَقَالَ ﷺ: ((إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ... الْحَدِيثَ)))).

قَالَ تَعَالَى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
(({وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أَيِ: الْمَوْتُ، أَيِ: اسْتَمِرَّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَامْتَثَلَ ﷺ أَمْرَ رَبِّهِ، فَلَمْ يَزَلْ دَائِبًا فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-)).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: (({وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}: قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ سَالِمٌ: الْمَوْتُ).

وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، [وَغَيْرُهُ].

وَيُسْتَدَلُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ -وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }- عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ -كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا، فَيُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ.

وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى تَخْطِئَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ: الْمَعْرِفَةُ، فَمَتَى وَصَلَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ وَجَهْلٌ؛ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَانُوا هُمْ وَأَصْحَابُهُمْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ، وَأَعْرَفَهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَعْبَدَ النَّاسِ، وَأَكْثَرَ النَّاسِ عِبَادَةً وَمُوَاظَبَةً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْيَقِينِ هَاهُنَا: الْمَوْتُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ)).

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ} [الزمر: 11-15].

((أَيْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}.

{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}؛ لِأَنِّي الدَّاعِي الْهَادِي لِلْخَلْقِ إِلَى رَبِّهِمْ، فَيَقْتَضِي أَنِّي أَوَّلُ مَنِ ائْتَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا بُدَّ مِنْ إِيقَاعِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَمِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فِيمَا أَمَرَنِي بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِسْلَامِ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يَخْلُدُ فِيهِ مَنْ أَشْرَكَ، وَيُعَاقَبُ فِيهِ مَنْ عَصَى.

{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ})).

((النَّبِيُّ ﷺ أَعْبَدُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِالْعُبُودِيَّةِ -بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ- فِي أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ.

فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ أَيْ: جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، يُرِيدُونَ إِيصَالَ الضُّرِّ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعَ الْمَكْرُوهِ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}: فَوَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ.

بَلْ فِي مَقَامِ الْكِفَايَةِ وَالْحِفْظِ ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟!

بَلَى كَافٍ.

وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.

وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ -فِي مَقَامِ التَّحَدِّي- وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ.

وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، حَتَّى كَانَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاخْتَرَقَ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جَهَارًا وَكِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَلَّفَهُ رَبُّهُ بِمَا كَلَّفَهُ ﷺ.

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ وَصَفَهُ رَبُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

فَوَصَفَهُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَمَّا هُوَ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ-؛ فَإِنَّهُ قَدْ حَقَّقَ هَذَا الْوَصْفَ تَحْقِيقًا، وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ ﷺ، فَإِذَا رُوجِعَ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

فَلِمَ هَذَا الْعَنَاءُ؟!!

لَيْسَ بِعَنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَابٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! ﷺ )).

الْعِبَادَةُ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمُرْضِيَةُ لَهُ، وَالَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَبِهَا أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19- 20].

وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6].

وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...} الْآيَاتِ [الفرقان: 63- 77].

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَسِيحِ الَّذِي ادُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالْبُنُوَّةُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

وَبِالْعُبُودِيَّةِ نَعَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 45-47].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ».

فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ.

عِبَادَ اللهِ! {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.

حَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ للهِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا حَقَّقَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ.

((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ وَاجْتِهَادُهُ فِي الْعِبَادَةِ))

لَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ مَثَلًا أَعْلَى فِي الْعِبَادَةِ وَالِاتِّبَاعِ لِأَمْرِ رَبِّهِ -تَعَالَى-؛ فَهَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْعَهْدِ الْمَكِّيِّ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَيَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ -تَعَالَى- وَيُرَتِّلُ آيَاتِهِ، وَيَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ الزَّادَ وَالْإِيمَانَ؛ لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِهِ، وَحَمْلِ رِسَالَةِ الْإِسْلَامِ، وَتَبْلِيغِهَا لِلْعَالَمِينَ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 1-

(({الْمُزَّمِّلُ}: الْمُتَغَطِّي بِثِيَابِهِ كَالْمُدَّثِّرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ حَصَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِإِنْزَالِ وَحْيِهِ بِإِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ، فَرَأَى أَمْرًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُرْسَلُونَ، فَاعْتَرَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ انْزِعَاجٌ حِينَ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَتَى إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) وَهُوَ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: ((اقْرَأْ))، فَقَالَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ، وَهُوَ يُعَالِجُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ، فَقَرَأَ ﷺ، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ الثَّبَاتَ، وَتَابَعَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ حَتَّى بَلَغَ مَبْلَغًا مَا بَلَغَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.

فَسُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَعْظَمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ ابْتِدَاءِ نُبُوَّتِهِ وَنِهَايَتِهَا! وَلِهَذَا خَاطَبَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، فَأَمَرَهُ هُنَا بِالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذِيَّةِ قَوْمِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالصَّدْعِ بِأَمْرِهِ وَإِعْلَانِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَمَرَهُ هُنَا بِأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَبِآكَدِ الْأَوْقَاتِ وَأَفْضَلِهَا، وَهُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ.

وَمِنْ رَحْمَتِهِ -تَعَالَى-: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ، بَلْ قَالَ: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}، ثُمَّ قَدَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} أَيْ: مِنَ النِّصْفِ {قَلِيلًا} بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ وَنَحْوَهُ، {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أَيْ: عَلَى النِّصْفِ، فَيَكُونُ نَحْوَ الثُّلُثَيْنِ، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} فَإِنَّ تَرْتِيلَ الْقُرْآنِ بِهِ يَحْصُلُ التَّدَبُّرُ وَالتَّفَكُّرُ، وَتَحْرِيكُ الْقُلُوبِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدُ بِآيَاتِهِ، وَالتَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لَهُ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلًا} أَيْ: نُوحِي إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ الثَّقِيلَ؛ أَيِ: الْعَظِيمَةَ مَعَانِيهِ، الْجَلِيلَةَ أَوْصَافُهُ، وَمَا كَانَ بِهَذَا الْوَصْفِ حَقِيقٌ أَنْ يُتَهَيَّأَ لَهُ، وَيُرَتَّلَ وَيُتَفَكَّرَ فِيمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فِي أَمْرِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَقَالَ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أَيِ: الصَّلَاةَ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} أَيْ: أَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ مَقْصُودِ الْقُرْآنِ، يَتَوَاطَأُ عَلَى الْقُرْآنِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ، وَتَقِلُّ الشَّوَاغِلُ، وَيَفْهَمُ مَا يَقُولُ، وَيَسْتَقِيمُ لَهُ أَمْرُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّهَارِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} أَيْ: تَرَدُّدًا فِي حَوَائِجِكَ وَمَعَاشِكَ يُوجِبُ اشْتِغَالَ الْقَلْبِ، وَعَدَمَ تَفَرُّغِهِ التَّفَرُّغَ التَّامَّ.

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} شَامِلٌ لِأَنْوَاعِ الذِّكْرِ كُلِّهَا {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا} أَيِ: انْقَطِعْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الِانْقِطَاعَ إِلَى اللَّهِ وَالْإِنَابَةَ إِلَيْهِ هُوَ: الِانْفِصَالُ بِالْقَلْبِ عَنِ الْخَلَائِقِ، وَالِاتِّصَافُ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ وَيُدْنِي مِنْ رِضَاهُ.

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} وَهَذَا اسْمُ جِنْسٍ يَشْمَلُ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ كُلَّهَا، فَهُوَ -تَعَالَى- رَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْأَنْوَارِ، وَمَا هِيَ مُصْلِحَةٌ لَهُ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ؛ فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ {لَا إِلَهَ إِلا هُوَ} أَيْ: لَا مَعْبُودَ إِلَّا وَجْهُهُ الْأَعْلَى الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَصَّ بِالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّكْرِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} أَيْ: حَافِظًا وَمُدَبِّرًا لِأُمُورِكَ كُلِّهَا.

فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالصَّلَاةِ خُصُوصًا، وَبِالذِّكْرِ عُمُومًا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ فِي تَحَمُّلِ الْأَثْقَالِ، وَفِعْلِ الْمُشِقِّ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُعَانِدُونَ لَهُ، وَيَسُبُّونَهُ، وَيَسُبُّونَ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَنْ يَمْضِيَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ رَادٌّ، وَأَنْ يَهْجُرَهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا، وَهُوَ الْهَجْرُ حَيْثُ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ الْهَجْرَ الَّذِي لَا أَذِيَّةَ فِيهِ، فَيُقَابِلُهُمْ بِالْهَجْرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَمَرَهُ بِجِدَالِهِمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)).

الْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَتُعُورِفَتْ فِي الشَّرْعِ فِيمَا جُعِلَ عَلَامَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَجِهَادٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَكَمَا عَرَّفَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْعِبَادَةُ: كُلُّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِمَّا يُنَافِي ذَلِكَ وَيُضَادُّهُ)). وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِمَا يُحِبُّهُ اللهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجْتَنِبُ مَا لَا يُحِبُّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنَّهُ يَبْرَأُ مِمَّا لَا يُحِبُّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

التَّحْقِيقُ مِنَ الْأَقْوَالِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَتَعَبَّدْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِشَرْعِ أَحَدٍ، وَتَعَبُّدُهُ بِحِرَاءَ إِنَّمَا كَانَ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِ اللهِ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَإِكْرَامِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنَ الضِّيفَانِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا، وَيَتَعَبَّدُ فِيهِ بِذَلِكَ.

عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((صَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: ((أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!)).

قَالَ: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

((صَلَّى رَسُولُ اللهِ)) أَيِ: اجْتَهَدَ فِي الصَّلَاةِ ((حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ)) أَيْ: وَاسْتَمَرَّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ الشَّرِيفَتَانِ مِنْ طُولِ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى قَدَمَيْهِ.

فَهُوَ ﷺ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ طَاعَةً لِرَبِّهِ، فَيُنْدَبُ تَشْمِيرُ سَاقِ الْجِدِّ فِي الْعِبَادَةِ؛ وَإِنْ أَدَّى لِمَشَقَّةِ مَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَلَلٌ وَسَآمَةٌ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى تَرْكُ مَا لَزِمَ مِنْهُ الْمَلَلُ؛ لِخَبَر: ((عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا)).

((مَا تُطِيقُونَ)) أَيْ: مَا تُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ.

((فَقِيلَ لَهُ)) أَيْ: قَالَ لَهُ بَعْضُ أَكَابِرِ الْأَصْحَابِ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

((أَتَتَكَلَّفُ هَذَا؟!)) أَيْ: تَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ.

وَالتَّكَلُّفُ نَوْعَانِ:

أَنْ يَفْعَلَ الْإِنْسَانُ فِعْلًا بِمَشَقَّةٍ، وَهُوَ الْمَمْدُوحُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا.

وَأَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا تَصَنُّعًا، وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَهَذَا لَيْسَ مُرَادًا هُنَا.

((وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ)) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ ((مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].

وَاسْتُشْكِلَ هَذَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِأَنَّهُ ﷺ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا؛ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ ذَنْبٌ يَحْتَاجُ غُفْرَانًا؟!

وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ مِنْ بَاب: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْ تَقْصِيرٍ مِنْ حَيْثُ ضَعْفُ الْعُبُودِيَّةِ مَعَ عَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ ﷺ فِي أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ فِي عِبَادَتِهِ وَطَاعَاتِهِ ﷺ.

وَقَدْ قَالَ ﷺ: ((سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَكَأَنَّ السَّائِلَ ظَنَّ أَنَّهُ ﷺ بَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَتَحَمَّلَ الْمَشَاقَّ الَّتِي لَا تُطَاقُ خَوْفًا مِنَ الذَّنْبِ؛ لِأَنَّ شَأْنَنَا ذَلِكَ، فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ، فَسَأَلَ هَذَا السُّؤَالَ.

فَبَيَّنَ لَهُ ﷺ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ؛ لَكِنْ يُبَالِغُ فِي الِاجْتِهَادِ لِأَدَاءِ شُكْرِ خَالِقِ الْعِبَادِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)) فَإِذَا أَكْرَمَنِي مَوْلَايَ بِغُفْرَانِهِ؛ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا لِإِحْسَانِهِ؟!

وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَدْعَى إِلَى الشُّكْرِ عَلَى الدَّوَامِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَاحَظَ كَوْنَهُ عَبْدًا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِشُكْرِهِ فِيمَا أَوْلَاهُ، فَمَنْ أَدَامَ بَذْلَ الْجُهْدِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الشَّكُورُ، وَلَمْ يَظْفَرْ أَحَدٌ بِعَلِيِّ هَذَا الْمَنْصِبِ إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، وَأَعْلَاهُمْ فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا  شَكُورًا)) أَيْ: مُعْتَرِفًا بِفَضْلِ رَبِّي -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَنِعَمِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيَّ، قَائِمًا بِالْعِبَادَةِ؟! وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا فِي قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ؛ لِقَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: ((أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ جَاءَكَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!)).

قَالَ: ((أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)).

((حَتَّى تَرِمَ)): حَتَّى تَنْتَفِخَ مِنَ الْوَرَمِ قَدَمَاهُ، وَإِنَّمَا تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ بِسَبَبِ طُولِ الْقِيَامِ، تَنْصَبُّ الْمَوَادُّ مِنْ أَعْلَى الْبَدَنِ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَمِنْ ثَمَّ يُسْرِعُ الْفَسَادُ إِلَى الْقَدَمِ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْجَسَدِ.

وَالْحَدِيثُ يُفِيدُ مَشْرُوعِيَّةَ الصَّلَاةِ لِلشُّكْرِ، وَأَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ أَرْكَانَ الشُّكْرِ تَقُومُ بِمَا فِي الْقَلْبِ مِنَ الِاعْتِرَافِ الْبَاطِنِ بِنِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ بِمَا يَلْهَجُ بِهِ لِسَانُهُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى رَبِّهِ بِمَا أَوْلَاهُ إِيَّاهُ مِنَ النِّعَمِ، وَبِتَصْرِيفِ تِلْكَ النِّعَمِ فِي مَرْضَاةِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهَا، وَأَسْدَاهَا إِلَيْهِ.

((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ الْفَرَائِضِ))

إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي حَالِ خَاتَمِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ مَعَ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ- يُدْرِكُ أَنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ حُبًّا لِرَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، وَأَكْثَرَهُمْ خَشْيَةً لَهُ، وَأَعْظَمَهُمْ رَجَاءً فِيهِ، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: ((أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ))، وَيَقُولُ ﷺ: ((إِنِّي لأَعلَمُكُمْ بِاللهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً)).

وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَأْنَسُ بِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-، وَيَهْنَأُ بِقُرْبِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، حَتَّى أَنَّهُ ﷺ قَبْلَ بَعْثَتِهِ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي غَارِ حِرَاءٍ اللَّيَالِي ذَوَاتِ الْعَدَدِ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ شَدِيدَ الْعِنَايَةِ وَالْحِفَاظِ عَلَى الْفَرَائِضِ، عَظِيمَ الِاجْتِهَادِ فِي أَدَاءِ النَّوَافِلِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ ﷺ: ((إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَلَمَّا اصْطَفَاهُ رَبُّهُ -سُبْحَانَهُ- وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ وَرَاحَةُ نَفْسِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَيْثُ يَقُولُ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-:((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ، أَرِحْنَا بِهَا)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا، يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ؛ صَلَّى))؛ أَيْ: أَهَمَّهُ أَمْرٌ.

وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي صَلَاةِ النَّوَافِلِ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَافِظُ عَلَى النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعَةِ مَعَ الْفَرَائِضِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِلسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ لِلْفَرَائِضِ رَوَاتِبَ يُسْتَحَبُّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((الْفَتْحِ)).

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا الرَّوَاتِبَ مِنَ النَّوَافِلِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: إِرْشَادٌ لِأَفْضَلِيَّةِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ.

وَفِيهِ: أَنَّ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ مِنَ النَّوَافِلِ.

السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ: هِيَ الَّتِي تُصَلَّى قَبْلَ الْفَرِيضَةِ أَوْ بَعْدَهَا.

وَهِيَ قِسْمَانِ:

-رَوَاتِبُ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً.

-وَرَوَاتِبُ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، يَفْعَلُهَا وَلَا يُدَاوِمُ عَلَيْهَا.

الرَّوَاتِبُ الْمُؤَكَّدَةُ -وَهِيَ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً- هِيَ:

أَرْبَعُ رَكْعَاتٍ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ.

فَهَذِهِ هِيَ الرَّوَاتِبُ الْمُؤَكَّدَةُ.

عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) أَوْ: ((إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَأَحْيَانًا يُصَلِّيهَا عَشْرَ رَكْعَاتٍ؛ إِلَّا أَنَّهُ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ.

فَهَذِهِ هِيَ الرَّوَاتِبُ الْمُؤَكَّدَةُ، مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَوْ بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ: أَرْبَعُ رَكْعَاتٍ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ.

وَأَمَّا الرَّوَاتِبُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ فَيَفْعَلُهَا، وَلَا يُدَاوِمُ عَلَيْهَا، وَهِيَ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، أَوْ أَرْبَعًا، ((رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا)).

وَكَذَلِكَ رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ.

وَتُسَنُّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَرْبَعِ رَكْعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ؛ لِدُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ فَهُوَ مَشْرُوعٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مَثْنَى مَثْنَى، وَأَفْضَلُهُ صَلَاةُ اللَّيْلِ.

وَلَكِنْ آكَدُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَيُسَنُّ تَخْفِيفُهُمَا، وَأَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِـ (سُورَةِ الْكَافِرُونَ) فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ (سُورَةِ الْإِخْلَاصِ).

أَوْ فِي الْأُولَى بِـ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].

وَأَحْيَانًا: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52].

وَمَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ لِعُذْرٍ؛ سُنَّ لَهُ قَضَاؤُهُ.

وَإِذَا تَوَضَّأَ الْمُسْلِمُ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ أَذَانِ الظُّهْرِ -مَثَلًا-، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَنَوَى بِهِمَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَسُنَّةَ الْوُضُوءِ، وَرَاتِبَةَ الظُّهْرِ؛ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ.

وَيُسَنُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَرَاتِبَتِهِ الْقَبْلِيَّةِ أَوِ الْبَعْدِيَّةِ بِانْتِقَالٍ أَوْ كَلَامٍ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا يَتَطَوَّعُ هُوَ بِهِ.

وَلِذَلِكَ سُنَّ لَنَا أَنْ نُسْرِعَ بِالْإِفْطَارِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فِي رَمَضَانَ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُبَادِرَ الْمَرْءُ الصَّائِمُ بِالْإِفْطَارِ، وَأَنْ يُسْرِعَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِيَفْصِلَ بَيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَا لَمْ يَفْرِضْهُ اللهُ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ يُؤَخِّرُ السُّحُورَ؛ لِكَيْ يَفْصِلَ -أَيْضًا- بَيْنَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُ فِيهِ مَا أَحَلَّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ، وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، فَكَذَلِكَ يُسَنُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَرَاتِبَتِهِ الْقَبْلِيَّةِ أَوِ الْبَعْدِيَّةِ بِانْتِقَالٍ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، أَوْ بِكَلَامٍ.

وَتُصَلَّى هَذِهِ النَّوَافِلُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي الْبَيْتِ، وَالْأَفْضَلُ صَلَاتُهَا فِي الْبَيْتِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

يَجُوزُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ الْجُلُوسُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَمَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، أَمَّا الْفَرِيضَةُ فَالْقِيَامُ فِيهَا رُكْنٌ إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَيُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَاللَّهُ يَتَقَبَّلُ مِنْهُ.

مَنْ صَلَّى النَّوَافِلَ قَاعِدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ صَلَاةِ الْقَائِمِ، وَمَعَ الْعُذْرِ فَأَجْرُهُ كَالْقَائِمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَصَلَاةُ الْمُضْطَجِعِ تَطَوُّعًا بِعُذْرٍ أَجْرُهُ كَالْقَائِمِ، وَبِدُونِ عُذْرٍ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ.

الَّذِي يُصَلِّي نَفْلًا مُضْطَجِعًا بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ هَذَا لَهُ نِصْفُ أَجْرِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ، وَصَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَقُمْ.

وَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي أَنْ يُرِيَ رَبَّهُ مِنْ نَفْسِهِ الْخَيْرَ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ، {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} [الأنفال: 70].

فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبَيِّتَ نِيَّةً صَالِحَةً؛ كَالَّذِي يَبِيتُ عَلَى نِيَّةِ الْقِيَامِ وَتَغْلِبُهُ عَيْنَاهُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَ الْقِيَامِ، وَيَكُونُ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

هَذِهِ الصَّلَوَاتُ يَعْرِضُ لَهَا أَوْقَاتٌ يُقَالُ لَهَا: أَوْقَاتُ النَّهْيِ.

وَأَوْقَاتُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ خَمْسَةٌ، هِيَ:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ هَاهُنَا وَقْتَيْنِ مِنْ أَوْقَاتِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ.

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا؛ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَضَّيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَتَجُوزُ صَلَاةُ النَّفْلِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً مُرْتَفِعَةً؛ فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَّا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ.

فَهَذِهِ أَوْقَاتُ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ؛ فَمَا حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؟

يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، وَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَكَذَلِكَ مَا لَهُ سَبَبٌ؛ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَالصَّلَاةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ.

وَذَكَرُوا حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! تُصَلِّي وَقَدْ نَهَيْتَنَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ؟!)).

قَالَ: ((هَاتَانِ هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، شَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ)).

فَقَضَى الرَّكْعَتَيْنِ فِي وَقْتٍ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بِهَذَا وَغَيْرِهِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ  الْمَرْءِ الصَّلَاةَ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ بِلَا كَرَاهَةٍ.

يَجُوزُ قَضَاءُ الْفَرَائِضِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، هَذَا لَا خِلَافَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ -أَيْضًا- أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَمَا لَهُ سَبَبٌ -كَمَا مَرَّ-.

يُشْرَعُ لِلْمَعْذُورِ قَضَاءُ سُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَسُنَّةِ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.

وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ وَيُنَادِي الْمُنَادِي))، قَالَ أَيُّوبُ: وَأُرَاهُ قَالَ: ((خَفِيفَتَيْنِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْفِيفِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي ((النَّيْلِ)): ((وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، فَذَهَبَتْ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِطَالَةِ الْقِرَاءَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِصَرَائِحِ الْأَدِلَّةِ)).

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-:

أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَفِيهِ: قَالَ: ((فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ)). أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَقَدْ أَخْرَجَهُ فِي ((الشَّمَائِلِ)).

وَحَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَفِيهِ تَقُولُ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ)). أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ((كَانَ يُخَفِّفُهُمَا حَتَّى أَقُولَ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟!)).

تَتَسَاءَلُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُخَفِّفُ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ تَخْفِيفًا؛ حَتَّى إِنَّهَا لَتَقُولُ: ((كَانَ يُخَفِّفُهُمَا حَتَّى أَقُولَ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ)) تَعْنِي: أَوْ لَمْ يَقْرَأْ؟! مِنْ تَخْفِيفِهِ لِهَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ ﷺ.

فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُخَفِّفُ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ)).

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: ((وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِرَكْعَتَيِ الْغَدَاةِ، وَلَمْ أَكُنْ أَرَاهُمَا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ )). تَفَرَّدَ بِهَذَا اللَّفْظِ التِّرْمِذِيُّ فِي ((الشَّمَائِلِ))، وَرَوَاهُ -أَيْضًا- فِي ((سُنَنِهِ))، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

((الْغَدَاةُ)): مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْمُرَادُ هُنَا: سُنَّةُ الْفَجْرِ.

وَحُقَّ لَهُ أَلَّا يَرَاهُمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّيهِمَا فِي بَيْتِهِ، وَأَمَّا حَفْصَةُ فَكَانَتْ تَرَاهُ فِي بَيْتِهِ ﷺ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صَلاةِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَتْ: ((كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ ثِنْتَيْنِ)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ لا تُطِيقُونَ ذَلِكَ)).

قَالَ: فَقُلْنَا: ((مَنْ أَطَاقَ ذَلِكَ مِنَّا صَلَّى)).

فَقَالَ: ((كَانَ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا عِنْدَ الْعَصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا عِنْدَ الظُّهْرِ صَلَّى أَرْبَعًا، وَيُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالنَّبِيِّينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَحْمَدُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَحَسَّنَهُ -أَيْضًا- الْأَلْبَانِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

((فَقُلْنَا: مَنْ أَطَاقَ ذَلِكَ مِنَّا صَلَّى)) يَعْنِي: لَا يَضِيرُكَ، أَخْبِرْنَا، فَمَنْ أَطَاقَ ذَلِكَ صَلَّى، وَمَنْ لَمْ يُطِقْ فَلَا عَلَيْكَ.

قَوْلُهُ: ((إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا عِنْدَ الْعَصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)) أَيْ: إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مُرْتَفِعَةً فِي السَّمَاءِ جِهَةَ الشَّرْقِ كَقَدْرِ ارْتِفَاعِهَا فِي الْغَرْبِ؛ فَهَذَا وَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى.

وَقَوْلُهُ: ((إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا كَهَيْئَتِهَا مِنْ هَاهُنَا عِنْدَ الظُّهْرِ صَلَّى أَرْبَعًا)) أَيْ: إِذَا زَادَ ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ شَرْقًا كَقَدْرِ ارْتِفَاعِهَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهَذَا وَقْتُ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ تُسَمَّى صَلَاةَ الْأَوَّابِينَ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ)).

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي ((النِّهَايَةِ)): ((يُرِيدُ صَلَاةَ الضُّحَى عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ)).

فَلَا تُطِيقُ لِحَدَاثَةِ سِنِّهَا شِدَّةَ حَرَارَةِ الرِّمَالِ بِأَخْفَافِهَا، ((حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ)): جَمْعُ فَصِيلٍ، وَهُوَ الَّذِي فُصِلَ حَدِيثًا عَنْ أُمِّهِ بِالرَّضَاعِ)).

هَذَا الْحَدِيثُ يُوَضِّحُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَرْبَعًا عِنْدَ الزَّوَالِ، وَيُصَلِّي أَرْبَعًا قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ، وَعَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ الْقَبْلِيَّةِ وَالَّتِي ذَكَرَهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ؛ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ وَاظَبَ عَلَيْهَا.

دَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ السُّنَنَ الْمُؤَكَّدَةَ الَّتِي وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ هِيَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً -كَمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ-، وَهِيَ الرَّوَاتِبُ، وَهَذِهِ الرَّوَاتِبُ مَنْ وَاظَبَ عَلَيْهَا وَصَلَّاهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُبْنَى لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ((بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)).

وَهِيَ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ.

فَهَذِهِ هِيَ السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، مَنْ وَاظَبَ عَلَيْهِنَّ، وَحَافَظَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِنَّ، وَاسْتَكْمَلَهُنَّ، وَأَقَامَهُنَّ، وَأَتَمَّهُنَّ؛ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى -عَلَى الْبِنَاءِ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ-: ((بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)).

وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ -أَيْضًا-: اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ -يَعْنِي: النَّافِلَةَ- فِي الْبَيْتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقُبُورَ لَا يُصَلَّى فِيهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى فِي الْمَقْبَرَةِ، وَأَيْضًا أَلَّا يُتَّخَذَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا))؛ وَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْقَبْرِ: أَنَّ الْبَيْتَ يُصَلَّى فِيهِ، وَأَمَّا الْقَبْرُ فَلَا يُصَلَّى فِيهِ، وَهَذَا وَاضِحٌ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ ((اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا فِي بَيَانِ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ -الَّتِي مَرَّتْ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَشَقَّقَتْ قَدَمَاهُ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ التَّوَرُّمَ إِذَا اشْتَدَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ تَشَقُّقٌ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ طِبِّيًّا.

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَدَامَ وَأَطَالَ الْقِيَامَ أَوِ الْقُعُودَ مُدَلِّيًا رِجْلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنَ انْصِبَابِ الْمَادَّةِ فِي الْقَدَمَيْنِ وَمَا فَوْقَهُمَا، فَيَقَعُ هَذَا التَّوَرُّمُ.

فَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ، يُطِيلُ السُّجُودَ وَالرُّكُوعَ، يُدِيمُ الْعِبَادَةَ، وَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: ((تَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!)).

قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!)).

وَهَذَا مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ؛ أَنَّهُ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى الْإِنْسَانِ بِنِعْمَةٍ فَيَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا شَكَرَ النِّعْمَةَ زَادَهُ اللهُ، وَأَمَّا إِذَا كَفَرَ النِّعْمَةَ وَجَحَدَهَا فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُذْهِبُهَا عَنْهُ -نَعُوذُ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِهِ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِهِ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ، وَجَمِيعِ سَخَطِهِ-.

وَرَدَ فِي فَضْلِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا فِي فَضْلِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَمِنْهَا فِي فَضْلِ بَعْضِ أَفْرَادِهَا:

عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) أَوْ: ((إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ)).

فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ تَفْسِيرُ هَذِهِ الرَّكْعَاتِ: ((أَرْبَعُ رَكْعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ)).

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُثَابَرَةِ عَلَى صَلَاةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا كُلَّ يَوْمٍ، وَمَنْ حَافَظَ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ دَخَلَ فِي هَذَا الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي قَطْعًا فِي كُلِّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَأَكْثَرَ.

فَفِي الْحَدِيثِ: فَضِيلَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عُمُومًا، وَالْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ خُصُوصًا، وَقَدْ ثَبَتَ فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِلسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، فَاجْتَمَعَ لَهَا الْقَوْلُ وَالْفِعْلُ مِنْهُ ﷺ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ:  ((حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ  ﷺ عَشْرَ رَكْعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِيهَا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ -وَهِيَ أُخْتُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهَا زِيَادَةٌ: ((وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ)).

وَفِي مُسْلِمٍ: ((فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ فَصَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي بَيْتِهِ)).

إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الصَّلاةِ فِي بَيْتِي، وَالصَّلاةِ فِي الْمَسْجِدِ)).

قَالَ: ((قَدْ تَرَى مَا أَقْرَبَ بَيْتِي مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَأَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ؛ إِلا أَنْ تَكُونَ صَلاةً مَكْتُوبَةً)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْبُوصِيرِيُّ.

قَالَ زَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

فِي الْحَدِيثِ: بَيَانٌ لِفَضْلِ صَلَاةِ النَّوَافِلِ فِي الْبَيْتِ.

وَقَالَ ﷺ: ((اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا)).

فَصَلَوَاتُ النَّوَافِلِ أَجْرُهَا أَكْبَرُ فِي الْبَيْتِ مِنْ أَجْرِهَا فِي الْمَسْجِدِ، يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَرَوَاتِبُ الصَّلَوَاتِ الْقَبْلِيَّةُ، وَصَلَاةُ الطَّوَافِ.

وَالصَّلَوَاتُ الَّتِي يَتَنَفَّلُ بِهَا الْمَرْءُ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ؛ لِبُعْدِهَا عَنْ شُبْهَةِ الرِّيَاءِ، وَلِحُصُولِ الْبَرَكَةِ فِي الْبُيُوتِ بِتَعْمِيرِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا، وَطَرْدِ الشَّيَاطِينِ مِنْهَا.

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ؛ فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِهَا: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، صَلُّوا  فِي بُيُوتِكُمْ))، فَأَمَرَ أَنْ يُصَلَّى فِي الْبُيُوتِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ نَوَافِلِهِ فِي بَيْتِهِ؛ سَوَاءٌ الرَّوَاتِبُ، أَوْ صَلَاةُ الضُّحَى، أَوِ التَّهَجُّدُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ حَتَّى فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، الْأَفْضَلُ أَنْ تَكُونَ النَّوَافِلُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ مِنْ كَوْنِهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ هَذَا وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ؛ بَلِ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحٌ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ: تَرَى مَا أَقْرَبَ بَيْتِي مِنَ الْمَسْجِدِ؟! يَعْنِي: مِنْ مَسْجِدِهِ ﷺ؛ بَلْ كَانَتِ الْحُجُرَاتُ تَفْتَحُ أَبْوَابَهَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَمَعَ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَانَ يُصَلِّي النَّوَافِلَ فِي بَيْتِهِ، لَا فِي الْمَسْجِدِ.

فَقَدْ قَالَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ، وَالصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْآنَ يُفَضِّلُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ دُونَ الْبَيْتِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْجَهْلِ؛ فَمَثَلًا إِذَا كُنْتَ فِي مَكَّةَ وَأُذِّنَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَسَأَلَكَ سَائِلٌ: هَلِ الْأَفْضَلُ أَنْ أُصَلِّيَ الرَّاتِبَةَ فِي الْبَيْتِ، أَوْ أَذْهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟

فَالْجَوَابُ: الْأَفْضَلُ فِي الْبَيْتِ.

صَلَاةُ الضُّحَى أَفْضَلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْبَيْتِ؟

الْجَوَابُ: فِي الْبَيْتِ.

التَّهَجُّدُ أَفْضَلُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْبَيْتِ؟

الْجَوَابُ: فِي الْبَيْتِ... وَهَلُمَّ جَرَّا.

إِلَّا الْفَرَائِضَ، فَالْفَرَائِضُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ الْمَاضِيَةِ: ((فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا)) يَعْنِي: أَنَّ الْبَيْتَ إِذَا صَلَّيْتَ فِيهِ جَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، جَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنْ صَلَاتِكَ فِيهِ خَيْرًا.

مِنْ هَذَا الْخَيْرِ: أَنَّ أَهْلَكَ إِذَا رَأَوْكَ تُصَلِّي اقْتَدَوْا بِكَ، وَأَلِفُوا الصَّلَاةَ وَأَحَبُّوهَا؛ لَا سِيَّمَا الصِّغَارُ مِنْهُمْ.

وَمِنْهُ: أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ أَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَرَاهُ النَّاسُ، وَرُبَّمَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الرِّيَاءِ، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ أَيْضًا وَمِنَ الْخَيْرِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَلَّى فِي بَيْتِهِ وَجَدَ فِيهِ رَاحَةً، هِيَ رَاحَةُ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتُهُ، فَهَذِهِ إِنَّمَا تَجِدُهَا فِي بُيُوتٍ يُصَلَّى فِيهَا، وَيُتْلَى فِيهَا الْقُرْآنُ، وَيُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ، فَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهَا السَّكِينَةُ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي إِيمَانِ الْعَبْدِ.

فَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ فِي بُيُوتِنَا إِلَّا الْفَرَائِضَ.

وَكَذَلِكَ يُسْتَثْنَي مِنْ تِلْكَ النَّوَافِلِ قِيَامُ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ، مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لَكِنْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، أَوْ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ تَخَلَّفَ، وَقَالَ: ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ)).

وَقَدْ جَمَعَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ مَضَى زَمَانُ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَا يُخَافُ أَنْ تُفْرَضَ، جَمَعَ النَّاسَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-)).

عِبَادَةُ النَّبِيِّ ﷺ.. نَعْرِفُ مَا كَانَ عَلَيْهِ ﷺ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ ﷺ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، فَإِذَا جَهِلَ النَّاسُ رَسُولَهُمْ ﷺ لَمْ يُحِبُّوهُ.

وَكَيْفَ يُحِبُّ الْمَرْءُ مَا هُوَ وَمَنْ هُوَ بِهِ جَاهِلٌ؟!

وَأَمَّا مَنِ ازْدَادَ بِالنَّبِيِّ ﷺ مَعْرِفَةً، وَاجْتَهَدَ فِي التَّضَلُّعِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِهِ، وَالْإِحَاطَةِ بِسِيرَتِهِ ﷺ؛ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ازْدَادَ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَتَأَمَّلُ مُتَعَجِّبًا كَثِيرًا مِنَ الْمَوَاطِنِ فِيمَا يَرَاهُ  فِي دُنْيَا النَّاسِ، وَأَمَّا مَا يَجِدُ ذَلِكَ عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الَّذِي يَجِدُهُ فِيمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ.

ابْنُ عَبَّاسٍ لَمَّا بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ -وَهِيَ خَالَتُهُ- قَالَ: ((فَنِمْتُ فِي عُرْضِ الْوِسَادَةِ -وَالْوِسَادَةُ: الْمِخَدَّةُ الَّتِي تُجْعَلُ عَلَيْهَا الرُّؤُوسُ عِنْدَ النَّوْمِ-، قَالَ: وَنَامَ النَّبِيُّ ﷺ فِي طُولِهَا))، وَكَذَا مَيْمُونَةُ، وَهِيَ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عُرْضِ الْوِسَادَةِ، ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابْنُ عَمِّ الرَّسُولِ، وَابْنُ أُخْتِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا ذَهَبَ بَعْضُ مَحَارِمِ امْرَأَتِهِ فَبَاتَ عِنْدَهُ؛ اسْتَثْقَلَ ذَلِكَ، وَأَمَضَّهُ وُجُودُهُ؛ حَتَّى إِنَّهُ أَحْيَانًا قَدْ يُضْطَرُّ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْجَفَاءِ فِي الْمَنْطِقِ مَعَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزِيحَهُ، وَأَمَّا أَخْلَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ الْمَكَانُ ضَيِّقٌ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَهْتَمَّ بِالدُّنْيَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ حَتَّى إِنَّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ سَأَلْنَهُ النَّفَقَةَ، وَقُلْنَ: بَنَاتُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ يَتَمَتَّعْنَ بِمَا هُنَّ فِيهِ، وَنَحْنُ نَحْيَا هَذِهِ الْحَيَاةَ، وَنَعِيشُ هَذِهِ الْعِيشَةَ؟!

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، وَمَا كَانَ فَقِيرًا، النَّبِيُّ ﷺ كَانَ جَوَادًا، فَلَمْ يَكُنْ يُبْقِي شَيْئًا، وَمَعَ ذَلِكَ رُبَّمَا ادَّخَرَ لِأَهْلِهِ مَئُونَةَ سَنَةٍ ﷺ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِ سَبِيكَةُ الذَّهَبِ، فَلَا يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ حَتَّى يُوَزِّعَهَا؛ حَتَّى إِنَّهُ قَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ مَرَّةً، وَتَقَدَّمَ ثُمَّ رَجَعَ، فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَهُمْ قِيَامٌ يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى صُفُوفِهِمْ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَاهُ مَا أَتَاهُ فَوَزَّعَهُ، وَبَقِيَ دِينَارٌ أَوْ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، فَلَمْ يَقَرَّ لَهُ قَرَارٌ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَحْيَا تِلْكَ الْحَيَاةَ، وَكَانَ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ، وَكَانَ يَقُولُ لَمَّا مَرَّ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو يُساعِدُ أَبَاهُ، فَقَالَ: ((مَا تَصْنَعَانِ؟!)).

قَالُوا: ((خُصٌّ لَنَا نُصْلِحُهُ)).

فَقَالَ: ((الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ!)).

فَالرَّسُولُ ﷺ مَا ضَاقَتْ نَفْسُهُ بِمَبِيتِ ابْنِ عَمِّهِ عِنْدَهُ يَكُونُ فِي عُرْضِ الْوِسَادَةِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي طُولِهَا، بَلْ -كَمَا مَرَّ- أَخَذَ يَفْتِلُ أُذُنَهُ، وَفَتْلُ الْأُذُنِ إِنَّمَا هُوَ بِطَيِّهَا بِلَيِّهَا هَكَذَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤْنِسَهُ فِي الظَّلَامِ، لَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجُرَّهُ لِيَجْعَلَهُ عَنْ يَمِينِهِ وَقَدْ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَخَذَ بِأُذُنِهِ حَتَّى أَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﷺ.

وَإِنَّمَا كَانَ يَفْتِلُ أُذُنَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا غَلَبَهُ النُّعَاسُ -وَكَانَ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُؤْنِسَهُ، وَحَتَّى يَسْتَيْقِظَ فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي بِالْبَقَرَةِ، يُصَلِّي بِآلِ عِمْرَانَ، يُصَلِّي بِالنِّسَاءِ، وَرُبَّمَا بِالْمَائِدَةِ أَوِ الْأَنْعَامِ فِي رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقُومُ قَرِيبًا مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَسْجُدُ قَرِيبًا مِنَ الْقِيَامِ، ثُمَّ يَقُومُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ جَالِسًا يَعْنِي: يَقُومُ مِنَ السَّجْدَةِ يَرْفَعُ مِنْهَا- قَرِيبًا مِنَ السُّجُودِ!

وَهَذِهِ بَرَكَةٌ فِي الْوَقْتِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَتَصَوَّرُ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا فِي لَيْلٍ طَوِيلٍ، أَنْ تَقْرَأَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنْ تَرْكَعَ وَتَسْجُدَ وَتَقُومَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَوْصُوفِ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّنَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَذَلِكَ لِيُحَفِّزَنَا عَلَى أَنْ نَتَأَسَّى بِهِ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ نَتَّقِيَ اللهَ رَبَّنَا فِي أَوْقَاتِنَا وَأَعْمَارِنَا، وَأَنْ نَأْمُرَ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِنَا بِأَنْ يَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ، وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ، وَالذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ))

قِيَامُ اللَّيْلِ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي إِذَا أَكْثَرَ مِنْهَا الْمُسْلِمُ ازْدَادَ دَرَجَاتٍ عِنْدَ اللهِ، وَاسْتَوْجَبَ مَحَبَّتَهُ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَلَّا يُؤَدِّيَ قِيَامُ اللَّيْلِ إِلَى أَنْ يَضُرَّ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ وَجَسَدِهِ؛ وَإِلَّا فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَكَانَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((الْفَتْحِ)): ((لِأَنَّ حَالَ النَّبِيِّ ﷺ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ، فَكَانَ لَا يَمَلُّ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ، بَلْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ))، كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ((حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ))، وَفِي رِوَايَةٍ: ((حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ)).

قِيَامُ اللَّيْلِ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ رَسُولَهُ ﷺ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1-4].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79].

وَذَكَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ أَنَّهُمْ {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17-18].

فَقِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ؛ لِمَا فِي سِرِّيَّتِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ -تَعَالَى-، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِتَرْكِ النَّوْمِ، وَاللَّذَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِمُنَاجَاةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَجَوْفُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6].

عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْعَبْدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَحْضُورَةٌ مَشْهُودَةٌ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ؟)).

فَقَالَ ﷺ: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

يُسَنُّ أَنْ يَنَامَ الْمُسْلِمُ طَاهِرًا مُبَكِّرًا بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِيَسْتَيْقِظَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ نَشِيطًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُومَ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى مَكَانِ كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ؛ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْمُسْلِمُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَلَا يَتْرُكَهُ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ((لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!)).

قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَمِقْدَارُ صَلَاةِ اللَّيْلِ: إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَعَ الْوَتْرِ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مَعَ الْوَتْرِ.

وَوَقْتُ صَلَاةِ اللَّيْلِ: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي.

وَأَفْضَلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ: ثُلُثُ اللَّيْلِ بَعْدَ نِصْفِهِ.

فَتُقَسِّمُ اللَّيْلَ أَنْصَافًا، ثُمَّ تَقُومُ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي، ثُمَّ تَنَامُ آخِرَ اللَّيْلِ.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا صِفَةُ صَلَاةِ اللَّيْلِ: فَإِنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَنْوِيَ الْإِنْسَانُ قِيَامَ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ، فَإِنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ وَلَمْ يَقُمْ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.

وَإِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مَسَحَ النَّوْمَ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَقَرَأَ الْعَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...} [آل عمران: 190]، وَيَسْتَاكُ، وَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَفْتَتِحُ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

ثُمَّ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، فَيُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.

وَوَرَدَتْ صِفَاتٌ أُخْرَى لِصَلَاةِ اللَّيْلِ.

رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟)).

قَالَ: ((مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ -أَحْيَانًا- أَرْبَعًا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ رَكْعَاتٌ مَعْلُومَاتٌ، فَإِنْ نَامَ عَنْهَا قَضَاهَا شَفْعًا؛ فَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: ((سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ تَهَجُّدُهُ فِي بَيْتِهِ، وَأَنْ يُوقِظَ أَهْلَهُ، وَيُصَلِّيَ بِهِمْ أَحْيَانًا، وَيُطِيلَ صَلَاتَهُ عَلَى حَسَبِ نَشَاطِهِ، فَإِنْ غَلَبَهُ نُعَاسٌ رَقَدَ، يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ أَحْيَانًا، وَيُسِرُّ بِهَا أَحْيَانًا، فَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ اسْتَجَارَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَنْزِيهٌ لِلَّهِ -تَعَالَى- سَبَّحَ، ثُمَّ يَخْتِمُ تَهَجُّدَهُ بِاللَّيْلِ بِالْوَتْرِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْوَتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ حَثَّ عَلَيْهَا الرَّسُولُ ﷺ بِقَوْلِهِ: ((الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَوَقْتُهُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، وَآخِرُ اللَّيْلِ لِمَنْ وَثِقَ بِنَفْسِهِ، فَهَذَا أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

أَقَلُّ الْوَتْرِ رَكْعَةٌ، وَأَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّيهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ رَكْعَاتٍ بِسَلَامَيْنِ، أَوْ بِسَلَامٍ وَاحِدٍ وَتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ فِي آخِرِهَا.

وَيُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِـ ((الْأَعْلَى))، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ ((الْكَافِرُونَ))، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ ((الْإِخْلَاصِ)).

وَإِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ تَشَهَّدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي آخِرِهَا ثُمَّ سَلَّمَ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ تَشَهَّدَ بَعْدَ السَّادِسَةِ بِلَا سَلَامٍ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى السَّابِعَةَ فَلَا بَأْسَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَنَوْمٌ عَلَى وِتْرٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ تَشَهَّدَ مَرَّتَيْنِ؛ مَرَّةً بَعْدَ الثَّامِنَةِ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ لِلتَّاسِعَةِ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ؛ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ السَّلَامِ: ((سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ)) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَمُدُّ صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ.

يُصَلِّي الْمُسْلِمُ الْوَتْرَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ سُنَّتِهَا الْبَعْدِيَّةِ إِنْ خَافَ أَلَّا يَقُومَ، فَإِنَّهُ يُوتِرُ قَبْلَ نَوْمِهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((مَنْ خَافَ أَلَّا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

مَنْ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ آخِرَهُ صَلَّى شَفْعًا بِدُونِ وَتْرٍ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْنُتُ فِي الْوَتْرِ أَحْيَانًا، مَنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ أَكْثَرَ مِنَ الْفِعْلِ.

إِذَا صَلَّى ثَلَاثَ رَكْعَاتٍ -مَثَلًا-؛ رَفَعَ يَدَيْهِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، أَوْ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْقِرَاءَةِ، فَيَحْمَدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ مِمَّا وَرَدَ.

وَمِنْهُ: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ  تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي وَاصْرِفْ عَنِّي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ  رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)). وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَيَسْتَفْتِحُ أَحْيَانًا قُنُوتَهُ بِمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ: ((اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَكَ، وَنَخْشَى عَذَابَكَ؛ إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَخْضَعُ لَكَ، وَنَخْلَعُ مَنْ يَكْفُرُكَ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.

وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ مِمَّا ثَبَتَ، وَلَا يُطِيلُ، مِنْهَا: ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي آخِرِ قُنُوتِ الْوَتْرِ، وَلَا يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الدُّعَاءِ فِي قُنُوتِ الْوَتْرِ وَغَيْرِهِ؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي سُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ.

الْقُنُوتُ فِي النَّوَازِلِ يَكُونُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَوْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ الظَّالِمِينَ، أَوْ بِهِمَا مَعًا.

أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ، وَمَا يُشْرَعُ لَهُ الْجَمَاعَةُ -كَالْكُسُوفِ، وَالتَّرَاوِيحِ، وَنَحْوِهِمَا- فَيُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً.

مَنْ كَانَ فِي سَفَرٍ عَلَى ظَهْرِ سَيَّارَةٍ، أَوْ قِطَارٍ، أَوْ طَائِرَةٍ، أَوْ سَفِينَةٍ؛ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الْوَتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إِنْ تَيَسَّرَ، وَإِلَّا صَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا يُومِئُ بِرَأْسِهِ.

وَيَجُوزُ -أَحْيَانًا- لِمَنْ صَلَّى الْوَتْرَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ.

وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْوَتْرِ أَوْ نَسِيَهَا صَلَّاهَا إِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْ ذَكَرَ، وَيَقْضِيهَا بَيْنَ أَذَانِ الْفَجْرِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى صِفَتِهَا، وَيَقْضِيهَا نَهَارًا شَفْعًا لَا وَتْرًا، فَإِنْ كَانَ يُوتِرُ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً لَيْلًا؛ صَلَّاهَا نَهَارًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مَثْنَى مَثْنَى، وَهَكَذَا.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: ((كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ، فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَوْتَرَ، ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَائِرُ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ.

وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَفْعَلُهُ فِي نَوْمِهِ ﷺ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنِ اسْتِيقَاظِهِ، وَعِبَادَتِهِ لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ لِتُبَيِّنَ لَنَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ سِوَاهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهَا فِي حُجْرَتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَمِنْهُ أُخِذَ تَفْضِيلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا فَاضَلُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالُوا: إِنَّ فَضْلَ خَدِيجَةَ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي حِيَاطَتِهَا، وَفِي إِجَابَتِهَا لِلنَّبِيِّ ﷺ بِالْإِسْلَامِ لِرَبِّهَا -جَلَّ وَعَلَا-، وَبَذْلِهَا لِمَالِهَا، وَمَا كَانَتْ تَحُوطُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ مِنَ الْكَلَاءَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَهَذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا عَائِشَةُ فَفَضْلُهَا كَانَ فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ فِيمَا حَفِظَتْ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَدَّتْهُ إِلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

((فَإِذَا كَانَ مِنَ السَّحَرِ)) أَيْ: مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ ((أَوْتَرَ)) أَيْ: صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ صَلَاةُ الْوَتْرِ، ((ثُمَّ أَتَى فِرَاشَهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ)) أَيِ: اقْتَرَبَ بِأَهْلِهِ وَمِنْهُمْ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ.

وَالْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ لَا يَبْدَأُ بِالْقِيَامِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَعِبَادَتُهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- كَانَتْ تَغْلِبُ عَلَى شَهْوَتِهِ؛ فَإِنَّهُ ﷺ كَانَ يَقْرَبُ أَهْلَهُ إِذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بَعْدَ الْعِبَادَةِ، وَكَذَلِكَ يُبَيِّنُ الْحَدِيثُ أَنَّ الْوَتْرَ جَائِزٌ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَطِيعُ وَيَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، أَوْ قَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ.

وَعَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ -وَهِيَ خَالَتُهُ-، قَالَ: ((فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي)).

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ: ((فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى فَفَتَلَهَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ مَعْنٌ: سِتَّ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ)). أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ فِي ((جَامِعِهِ))، فَقَدْ أَخْرَجَ قِسْمًا مِنْهُ.

كُرَيْبٌ هُوَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ.

((ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا)) الشَّنُّ: الْقِرْبَةُ الْبَالِيَةُ الصَّغِيرَةُ يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ، فَيَكُونُ أَبْرَدَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ تَكُونُ مُعَلَّقَةً لِتَبْرِيدِ الْمَاءِ.

قَوْلُهُ: ((ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى فَفَتَلَهَا)) أَيْ: لَوَاهَا وَلَفَّهَا، يَعْنِي: بِرَحْمَةٍ وَرِقَّةٍ؛ فَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ((فَعَرَفْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ لِيُؤْنِسَنِي بِيَدِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ))، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: ((فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ أَخَذَ بِشَحْمَةِ أُذُنِي)).

((فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)): وَهُمَا سُنَّةُ الصُّبْحِ، فَيُسَنُّ تَخْفِيفُهُمَا.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((الْفَتْحِ)): ((وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَخْذَ الْأُذُنِ إِنَّمَا كَانَ فِي حَالَةِ إِدَارَتِهِ لَهُ مِنَ الْيَسَارِ إِلَى الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ ﷺ، فَحَوَّلَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى جِهَةِ الْيَمِينِ، وَلَكِنْ لَمْ يُحَوِّلْهُ آخِذًا بِشَحْمَةِ أُذُنِهِ)).

فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِجَمِيعِ طُرُقِهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، ذَكَرَهَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي ((الْفَتْحِ))، وَمِنْهَا: ((الْمُلَاطَفَةُ لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْقَرِيبِ وَالضَّيْفِ، وَحُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ لِلْأَهْلِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ يُؤْثِرُ دَوَامَ الِانْقِبَاضِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، وَكَانَ يَلْقَى النَّاسَ ﷺ بِوَجْهٍ طَلْقٍ؛ بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدَقَاتِ.

وَأَيْضًا مِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ: مَبِيتُ الصَّغِيرِ عِنْدَ مَحْرَمِهِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عِنْدَهَا.

وَمِنْهَا: صِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ، وَفَتْلُ أُذُنِهِ لِتَأْنِيسِهِ وَإِيقَاظِهِ.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي الْحَدِيثِ: فَضْلُ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ وَلَا سِيَّمَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ اللَّيْلِ.

وَمِنْهَا: تِلَاوَةُ آخِرِ آلِ عِمْرَانَ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ.

وَمِنْهَا: إِعْلَامُ الْمُؤَذِّنِ الْإِمَامَ بِحُضُورِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَاسْتِدْعَاؤُهُ لَهَا.

وَمِنَ الْفَوَائِدِ: مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِي النَّوَافِلِ.

وَمِنْهَا: الِائْتِمَامُ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ.

وَمِنْهَا: الِاضْطِجَاعُ بَعْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَهُوَ غَيْرُ الِاضْطِجَاعِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنَّ قِيَامَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، خِلَافَ مَا عُرِفَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ كَانَ لَا يَزِيدُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ عَنْ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.

وَلِهَذَا فَإِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- رَجَّحَ فِي ((الْفَتْحِ)) احْتِمَالَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الْعِشَاءِ دَاخِلَةً فِيهَا؛ أَيْ: فِي الثَّلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

وَالْمُرَادُ بِالرَّكْعَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَا سُنَّةِ الْفَجْرِ، أَوِ الرَّكْعَتَانِ اللَّتَانِ كَانَ ﷺ يُصَلِّيهِمَا جَالِسًا بَعْدَ الْوَتْرِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ، مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْمُ، أَوْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ؛ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ جَوَازُ قَضَاءِ النَّوَافِلِ جَمِيعًا بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ، وَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ قَضَاءِ نَافِلَةِ اللَّيْلِ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فَأَفْضَلُ أَوْقَاتِ قَضَاءِ نَافِلَةِ اللَّيْلِ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَقَدْ جَاءَ فِي حَقِّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ؛ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ أَثَرٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((الْإِرْوَاءِ))، وَغَيْرُهُ، وَقَالَ: ((يَبْدُو أَنَّ الْأَصَحَّ الْوَقْفُ؛ وَلَكِنَّهُ فِي مَعْنَى الرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ مَرْفُوعًا بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ)).

فَهَذَا الْأَثَرُ وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا إِلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

وَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا نَامَ عَنْ وَتْرِهِ، أَوْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ وَجَعٌ وَنَحْوُهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ مِنَ النَّهَارِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي عَدَدِ الرَّكْعَاتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يُصَلِّيَ وَتْرَهُ كَمَا كَانَ يُصَلِّيهِ، وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَد شَاكِر، وَغَيْرُهُ.

فَهَذَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ يُصَلِّيَ مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَهَذَا مَا نَقَلَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِنْ فِعْلِ الرَّسُولِ ﷺ؛ حَيْثُ قَالَتْ: ((كَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا جَوَازَ قَضَاءِ النَّوَافِلِ جَمِيعًا بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ، وَبَيَّنَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَفْضَلَ أَوْقَاتِ قَضَاءِ نَافِلَةِ اللَّيْلِ؛ وَهُوَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ: الدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ افْتِتَاحِ قِيَامِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ: تَهْوِينُ الْأَمْرِ عَلَى النَّفْسِ ابْتِدَاءً؛ لِحُصُولِ النَّشَاطِ، وَلِلْإِرْشَادِ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي شَيْءٍ فَلْيَكُنْ قَلِيلًا قَلِيلًا؛ حَتَّى تَتَعَوَّدَ نَفْسُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِالتَّدْرِيجِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ..))؛ فَحُمِلَ عَلَى النَّدْبِ، وَلَيْسَ عَلَى الْوُجُوبِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((لَأَرْمُقَنَّ صَلاةَ النَّبِيِّ ﷺ، فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ أَوْ فُسْطَاطَهُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ؛ فَذَلِكَ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

 ((لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ)) مِنَ ((الرَّمَقِ)): وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمُحَافَظَةِ، ((فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ أَوْ فُسْطَاطَهُ)) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْفُسْطَاطُ: بَيْتٌ مِنَ الشَّعْرِ، أَوْ خَيْمَةٌ.

((ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ، طَوِيلَتَيْنِ))؛ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طُولِهِمَا، كَأَنَّهُمَا قَامَتَا مَقَامَ سِتِّ رَكْعَاتٍ.

وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَأَمَّا مَنِ ادَّعَى أَنَّ هَذَا خَبَرٌ فِيهِ دَلِيلٌ لَهُ عَلَى أَنَّ الْوَتْرَ ثَلَاثٌ فَلَا حُجَّةَ لَهُ.

وَأَمَّا مُرَاقَبَةُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَكَانَتْ فِي أَحَدِ أَسْفَارِ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِحْدَى نِسَائِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ-، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا حَدَثَ عِنْدَ بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَدْ أَسَاءَ الْفَهْمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالصَّحَابِيِّ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يُبِيحَ لِنَفْسِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى عَوْرَاتِ بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ.

الْوَتْرُ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي صَلَاتِهَا صِفَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ يُصَلِّيَ مَثْنَى مَثْنَى عَشْرَ رَكْعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، ثُمَّ يُصَلِّيَ ثَلَاثًا، وَلَكَ أَنْ تُصَلِّيَ هَذِهِ الثَّلَاثَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْوَتْرِ بِثَلَاثٍ، وَتَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْمَغْرِبِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا يَلِي:

عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَيْفَ كَانَتْ صَلَاتُهُ ﷺ فِي رَمَضَانَ؟)).

فَقَالَتْ: ((مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا)).

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟)).

فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ يُصَلِّي ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنَ الصُّبْحِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ -وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ- إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ، وَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ؛ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَانْتَهَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْوَتْرِ إِلَى الْإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.

قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ -كَمَا مَرَّ-: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً؛ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ وَالْوَتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً فَقَطْ؟!

وَالْجَوَابُ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَدَّتْ مَرَّةً مَعَ الْإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَمَرَّةً عَدَّتْ مَعَهَا الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَمَرَّةً عَدَّتْ مَعَهَا الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ الْوَتْرِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَدَّتْ مَرَّةً فِي الثَّلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: قَوْلُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

فَانْحَلَّ الْإِشْكَالُ.

وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَدَّتْ مَرَّةً الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ يَفْتَتِحُ بِهِمَا صَلَاةَ اللَّيْلِ؛ فَهُوَ قَوْلُهَا: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)).

أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ قَوْلِهَا: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَرَجَّحَ هَذَا الْجَمْعَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَأَيَّدَهُ بِرِوَايَةٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ تُفَصِّلُ مُجْمَلَهُ، كَمَا فِي ((صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ))، وَفِي ((تَمَامِ الْمِنَّةِ)).

وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَدَّتْ مَرَّةً الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوَتْرِ؛ فَهُوَ مَا يُقَرِّرُهُ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَكَذَا مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مِنْ قَوْلِهِ: ((كَانَتْ صَلَاةُ النَّبِيِّ ﷺ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً)) يَعْنِي: بِاللَّيْلِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ -أَحْيَانًا- وَهُوَ جَالِسٌ؛ وَعَلَيْهِ فَإِنَّ فِعْلَهُ ﷺ دَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ((اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا)) إِنَّمَا هُوَ إِرْشَادٌ إِلَى الْأَفْضَلِ، فَيُبَاحُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ أَحْيَانًا بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ.

وَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ الرَّسُولِ ﷺ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: ((إِنَّ هَذَا السَّفَرَ جَهْدٌ وَثِقَلٌ، فَإِذَا أَوْتَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ إِلَّا كَانَتَا لَهُ)). أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ، كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَمْرِ بِجَعْلِ آخِرِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وِتْرًا: أَلَّا يُهْمِلَ الْإِيتَارَ بِرَكْعَةٍ، فَلَا يُنَافِيهِ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ -أَيْ: بَعْدَ الْوِتْرِ-، كَمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ ﷺ وَأَمْرِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ.

وَقَدْ بَوَّبَ ابْنُ خُزَيْمَةَ -رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى حَدِيثِ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هَذَا بِقَوْلِهِ: بَابٌ: ذِكْرُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ مُبَاحَةٌ لِجَمِيعِ مَنْ يُرِيدُ الصَّلَاةَ بَعْدَهُ، وَأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْوِتْرِ لَمْ تَكُونَا خَاصَّةً لِلنَّبِيِّ ﷺ دُونَ أُمَّتِهِ؛ إِذِ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَمَرَنَا بِالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ أَمْرَ نَدْبٍ وَفَضِيلَةٍ، لَا أَمْرَ إِيجَابٍ وَفَرِيضَةٍ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ -كَمَا فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ- مَا يَكُونُ مِنْ صَلَاةٍ بَعْدَ الْوِتْرِ أَوْ عَدَمِ صَلَاةٍ.

وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: ((كَيْفَ كَانَتْ صَلاةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي رَمَضَانَ؟)).

فَقَالَتْ: ((مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِيَزِيدَ فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا لا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا لا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثًا)).

قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟))

فَقَالَ: ((يَا عَائِشَةُ! إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلا يَنَامُ قَلْبِي)). أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ.

وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ لَا يَخْتَلِفُ عَنْ قِيَامِ بَاقِي السَّنَةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَذِكْرُ الِاضْطِجَاعِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَاذٌّ، وَالْمَحْفُوظُ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ سُنَّةِ الْفَجْرِ، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْهُ ﷺ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاضْطِجَاعِ، وَقَدْ تَرَكَهُ ﷺ بَيَانًا لِجَوَازِ التَّرْكِ)).

يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ قِيَامَ النَّبِيِّ ﷺ كَانَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ.

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ بَعْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ فَلَا يَصِحُّ؛ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا وَهِمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَكَرَ الِاضْطِجَاعَ قَبْلَ الْفَجْرِ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: ((أَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّهُ ﷺ اضْطَجَعَ بَعْدَ الْوِتْرِ؛ فَقَدْ خَالَفَهُ أَصْحَابُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ، فَذَكَرُوا الِاضْطِجَاعَ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ)).

وَالِاضْطِجَاعُ بَعْدَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، وَفِيهِ: ((ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ)). أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ.

وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- الصَّحِيحِ، قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ اضْطِجَاعَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ كَانَ أَحَدَ أَحْوَالِهِ ﷺ كَمَا كَانَ اضْطِجَاعُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ؛ يَعْنِي: بَعْدَ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكْعَاتٍ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

يُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوتِرَ بِتِسْعِ رَكْعَاتٍ، وَلَهُ فِيهَا صِفَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ يُصَلِّيَ مَثْنَى مَثْنَى، ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ تِسْعَ رَكْعَاتٍ مَوْصُولَاتٍ، لَا يَقْعُدُ إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ لِلتَّشَهُّدِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ التَّاسِعَةَ، وَيَقْعُدَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ الثَّانِي، ثُمَّ يُسَلِّمَ.

فَهَاتَانِ صِفَتَانِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ بِتِسْعِ رَكْعَاتٍ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: مَا يَلِي:

قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى)).

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: قُلْتُ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -يَعْنِي: عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا--، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قَالَتْ: ((أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟)).

قُلْتُ: ((بَلَى)).

قَالَتْ: ((فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ)).

قَالَ: ((فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

فَقَالَتْ: ((أَلَسْتَ تَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَمِّلُ}؟)).

قُلْتُ: ((بَلَى)).

قَالَتْ: ((فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- افْتَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ التَّخْفِيفَ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ)).

قَالَ: فَقُلْتُ: ((يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

فَقَالَتْ: ((كُنَّا نُعِدُّ -أَيْ: نُجَهِّزُ لَهُ- سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ -بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَهُوَ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ-، فَيَبْعَثُهُ اللهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكْعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ، فَيَذْكُرُ اللهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ؛ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ، فَلَمَّا سَنَّ نَبِيُّ اللهِ ﷺ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ؛ فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ)). تَقُولُ عَائِشَةُ أُمُّنَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

الْحَدِيثُ الَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ اللَّيْلَ بِتِسْعِ رَكْعَاتٍ فَقَطْ؛ لَا مُخَالَفَةَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ؛ فَفِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِاللَّيْلِ)).

فَقَالَتْ: ((سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)).

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ لَمَّا كَبُرَ فِي السِّنِّ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُوتِرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا كَبُرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَتَبِعَهُ الذَّهَبِيُّ، وَوَافَقَهُمَا الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر.

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((فَلَمَّا أَسَنَّ النَّبِيُّ ﷺ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ)).

وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: ((فَلَمَّا دَخَلَ فِي الصَّلاةِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ الْبَقَرَةَ.

ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعَهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ.

ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَكَانَ قِيَامُهُ نَحْوًا مِنْ رُكُوعِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لِرَبِّيَ الْحَمْدُ.

ثُمَّ سَجَدَ، فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى، سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى.

ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَكَانَ مَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنَ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي.

حَتَّى قَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ أَوِ الأَنْعَامَ)).

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي آخِرِهِ: قَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ قَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ أَوِ الْأَنْعَامَ -شَكَّ شُعْبَةُ-)).

وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ -وَهِيَ رِوَايَةُ ((الشَّمَائِلِ))- صَحَّحَهَا الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-،

((ذُو الْمَلَكُوتِ)): صِيغَةُ (فَعَلُوت) لِلْمُبَالَغَةِ وَالْكَثْرَةِ، وَمَعْنَاهُ: مَالِكُ الْمُلْكِ، ((وَالْجَبَرُوتِ)) (فَعَلُوت) مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْقَهْرُ، وَمَعْنَاهُ: الْجَبَّارُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَقَالَ: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ))، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ. 

فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُرَدِّدُهَا.

وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي قَرَأَهَا النَّبِيُّ ﷺ؛ فَقَدْ ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، قَالَ: ((قَامَ النَّبِيُّ ﷺ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ يُرَدِّدُهَا، وَالْآيَةُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118])). وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ فِي ((الزَّوَائِدِ))، وَقَالَ: ((رِجَالُهُ ثِقَاتٌ))، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((صَلَّيْتُ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سُوءٍ)).

قِيلَ لَهُ: ((وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟)).

قَالَ: ((هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَدَعَ النَّبِيَّ ﷺ )). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُطِيلُ قِيَامَ اللَّيْلِ، كَمَا كَانَ يُقَصِّرُهُ، وَأَمَّا إِطَالَتُهُ الصَّلَاةَ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُصَلِّي خَلْفَهُ؛ فَرُبَّمَا لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَعْلَمُ مَدَى تَحَمُّلِهِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ، وَيَعْلَمُ جَلَدَهُ وَصَبْرَهُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: ((فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سُوءٍ))؛ فَفِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ مَعْدُودَةٌ فِي الْعَمَلِ السَّيِّءِ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً؛ قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ بَعْضِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ مِنْ قُعُودٍ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِتْمَامِهَا مِنْ قِيَامٍ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ عَلَى مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ قَاعِدًا أَنْ يَرْكَعَ قَاعِدًا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَشْهَبَ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحُجَّةُ فِيهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي سُؤَالِهِ لَهَا عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِيهِ: ((كَانَ إِذَا قَرَأَ قَائِمًا رَكَعَ قَائِمًا، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ قَائِمًا))، وَهَذَا صَحِيحٌ؛ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَنْعُ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْهَا، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَعَدَمِهِ)).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنْ تَطَوُّعِهِ، فَقَالَتْ: ((كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، فَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ جَالِسٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ جَالِسٌ)). الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ.

وَيُؤْخَذُ مِنْهُ: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؛ فَإِنَّ التَّطَوُّعَ يُفْعَلُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- عَلَى النَّحْوِ الْمَوْصُوفِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَفِي الْحَدِيثِ: جَوَازُ التَّنَفُّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ.

وَفِيهِ: أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ -كَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ- فَلَهُ نِصْفُ الْأَجْرِ -أَيْ: نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ-؛ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقُعُودُ لِضَرُورَةٍ، وَأَمَّا إِذَا قَعَدَ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَكُونُ عَلَى نِصْفِ صَلَاةِ الْقَائِمِ فِي الْأَجْرِ.

فِي الْحَدِيثِ: تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مُسْتَحَبَّةٌ.

وَعَنْ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا، وَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ وَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَقَوْلُهُ: ((سُبْحَتِهِ)) -بِضَمِّ السِّينِ-، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي ((النِّهَايَةِ)): ((السُّبْحَةُ مِنَ التَّسْبِيحِ؛ كَالسُّخْرَةِ مِنَ التَّسْخِيرِ، وَإِنَّمَا خُصَّتِ النَّافِلَةُ بِالسُّبْحَةِ، وَإِنْ شَارَكَتْهَا الْفَرِيضَةُ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ؛ فَذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْبِيحَاتِ فِي الْفَرَائِضِ نَوَافِلُ، فَقِيلَ: لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ سُبْحَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَالتَّسْبِيحَاتِ وَالْأَذْكَارِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ)).

وَقَوْلُهُ: ((وَيُرَتِّلُهَا)) التَّرْتِيلُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّأَنِّي وَالتَّمَهُّلِ، وَتَبْيِينِ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَحَدُ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ مِنْ قُعُودٍ، كَمَا يُفِيدُ الْحَدِيثُ اسْتِحْبَابَ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ لِلتَّمَتُّعِ بِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا قَالَتْ: ((وَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ وَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا)) لَمَّا يَتَأَنَّى فِي التِّلَاوَةِ وَالتَّرْتِيلِ ﷺ.

وَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَمُتْ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صَلاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ؛ فَقَدْ جَاءَ عَنْ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يُصَلِّي سُبْحَتَهُ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ جَالِسًا)).

وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ صَلَّى جَالِسًا فِي النَّافِلَةِ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَأَجْرُهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَجْرِ الْقَائِمِ، كَمَا لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ مِنْ جُلُوسٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَرِيضًا وَجَلَسَ فَإِنَّ الْجُلُوسَ يُجْزِئُهُ، وَلَا يَنْقُصُ أَجْرُهُ، وَيُحْتَجُّ لَهُ بِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ صَالِحُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَقْرَأُ كَمَا نَقْرَأُ، بَلْ كَانَ يُرَتِّلُ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، وَفِي تَتَبُّعِ صِفَةِ صَلَاتِهِ ﷺ نَدَبَ لِتَرْتِيلِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَيْضًا نَدَبَ لِاسْتِيعَابِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ بَعْضِ السُّورَةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ بَعْضِ سُورَةٍ جَائِزَةً وَحَسَنَةً.

((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي صَلَاةِ الضُّحَى))

صَلَاةُ الضُّحَى سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَعَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ وَأَرْشَدَ إِلَيْهَا أَصْحَابَهُ.

الضُّحَى: اسْمٌ لِلْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ تَمَامِ ضَوْءِ الشَّمْسِ إِلَى تَمَامِ رُبُعِ النَّهَارِ.

وَوَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى الشَّرْعِيُّ: مِنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ إِلَى الزَّوَالِ؛ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ تَأْخِيرُهَا إِلَى أَنْ يَشْتَدَّ الْحَرُّ.

عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: ((أَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي الضُّحَى؟)).

قَالَتْ: ((نَعَمْ، أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- )). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَفِي فَضْلِ صَلَاةِ الضُّحَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا -وَهِيَ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ- جَاءَتْ أَحَادِيثُ:

عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَجَوَّدَ إِسْنَادَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَالْهَيْثَمِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يَثْبُتُ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ سُبْحَةَ الضُّحَى؛ كَانَتْ كَأَجْرِ حَاجٍّ أَوْ مُعْتَمِرٍ تَامًّا حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ)). أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى -وَهِيَ مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ- مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: ((ابْنَ آدَمَ! ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ، وَالشَّيْخُ نَاصِرٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا يُحَافِظُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى إِلَّا أَوَّابٌ، قَالَ: وَهِيَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مُسْتَحَبَّةٌ حَسَنَةٌ؛ بَلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا؛ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الضُّحَى.

وَيَبْدَأُ وَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ، وَأَفْضَلُهُ وَقْتَ اشْتِدَادِ الشَّمْسِ، أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِهَا فَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ -وَقَدْ مَرَّ-، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ فِيهِ: ((ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ)).

وَكَذَا مَا جَاءَ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ)).

فَهَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا، وَأَمَّا خُرُوجُ وَقْتِهَا بِالزَّوَالِ؛ فَلِأَنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى.

وَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فِيهَا؛ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنَ الضُّحَى، فَقَالَ: ((أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: ((الرَّمْضَاءُ: الرَّمْلُ الَّذِي اشْتَدَّتْ حَرَارَتُهُ بِالشَّمْسِ؛ أَيْ: حِينَ يَجِدُ الْفَصِيلُ حَرَّ الشَّمْسِ، وَالْفَصِيلُ: الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ)).

فَهَذَا هُوَ وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فِي صَلَاةِ الضُّحَى.

وَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، أَوْ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ، أَوْ سِتًّا، أَوْ ثَمَانِيَ، أَوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءَ:

أَمَّا أَنَّهَا تُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ... الْحَدِيثَ)). ، وَفِيهِ: ((وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)).

أَمَّا أَنَّهَا تُصَلَّى أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ؛ فَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: ((ابْنَ آدَمَ! ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ)).

أَمَّا أَنَّهَا تُصَلَّى سِتَّ رَكْعَاتٍ؛ فَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى سِتَّ رَكْعَاتٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((الشَّمَائِلِ))، وَهُوَ صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ كَمَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ.

أَمَّا أَنَّهَا تُصَلَّى ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ؛ فَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: ((لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى غُسْلِهِ، فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لَمَّا سَأَلَتْهَا مُعَاذَةُ: ((كَمْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى؟)).

قَالَتْ: ((أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ)). وَهِيَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ.

أَمَّا أَنَّهَا تُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ: ((صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَلِلْمُسْلِمِ الَّذِي يُصَلِّي صَلَاةَ الضُّحَى أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ مُتَّصِلَاتٍ؛ كَالصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ)).

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي الضُّحَى سِتَّ رَكْعَاتٍ)). الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ السُّيُوطِيُّ فِي ((الْجَامِعِ الصَّغِيرِ))، قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ)).

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: ((مَا أَخْبَرَنِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي الضُّحَى إِلا أُمَّ هَانِئٍ؛ فَإِنَّهَا حَدَّثَتْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَاغْتَسَلَ، فَسَبَّحَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مَا رَأَيْتُهُ ﷺ صَلَّى صَلاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا؛ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ.

وَقَوْلُهَا: ((فَاغْتَسَلَ فَسَبَّحَ)) أَيْ: صَلَّى.

وَحَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَخْفِيفُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ جَمَاعَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي الْفَاتِحُ عِنْدَ الْفَتْحِ ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ.

وَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): ((بَابٌ: اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَكْمَلَهَا ثَمَانٍ -أَيْ: ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ-، وَأَوْسَطَهَا أَرْبَعُ رَكْعَاتٍ)).

وَقَدْ مَرَّ مَا يُثْبِتُ أَنَّهَا تَصِلُ إِلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَقَالَ: ((إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، فَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ)). رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((مُسْنَدِهِ))، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ شَاكِرٌ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).

وَهَذَا الْحَدِيثُ شَاهِدٌ وَدَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الزَّوَالِ، أَوْ: صَلَاةِ الْأَوَّابِينَ.

وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُصَلِّيهَا عِنْدَ الزَّوَالِ وَيَمُدُّ فِيهَا)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((جَامِعِهِ)).

وَصَلَاةُ الزَّوَالِ عَلَى هَذَا هِيَ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ.

صَلَاةُ الضُّحَى لَهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا أَجْرٌ كَبِيرٌ، كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَوْصَانِي خَلِيلِي ﷺ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْإِيتَارُ قَبْلَ النَّوْمِ لِمَنْ لَا يَثِقُ بِالِاسْتِيقَاظِ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنْ وَثِقَ فَآخِرُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- )). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((صَلَاةُ الضُّحَى رَكْعَتَانِ أَوْ أَكْثَرُ، تُفْعَلَانِ مِنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ إِلَى قُبَيْلِ الزَّوَالِ، وَارْتِفَاعُ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ يَكُونُ بِمِقْدَارِ رُبُعِ سَاعَةٍ أَوْ نَحْوِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمِنْ ثَمَّ يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةِ الضُّحَى، إِلَى أَنْ يَبْقَى عَلَى الزَّوَالِ عَشْرُ دَقَائِقَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا.

كُلُّ هَذَا وَقْتٌ لِصَلَاةِ الضُّحَى؛ لَكِنْ فِعْلُهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَ((الْفِصَالُ)): أَوْلَادُ النُّوقِ.

وَ((تَرْمَضُ)): تَشْتَدُّ عَلَيْهَا الرَّمْضَاءُ.

وَهَذَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَهَذَا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ لِصَلَاةِ الضُّحَى.

صَلَاةُ الضُّحَى مِنَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُسَنُّ تَأْخِيرُهَا، وَنَظِيرُهَا فِي الْفَرَائِضِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْأَفْضَلُ أَنْ تُؤَخَّرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا إِلَّا إِذَا شَقَّ عَلَى النَّاسِ، وَآخِرُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لِانْتِصَافِ اللَّيْلِ، لَيْسَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَقَدْ صَلَّاهَا قَضَاءً لَا أَدَاءً؛ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعِشَاءِ انْتِصَافُ اللَّيْلِ.

صَلَاةُ الضُّحَى مِمَّا عَهِدَ بِهِ -أَيْ: وَصَّى بِهِ- النَّبِيُّ ﷺ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ.

عَهِدَ بِهَا إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ((أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ؛ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ))، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَقْتَهَا مِنَ الشَّهْرِ؛ لِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، لَا يُبَالِي أَصَامَهَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَوْ وَسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ))، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُتَوَالِيَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً، فَكُلُّهَا يَحْصُلُ بِهَا الْأَجْرُ؛ لَكِنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامُ الْبِيضِ؛ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ.

وَأَوْصَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى؛ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مَا بَيْنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ إِلَى قُبَيْلِ الزَّوَالِ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.

وَإِنَّمَا أَوْصَاهُ بِالْوِتْرِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ يُدَرِّسُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَلَا يَنَامُ إِلَّا مُتَأَخِّرًا، وَيُخْشَى أَلَّا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ؛ فَلِهَذَا أَوْصَاهُ أَنْ يُوتِرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.

فَالشَّاهِدُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ -وَكُلُّهُ شَاهِدٌ- قَوْلُهُ: ((وَرَكْعَتِي الضُّحَى)).

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ)).

وَالسُّلَامَى: الْأَعْضَاءُ, أَوِ الْعِظَامُ، أَوِ الْمَفَاصِلُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ السَّابِقُونَ -رَحِمَهُمُ اللهُ- أَنَّ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ ثَلَاثَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ مَفْصِلًا، كُلُّ مَفْصِلٍ يُطَالِبُكَ كُلَّ يَوْمٍ بِصَدَقَةٍ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَحْيَاهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَمَدَّهُ وَعَافَاهُ لَهُ عَلَيْكَ مِنَّةٌ وَفَضْلٌ، فَكُلُّ يَوْمٍ كُلُّ عُضْوٍ يُطَالِبُكَ بِصَدَقَةٍ؛ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ صَدَقَةَ مَالٍ، بَلْ هِيَ كُلُّ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ بَذْلِ مَالٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ؛ فَكُلُّ مَا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَهُوَ صَدَقَةٌ.

وَمِثْلُ هَذَا يَسِيرٌ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُؤَدِّيَ ثَلَاثَ مِئَةٍ وَسِتِّينَ صَدَقَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ.

قَالَ: ((وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ)) يَعْنِي: بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ ((رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا فِي الضُّحَى))، هَذِهِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ، بَدَلَ أَنْ تُطَالَبَ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِكَ، وَمَفْصِلٍ مِنْ مَفَاصِلِكَ بِصَدَقَةٍ؛ يَكْفِيكَ أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الضُّحَى؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُوَاظِبَ عَلَيْهِمَا -عَلَى رَكْعَتَيِ الضُّحَى- حَضَرًا وَسَفَرًا.

وَهَلْ لَهَا عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟

الْجَوَابُ: أَمَّا أَقَلُّهَا فَرَكْعَتَانِ، وَأَمَّا أَكْثَرُهَا فَمَا شَاءَ اللهُ.

لَوْ تَبْقَى تُصَلِّي كُلَّ الضُّحَى فَأَنْتَ عَلَى خَيْرٍ، هَذَا اخْتِيَارُ الْعَلَّامَةِ ابْنِ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي أَطْلَقَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ))، وَلَمْ تُقَيِّدْ، وَلَمْ تُحَدِّدْ.

قَالَ: فَعَلَى هَذَا نَقُولُ: أَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، صَلِّ مَا شِئْتَ؛ لَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي أَرْبَعًا، وَرُبَّمَا صَلَّى ثَمَانِيَ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَنِمَ عُمُرَهُ بِصَالِحِ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّهُ سَوْفَ يَنْدَمُ إِذَا جَاءَهُ الْمَوْتُ، فَإِذَا أَمْضَى سَاعَةً مِنْ دَهْرِهِ لَا يَتَقَرَّبُ فِيهَا إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَكُلُّ سَاعَةٍ تَمْضِي عَلَيْكَ وَأَنْتَ لَا تَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِهَا فَهِيَ خَسَارَةٌ؛ لِأَنَّهَا رَاحَتْ عَلَيْكَ، فَلَمْ تَنْتَفِعْ بِهَا.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ -يَعْنِي: فُرْصَةَ الْفُسْحَةِ مِنَ الْحَيَاةِ- فِي الصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالتَّعَلُّقِ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنْ يَجْعَلَ قَلْبَهُ دَائِمًا مُعَلَّقًا بِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَتَّى لَا يَغْفُلَ الْقَلْبُ عَنِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَانْظُرْ إِلَى مَنْ سَبَقَكَ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْمَاضِيَةِ الْبَعِيدَةِ الْمَدَى، وَانْظُرْ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَمَضَوْا قَبْلَكَ، بِالْأَمْسِ كَانُوا مَعَكَ يَتَمَتَّعُونَ؛ يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ، وَيَشْرَبُونَ كَمَا تَشْرَبُ، وَهُمُ الْآنَ بِأَعْمَالِهِمْ مُرْتَهَنُونَ، وَأَنْتَ سَيَجْرِي عَلَيْكَ هَذَا، طَالَ بِكَ الْعُمُرُ أَوْ قَصُرَ.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6].

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ -فُرْصَةَ الْعُمُرِ-؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، وَلَا أَهْلٌ وَلَا صَاحِبَةٌ، لَا يَنْفَعُ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَهُوَ الْقَلْبُ الْخَالِي مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالزَّيْغِ وَالضَّلَالِ.

((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الصَّوْمِ))

لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ مِنْ صِيَامِ النَّوَافِلِ، وَيَحُثُّ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ يَصُومُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَصُومُ، وَمَا اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ، وَمَا كَانَ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَصُومُ فِي شَعْبَانَ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْهُ شَهْرٌ حَتَّى يَصُومَ مِنْهُ، وَكَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((كَانَ الرَّسُولُ ﷺ لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ)). ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ.

وَكَانَ يَحُضُّ عَلَى صِيَامِهَا.

وَأَمَّا صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ فَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَفِي ((السُّنَنِ)) أَنَّ حَفْصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَدَعُ ثَلَاثًا قَطُّ أَوْ قَالَتْ: ثَلَاثَةً لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ ﷺ قَطُّ؛ صَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَصَوْمُ الْعَشْرِ -يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ، وَصَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ)).

وَعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا سَمِعَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -هِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرَ -الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحَجَّةِ-)).

وَفِي رِوَايَةِ هُنَيْدَةَ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تَفْصِيلٌ بِتَحْدِيدٍ: ((وَتِسْعِ ذِي الْحَجَّةِ)) -هَكَذَا- ((وَتِسْعِ ذِي الْحَجَّةِ)).

عِنْدَ حَفْصَةَ أَتَتْ بِالتَّغْلِيبِ، فَقَالَتْ: ((وَالْعَشْرَ))؛ عَشْرَ ذِي الْحَجَّةِ؛ تَعْنِي قَالَتْ: ((يَصُومُ الْعَشْرَ))؛ عَشْرَ ذِي الْحَجَّةِ.

أَمَّا صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ؛ فَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صِيَامُهَا مَعَ رَمَضَانَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ.

وَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى صَوْمَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ تَصُومُهُ وَتُعَظِّمُهُ، فَقَالَ: ((نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فَصَامَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: ((مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ: إِفْطَارُ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، ثَبَتَ عَنْهُ ذَلِكَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ -رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ-، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ ((صِيَامَهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)). ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ.

وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ، بَلْ قَدْ قَالَ: ((مَنْ صَامَ الدَّهْرَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ))، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ فَيَقُولُ: ((هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟)) فَإِنْ قَالُوا: لَا؛ قَالَ: ((إِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ)).

وَكَانَ -أَحْيَانًا- يَنْوِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ، ثُمَّ يُفْطِرُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ صَائِمٌ أَتَمَّ صِيَامَهُ، كَمَا فَعَلَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ؛ لَكِنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَفِي ((الصَّحِيحِ)) عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ كَرَاهَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ.

((وَلَا يُفْطِرُ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ)). كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ كَانَ ﷺ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَمَنَعَ الصَّائِمَ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ.

هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الصِّيَامِ مِنْ ((مُهَذَّبِ زَادِ الْمَعَادِ))، وَمِنْ ((مُخْتَصَرِهِ)).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: ((سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ صِيَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

قَالَتْ: ((كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ، قَالَتْ: وَمَا صَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

قَوْلُهَا: ((يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ صَامَ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ قَدْ أَفْطَرَ)) أَيْ: إِنَّهُ ﷺ كَانَ يَصُومُ حَتَّى يَقُولُوا لَنْ يُفْطِرَ؛ لِتَتَابُعِ صِيَامِهِ، وَيُفْطِرُ وَلَا يَعُودُ مِنْ قَرِيبٍ إِلَى الصَّوْمِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُ لَنْ يَصُومَ ﷺ.

الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ صِيَامِ شَهْرٍ كَامِلٍ، وَوَصْلِهِ بِآخَرَ، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ هُوَ الشَّهْرُ الْوَحِيدُ الَّذِي يَصُومُهُ الْمُسْلِمُ بِتَمَامِهِ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ.

وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَصُمْ شَعْبَانَ كُلَّهُ؛ وَلَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ أَنَّهُ صَامَهُ كُلَّهُ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْكُلِّ عَلَى الْمُعْظَمِ، فَإِذَا قَالَتْ: صَامَ شَعْبَانَ كُلَّهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْنِي: صَامَ مُعْظَمَهُ، فَيُحْمَلُ الْكُلُّ عَلَى الْمُعْظَمِ؛ حَتَّى جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ يُقَالُ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَلَمْ يَصُمْ إِلَّا أَكْثَرَهُ.

أَوْ أَنَّهُ صَامَهُ كُلَّهُ ﷺ فِي سَنَةٍ، وَصَامَ بَعْضَهُ فِي سَنَةٍ أُخْرَى -يَعْنِي: شَعْبَانَ-.

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((كَانَ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَرَى أَنْ لا يُرِيدَ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، وَيُفْطِرُ مِنْهُ حَتَّى نَرَى أَنْ لا يُرِيدَ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكُنْتَ لا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلا رَأَيْتَهُ مُصَلِّيًا، وَلا نَائِمًا إِلا رَأَيْتَهُ نَائِمًا)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ الْحَافِظُ فِي ((الْفَتْحِ)): ((إِنَّ حَالَهُ فِي التَّطَوُّعِ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ كَانَ يَخْتَلِفُ؛ فَكَانَ تَارَةً يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، كَمَا كَانَ يَصُومُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، فَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ قَائِمًا، أَوْ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الشَّهْرِ صَائِمًا، فَرَاقَبَهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَادِفَهُ قَامَ أَوْ صَامَ عَلَى وَفْقِ مَا أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْطِرَ مِنْهُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ، وَمَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَّا رَمَضَانَ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي مَرَّتْ بَيَّنَتْ أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَصُمْ شَهْرًا مُتَتَابِعًا وَتَامًّا غَيْرَ رَمَضَانَ، وَمَنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ نَبِيَّهُ ﷺ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ لِلَّهِ فِي شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلا قَلِيلًا؛ بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ.

وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: ((كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا)).

وَقَدْ كَثُرَ الْكَلَامُ حَوْلَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْخَبَرِ السَّابِقِ وَهَذَا الْخَبَرِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُمْ تَكَلَّفُوا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ؛ لَعَلِمُوا أَنَّهَا بَيَّنَتْ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ؛ وَلَكِنَّهُ يَسْتَثْنِي مِنْهُ أَيَّامًا قَلِيلَةً.

وَرَحِمَ اللهُ الْإِمَامَ التِّرْمِذِيَّ؛ إِذْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي ((جَامِعِهِ)) فَقَالَ: ((وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: وَهُوَ جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ.

كَأَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكِ قَدْ رَأَى كِلَا الْحَدِيثَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ.

يَقُولُ: إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَكْثَرَ الشَّهْرِ)).

أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي إِكْثَارِهِ الصَّوْمَ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ؛ فَالْجَوَابُ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنْ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ!)).

قَالَ: ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَغَيْرُهُ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ: صَلَاةُ اللَّيْلِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ مِنْ شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ)). هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَخْرَجَهَا الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَاتِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا مَا هُوَ مَسْنُونٌ صَوْمُهُ مِنَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ:

مِنْ ذَلِكَ: صَوْمُ شَعْبَانَ؛ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُهُ كُلَّهُ، أَوْ كُلَّهُ إِلَّا قَلِيلًا، كَمَا رَوَتْ عَنْهُ ذَلِكَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الصِّيَامِ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصُومُهُ.

وَالْحِكْمَةُ مِنْ ذَلِكَ -كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ-: أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ رَمَضَانَ كَالرَّوَاتِبِ بَيْنَ يَدَيِ الْفَرِيضَةِ.

وَمِمَّا يُسَنُّ صِيَامُهُ -أَيْضًا-: شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَشَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ هُوَ مَا بَيْنَ ذِي الْحِجَّةِ وَصَفَرٍ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ))، وَيَتَأَكَّدُ أَنْ يَصُومَ مِنْهُ الْعَاشِرَ، أَوِ الْعَاشِرَ وَالتَّاسِعَ.

وَمِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ.

مِنْ ذَلِكَ -أَيْضًا-: أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: ((إِنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ. يَعْنِي: يُكَفِّرُ سَنَتَيْنِ.

فَهَذَا بَعْضُ مَا سَنَّهُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ )).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مُخْتَصَرًا، وَالتِّرْمِذِيُّ وقَالَ: ((حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ))، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ أَبِي دَاوُدَ)).

وَالْغُرَّةُ: أَوَّلُ الشَّهْرِ.

((وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)) أَيْ: مَضْمُومًا إِلَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثَيْنِ بَعْدَهُ، فَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ)). كَذَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْفَرِدًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى-؛ وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ ذَلِكَ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ عَمَلًا بِمَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَا تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَبْلَهُ يَوْمٌ أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ)).

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: ((وَلَا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ)).

وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ: ((أَصُمْتِ أَمْس؟)).

قَالَتْ: ((لَا)).

قَالَ: ((تَصُومِينَ غَدًا؟)).

قَالَتْ: ((لَا)).

قَالَ: ((فَأَفْطِرِي)). رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ أُجِيبَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُفْرِدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَائِمٌ، كَمَا قَالَ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.

((وَقَلَّمَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)) أَيْ: مَضْمُومًا إِلَى مَا قَبْلَهُ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَحَرَّى صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَقَوْلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَتَحَرَّى)) التَّحَرِّي: هُوَ الْقَصْدُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْلِ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ يَوْمَيْ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ فِيهِمَا.

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: ((ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ -أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ- فِيهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: ((تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ ذِكْرِ الصَّوْمِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- -وَقَدْ ذَكَرَ صِيَامَ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ-: ((الْأَفْضَلُ صَوْمُهَا فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ، وَهِيَ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ.

وَقِيلَ: الثَّانِيَ عَشَرَ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ أَنَّ الْأَيَّامَ الْبِيضَ هِيَ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَوْصَانِي خَلِيلِي ﷺ بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَوْصَانِي بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَوْصَانِي حَبِيبِي ﷺ بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ؛ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَبِأَلَّا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟)).

قَالَتْ: ((نَعَمْ)).

قَالَتْ: فَقُلْتُ: ((مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ؟)).

قَالَتْ: ((لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ يَصُومُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثًا فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

عَنْ قَتَادَةَ بْنِ مِلْحَانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ؛ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَا يُفْطِرُ أَيَّامَ الْبِيضِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ)). رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَضْلَ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.

وَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ)) يَعْنِي: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، تَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَتَكُونُ صَوْمَ الدَّهْرِ كُلِّهِ.

الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ يَجُوزُ أَنْ تَصُومَهَا فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ، أَوِ الْأَوْسَطِ، أَوِ الْأَخِيرِ، أَوْ أَنْ تَصُومَ كُلَّ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، أَوْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمًا، كُلُّ هَذَا جَائِزٌ، وَالْأَمْرُ وَاسِعٌ؛ لِذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَا يُبَالِي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ صَامَهَا؛ مِنْ أَوَّلِهِ، أَوْ وَسَطِهِ، أَوْ آخِرِهِ)).

لَكِنَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الْبِيضِ.

وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَإِنَّهُ أَيْضًا سُنَّةٌ؛ لَكِنَّهُ دُونَ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَصَوْمُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ أَفْضَلُ، وَكِلَاهُمَا فَاضِلٌ، وَإِنَّمَا كَانَ صِيَامُهُمَا فَاضِلًا لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ فِيهِمَا عَلَى اللهِ، قَالَ: ((فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)).

((أَحَبُّ الصِّيَامِ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ))، قَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((بَلْ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، صَحِيحُ الْمَتْنِ؛ فَإِنَّ لَهُ شَاهِدًا أَخْرَجْتُهُ مَعَ الْحَدِيثِ فِي ((الْإِرْوَاءِ)) ))، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَالْحِكْمَةُ مِنْ مُدَاوَمَتِهِ ﷺ عَلَى صِيَامِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ: إِرَادَةُ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ، وَالْحَدِيثُ يُفِيدُ عَدَمَ الِاسْتِهَانَةِ بِمُسْتَحَبِّ الْعَمَلِ، كَمَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُنَافِي مَا جَاءَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: ((فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ الْقُرْآنُ)). وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ؛ فَقَدْ يَكُونُ لِلْحُكْمِ سَبَبَانِ. أَفَادَهُ الْمُنَاوِيُّ.

تُعْرَضُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْأَعْمَالُ عَلَى اللهِ.

الْعَرْضُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

-عَرْضٌ لِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ اللَّيْلِ.

-وَعَرْضٌ لِعَمَلِ الْأُسْبُوعِ.

-وَعَرْضٌ لِعَمَلِ السَّنَةِ.

وَحِكْمَةُ الْعَرْضِ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُبَاهِي بِالطَّائِعِينَ الْمَلَائِكَةَ؛ وَإِلَّا فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصُومُ مِنَ الشَّهْرِ السَّبْتَ، وَالأَحَدَ، وَالِاثْنَيْن، وَمِنَ الشَّهْرِ الآخَرِ الثُّلاثَاءَ، وَالأَرْبِعَاءَ، وَالْخَمِيسَ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ نَحْوَهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَقَالَ: ((هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)).

وَالْحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ وَاحِدَةٌ فِي الصِّيَامِ -كَمَا مَرَّ-؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ وَالِاثْنَيْن مِنْ شَهْرٍ، وَفِي الشَّهْرِ الْآخَرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ؛ فَلَمْ يَلْتَزِمْ حَالَةً بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ -لَا شَكَّ- فِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى الْأُمَّةِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَأَسَّى وَيَتَّبِعَ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كَانَ عَاشُورَاءُ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ)).

وَالْحَدِيثُ نَاسِخٌ لِفَرْضِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ بَعْدَ أَنْ فَرَضَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- صِيَامَ رَمَضَانَ.

وَالْحَدِيثُ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تُفِيدُ مُخَالَفَةَ أَعْدَاءِ الدِّينِ مِنْ كُفَّارٍ وَمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ، كَمَا يُسْتَدَلُّ مِنْهُ عَلَى اسْتِحْبَابِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ.

((تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ))، قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَلِمَاذَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصُومُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؟!

تَلَقِّيًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي صَوْمِهِ إِلَى شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُوحٍ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-؛ فَقَدْ وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ أَنَّهُ الْيَوْمُ -أَيْ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ- الَّذِي اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ، فَصَامَهُ نُوحٌ شُكْرًا، وَكَذَلِكَ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي نَجَّى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ، يَعْنِي: قُرَيْشًا-؛ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ بِكِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فِيهِ)).

أَمَّا إِضَافَةُ يَوْمٍ آخَرَ لَهُ -أَيْ: لِيَوْمِ عَاشُورَاءَ-؛ فَيُؤْخَذُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ﷺ.

هَذَا تَلْخِيصٌ لِهَدْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ.

صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ يَشْمَلُهُ الْحَثُّ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا مُطْلَقًا، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

((هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ))

لَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ حِزْبٌ يَقْرَؤُهُ وَلَا يُخِلُّ بِهِ، وَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ تَرْتِيلًا لَا هَذَّا وَلَا عَجَلَةً ، بَلْ قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرْفًا، وَكَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً ، وَكَانَ يَمُدُّ عِنْدَ حُرُوفِ الْمَدِّ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ ، وَخَشَعَ ﷺ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنْهُ حَتَّى ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.

عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: ((كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).

فَقَالَ: ((مَدًّا)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

((كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللهِ؟)) أَيْ: عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ.

قَالَ: ((مَدًّا)) أَيْ: مَمْدُودَةً، أَوْ: ذَاتَ مَدٍّ؛ لَكِنْ لِمَا يَسْتَحِقُّ الْمَدَّ؛ إِمَّا مُطَوَّلًا، أَوْ مَقْصُورًا، أَوْ مُتَوَسِّطًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَدَّ بِلَا مُوجِبٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْمَدِّ: تَطْوِيلُ النَّفَسِ فِي حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ.

عَنْ أُمِّ هَانِئٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِاللَّيْلِ وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي ((الزَّوَائِدِ)) قَالَ: ((إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ))، وَقَالَ الْأَلْبَانِيُّ: ((إِسْنَادُهُ حَسَنٌ صَحِيحٌ)).

قَوْلُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((عَلَى عَرِيشِي)) الْعَرِيشُ: هُوَ السَّقْفُ يُصْنَعُ مِنَ الْعِيدَانِ، أَوْ سَعَفِ النَّخِيلِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: السَّرِيرُ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَكَانَ بِمَكَّةَ.

وَقَوْلُهَا: ((وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي)) يَعْنِي: وَالْحَالُ أَنِّي نَائِمَةٌ عَلَى سَرِيرِي.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُخْفِيَ الْمَرْءُ صَوْتَهُ خَشْيَةَ الْوُقُوعِ فِي الرِّيَاءِ.

فَاسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَقْتَضِي اسْتِحْبَابَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، وَأُخْرَى تَقْتَضِي الْإِسْرَارَ وَخَفْضَ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ.

فَمِنَ الْأَوَّلِ -وَهُوَ اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ-: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَمِنَ الثَّانِي -وَهُوَ الْإِسْرَارُ وَخَفْضُ الصَّوْتِ بِالتِّلَاوَةِ-: مَا جَاءَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ؟

الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ هُوَ: يَكُونُ الْجَهْرُ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى السَّامِعِينَ، فَالْعَمَلُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَيُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ، وَيَجْمَعُ هَمَّهُ عَلَى التَّفَكُّرِ، وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إِلَيْهِ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ، وَيَزِيدُ فِي النَّشَاطِ؛ بِشَرْطِ أَلَّا يُؤْذِيَ غَيْرَهُ مِنْ مُصَلٍّ، أَوْ نَائِمٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا؛ فَمَتَى حَضَرَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ.

وَيَكُونُ الْإِسْرَارُ أَفْضَلَ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ، أَوْ تَأَذَّى مُصَلُّونَ أَوْ نِيَامٌ بِجَهْرِهِ.

وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ بِمَا جَاءَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: ((أَلَا كُلُّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ؛ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ))، أَوْ قَالَ: ((فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ، وَالْإِسْرَارُ بِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَلُّ، فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ، وَلِأَنَّ الْجَاهِرَ قَدْ يَكَلُّ فَيَسْتَرِيحُ بِالْإِسْرَارِ.

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ أَجْرَ التِّلَاوَةِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى التَّلَفُّظِ بِهَا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ النُّطْقِ بِالْقِرَاءَةِ، وَالتَّلَفُّظِ بِالتِّلَاوَةِ لِحُصُولِ الْأَجْرِ، بَعْضُ النَّاسِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِدُونِ تَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ، قِرَاءَةً صَامِتَةً، فَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَلَى فَضِيلَةِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا بَأْسَ مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ -أَيْ: فِي الْمُصْحَفِ- مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَذَلِكَ لِتَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ؛ لَكِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ -أَيِ: النَّاظِرُ- لَا يُعْتَبَرُ قَارِئًا إِلَّا إِذَا تَلَفَّظَ بِالْقُرْآنِ وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، عِنْدَ ذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ أَجْرُ التِّلَاوَةِ وَلَوْ لَمْ يُسْمِعْ مَنْ حَوْلَهُ؛ لِمَا جَاءَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: {ألم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَوَافَقَهُمَا الْأَلْبَانِيُّ.

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: ((رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى نَاقَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1-2]، قَالَ: فَقَرَأَ وَرَجَّعَ، قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَوْلا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ لأَخَذْتُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ الصَّوْتِ -أَوْ قَالَ: اللَّحْنِ-)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

((لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ)) أَيْ: لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ لِاسْتِمَاعِ تَرْجِيعِي بِالْقِرَاءَةِ لَأَخَذْتُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ الصَّوْتِ، أَوْ قَالَ: اللَّحْنِ، بَدَلَ: الصَّوْتِ؛ وَهُوَ التَّرْجِيعُ وَتَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ.

وَلَعَلَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِيُنَبِّهَ إِلَى أَنَّ نُزُولَهَا عَلَيْهِ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مُقَدِّمَةً وَتَوْطِئَةً لِفَتْحِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، لَا فِي فَتْحِ مَكَّةَ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}.

((وَهُوَ يَقْرَأُ)) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يَقْرَأُ.

فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ ﷺ كَانَ مُلَازِمًا لِلْعِبَادَةِ؛ حَتَّى فِي حَالِ رُكُوبِهِ وَسَيْرِهِ.

وَفِي جَهْرِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِسْرَارِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَهِيَ عِنْدَ التَّعْظِيمِ، وَإِيقَاظِ الْغَافِلِ.

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أَيْ: لِتَجْتَمِعَ لَكَ هَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ؛ وَهِيَ: الْمَغْفِرَةُ، وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ.

فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَسَّرْنَا لَكَ الْفَتْحَ؛ لِيَجْتَمِعَ لَكَ عِزُّ الدَّارَيْنِ، وَأَغْرَاضُ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ: الْعِصْمَةُ؛ أَيْ: عَصَمْنَاكَ مِنَ الذُّنُوبِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُرِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَمَا تَأَخَّرَ مِنْهُ.

وَالتَّحْقِيقُ كَمَا هُوَ شَائِعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّنْبِ مَا هُوَ مِنْ بَاب: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ؛ لِأَنَّهُ ﷺ يَتَرَقَّى فِي الْكَمَالِ، فَيَرَى أَنَّ مَا انْتَقَلَ عَنْهُ ذَنْبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذَّنْبِ تَرْكُ الْأَفْضَلِ.

((وَرَجَّعَ)) أَيْ: رَدَّدَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ.

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيلِهَا، وَأَمَّا التَّلْحِينُ فِي الْقِرَاءَةِ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، وَأَبَاحَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلرِّقَّةِ، وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ، وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِهِ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ.

وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِذَلِكَ مَا يَكُونُ عَلَى لُحُونِ أَهْلِ الْفِسْقِ، فَهَذَا لَمْ يُجِزْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ بِإِجْمَاعٍ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ كَرِهُوا ذَلِكَ إِنَّمَا كَرِهُوا تِلْكَ التِّلَاوَةَ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا صَاحِبُهَا عَنْ قَوَاعِدِ التَّجْوِيدِ وَالتَّرْتِيلِ، مِمَّا أَدَّى إِلَى نَزْعِ هَيْبَةِ الْقُرْآنِ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ بِالْتِفَافِهِمْ حَوْلَ صَوْتِ الْقَارِئِ، وَمِنْ ثَمَّ جُنُوحِهِمْ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ.

رَوى الْبَرَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] فِي الْعِشَاءِ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَفِي اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ عِدَّةٌ؛ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَمْ يَأْذَنِ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَ(أَذِنَ) هُنَا بِمَعْنَى: اسْتَمَعَ، لَا مِنَ (الْإِذْنِ).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِقِرَاءَةِ نَبِيٍّ يَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهِ وَيُحَسِّنُهَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي قِرَاءَةِ الْأَنْبِيَاءِ طِيبُ الصَّوْتِ؛ لِكَمَالِ خُلُقِهِمْ وَتَمَامِ الْخَشْيَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ؛ بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ)).

وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).

وَمَا رَوَاهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).

وَالْمُرَادُ مِنْ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ: تَطْرِيبُهُ، وَتَحْزِينُهُ، وَالتَّخَشُّعُ بِهِ.

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- ذَاكِرًا الْحِكْمَةَ مِنِ اسْتِحْبَابِ تَزْيِينِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ، أَوْ تَزْيِينِ الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ: ((لِأَنَّ تَزْيِينَهُ، وَتَحْسِينَ الصَّوْتِ بِهِ، وَالتَّطْرِيبَ بِقِرَاءَتِهِ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَأَدْعَى إِلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ؛ فَفِيهِ تَنْفِيذٌ لِلَفْظِهِ إِلَى الْأَسْمَاعِ، وَمَعَانِيهِ إِلَى الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَاوَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لِتُنْفِذَهُ إِلَى مَوْضِعِ الدَّاءِ، لَا تُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ وَضْعِهِ، وَلَا تَحُولُ بَيْنَ السَّامِعِ وَبَيْنَ فَهْمِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ كَمَا ظَنَّ الْمَانِعُ مِنْهَا؛ لَأَخْرَجَتِ الْكَلِمَةَ عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَحَالَتْ بَيْنَ السَّامِعِ وَبَيْنَ فَهْمِهَا، وَلَمْ يَدْرِ مَا مَعْنَاهَا، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ)).

فَبَيَّنَ -رَحِمَهُ اللهُ- الْحِكْمَةَ مِنِ اسْتِحْبَابِ تَزْيِينِ الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيلُهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ بِالتَّمْطِيطِ، فَإِنْ أَفْرَطَ حَتَّى زَادَ حَرْفًا أَوْ أَخْفَاهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُرَاعِي هَذَا، فَرُبَّمَا أَخْرَجَ الْأَمْرَ عَنْ حَدِّهِ، وَخَرَجَ بِهِ عَنْ نِظَامِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ يُرَقِّصُ الْمُدُودَ تَرْقِيصًا، وَهَذَا كُلُّهُ لَا يَلِيقُ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- )).

الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ تَحْسِينِ الصَّوْتِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ قَنْطَرَةً إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ، وَالْخُشُوعِ، وَالْخُضُوعِ، وَالِانْقِيَادِ لِلطَّاعَةِ.

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمُطَرِّبَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُشْبِهُ الْغِنَاءَ، وَرُبَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ، عَلِمُوا أَمْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَيُخَيَّلُ لَكَ عِنْدَ سَمَاعِ قِرَاءَتِهِمْ أَنَّكَ تَسْمَعُ أُغْنِيَةً؛ مِنْ تَقْلِيبِ الصَّوْتِ، وَتَغْيِيرِ النَّغَمَاتِ -نَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَهُمُ الْهِدَايَةَ-.

وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ صَارَ فَاشِيًا شَائِعًا؛ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ الْآنَ قَارِئٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ عِلْمٌ شِبْهُ مُحِيطٍ بِالْمُوسِيقَى، وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مُوسِيقَار؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَهُ الْمَقَامَاتِ الْمُوسِيقِيَّةَ، وَكَيْفَ يَنْتَقِلُ بِالْقِرَاءَةِ وَالتِّلَاوَةِ بِكِتَابِ اللهِ الْمَجِيدِ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ، فَيُعَلِّمُهُ ذَلِكَ عَلَى أُصُولِ أَهْلِ الْأَلْحَانِ!!

فَهَذَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى الْآنَ!

((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ ذِكْرِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ))

لَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا ﷺ دَائِمَ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِرَبِّهِ -سُبْحَانَهُ-؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، حَيْثُ يَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8].

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ-: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205].

وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 106].

فَهَذَا حَالُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ))، بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ ﷺ: ((تَنَامُ عَيْنَايَ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي)).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَاللهِ! إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ اسْتِغْفَارًا مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ )).

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

قَوْلُهُ: ((فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ)) قَالَ الطِّيبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الزَّحْفُ: الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَقَوْلُهُ: ((لَيُغَانُ)) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: (( ((لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي)) أَيْ: لَيُغَطَّى وَيُغْشَى، وَالْمُرَادُ بِهِ: السَّهْوُ؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ لَا يَزَالُ فِي مَزِيدٍ مِنَ الذِّكْرِ وَالْقُرْبَةِ، وَدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، فَإِذَا سَهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْ نَسِيَ عَدَّهُ ذَنْبًا عَلَى نَفْسِهِ، فَفَزِعَ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ فِي الْمَجْلِسِ للنَّبِيِّ ﷺ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ؛ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» مِئَةَ مَرَّةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ».

«تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

فَكَانَ ﷺ -كَمَا دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ- يُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ؛ شُكْرًا عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا تُحْصَى.

جَاءَ صَحَابِيٌّ  إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَمْرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٍ)).

يَقُولُ: إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، وَوَقَعَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ تَبَعْثُرِ الْقُوَى وَالْفِكْرِ؛ فَدُلَّنِي عَلَى أَصْلٍ وَمِحْوَرٍ أَتَمَسَّكُ بِهِ؛ حَتَّى لَا أَقَعَ فِي التِّيهِ!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-)).

ذِكْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَانَ النَّبِيُّ ﷺ لَا يَدَعُهُ فِي حَالٍ وَلَا عَلَى حَالٍ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَعَالَى- فَضْلَهُ.

فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِقِسْطٍ مِنْهُ وَافِرٍ.

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي, وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي, فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي, وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا, وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا, وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً)).

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ, وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ, وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ, وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ, وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟))‏.‏

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏.‏

قَالَ: ((ذِكْرُ اللَّهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, وَأَخْبَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُفَرِّدُونَ, هُمُ الذَّاكِرُونَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ؛ فَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ)).

قَالُوا: ((وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).

قَالَ: ((الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ)).

وَرَوَى البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ)).

((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ الْمَصَائِبِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنْ أَحْوَالِ نَبِيِّنَا ﷺ مَعَ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حَالَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((دَخَلْنَا مَعَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)).

فَقَالَ: ((يَا ابْنَ عَوْفٍ! إِنَّهَا رَحْمَةٌ))، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((مُدَاوَمَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْعِبَادَةِ))

إِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ صِفَاتِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَعَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَكَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخُصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيْئًا؟)).

قَالَتْ: ((كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُطِيقُ؟!)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

 ((كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)) أَيْ: دَائِمًا.

وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((صَحِيحِهِ)) فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ بَابًا: هُوَ: ((بَابُ الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ)).

عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ؟)).

قَالَتِ: ((الدَّائِمُ)).

قَالَ: قُلْتُ: ((فَأَيُّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟)).

قَالَتْ: ((كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ)). وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ -أَيْضًا- مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَ((الصَّارِخُ)) يَعْنِي: الدِّيكَ، وَغَالِبُ الدِّيَكَةِ يَكُونُ لَهَا تَوْقِيتٌ مُنْفَصِلٌ، فَإِذَا أَقْبَلَ نِصْفُ اللَّيْلِ الْآخِرُ بَدَأَتْ تُؤَذِّنُ وَتَصِيحُ شِتَاءً وَصَيْفًا؛ حَتَّى إِنَّ النَّاسَ فِيمَا سَبَقَ حِينَ كَانَتِ السَّاعَاتُ قَلِيلَةً وَنَادِرَةً، كَانُوا يَسْتَغْنُونَ بِهَا -أَيْ: بِتِلْكَ الدِّيَكَةِ- عَنِ السَّاعَاتِ، وَكَانَتْ تُوَقِّتُ تَوْقِيتًا مُنْضَبِطًا، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ سَاعَاتٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الْإِدَامَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَةِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ، أَمَّا الْإِنْسَانُ الَّذِي لَا يُدَاوِمُ؛ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى فُتُورِهِ وَكَسَلِهِ، لَكِنْ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمُدَاوَمَةِ أَفْضَلُ.

يَعْنِي: إِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُفْطِرَ هَذَا الْيَوْمَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُقَالُ إِنَّهُ تَرَكَ الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى عَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ نَفْسُهُ -وَهُوَ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى الْعَمَلِ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ الرَّاتِبَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا- يَصُومُ أَحْيَانًا حَتَّى يُقَالَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَصُومُ، وَكَذَلِكَ فِي الْقِيَامِ؛ يَقُومُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَنَامُ، وَيَنَامُ حَتَّى يُقَالَ: لَا يَقُومُ؛ أَيْ: إِنَّهُ يَتَّبِعُ مَا هُوَ أَصْلَحُ.

فَلَا تَظُنَّ أَنَّ مَعْنَى الْمُدَاوَمَةِ أَنْ تُدَاوِمَ عَلَى عَمَلٍ بِعَيْنِهِ، هَذَا صَحِيحٌ.. أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ؛ وَلَكِنْ إِذَا تَرَكْتَ هَذَا الْعَمَلَ بِعَيْنِهِ لِعَمَلٍ آخَرَ مِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ فَإِنَّكَ تُعْتَبَرُ مُدَاوِمًا.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)).

قَوْلُهَا: ((أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ )) تَعْنِي: مِنْ جِنْسِهِ.

وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ دَاوَمَ عَلَى النَّافِلَةِ مَا صَارَتْ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ((مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ)).

فَقَصْدُهَا: الْعَمَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، مِنْ هَذَا النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ -مَثَلًا- يُمْكِنُ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى، وَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي أُدَاوِمُ عَلَيْهِ هُوَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللهِ، أَوْ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

فَمَثَلًا: رَجُلٌ يُصَلِّي الضُّحَى وَيَتْرُكُهَا، وَآخَرُ يُصَلِّيهَا وَيُدَاوِمُ عَلَيْهَا بِمُقْتَضَى النُّصُوصِ عِنْدَهُ؛ فَالثَّانِي أَحَبُّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَكَذَلِكَ إِنْسَانٌ يُدَاوِمُ عَلَى رَاتِبَةِ الظُّهْرِ، وَآخَرُ لَا يُدَاوِمُ عَلَيْهَا؛ نَقُولُ: الْأَوَّلُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ)).

قَالُوا: ((وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!)).

قَالَ: ((وَلَا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ: أَنَّ الْعَمَلَ لَا يُنَجِّي مِنَ النَّارِ، وَلَكِنْ تُشْكِلُ عَلَيْهِ نُصُوصٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ النُّصُوصِ هَكَذَا.

قَوْلُهُ: ((لَا يُنَجِّي أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ))؛ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ مُجَرَّدُ سَبَبٍ لَا عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَتِ الْمُعَاوَضَةُ لَكَانَتْ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا مُعَادِلَةً لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَلَوْ أَنَّنَا أَرَدْنَا الْمُعَاوَضَةَ، وَأَتَيْنَا بِإِنْسَانٍ وَقُلْنَا لَهُ: كَمْ عَمِلْتَ؟

قَالَ: عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا.

لَقُلْنَا: كَمْ لِلَّهِ عَلَيْكَ مِنْ نِعَمٍ لَا تُحْصَى؟!

فَلَوْ أُرِيدَتِ الْمُعَاوَضَةُ لَكَانَتْ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الدُّنْيَا تُعَادِلُ جَمِيعَ الْعَمَلِ؛ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ، وَالسَّبَبُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُكَافِئًا لِلْمُسَبَّبِ، فَعَمَلُ الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ؛ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْعِوَضَ.

((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)): الْبَاءُ هَاهُنَا سِوَى الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ فَالْبَاءُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ بَاءُ الثَّمَنِيَّةِ.. بَاءُ الْمُعَاوَضَةِ، وَأَمَّا الْبَاءُ الْمُثْبَتَةُ هِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ؛ فَالْمَنْفِيَّةُ لِلثَّمَنِيَّةِ، وَالْمُثْبَتَةُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ النُّصُوصِ بِفَضْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَجُلٍ عَمِلَ أَعْمَالًا صَالِحَةً عَظِيمَةً، فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمَلَائِكَةِ: ((أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي)).

فَيَقُولُ: ((يَا رَبِّ! بِعَمَلِي)).

لِأَنَّهُ عَمِلَ أَعْمَالًا عَظِيمَةً، فَيَظُنُّ أَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا وَعِوَضًا!

فَحِينَئِذٍ يُؤْتَى بِنِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، وَيُحَاسَبُ، فَإِذَا هِيَ قَدْ رَجَحَتْ بِجَمِيعِ مَا عَمِلَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعَظِيمَةِ.

فَيَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِمَلَائِكَتِهِ: ((أَدْخِلُوا عَبْدِي هَذَا النَّارَ بِعَمَلِهِ)).

فَيَقُولُ: ((لَا يَا رَبِّ! بَلْ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ)).

فَيَعُودُ لِلْأَوَّلِ.

الْإِنْسَانُ هُوَ الْإِنْسَانُ، وَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ، فَهَكَذَا خَلَقَهُ اللهُ -فَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَنَا أَجْمَعِينَ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا إِلَى اللهِ وَإِنْ قَلَّ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

((سَدِّدُوا وَقَارِبُوا)): التَّسْدِيدُ مَعْنَاهُ: الْإِصَابَةُ، وَالْمُقَارَبَةُ: الْمُقَارَبَةُ مِنَ الصَّوَابِ.

يَعْنِي: ائْتُوا بِالْعَمَلِ عَلَى أَكْمَلِهِ إِذَا أَمْكَنَ، فَهَذَا هُوَ التَّسْدِيدُ، بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ؛ أَنْ تُصِيبَ كَبِدَ الْغَرَضِ، فَهَذَا تَسْدِيدٌ؛ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَقَعِ السَّهْمُ عَلَى كَبِدِ الْغَرَضِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ قَرِيبًا مِنْهُ؛ فَقَارِبُوا إِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّسْدِيدُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

الْحَدِيثُ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ ﷺ: ((الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)) مَعْنَاهُ: أَلَّا يَتَكَلَّفَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَكَلَّفَ فِي الشَّيْءِ تَعِبَ وَمَلَّ وَتَرَكَ، أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّيْءِ قَصْدًا بِدُونِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا تَكَلُّفٍ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَأَثَّرُ وَلَا يَمَلُّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ((اغْدُوا وَرُوحُوا)) الْغُدْوَةُ: هِيَ السَّيْرُ صَبَاحًا، وَالرَّوْحَةُ: هِيَ السَّيْرُ مَسَاءً.

وَكُلُّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَنْهَجَ الْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ وَفِي عِبَادَتِهِ يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ مُشِقًّا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرْهَقَ بِعَمَلِهِ تَعِبَ وَمَلَّ، وَتَرَكَ فِي النِّهَايَةِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ -كَمَا مَرَّ- فِي حَدِيثِ قِيَامِهِ ﷺ؛ بَلْ إِنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُسْتَفْتَحَ قِيَامُ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ ﷺ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُذْهِبَ مَا تَبَقَّى مِنْ آثَارِ النُّعَاسِ، وَأَنْ يَنْشَطَ الْمَرْءُ لِلْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ آتٍ مِنَ الْعِبَادَةِ بِنَفْسٍ مُتَشَوِّقَةٍ لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَالنَّفْسُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا مُسْتَصْعِبَةٌ، وَإِذَا حَمَلْتَهَا عَلَى الْأَشَقِّ الْأَشَقِّ انْقَطَعَتْ، وَإِنَّ الْمُنْقَطِعَ لَا ظَهْرًا أَبْقَى، وَلَا غَرَض انْتَهَى إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُنْبَتٌّ، فَالْمُنْبَتُّ لَا عَلَى ظَهْرِهِ الَّذِي يَحْمِلُهُ أَبْقَى -أَيْ: عَلَى دَابَّتِهِ وَوَسِيلَتِهِ-، لَا ظَهْرًا أَبْقَى، وَلَا غَايَةً بَلَغَ، وَإِنَّمَا صَارَ كَالشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، انْقَطَعَ فَصَارَ مَبْتُوتًا -أَيْ: مَقْطُوعًا-، فَالْمُنْبَتُّ كَذَلِكَ؛ فَالْإِنْسَانُ إِذَا حَمَلَ نَفْسَهُ عَلَى الْأَشَقِّ الْأَشَقِّ انْقَطَعَتْ، وَإِنَّمَا عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا.

بَلْ إِنَّ الْعُلَمَاءَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- دَلُّوا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- لِيُونُسَ: ((يَا يُونُسُ إِنَّ الْعِلْمَ أَوْدِيَةٌ، فَبِأَيِّهَا أَخَذْتَ قُطِعَ بِكَ دُونَ أَنْ تَبْلُغَ آخِرَهُ؛ وَلَكِنِ الشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي)) أَيْ: خُذِ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي.

وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعَلَّمَ الْيَوْمَ مَسْأَلَةً، وَضَمَّ إِلَيْهَا فِي غَدِهِ مَسْأَلَةً؛ صَارَ عِنْدَهُ مَسْأَلَتَانِ، فَإِذَا ضَمَّ إِلَيْهِ فِي يَوْمِهِ الثَّالِثِ مَسْأَلَةً أُخْرَى صَارَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ ثَلَاثًا، وَمَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي تَكْثُرُ مَسَائِلُهُ، وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ.

فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَدَرَّجَ فِي طَلَبِ الشَّيْءِ، وَأَلَّا يَتَّكِلَ عَلَى فَوْرَةِ نَشَاطِهِ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، وَإِذَا جَاءَتْ فَتْرَةٌ بَعْدَ شِرَّةٍ فَلَا تَجْزَعَنَّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا اسْتَيْأَسَ إِذَا جَاءَتْ فَتْرَةٌ بَعْدَ شِرَّةٍ، فَالشِّرَّةُ: النَّشَاطُ وَالِانْدِفَاعُ فِي الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بَدَأَ عَمَلًا كَانَ مُشَوَّقًا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِهِ، ثُمَّ تَأْتِي هَذِهِ الْفَتْرَةُ، فَهَذِهِ الْفَتْرَةُ إِذَا جَاءَتْ رُبَّمَا أَحَسَّ بِالْيَأْسِ، وَبِأَنَّهُ لَنْ يَبْلُغَ الْمَبَالِغَ الَّتِي كَانَ يُؤَمِّلُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي فَطَرَهُ اللهُ عَلَيْهَا، فَالْإِنْسَانُ يَمَلُّ.

بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمَلُّ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- إِذَا فَرَغَ مِنْ دَرْسِهِ فِي مَجْلِسِهِ قَالَ: ((أَحْمِضُوا؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ أَوِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ)).

وَبِذَلِكَ أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وَالْإِحْمَاضُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُؤْتَى بِالطُّرْفَةِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، أَوْ مِنْ أَشْعَارِهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا يَأْتُونَ بِهِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((اغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا)) أَيِ: الْزَمُوا الِاعْتِدَالَ؛ فَإِنَّ النَّصْبَ هَاهُنَا عَلَى الْإِغْرَاءِ.

((تَبْلُغُوا)): أَيْ: تَبْلُغُوا الْغَايَةَ وَتَنْتَهُوا إِلَيْهَا.

وَأَمَّا التَّعَسُّفُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي مَعَهُ إِلَّا الِانْقِطَاعُ -نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُبَلِّغَنَا مَبَالِغَ الْهُدَى وَالتُّقَى بِسَلَامٍ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ-.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟)).

قَالَ: ((أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)).

وَقَالَ: ((اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ: ((اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ)) أَيْ: تَكَلَّفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، وَلَا تُتْعِبُوا أَنْفُسَكُمْ.

النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ بِالسَّدَادِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَأَمَرَ ﷺ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا دَائِمًا فَإِنَّهُ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْكَثِيرِ الْمُنْقَطِعِ.

وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذِهِ؟))

قُلْتُ: ((فُلانَةُ لا تَنَامُ اللَّيْلَ)).

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ! لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا))، قَالَتْ: وَكَانَ أَحَبَّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.

قَوْلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((لَا تَنَامُ اللَّيْلَ))؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ اللَّيْلَ، فَتُحْيِيهِ بِصَلَاةٍ، وَذِكْرٍ، وَتِلَاوَةِ قُرْآنٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيُسْتَدَلُّ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّكَلُّفِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَرَاهَةِ تَحْمِيلِ طَاقَةِ الْمُسْلِمِ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَمِلُ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ لِلْمُسْلِمِ الِاقْتِصَادُ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ؛ حِفَاظًا عَلَى دَوَامِ الصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ، وَالْعَافِيَةَ.

هَذَا الْحَدِيثُ بَيَّنَ فِيهِ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا يُطِيقُ، فَقَالَ ﷺ لِعَائِشَةَ لَمَّا ذَكَرَتْ مِنْ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ: ((مَهْ! عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا))، قَالَتْ: وَكَانَ أَحَبَّ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)).

وَ((مَهْ)): كَلِمَةُ نَهْيٍ وَزَجْرٍ.

وَمَعْنَى: ((لَا يَمَلُّ اللهُ)) أَيْ: لَا يَقْطَعُ ثَوَابَهُ عَنْكُمْ، وَجَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ.

الرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ عَمَلِهَا الْكَثِيرِ الَّذِي قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهَا، وَتَعْجِزُ عَنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تُدِيمُهُ.

ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نَأْخُذَ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا نُطِيقُ، فَقَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ)) يَعْنِي: لَا تُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تُجْهِدُوهَا؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَجْهَدَ نَفْسَهُ، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُ مَلَّتْ وَكَلَّتْ، ثُمَّ انْحَسَرَتْ وَانْقَطَعَتْ.

وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ أَدْوَمُهُ؛ أَيْ: مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، يَعْنِي: أَنَّ الْعَمَلَ وَإِنْ قَلَّ إِذَا دَاوَمْتَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ لَكَ؛ لِأَنَّكَ تَفْعَلُ الْعَمَلَ بِرَاحَةٍ وَتُؤَدَةٍ، وَتَتْرُكُهُ وَأَنْتَ تَرْغَبُ فِيهِ، لَا تَتْرُكُهُ وَأَنْتَ تَمَلُّ مِنْهُ.

لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا)) يَعْنِي: أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُعْطِيكُمْ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ عَمَلِكُمْ، مَهْمَا دَاوَمْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ فَإِنَّ اللهَ يُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْمَلَلُ -يَقُولُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-- الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ اللهَ يَتَّصِفُ بِهِ لَيْسَ كَمَلَلِنَا نَحْنُ؛ لِأَنَّ مَلَلَنَا نَحْنُ مَلَلُ تَعَبٍ وَكَسَلٍ، وَأَمَّا مَلَلُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّهُ صِفَةٌ تَخْتَصُّ بِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَا يَلْحَقُهُ تَعَبٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ كَسَلٌ.

قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].

هَذِهِ السَّمَاوَاتُ الْعَظِيمَةُ، وَالْأَرَضُونَ، وَمَا بَيْنَهُمَا؛ خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ؛ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَمِيسِ، وَالْجُمُعَةِ.

قَالَ: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} يَعْنِي: مَا تَعِبْنَا بِخَلْقِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْوَجِيزَةِ مَعَ عِظَمِهَا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ:

أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ إِذَا رَأَى عِنْدَ أَهْلِهِ أَحَدًا أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هَذَا الدَّاخِلُ عَلَى الْأَهْلِ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ هُوَ فِي دُخُولِهِ؛ فَإِنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَأْتِي إِلَى أَهْلِ الْبَيْتِ تُحَدِّثُهُمْ بِأَحَادِيثَ يَأْثَمُونَ بِهَا مِنَ الْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ إِذَا وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ أَحَدًا أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ كَمَا سَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَائِشَةَ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي عِنْدَهَا.

فِي الْحَدِيثِ -أَيْضًا-: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَلَّا يُجْهِدَ نَفْسَهُ بِالطَّاعَةِ وَكَثْرَةِ الْعَمَلِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا مَلَّ وَتَرَكَ وَكَلَّ، وَكَوْنُهُ يَبْقَى عَلَى الْعَمَلِ وَلَوْ قَلِيلًا مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِ أَفْضَلُ، وَقَدْ بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ)).

قَالَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي الْخَيْرِ.

فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: ((أَنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟)).

قَالَ: ((نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ)).

قَالَ: ((إِنَّكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ)).

ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

قَالَ: ((إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)).

فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، وَيُفْطِرَ يَوْمَيْنِ.

فَقَالَ: ((أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)).

فَقَالَ: ((صُمْ يَوْمًا، وَأَفْطِرْ يَوْمًا)).

فَقَالَ: ((إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)).

قَالَ: ((لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا صِيَامُ دَاوُدَ)).

لَمَّا عَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- السُّنُونُ، وَصَارَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا وَيَتْرُكَ يَوْمًا قَالَ: ((لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ ﷺ )). الْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

ثُمَّ صَارَ يَصُومُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَرْدًا، وَيُفْطِرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَرْدًا.

فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْمَلَ الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهٍ مُقْتَصِدٍ، بِلَا غُلُوٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ؛ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَأَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ.

وَهَذَا عُنْوَانُ بَابٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الصَّحِيحِ)) فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ، قَالَ: ((بَابٌ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَدْوَمُهُ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: ((مَنْ هَذِهِ؟)).

قَالَتْ: ((فُلَانَةُ)). تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا.

قَالَ: ((مَهْ! عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)). وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ -أَيْضًا-.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ: (( ((أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ)) الدِّينُ هُنَا بِمَعْنَى: الْعِبَادَةِ؛ يَعْنِي: أَحَبُّ الْعِبَادَةِ إِلَى اللهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِنْ قَلَّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ الْمُدَاوَمَةِ قَدْ يُنْبِأُ عَنْ زُهْدِ الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ؛ لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: ((لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

((وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ ﷺ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ((مَهْ)): هُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى: كُفَّ، وَمِثْلُهُ ((صَهْ)): اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى: اسْكُتْ؛ فَـ (صَهْ) لِلْأَقْوَالِ، وَ(مَهْ) لِلْأَفْعَالِ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ)) أَيْ: لَا تُكَلِّفُوا أَنْفُسَكُمُ الْعَمَلَ؛ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ قِرَاءَةٍ، أَوْ تَسْبِيحٍ، أَوْ صِيَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا تَبْلُغُهُ طَاقَتُكُمْ؛ وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَسْتَمِرُّوا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ رَغْبَةٌ فِي الْخَيْرِ، فَيَشُقُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعِبَادَاتِ، وَيَشْتَدُّ فِيهَا أَوَّلَ مَا يَفْعَلُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمَلُّ وَيَكْسَلُ.

أَمَّا إِذَا سَايَرَ نَفْسَهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ الْهُوَيْنَى فَإِنَّهُ سَيَسْتَمِرُّ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ هَذَا فِي أَفْعَالِكُمُ الْعَادِيَّةِ؛ فَالْإِنْسَانُ أَوَّلَ مَا يَفْعَلُ الشَّيْءَ يَجِدُ نَفْسَهُ لَدَيْهِ انْدِفَاعٌ وَقُوَّةٌ؛ وَلَكِنَّهُ فِي النِّهَايَةِ يَفْتُرُ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ: أَحَدُ الطَّلَبَةِ قَالَ: أَنَا سَأَحْفَظُ فِي الْيَوْمِ رُبُعَ جُزْءٍ، فَشَقَّ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ طَاقَتَهُ لَا تَبْلُغُ؛ لِذَلِكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ يَفْتُرُ، هَذَا شَيْءٌ مُجَرَّبٌ.

وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقِيسَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَأَنْ يَأْخُذَ مَا يُطِيقُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِيهِ الِاسْتِمْرَارُ؛ وَلِهَذَا قَالَ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا)).

((فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا)): هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَشْكَلَتْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَقَالَ: هَلِ اللهُ يَمَلُّ؟!

الْجَوَابُ عَنْ هَذَا سَهْلٌ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَلِ الرَّسُولُ أَثْبَتَ الْمَلَلَ لِلَّهِ؟

أَيْ: هَلْ قَالَ: إِنَّكُمْ إِذَا مَلَلْتُمْ مَلَّ اللهُ؟

الْجَوَابُ: لَمْ يَقُلْ هَذَا.

وَلَكِنْ نَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا قَالَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّهُ يُوجَدُ لِهَذَا جَوَابٌ أَيْضًا؛ وَهُوَ أَنَّ مَلَلَ اللهِ لَيْسَ كَمَلَلِنَا، فَنَحْنُ نَمَلُّ وَنَتَضَجَّرُ، وَيَثْقُلُ عَلَيْنَا الْأَمْرُ؛ وَلَكِنَّ مَلَلَ اللهِ لَا يَلْحَقُهُ هَذَا النَّقْصُ، فَهُوَ كَالْغَضَبِ، نَحْنُ نَغْضَبُ، وَرُبَّمَا صَنَعْنَا إِذَا غَضِبْنَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَرُبَّمَا يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَرُبَّمَا يُعْتِقُ عَبِيدَهُ، وَيُوقِفُ أَمْوَالَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ قَصْدًا، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مِنْ أَجْلِ الْغَضَبِ، وَهَذَا تَصَرُّفٌ طَائِشٌ؛ لَكِنْ إِذَا غَضِبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.

فَغَضَبُ اللهِ لَيْسَ كَغَضَبِنَا، وَأَيْضًا مَلَلُ اللهِ، لَوْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَلَلِ؛ هُوَ مَلَلٌ لَا يُمَاثِلُ مَلَلَنَا، بَلْ هُوَ مَلَلٌ يَلِيقُ بِاللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلْيُعْلَمْ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي حَقِّ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- صِفَةٌ تُنَافِي كَمَالَ اللهِ أَبَدًا، هَذَا شَيْءٌ مُسْتَحِيلٌ.

فَالْخُلَاصَةُ الْآنَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ((لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا)) لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي إِثْبَاتِ الْمَلَلِ لِلَّهِ؛ وَلَكِنْ لَوْ ثَبَتَ الْمَلَلُ لِلَّهِ لَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ مَلَلٌ يَلِيقُ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَلَا يُمَاثِلُ مَلَلَ الْمَخْلُوقِينَ)).

وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ: ((أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؟)).

قَالَتَا: ((مَا دِيمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((جَامِعِهِ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، وَلِلْحَدِيثِ أَصْلٌ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

((مَا دِيمَ)) أَيْ: مَا دُووِمَ أَوْ وُوظِبَ عَلَيْهِ.

فَيَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ إِنْ دُووِمَ عَلَيْهِ ضُمِنَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَمَلِ فَيُؤَدِّي إِلَى الْمَلَلِ، ثُمَّ الِانْقِطَاعِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْحِرْمَانِ مِنْ عَطَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

((حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ وَمَا يَنْبَغِي لَنَا))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَعْرَفَ الْخَلْقِ بِمَقَامِ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَخْشَعَ الْخَلْقِ لِرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَشْكَرَ الْخَلْقِ لِرَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَتْ عِبَادَتُهُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْمَوْصُوفِ، مَاذَا كَانَ يَصْنَعُ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِيَامِهِ، وَمَا يَفْعَلُهُ ﷺ فِي قِيَامِهِ، وَصِفَةُ صَوْمِ النَّبِيِّ ﷺ.

وَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَصْنَعُهُ إِذَا مَا أَخَذَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يُثْبِتُهُ، فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا أَثْبَتَهُ -يَعْنِي: دَاوَمَ عَلَيْهِ-، فَمَا كَانَ لِيَقْطَعَ عَمَلًا صَالِحًا بَدَأَ فِيهِ وَشَرَعَ فِيهِ ﷺ.

وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّنَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ نَجْتَهِدَ -أَيْضًا- فِيمَا أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ نَفْسَهُ بِالتَّوَفُّرِ عَلَى الْإِرْشَادِ عَلَيْهِ؛ مِنْ أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا.

وَلِذَلِكَ تَجِدُ فِي أَدَبِيَّاتِ النَّاسِ: قَلِيلٌ دَائِمٌ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ مُنْقَطِعٍ.

هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاسِ، فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا يَصِلُ إِنْسَانًا بِشَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ، فَيُعْطِيهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَوْ فِي كُلِّ شَهْرٍ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ دَائِمٌ؛ فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ عَطِيَّةً كَبِيرَةً، ثُمَّ لَا يُعْطِيهِ بَعْدُ، وَيَقْطَعُ عَنْهُ رِفْدَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا بَدَّدَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَقِيَ فِي إِمْلَاقِهِ وَعَوَزِهِ وَحَاجَتِهِ، فَهَذَا عِنْدَ النَّاسِ فِيمَا يَعْهَدُونَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِذَا عَامَلَهُ الْعَبْدُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ بِأَنَّهُ يَفْزَعُ إِلَيْهِ دَائِمًا، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ دَائِمًا، وَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ ذِكْرِهِ أَبَدًا، وَالذِّكْرُ هَاهُنَا لَيْسَ بِالذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ فَقَطْ؛ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلِ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ صَالِحًا فَهُوَ ذِكْرٌ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَدْ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فَكُلُّ طَاعَةٍ هِيَ ذِكْرٌ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَهَذَا الذِّكْرُ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا، وَلَكِنْ يُدَاوِمُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَيْرًا مِنْ كَثِيرٍ يَأْتِي بِهِ ثُمَّ يَقْطَعُهُ.

لَوْ أَنَّهُ يَقُومُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَلَوْ بِرَكْعَتَيْنِ؛ لَا بُدَّ مِنْ صَلَاةٍ بِاللَّيْلِ وَلَوْ كَفَوَاقِ نَاقَةٍ -يَعْنِي: كَالْمُدَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، أَنْ يَحْلِبَ النَّاقَةَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ مَا فِي الضَّرْعِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا الْمَعْنَى-، وَهَذَا لِلتَّقْلِيلِ، لَا بُدَّ مِنْ صَلَاةٍ بِاللَّيْلِ وَلَوْ كَحَلْبِ شَاةٍ.

لَوْ أَنَّكَ وَاظَبْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْتَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَتَوَضَّأُ وَتُسْبِغُ الْوُضُوءَ، وَتَصُفُّ قَدَمَيْكَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكَ، وَتَشْرَعُ فِي قِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَتُنِيبُ إِلَى رَبِّكَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاشِعًا؛ وَلَوْ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَكِنْ هَذَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ؛ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَقُومَ لَيْلَةً بِطُولِهَا، ثُمَّ لَا تَقُومُ بَعْدُ.

فَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ؛ فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِهَذَا الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَلَيْهِ أَلَّا يَشُقَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَلَّا يُكَلِّفَ نَفْسَهُ فَوْقَ طَاقَتِهَا؛ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ انْبَتَّ، وَالْمُنْبَتُّ لَا ظَهْرًا أَبْقَى، وَلَا أَرْضًا قَطَعَ، وَإِنَّمَا صَارَ مُنْبَتًّا حَائِرًا؛ حَتَّى الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ إِغَاثَتِهِ وَإِعَانَتِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ حَالَهُ، فَهُوَ مُنْبَتٌّ مُنْقَطِعٌ.

وَهَذَا يَدْخُلُ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، وَفِي الْحِفْظِ وَالتَّعَهُّدِ لَهُ، وَيَدْخُلُ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ حَتَّى فِي الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ التَّدَرُّجَ فِي الْأَشْيَاءِ هُوَ مَا يُنَاسِبُ النَّفْسَ؛ لِذَلِكَ ضَرَبُوا لِلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُقَلِّلَ الطَّعَامَ -مَثَلًا-، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ فِي كُلِّ وَجْبَةٍ رَغِيفَيْنِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُقَلِّلَ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ الْحِمْيَةُ الْمَعْرُوفَةُ، لَوْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى رَغِيفٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَ إِلَى النِّصْفِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَشَقَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ فَتْرَةً وَانْتَكَسَ فَسَيَأْكُلُ أَرْبَعَةً؛ لِأَنَّ الِانْتِكَاسَةَ تَأْتِي بِمَا لَا يُحْمَدُ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-؛ فَمَاذَا يَصْنَعُ؟

قَالُوا: يُقَدِّرُ الرَّغِيفَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا، عَلَى عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ الْعَرَبِيِّ، أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَحْذِفُ فِي كُلِّ وَجْبَةٍ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثِينَ جُزْءًا، فَسَيَسْتَغْنِي عَنْ رَغِيفٍ بِكَامِلِهِ بَعْدَ شَهْرٍ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَسَيَعُودُ إِلَيْهِ مُضَاعَفًا، فَهَذَا هُوَ مَا يَتَلَاءَمُ مَعَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى ذَلِكَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، يَسْتَفْتِحُهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَدُلُّ -أَيْضًا- عَلَى ذَلِكَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، لَا بُدَّ مِنْ صَلَاةٍ بِاللَّيْلِ وَلَوْ كَحَلْبِ شَاةٍ.

فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ طَبِيعَةَ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تُفْهَمَ، وَإِذَا لَمْ تَتَعَامَلْ مَعَ نَفْسِكَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ فَلَا شَكَّ أَنَّكَ لَنْ تُحْسِنَ التَّعَامُلَ مَعَهَا، وَلَنْ تَحْمِلَكَ، وَإِنَّمَا سَتَحْمِلُهَا أَنْتَ، وَسَتُصَرِّفُكَ -حِينَئِذٍ- عَلَى حَسَبِ هَوَاهَا -وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ-.

يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! دُونَكُمْ مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ عِبَادَةَ اللهِ، دُونَكُمْ عِبَادَةَ اللهِ.. عِبَادَتَهُ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ؛ أَنْ تَكُونَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُوَحِّدًا، وَأَنْ تَصْرِفَ جَمِيعَ أَنْشِطَةِ الْحَيَاةِ بِوَظِيفَتِكَ كَكَائِنٍ إِنْسَانِيٍّ مُتَفَرِّدٍ.. فَتَصْرِفُ جَمِيعَ الْمَلَكَاتِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَتَصْرِفُ جَمِيعَ مَا أَقْدَرَكَ عَلَيْهِ اللهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ وَالْجَسَدِ فِي طَاعَةِ اللهِ، فِي عِبَادَةِ اللهِ.

بِهَا تَسْبِقُونَ الْأُمَمَ، هَذَا قَدَرُ اللهِ فِيكُمْ؛ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ وَاتَّبَعْتُمْ نَبِيَّهُ؛ قُدْتُمُ الْعَالَمَ إِلَى الْهُدَى وَالْخَيْرِ، وَإِنْ عَصَيْتُمْ رَبَّكُمْ وَتَنَكَّبْتُمْ سَبِيلَ نَبِيِّكُمْ؛ طَهَّرَكُمُ اللهُ بِالْمُصِيبَاتِ تَتْلُو الْمُصِيبَاتِ وَبِالنَّوَازِلِ النَّازِلَاتِ وَبِالْكَوَائِنِ الْكَائِنَاتِ؛ لِتَرْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ.

فَاللهم إِنَّا نَسْأَلُكَ عَوْدًا حَمِيدًا.

نَسْأَلُكَ عَوْدًا حَمِيدًا فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.

اللهم خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَيْكَ وَأَقْبِلْ بِقُلُوبِنَا عَلَيْكَ، وَاهْدِنَا وَيَسِّرِ الْهُدَى لَنَا، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر: حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  احْتِرَامُ النِّظَامِ الْعَامِّ فِي ضَوْءِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  ((اغْتِنَامُ عَهْدِ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ)) -إِتْقَانُ الْعِبَادَةِ وَإِتْقَانُ الْعَمَلِ-
  ((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ)) ((الدَّرْسُ التَّاسِعُ: دُرُوسٌ قُرْآنِيَّةٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ))
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ
  إِنْسَانِيَّةُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق
  صِلُوا أَرْحَامَكُمْ
  فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ
  الْإِسْلَامُ عَمَلٌ وَسُلُوكٌ..نَمَاذِجُ مِنْ حَيَاةِ التَّابِعِينَ
  الحَمَّادُون
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان