حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ

حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ

((حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.  

أَمَّا بَعْدُ:

((فَضْلُ الْجِهَادِ الشَّرْعِيِّ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى))

فَقَدِ امْتَحَنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَاةِ وَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَدَفْعِ الْمَالِ فَاسْتَجَابُوا طَائِعِينَ, وَامْتَحَنَهُمْ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَبَّوْا كَذَلِكَ طَائِعِينَ.

ثُمَّ جَاءَ الِامْتِحَانُ الْأَكْبَرُ وَالِاخْتِبَارُ الْأَعْظَمُ، فَكَانَ أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَرْوَاحَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ يَبْذُلُونَهَا فِي سَاحَاتِ الْجِهَادِ فَتَقَدَّمَ أَقْوَامٌ وَتَأخَّرَ آخَرُونَ.

تَأَخَّرَ الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 86].

وَتَقَدَّمَ الصَّادِقُونَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88].

فَفَرَّقَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْجِهَادِ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ, بَيْنَ الْمُحِبِّينَ للهِ وَرَسولِهِ ﷺ وَالْمُدَّعِينَ.

إِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ هُوَ أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا, وَهُوَ أَيْسَرُ الطُّرُقِ إِلَى رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى وَالْجَنَّةِ, وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْلا أَنْ يَشُقَّ عَلَى المُسلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).

وَلَمَّا كَانَ الْجِهَادُ بَذْلَ أَعْظَمِ وَأَنْفَسِ مَا عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ أَنْفُسُهُمْ يَبْذُلُونهَا دُونَ خَوْفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ, وَلَمَّا كَانَ فِيهِ بَذْلُ الْأَمْوَالِ وَتَرْكُ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّاتِ، وَهَجْرُ الْمَسَاكِنِ وَالْأَوْطَانِ وَالْمَلَذَّاتِ.

وَلَمَّا كَانَ فِيهِ قَتْلُ الْأَنْفُسِ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالشَّرْعِ أَنْ يَضَعَ لَهُ أَعْظَمَ الضَّوَابِطِ وَأَقْوَى الْأَحْكَامِ؛ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي كُلِّ وَادٍ وَبِكُلِّ سَبِيلٍ, وَحَتَّى لَا يَخْتَلِطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ, وَلَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ.

إِنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْوَاحَهُمْ هِيَ أَعْظَمُ شَيْءٍ عِنْدَ اللهِ؛ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَزَوَالُ الدُّنيَا أَهوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَقَالَ ﷺ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ, مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ, وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ, لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ)).

وَقَدْ بَيَّنَ الدِّينُ الْعَظِيمُ -كِتَابًا وَسُنَّةً- أَنَّ الْجِهَادَ لَيْسَ غَايَةً فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ.

فَالْجِهَادُ لَيْسَ هَدَفًا فِي ذَاتِهِ وَلَا غَايَةً، إِنَّمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لِرَفْعِ رَايَةِ الدِّينِ, وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْجِهَادَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَمِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ مَا تَقَرَّبَ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ، وَتَنَافَسَ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.

وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِجَارَةً رَابِحَةً، وَجَعَلَهُ سَبَبًا لِنَجَاةِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10-11].

وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ ﷺ: ((لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا))

وَقَالَ ﷺ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) : ((مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ)).

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)) .

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا جَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْأُجُورِ الْعَظِيمَةِ، وَالتِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ.

*وَفِي بَيَانِ عِظَمِ مَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169].

وَلَا تَظُنَّنَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أُمَّتِهِ، أَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي مَحَلِّ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ، يُرْزَقُونَ، وَيَأْكُلُونَ، وَيَتَنَعَّمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتُحَفِهَا.

إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَانُوا رِجَالًا صَابِرِينَ، إِنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَوْنَهَا يَشْعُرُونَ بِسَعَادَةٍ عَظِيمَةٍ بِمَا أَعْطَاهُمُ اللهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْكَرَامَةِ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].

وَهُمْ يَفْرَحُونَ بِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَرَكُوهُمْ أَحْيَاءً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْهَجِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ الله مُخْلِصِينَ لَهُ لَحِقُوا بِهِمْ، وَنَالُوا مِنَ الْكَرَامَةِ مِثْلَ الَّذِينَ نَالُوهُ، وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَلَا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا.

 ((الْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

هَذَا إِيجَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يَكُفُّوا شَرَّ الْأَعْدَاءِ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ((الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، غَزَا أَوْ قَعَدَ; فَالْقَاعِدُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعِينَ أَنْ يُعِينَ، وَإِذَا اسْتُغِيثَ أَنْ يُغِيثَ، وَإِذَا اسْتُنْفِرَ أَنْ يَنْفِرَ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ قَعَدَ)) . وَسَنَدُهُ إِلَيْهِ حَسَنٌ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- :  وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي ((الصَحِيحِ)) : ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغُزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

وَقَالَ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ: { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أَيْ: شَدِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمَشَقَّةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُجْرَحَ، مَعَ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَمُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} أَيْ: لِأَنَّ الْقِتَالَ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَذَرَارِّيِّهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ.

{وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}: وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، قَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ خِيَرَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقُعُودُ عَنِ الْقِتَالِ، قَدْ يَعْقُبُهُ اسْتِيَلَاءُ الْعَدُوِّ عَلَى الْبِلَادِ وَالْحُكْمِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ مِنْكُمْ، وَأَخْبَرُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ; فَاسْتَجِيبُوا لَهُ، وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ، لَعَلَّكُمْ تَرْشُدُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

وَقَاتِلُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي طَاعَةِ اللهِ- الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَيُقَاتِلُونَكُمْ، وَيَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ فِي دِينِهِمْ؛ لِيَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَاجْعَلُوا قِتَالَكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَفْعِ كَلِمَتِهِ، وَلَا تَجْعَلُوهُ لِلْعُدْوَانِ، وَلَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالشُّيُوخَ، وَالرُّهْبَانَ، وَلَا مَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ.

وَلَا تَعْتَدُوا بِظُلْمِ غَيْرِكُمْ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَادِيَّةِ أَوْ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَوْ بِفِعْلِ مَا نَهَى اللهُ عَنْ فِعْلِهِ، وَتَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِفِعْلِهِ، وَبِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الَّذِينَ يُجَاوِزُونَ حُدُودَهُ، فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.

وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].

إِذَا أُمِرْتُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِ إِقَامَتِكُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَخِفُّ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ خُرُوجُكُمْ دَعْوَةً إِلَى دِينِ اللهِ، أَوْ اسْتِطْلَاعًا لِأَخْبَارِ الْعَدُوِّ، أَوْ مُنَاوَشَةً خَفِيفَةً تَعْتَمِدُ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ.

وَاخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ النَّافِرُ ثَقِيلًا بِعَتَادٍ وَأَسْلِحَةٍ وَمَؤُونَةٍ.

وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَاخْرُجُوا عَلَى الصِّفَتَيْنِ خِفَافًا وَثِقَالًا.

ذَلِكُمُ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَانِ الْإِقَامَةِ، وَالْجِهَادُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأُنْفُسِ أَكْثَرُ نَفْعًا وَفَائِدَةً لَكُمْ مِنَ الْقُعُودِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَإِيثَارِ السَّلَامَةِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا يُعْطِيكُمُ اللهُ مِنْ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ عِلْمَ يَقِينٍ، فَإِنَّكُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ عَلِمْتُمْ أَنَّ النَّفْرَ وَالْجِهَادَ طَاعَةً لِلرَّسُولِ أَوْ لِأَمِيرِكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَكْثَرُ نَفْعًا وَفَائِدَةً لَكُمْ، فَلَمْ تُقَصِّرُوا بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْجِهَادِيِّ.

وَيَكُونُ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ، سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فِي حَالَاتٍ ، قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] .

لَا يَتَسَاوَى الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرُ أَصْحَابِ الْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ الَّتِي لَا سَبِيلَ مَعَهَا إِلَى الْجِهَادِ؛ مِنْ نَحْوِ عَمًى، أَوْ شَلَلٍ، أَوْ عَرَجٍ، أَوْ ضَعْفِ بَدَنٍ، لَا يَسْتَوِي الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ.

فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالْقَاعِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ؛ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ وَلَا ضَرَرَ فِيهِمْ ثَوَابًا جَزِيلًا.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] .

لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ بِوَصَايَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَخْرُجُوا جَمِيعًا إِلَى الْجِهَادِ -هَذَا عَلَى الْأَصْلِ أَنَّ النَّفِيرَ نَفِيرُ جِهَادٍ- لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا لِاحْتِمَالِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا ذَهَبُوا فَهُزِمُوا.

فَهَلَّا خَرَجَ لِلْقِتَالِ إِذَا دَعَا دَاعِي الْقِتَالِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ جَمَاعَةٌ مُحَدَّدَةٌ بِعَدَدِهَا وَتَخَصُّصَاتِهَا؛ لِيَتَفَقَّهُوا عَنْ طَرِيقِ التَّجَارِبِ وَالْمُمَارَسَاتِ الْعَمَلِيَّةِ فِي أُمُورِ الْقِتَالِ وَفُنُونِ الْحَرْبِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ بِمَا اكْتَسَبُوا مِنْ مَعْلُومَاتٍ يُعْتَبَرُ الْجَهْلُ بِهَا ثُغْرَةَ خَطَرٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْذَرُوا مَوَاطِنَ الْخَطَرِ، فَيَتَّخِذُوا الْأَسْبَابَ وَالْوَسَائِلَ الْوَاقِيَةَ الْكَفِيلَةَ بِإِحْبَاطِ وَسَائِلِ الْأَعْدَاءِ، وَالْأَسْبَابَ وَالْوَسَائِلَ الَّتِي يُرْجَى مِنْهَا تَحْقِيقُ النَّصْرِ مِمَّا يُبَاغِتُونَ الْأَعْدَاءَ بِهِ.

وَقَدْ يَصِيرُ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:

الْأَوَّلُ: إذَا نَزَلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدٍ، تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهِ قِتَالُهُمْ وَدَفْعُهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ! إِذَا قَابَلْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجْتَمِعِينَ، يَزْحَفُونَ زَحْفًا لِقِتَالِكُمْ، فَلَا تُدِيرُوا لَهُمْ ظُهُورَكُمْ مُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدٍ وَعُدَّةً.

الثَّانِي: عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ الْكُلُّ مُلْزَمٌ بِالنَّفْرِ إِجَابَةً لِأَمْرِ الْإِمَامِ -الْحَاكِمِ-، إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! مَا لَكُمْ إِذَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ أَيُّ دَاعٍ مِنْ أُمَّتِهِ اخْرُجُوا إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مُسْرِعِينَ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، تَثَاقَلْتُمْ وَتَبَاطَئْتُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، مَائِلِينَ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ.

عَجَبًا لَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِسَعَةِ الْعَيْشِ، وَزَهْرَةِ الدُّنْيَا وَدَعَتِهَا بَدَلَ نَعَيمِ الْآخِرَةِ؟!!

إِذَا كُنْتُمْ رَضِيتُمْ ذَلِكَ، فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا إِلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ تَافِهٌ، لَا يَسْتَبْدِلُهُ الْعُقَلَاءُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ إِيثَارٍ وَتَفْضِيلٍ، إِذْ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا فَانٍ زَائٍلٌ، يَنْفَدُ عَنْ قَرِيبٍ، وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ بَاقٍ عَلَى الْأَبَدِ.

وَيَدُلُّ تَوْجِيهُ هَذَا الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً عَلَى أَنَّ الْجَيْشَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَلَا يُعْفَى مِنَ الْجُنْدِيَّةِ سِوَى الضُّعَفَاءِ؛ لِعَجْزٍ أَوْ شَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ.

هَذَا عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، عِنْدَمَا يَسْتَنْفِرُ الْإِمَامُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ فَلِأَعْذَارِهِمْ.

عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ الْكُلُّ مُلْزَمٌ بِالنَّفْرِ إِجَابَةً لِأَمْرِ الْإِمَامِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

الثَّالِثُ: عِنْدَ لِقَاءِ الْعُدُوِّ: فَقَدْ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ حِينَئِذٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً كَافِرَةً؛ فَحَذَفَ الْوَصْفَ اسْتِغْنَاءً لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ.

{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً}: وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  يَقُولُ: لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَدُوًّا، فَانْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ خَرَجَ خَطِيبًا، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ))، ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((اللهم مُنْزَلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: فَأَوَّلُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ الثَّبَاتُ، وَمَا لِلْقَوْمِ لَا يَثْبُتُونَ وَقَدْ وَعَدَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا النَّصْرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ.

فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ عِزًّا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَوْتِ مَآلًا وَنَصْرًا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ مَوْصُولًا فِي الْحَالَيْنِ.

 ((الْحُبُّ الْفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ))

قَالَ اللهُ تَعَالَى ذَاكِرًا الأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي القُلُوبِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].

فَسَوَّى بينَ قَتْلِ أَنْفُسِهِم والخُرُوجِ مِن دِيَارِهِم، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لو كَتَبَ على عِبَادِهِ الأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِن قَتْلِ النُّفُوسِ، والْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.

وَنَسَبَ اللهُ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا: قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40].

وَلَو قَنَعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ، مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِم أَقْنَعُ مِنْهُم بِأَرْزَاقِهِمْ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ؛ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا».

فَدَعَا ﷺ أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَه: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِليَّ». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

 ((حُبُّ الوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ))

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ والصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَطْ، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا، وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ».

*اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ:

اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا تَدْفَعْهُ إِلَى الْفَوْضَى وَالشِّقَاقِ.

إِنِّي لِأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونَ؟!!

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

وَقَدْ تَضِيقُ أَخْلَاقُ الرَّجُلِ فَيَظُنُّ أَنَّ وَطَنَهُ قَدْ ضَاقَ بِهِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:

وَرَبُّكَ مَا ضَاقَتْ بِلَادٌ بِأَهْلِهَا* * * وَلَكِنَّ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

وَحَالُ مَنْ فَارَقَ وَطَنَهُ هُوَ:

شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاء

جُوعٌ إِلَيْهِ... كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاء

شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِنَ الظَّلَامِ إِلَى الوِلَادَه

إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُون

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَه؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُون؟!!

الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِن سِوَاهَا، وَالظَّلَام

حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ، فَهُوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَه

وَا حَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَام

فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَه

مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَه؟

فَمَا دَامَ الْوَطَنُ إِسْلَامِيًّا فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الْإِضْرَارُ بِهِ.

 ((الدِّفَاعُ عَنْ وَطَنِنَا الْإِسْلَامِيِّ جِهَادٌ شَرْعِيٌّ))

لَقَدْ عَرَّفَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- دَارَ الْإِسْلَامِ فِي مَعْرِضِ تَعْرِيفِهِ لِدَارِ الشِّركِ فَقَالَ: «بَلَدُ الشِّرْكِ هُوَ: الَّذِي تُقَامُ فِيهِ شَعَائِرُ الْكُفْرِ وَلَا تُقَامُ فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ كَالْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ جَمَاعَةً، وَالْأَعْيَادِ وَالْجُمُعَةِ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ؛ لِيَخْرُجَ مَا تُقَامُ فِيهِ هَذِهِ الشَّعَائِرُ -يَعْنِي الْأَذَانَ وَالصَّلَاةَ جَمَاعَةً، وَالْأَعْيَادَ وَالْجُمُعَةَ- عَلَى وَجْهٍ مَحْصُورٍ؛ كَبِلَادِ الْكُفَّارِ الَّتِي فِيهَا أَقَلِّيَّاتٌ مُسْلِمَةٌ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ بِلَادَ إِسْلَامٍ بِمَا تُقِيمُهُ الْأَقَلِّيَّاتُ الْمُسْلِمَةُ فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإسْلَامِ، أَمَّا بِلَادُ الْإِسْلَامِ فَهِيَ الْبِلَادُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا هَذِهِ الشَّعَائِرُ عَلَى وَجْهٍ عَامٍّ شَامِلٍ».

فَبِلَادُنَا بِلَادٌ إِسْلَامِيَّةٌ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي بَعْضِ فُصُولِ فَتَاوِيهِ: أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِالْجُدْرَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالسُّكَّانِ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى سُكَّانِ الْبَلَدِ وَنِظَامِهِمُ الْإِسْلَامَ فَهِيَ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُحْكَمُونَ بِنِظَامٍ لَيْسَ إِسْلَامِيًّا صِرْفًا أَوْ مَحْضًا)).

وَمَا دَامَتْ بِلَادُنَا إِسْلَامِيَّةً فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْعَى لِاسْتِقْرَارِهَا, وَاكْتِمَالِ أَمْنِهَا, وَيَجِبُ حِيَاطَتُهَا بالرِّعَايَةِ، وَالْحِفَاظِ وَالْبَذْلِ.

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ -كَمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى ((رِيَاضِ الصَّالِحِينَ)) -: ((حُبُّ الْوَطَنِ: إِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لِأَنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنِ الْبَعِيدِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَهَا)).

الْوَطَنُ إِنْ كَانَ إِسْلَاميًّا يَجِبُ أَنْ يُحَبَّ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الْخَيْرِ فِي وَطَنِهِ، وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يَسْعَى لِاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ.

وَمِنْ لَوَازِمِ الْحُبِّ الشَّرْعِيِّ لِلْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا: أَنْ يُحَافَظَ عَلَى أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ وَالْفَسَادِ؛ فَالْأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مِنْ أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الْإِنْسَانِ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الْإِسْلَامِيِّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ اِسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِهِ وَإِبْعَادِهِ عَنِ الْفَوْضَى، وَعَنْ الِاضْطِرَابِ، وَعَنْ وُقُوعِ الْمُشَاغَبَاتِ.

عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الْإِسْلَامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْأَرْضُ مَالٌ، فَمَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

وَمِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ أَبْنَاؤُهَا قِيمَتَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الْفَوْضَى وَالْاضْطِرَابَ، وَأَنْ تُنَعَّمَ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ.

«مِصْرُ الْغَالِيَةُ صَخْرَةُ الْإِسْلَامِ»

هَذِهِ مِصْرُ، وَهِيَ أَرْضٌ إِسْلَامِيَّةٌ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَنْ يُدَافَعَ عَنْهَا عَصَبِيَّةً، وَإِنَّمَا يُدَافَعُ عَنْهَا بِالْحَمِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِأَجْلِ دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، ولِيَظَلَّ الْأَذَانُ فِيهَا مَرْفُوعًا، وَلِتَظَلَّ الْجُمَعُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْأَعْيَادُ، وَلِتَظَلَّ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ فِيهَا قَائِمَةً رَغْمَ أَنْفِ الْخَوَارِجِ وَالتَّكْفِيرِيِّينَ -عَلَيْهِم مِن اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَا يَسْتَحِقُّونَهُ-.

إِنَّهَا مِصْرُ الَّتِي لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا أَبْنَاؤُهَا، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْخَيْرَ لَهَا؛ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بَيْعَهَا بَيْعًا رَخِيصًا فِي مَزَادَاتِ أَوْلَادِ الْخَنَا!!

إِنَّهَا مِصْرُ الَّتِي يُفَرِّطُ فِيهَا أَبْنَاؤُهَا مِمَّنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِالدِّينِ الْحَنِيفِ!!

أَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ مَا يُبَيَّتُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْمَخَاطِرِ فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ؛ مِنْ أَجْلِ طَمْسِ الْهُوِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي بَلَدٍ هُوَ دُرَّةُ التَّاجِ عَلَى جَبِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؟!!

إِنَّ أَعْدَاءَهَا يُرِيدُونَ الْفَوْضَى فِيهَا، يُرِيدُونَ سَفْكَ الدِّمَاءِ، وَإِزْهَاقَ الْأَرْوَاحِ، واسْتِلَالَ الثَّرْوَاتِ، وَهَتْكَ الْأَعْرَاضِ.

وَهَذِهِ الْأُمَّةَ أُمَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مُدَافِعَةٌ، وَعَنِ الْإِيمَانِ مُنَافِحَةٌ.

وَهِيَ لِلْقُرْآنِ حَامِلَةٌ، وَلِلْعِلْمِ نَاشِرَةٌ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ بِاللهِ عَالِمَةٌ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مِنَ الْأَتْقِيَاءِ الْأَنْقِيَاءِ الْأَخْفِيَاءِ مَنْ يَضْرَعُونَ إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَنْ يُنَجِّيَهَا، وَيُنَجِّيَ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ وَسُوءٍ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ هِيَ الصَّخْرَةُ الشَّمَّاءُ الَّتِي لَمَّا اتَّحَدَ أَبْنَاؤُهَا مَعَ أَهْلِ الشَّامِ تَحْتَ قِيَادَةِ الْمُظَفَّرِ (قُطُز)، تَمَّ انْحِسَارُ مَوْجَاتِ التَّتَارِ الْهَمَجِ عَلَى صَخْرَتِهِمُ الْقَائِمَةِ الْعَاتِيَةِ، وَنَجَّى اللهُ تَعَالَى الْحَضَارَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ كُلَّهَا بِهَذَا الرَّدِّ وَبِذَلِكَ الصَّدِّ، وَبِهَذَا الْكِفَاحِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

خَرَجَتْ جُيُوشُ الْمِصْرِيِّينَ مُوَحِّدَةً مُؤْمِنَةً بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُنَافِحَةً عَنْ دِينِهِ الْعَظِيمِ، صَرْخَتُهَا: «وَا إِسْلَامَاهُ!»، تُنَافِحُ عَنْهُ، وَتَمُوتُ دُونَهُ، وتُقَاتِلُ لِأَجْلِ رَفْعِ رَايتِهِ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةٌ مُجَاهِدَةٌ، تُجَاهِدُ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى جَمِيعَ الْمُعْتَدِينَ.

وَفِي عَهْدِ (الدَّوْلَةِ الْأَيُّوبِيَّةِ) لَمَّا خَرَجَ (صَلَاحُ الدِّين)، وَمَعَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ الْمَيَامِينِ، مَعَ جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ مِنْ جُنْدِ الْمِصْرِيِّينَ، كَانَ تَطْهِيرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَعَ إِجْلَاءِ الصَّلِيبِيِّينَ الَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَنْسِفُوا الْإِسْلَامَ نَسْفًا، وَأَنْ يَقْضُوا عَلَى أَهْلِهِ قَضَاءً مُبْرَمًا، وَلَمْ يَبْلُغُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.

هَذِهِ الْأُمَّةُ تَصَدَّتْ فِي الْعَصْرِ الْحَدِيثِ لِلْيَهُودِ، مِنْ إِخْوَانِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَصَيْحَتُهُمْ: «اللهُ أَكْبَرُ».

يَا أَهْلَ مِصْرَ, قَضَى الْعَزِيزُ بِلُطْفِهِ *** وَأَرَادَ أَمْرًا بِالْبِلَادِ فَكَانَا

إِنَّ الَّذِي أَمْرُ الْمَمَالِكِ كُلِّهَا *** بِيَدَيْهِ أَحْدَثَ فِي«الْكِنَانَةِ»شَانَا

أَبْقَى عَلَيْهَا أَمْنَهَا فِي بُرْهَةٍ  *** تَرْمِي الْعُرُوشَ وَتَنْثُرُ التِّيجَانَا

وَكَسَا الْبِلَادَ سَكِينَةً مِنْ أَهْلِهَا *** وَوَقَى مِنَ الْفِتَنِ الْعِبَادَ وَصَانَا

أَوَ مَا تَرَوْنَ الْأَرْضَ خُرِّبَ نِصْفُهَا *** وَدِيَارُ مْصْرٍ لَا تَزَالُ جِنَانَا؟!

يَرْعَى كَرَامَتَهَا, وَيَمْنَعُ حَوْضَهَا *** جَيْشٌ يَعَافُ البَغْيَ وَالعُدْوَانَا!

كَجُنُودِ عَمْروٍ أَيْنَمَا رَكَزُوا القَنَا  *** عَفُّوا يَدًا , وَمُهَنَّدًا وَسِنَانَا

إِنَّ الشُّجَاعَ هُوَ الْجَبَانُ عَنِ الْأَذَى *** وَأَرَى الْجَرِيءَ عَلَى الشُّرُورِ جَبَانَا

أَلَا يَدْرِي الحَمْقَى الَّذِينَ يُرِيدُونَ سَوْقَ الخَرَابَ إِلَى رُبُوعِ مِصْرَ مَنْ يَخْدُمُونَ؟ أَلَا يَعْلَمُونَ؟!!

إِنَّ مِنَ الْحِكَمِ اللَّائِحَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُسْتَقْبَلَ الْمَنْطِقَةِ مُعَلَّقًا بِالْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ، فَإِنْ تَهَاوَتْ، تَهَاوَتِ الْمَنْطِقَةُ، وَإِنْ صَمَدَتْ، صَمَدَتِ الْمَنْطِقَةُ.

اتَّقُوا اللهَ فِي وَطَنِكُمْ -عِبَادَ اللهِ-، وَاتَّقُوا اللهَ فِي أَوْطَانِكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا؛ فَإِنَّهَا مُسْتَهْدَفَةٌ مُرَادَةٌ مَطْلُوبَةٌ.

تَآزَرُوا وَتَعَاوَنُوا، وَنَمُّوا الْمَوْجُودَ حَتَّى تُحْصُلُوا عَلَى الْمَفْقُودَ، وَلَا تَتَّبِعُوا السَّرَابَ؛ فَإِنَّهُ هَبَاءٌ يُفْضِي إِلَى يَبَابٍ.

«نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوَطَنِ الْمُسْلِمِ»

إِنَّ الْأَمْنَ وَالِاسْتِقْرَارَ نِعْمَةٌ عَظِيمٌ نَفْعُهَا، كَرِيمٌ مَآلُهَا،  وَبِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ يُحَجُّ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَتُعَمَّرُ الْمَسَاجِدُ، وَيُرْفَعُ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ الْمَنَارَاتِ، وَيَأْمَنُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَتَأْمَنُ السُّبُلُ.

بِاللَّهِ ثُمَّ بِالْأَمْنِ تُرَدُّ الْمَظَالِمُ لِأَهْلِهَا، فَيُنْتَصَرُ لِلْمَظْلُومِ وَيُرْدَعُ الظَّالِمُ، وَتُقَامُ الشَّعَائِرُ، وَيَرْتَفِعُ شَأْنُ التَّوْحِيدِ مِنْ فَوْقِ الْمَنَابِرِ، وَيَجْلِسُ الْعُلَمَاءُ لِلْإِفَادَةِ، وَيَرْحَلُ الطُّلَّابُ لِلِاسْتِفَادَةِ، وَتُحَرَّرُ الْمَسَائِلُ، وَتُعْرَفُ الدَّلَائِلُ، وَيُزَارُ الْمَرْضَى، وَيُحْتَرَمُ الْمَوْتَى، وَيُرْحَمُ الصَّغِيرُ وَيُدَلَّلُ، وَيُحْتَرَمُ الْكَبِيرُ وَيُبَجَّلُ، وَتُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَتُعْرَفُ الْأَحْكَامُ، وَيُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُكَرَّمُ الْكَرِيمُ، وَيُعَاقَبُ اللَّئِيمُ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَبِالْأَمْنِ اسْتِقَامَةُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِالْأَمْنِ صَلَاحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ, وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.

 ((وَسَائِلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَحِمَايَتِهِ))

*مِنْ كُبْرَى وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْوَطَنِ: لُزُومُ التَّقْوَى:

فَقَالَ ﷺ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ)) .

وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].

فَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ النَّجَاةُ، وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، وَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ.

فَالتَّقْوَى كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، مَنْ حَصَّلَهَا جَعَلَ لِنَفْسِهِ وِقَايَةً مِنَ النَّارِ.

وَقَوْلُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]. أَيْ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَذَابِهِ وِقَايَةً وَجُنَّةً تَقِيكُمْ عَذَابَهُ وَسُوءَ عِقَابِهِ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ))، وَعَلَيْكُمْ: اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، الْزَمُوا تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَخُذُوا بِتَقْوَاهُ، وَلَا تَنْحَرِفُوا عَنْ سَبِيلِ تُقَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ)): فَضَبَطَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ بِأَوَامِرِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، يَرْجُو رِضْوَانَ اللهِ، وَاجْتَنَبَ مَنْهِيَّاتِ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، يَخَافُ عَذَابَ اللهِ، كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ، وَصَارَ عَبْدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

فضَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا عَلَاقَةٌ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

* السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلْحُكَّامِ، وَعَدَمُ إِثَارَةِ الْفَوْضَى مِنْ أَهَمِّ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْوَطَنِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ:

لَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ، عَاشَ فِي تَوَاؤُمٍ وَسَلَامٍ، وَبَعُدَ عَنْهُ شَبَحُ الْفَوْضَى وَالِانْقِسَامِ، وَمَتَى مَا خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ، دَبَّتِ الْفَوْضَى فِي أَرْجَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَقُطِّعَتِ الطُّرُقُ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ؛ مِنْ أَثَرِ هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي تَعُمُّ الدِّيَارَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، -عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ- وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)).

فَأَمَرَ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِمَّنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَلَكِنْ طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)).

وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَقَالَ فِي ((إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ)): «شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ؛ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ, فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ -وَإِنْ كَانَ اللَّـهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ-، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ، فَطُلِبَ إِزَالَتُهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.

كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّـهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ، وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ -مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ- خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ.

وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ».

وَقَالَ شَيْخُ الْإسْلَامِ-رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).

فَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ، وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.

* مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ حِمَايَةِ الْوَطَنِ: التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

قَالَ ﷺ: ((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ))، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَمَا زَالَ وَاقِعًا فِي الْأُمَّةِ إِلَى الْيَوْمِ، ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)): السُّنَّةُ هِيَ الْعَاصِمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، السُّنَّةُ كَمَا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، لَا كَمَا يَقُولُ بِهَا الْمُرْشِدُونَ وَالْأُمَرَاءُ، وَيَقُولُ بِهَا الدَّرَاوِيشُ!!

وَإِنَّمَا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ عَنْ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.

((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).

كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ.

إِنَّ اللهَ جَعَلَ مَعِينَ الْحَيَاةِ فِي الْوَحْيِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأَنْفَال: 24].

وَأَعْظَمُ الْحَيَاتَيْنِ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَأَحْيَا النَّاسِ أَتْبَعُهُمْ لِلْوَحْيِ، وَهُوَ آمَنُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ، وَبِهَذَا يَدِقُّ فَهْمُكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)). رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فَالْوَحْيُ هُوَ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ, وَإِذَا خَلَا الْعَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالْحَيَاةِ؛ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ الْقُرآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ, فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ, وَحِينَئِذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الوُجُودِ الحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ حِينَئِذٍ.

إِذَنْ، الْوَحْيُ هُوَ نُورُ الْعَالَمِ وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ, وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالْحَيَاةِ وَالْهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ, وَهَذِهِ الْغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ, وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الوَحْيِ؛ سَعِدُوا فِي الْحَيَاةِ, وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ, وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْوَحْيِ.


 

* وَمِنْ أَكْبَرِ وَسَائِلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ: إِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ وَتَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ:

إِنَّ إِصْلَاحَ الْعَقِيدَةِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَخْذٍ بِأَسْبَابِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ.

يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أُمُورَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ بِالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَّغَنَا عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ التَّوْحِيدِ، وَعَظِيمَ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

لَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا.

عِبَادَ اللهِ! بَالتَّوحِيدِ يُقْبَلُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنْ غَيْرِ التَّوْحِيدِ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ تَوْحِيدٍ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}[المائِدَة: 36].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56].

فَقَبُولُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّوْحِيدِ.

التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}: أَيْ بِشِرْكٍ {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].

فَالْعِزَّةُ، وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ المَجِيدِ.

إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ رَبِّ الْعِبَادِ.

فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.

وَيَجْعَلُ التَّوْحِيدُ الْإِنْسَانَ شَاعِرًا بِعِزَّةٍ وَكَرَامَةٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُ، وَبَرَأَهُ، وَسَوَّاهُ.

يُحَرِّرُ عَقْلَهُ كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ، يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ، حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.

وَأَعْظَمُ ثَمَرَةٍ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ: دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُوَحِّدٌ، حَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطَّلَاق: 11].

وَأَمَّا الْمُشْرِكُ؛ فَهُوَ مُوَزَّعُ الْقَلْبِ، مُقَلْقَلُ الْبَالِ، لَا يَهْدَأُ لَهُ ضَمِيرٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى حَالٍ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ يُحَرِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَيُوجِبُ لَهُ النَّارَ وَالدُّخُولَ فِيهَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ فِي الْحَيَاةِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ.

{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا} [النِّسَاء: 48].

إِنَّ الشِّرْكَ يُطْفِئُ نُورَ الْفِطْرَةِ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التِّين: 4-6].

قَدْ بَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْضَ عَنَاصِرِ تَكْوِينِ الْإِنْسَانِ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71-72].

وَالرُّوحُ لَا تَتَحَرَّرُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، وَجُعِلَتْ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ بِاللهِ غَيْرَهُ، فَهُوَ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}[التين: 5].

إِنَّ الشِّرْكَ مَهَانَةٌ لِلْإِنْسَانِيَّةِ، وَقَضَاءٌ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَسَبَبٌ لِلذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ دُنْيَا وَآخِرَةً، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَلَا عِزَّةَ لَهُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَلَا تَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الْإِنْسَانِيَّةُ الْحَقَّةُ إِلَّا إِذَا حَقَّقُوا الْغَرَضَ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَإِذَا لَمْ يُحَقِّقُوهُ تَمَزَّقَتْ نُفُوسُهُمْ.

الشِّرْكُ يُمَزِّقُ وَحْدَةَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 163].

اعْلَمُوا -عِبَادَ اللهِ- أَنَّهُ لَا يُلَوِّثُ النَّفْسَ، وَلَا يُفْسِدُ الْفِكْرَ، وَلَا يُضَيِّعُ الْعَقْلَ، وَلَا يُضَيِّعُ الدُّنْيَا، وَلَا يَهْدِمُ الدِّينَ إِلَّا الشِّرْكُ، فَكُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ.

وَالْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].

فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.

*مِنْ أَهَمِّ وَسَائِلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى بَصِيرَةٍ:

إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ مَقَامَاتِ التَّعَبُّدِ للهِ.

هِيَ أَكْرَمُ مَقَامٍ يَقُومُهُ عَبْدٌ لِرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَيْهِ، دَالًّا عَلَيْهِ، مُرْشِدًا إِلَى صِرَاطِهِ، مُتَّبِعًا لِسَبِيلِ نَبِيِّهِ، مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ، مُخْلِصًا فِيهِ، آتِيًا بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

هَذَا اسْتِفَهَامٌ الْغَرَضُ مِنْهُ النَّفْيُ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}: أَيْ: لَا أَحَدَ.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}: مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى مَنْهَجِهِ، وَلَا إِلَى طَرِيقَتِهِ، وَلَكِنْ إِلَى اللهِ.

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}: فَالْتَزَمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ.

{وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}: فَأَسْلَمَ الزِّمَامَ للهِ وَحْدَهُ بِالشَّرْعِ الْأَغَرِّ، بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَبْتَدِعُ، وَلَا يَتَزَيَّدُ، وَلَا يَجِدُ حَظَّ نَفْسِهِ، بَلْ يَجْعَلُ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِ، يَدْعُو إِلَى اللهِ مُخْلِصًا، إِلَى اللهِ خَالِصًا، للهِ وَحْدَهُ، فَلَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلًا، وَلَا أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُ فِعْلًا، وَلَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْهُ دَعْوَةً.

وَكُلُّ مُكَلَّفٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

فَمَنِ اتَّبَعَ رَسُولَ اللهِﷺ دَعَا إِلَى اللهِ، وَأَتْبَاعُ النَّبِيِّ ﷺ دُعَاةٌ إِلَى اللهِ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ، لَا يَتَزَيَّدُ، وَإِلَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَإِلَى غَيْرِ صِرَاطِهِ، وَإِلَى غَيْرِ دِينِهِ، قَائِلًا عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِنَّمَا يَدْعُو إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَعَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَفِي كُلِّ مَجَالٍ.

وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].

أَنْتُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُظْهِرَتْ لِلنَّاسِ، وَحُمِّلَتْ وَظِيفَةَ الْخُرُوجِ بِتَبْلِيغِ النَّاسِ دِينَ اللهِ لَهُمْ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ قَدْ عَلِمَهَا اللهُ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَكُمْ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ، وَمَا سَيَكُونُ.

وَسَبَبُ بَقَاءِ تِلْكَ الْخَيْرِيَّةِ فِيكُمْ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ أَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تَأْمُرُونَ دَاخِلَ مُجْتَمَعِكُمُ الْمُسْلِمِ بِمَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَتَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ قُبْحُهُ، فَتَحْمُونَ مُجْتَمَعَكُمْ بِهَذَا -أَيْ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الِانْحِرَافِ الْخَطِيرِ، وَالِانْهِيَارِ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ.

وَأَنَّكُمْ سَتَظَلُّونَ تُصَدِّقُونَ بِاللهِ، وَتُخْلِصُونَ لَهُ التَّوْحِيدَ وَالْعِبَادَةَ مَهْمَا اشْتَدَّتْ عَلَيْكُمُ النَّكَبَاتُ مِنَ الْأُمَمِ الْأُخْرَى؛ بُغْيَةَ إِخْرَاجِكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ.

*مِنْ أَهَمِّ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ: الْعَمَلُ بِأَمَانَةٍ وَاجْتِهَادٍ:

إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ، فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.

وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.

فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ، فَالْعَمَلُ الَّذِي اسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ.

قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ؛ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُمْ.

وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُم؛ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

*مِنْ أَهَمِّ وَسَائِلِ حِمَايَةِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ: الِاجْتِمَاعُ وَالْأُخُوَّةُ الصَّادِقَةُ:

إِنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ﷺ بَيَّنَ لَنَا طَرِيقًا وَاحِدًا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْلُكُوهُ، وَهُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَنْهَجُ دِينِهِ الْقَوِيمِ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} [الفاتحة: 6-7].

وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهِمْ بَيَّنَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].

فَالَّذِينَ جَعَلُوا مَنْهَجَهُمْ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ، وَعَمِلُوا بِقَوْلِهِ ﷺ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ.

فَدِينُنَا دِينُ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّفَرُّقُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، فَتَعَدُّدُ الْجَمَاعَاتِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الدِّينَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَكُونَ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَيَقُولُ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ».

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُنْيَانَ، وَأَنَّ الْجَسَدَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مُتَمَاسِكٌ، لَيْسَ فِيهِ تَفَرُّقٌ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ إِذَا تَفَرَّقَ سَقَطَ، كَذَلِكَ الْجِسْمُ إِذَا تَفَرَّقَ فَقَدَ الْحَيَاةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنْ نَكُونَ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَسَاسُهَا التَّوْحِيدُ، وَمَنْهَجُهَا دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسَارُهَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةَ ائْتِلَافٍ، فَلَا تَخْتَلِفُوا، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا ﷺ دَاعِيَةَ مَحَبَّةِ، فَلَا تَبَاغَضُوا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((حِمَايَةُ الْوَطَنِ مِنَ الْإِرْهَابِ))

فَقَدْ أَصْدَرَ الْمَجْمَعُ الْفِقْهِيُّ فِي إِحْدَى دَوَرَاتِهِ: إِنَّ التَّطَرُّفَ وَالْعُنْفَ وَالْإِرْهَابَ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هِيَ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ، لَهَا آثَارٌ فَاحِشَةٌ، وَفِيهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَظُلْمٌ لَهُ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصْدَرَيِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كِتَابَ اللهِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ الْعَظِيمِ ﷺ، فَلَنْ يَجِدَ فِيهِمَا شَيْئًا مِنْ مَعَانِي التَّطَرُّفِ وَالْعُنْفِ وَالْإِرْهَابِ الَّذِي يَعْنِي الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْآخَرِينَ دُونَ وَجْهِ حَقٍّ.

وَحِرْصًا مِنْ أَعْضَاءِ الْمَجْمَعِ عَلَى وَضْعِ تَعْرِيفٍ إِسْلَامِيٍّ لِلْإِرْهَابِ تَتَوَحَّدُ عَلَيْهِ رُؤَى الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاقِفُهُمْ، وَلِبَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَإِبْرَازِ خُطُورَةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ، يُقَدِّمُ الْمَجْمَعُ الْفِقْهِيُّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْعَالَمِ أَجْمَعَ تَعْرِيفًا لِلْإِرْهَابِ، وَمَوْقِفِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ:

((الْإِرْهَابُ هُوَ: الْعُدْوَانُ الَّذِي يُمَارِسُهُ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ أَوْ دُوَلٌ؛ بَغْيًا عَلَى الْإِنْسَانِ دِينِهِ وَدَمِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.

وَيَشْمَلُ صُنُوفَ التَّخْوِيفِ وَالْأَذَى وَالتَّهْدِيدِ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِصُوَرِ الْحِرَابَةِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُنْفِ أَوِ التَّهْدِيدِ يَقَعُ تَنْفِيذًا لِمَشْرُوعٍ إِجْرَامِيٍّ فَرْدِيٍّ أَوْ جَمَاعِيٍّ وَيَهْدُفُ إِلَى إِلْقَاءِ الرُّعْبِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ تَرْوِيعِهِمْ بِإِيذَائِهِمْ أَوْ تَعْرِيضِ حَيَاتِهِمْ أَوْ حُرِّيَّتِهِمْ أَوْ أَمْنِهِمْ أَوْ أَحْوَالِهِمْ لِلْخَطَرِ.

وَمِنْ صُنُوفِهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْبِيئَةِ أَوْ بِأَحَدِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَمْلَاكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، أَوْ تَعْرِيضِ أَحَدِ الْمَوَارِدِ الْوَطَنِيَّةِ أَوِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلْخَطَرِ.

فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77])).

((فَالْإِرْهَابُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ (أَرْهَبَ)؛ أَيْ: أَخَافَ، وَمَصْدَرُ مُفْرَدَاتِهَا: كَـ(أَفْزَعَ، وَرَوَّعَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ) .

قَالَ الرَّاغِبُ: ((الرَّهْبَةُ وَالرُّهُبُ: مَخَافَةٌ مَعَ تَحَرُّزٍ وَاضْطِرَابٍ، قَالَ تَعَالَى: {واضمم إليك جناحك من الرهب}، وَقُرِئَ: {من الرهب}؛ أَيِ: الْفَزَعِ)).

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تَعَدَّدَتِ التَّعْرِيفَاتُ حَوْلَهُ، وَلَكِنَّ التَّعْرِيفَ الْأَقْرَبَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: (الْإِرْهَابُ): جَمِيعُ الْمُمَارَسَاتِ الْعُدْوَانِيَّةِ بِشَتَّى صُوَرِهَا الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ وَحَذَّرَ مِنْهَا وَمَنَعَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ إِرْهَابٌ.

فَمُسَمَّى الْإِرْهَابِ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْعُدْوَانِيَّةِ الَّتِي تُحْدِثُ الْخَوْفَ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّهْبَةَ فِي النُّفُوسِ، وَالِاضْطِرَابَ فِي الْأَمْنِ، وَالْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ أَنْ يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ.

فَالْإِرْهَابُ صِنَاعَةٌ غَرْبِيَّةٌ غَرِيبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَتَتْ مِنْ خَارِجِ بُلْدَانِهِمْ، وَهِيَ مِنْ صُنْعِ أَعْدَاءِ اللهِ الْمَاكِرِينَ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَافِعًا لَهُمْ لِلْوُقُوفِ أَمَامَ الْمَدِّ الْإِسْلَامِيِّ الْجَارِفِ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ كُلِّهِ.

وَكَلِمَةُ الْإِرْهَابِ: هِيَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفُ الْآمِنِينَ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ الْمُعَاهَدِينَ، وَاسْتِهْدَافُ الْأَبْرِيَاءِ، وَتَدْمِيرُ الْمُنْشَآتِ، وَتَشْوِيهُ سُمْعَةِ الدِّينِ الْعَظِيمِ.

فَكُلُّ أَعْمَالِ الْعُنْفِ الَّتِي تُرْتَكَبُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ، تَجُرُّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَتَاهَاتٍ مُعْتِمَةٍ، وَمَشَاكِلَ جَمَّةٍ، وَتَسْتَعْدِي عَلَيْهِمُ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ، وَتَجْلِبُ لَهُمُ الْمَشَقَّةَ وَالْعَنَتَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاضِحٌ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.

وَمِنْ آثَارِ الْإِرْهَابِ الَّتِي يَرَاهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ:

هَلَاكُ الْأَنْفُسِ وَإِهْلَاكُهَا.

تَدْمِيرُ الْمُمْتَلَكَاتِ.

تَحْطِيمُ الْمُنْشَآتِ.

نَشْرُ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ.

زَرْعُ الضَّغِينَةِ وَالْبَغْضَاءِ.

تَحْجِيرُ الْخَيْرِ.

إِضْعَافُ الْأُمَّةِ وَتَبْدِيدُ مَكَاسِبِهَا.

تَسَلُّطُ أَعْدَاءِ اللهِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَرْضَى لِغَيْرِهِ تِلْكَ الْأُمُورَ؟!

اللهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَنَتَ وَالْحَرَجَ، وَنُصْرَةُ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَإِعْزَازُ شَرِيعَتِهِ لَا يَكُونُ بِبَثِّ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ، أَوِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ الْأَنْفُسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَوِ التَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِسْلَامُ؛ لِيَحْمِيَ لِلنَّاسِ ضَرُورَاتِهِمْ، وَيَعْمَلَ عَلَى حِفْظِهَا، وَيَنْشُرَ الْأَمْنَ وَالْعَدْلَ وَالسَّعَادَةَ بَيْنَ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.

لَقَدْ عَالَجَ الْإِسْلَامُ الْإِرْهَابَ بِعِلَاجٍ حَاسِمٍ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، فَشَرَعَ حَدَّ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ حَدٌّ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْقَضَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، الَّتِي تُرَوِّعُ الْأَبْرِيَاءَ وَتَقْتُلُهُمْ، وَتُخِيفُ سُبُلَهُمْ، وَتُضْعِفُ أَمْنَهُمْ، وَتُفَجِّرُ دُورَهُمْ وَمُنْشَآتِهِمْ، وَتُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِمْ، وَتُضَيِّعُ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ حَدًّا، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].

المُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الذينَ بَارَزُوهُ بِالعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا في الأَرْضِ؛ بِالكُفرِ، والقَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.

وَالمَشْهُورُ أَنَّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ في أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذينَ يَعْرِضُونَ للنَّاسِ في القُرَى والبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُم أَمْوَالَهُم، وَيَقْتُلُونَهُم، وَيُخِيفُونَهُم فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطريقِ التي هُم بها، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُم وَنَكَالَهُم عِنْدَ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم أَنْ يُفْعَلَ بهم وَاحِدٌ مِنْ هذه الأُمُورِ.

وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ:

مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ: قُتِلَ وَصُلِبَ.

وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ: قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ.

وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا: نُفِيَ فِي الْأَرْضِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَهَذَا هُوَ الْحَسْمُ الْقَاطِعُ، وَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ النَّاجِعُ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

«مَعْرَكَةٌ تَارِيخِيَّةٌ لِلْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي سَيْنَاءَ

ضِدَّ الْإِرْهَابِ وَالْخِيَانَةِ»

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اعْلَمُوا أَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ يُحَارِبُ الْعَالَمَ كُلَّهُ فِي سَيْنَاءَ, تَجَمَّعَ عَلَيْهِ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، وَلَنْ يَضُرُّوهُ شَيئًا -إِنْ شَاءَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا-, وَلَكِنْ تَجَمَّعَ عَلَيهِ مَنْ بِأَقْطَارِهَا فِي سَينَاءَ.

العَالَمُ كُلُّهُ يُحَارِبُ الجَيْشَ المِصْرِيَّ فِي سَينَاءَ!!

وَالمُقَاتِلُ الْمِصْرِيُّ, عَقِيدَتُهُ: «النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ», لَا يَعْرِفُ سِوَى هَذَا.

يُقَتَّلُونَ، فِي سَبِيلِ اللهِ يَمْضُونَ, تُزْهَقُ أَرْوَاحُهُمْ, تُكْلَمُ قُلُوبُ أُمَّهَاتِهِمْ، يَتَيَتَّمُ أَطْفَالُهُمْ, تَتَرَمَّلُ نِسَاؤُهُمْ, يَبْكِيهِمْ كُلُّ جَارٍ وَحَبِيبٍ، وَهُمْ يَتَسَاقَطُونَ لَا يُبَالُونَ, عَقِيدَتُهُم: النَّصْرُ أَوِ الشَّهَادَةُ.

لِمَاذَا يُقْتَلُونَ؟!

إِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ مِنْ أَجْلِ الْحَقِّ, مِنْ أَجْلِ وَأْدِ المُؤَامَرَةِ.

الجَيْشُ المِصْرِيُّ يُعَانِي مُعَانَاةً شَدِيدَةً فِي سَيْنَاءَ؛ لِأَنَّ الْوَضْعَ هُنَالِكَ فِي غَايَةِ التَّعْقِيدِ, لَيْسَ كَمَا يَبْدُو لِلنَّظْرَةِ الأُولَى, وَالنَّظْرَةُ الْأُولَى حَمْقَاءُ.

الْوَضْعُ مُعَقَّدٌ غَايَةَ التَّعْقِيدِ, وَمَعَ ذَلِكَ فَالْبَوَاسِلُ مِنَ الرِّجَالِ يُوَاجِهُونَ بِصُدُورٍ مَكْشُوفَةٍ, وَسَوَاعِدَ مَفْتُولَةٍ, وَعَقَائِدَ قَائِمَةٍ, لَا يُبَالُونَ, يَمُوتُونَ, يَتَسَاقَطُونَ....

لَا بَأْسَ... إِنَّ المَجْدَ لَا يُصْنَعُ إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْغَالِيَةِ, بِالدِّمَاءِ النَّازِفَةِ, بِالأَرْوَاحِ الزَّاهِقَةِ, إِنَّ الْقِيَمَ وَالمُثُلَ لَا يُؤَسَّسُ لَهَا وَلَا تُعْلَى إِلَّا بِالتَّضْحِيَّاتِ الْعَظِيمَةِ, إِنَّ المَجْدَ العَظِيمَ لَا يُصْنَعُهُ إِلَّا الْتَضْحِيَّةُ العَظِيمَةُ، وَلَا يُصْنَعُ إِلَّا بِتَضْحِيَّةٍ عَظِيمَةٍ..

لِمَاذَا يُرِيدُ الخَوَنَةُ تَفْكِيكَ الجَيْشِ المِصْرِيِّ ؟!

إِنَّ عَقِيدَةَ التَّكْفِيرِيِّينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الجَيْشَ وَالشُّرْطَةَ فِي سَيْنَاءَ وَغَيْرِهَا  أَنَّ المُسْلِمِينَ مُرْتَدُّونَ, وَهُمْ أَكْفَرُ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى!!

وَمِنْ عَقِيدَتِهِمْ: أَنَّهُ إِذَا قَاتَلَ الْيَهُودُ الجَيْشَ الْمِصْرِيَّ، فَهَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيُّونَ مَعَ اليَهُودِ ضِدَّ الجَيْشِ المِصْرِيِّ؛ لِأَنَّ اليَهُودَ عِنْدَهُم -وَكَذِلَكَ النَّصَارَى- أَهْلُ كِتَابٍ, وَأَمَّا الجَيْشُ عِنْدَهُمْ فَكَافِرٌ مُرْتَدٌّ, وَالمُرْتَدُّ أَشَدُّ كُفْرًا مِنَ الكِتَابِيِّ!!

أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ هَؤُلَاءِ التَّكْفِيرِيِّينَ، وَأَنْ يَجْعَلَ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَنْ يَهْدِيَ شَبَابَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.

لَقَدْ أَبْقَى اللهُ لَنَا الجَيْشَ المِصْرِيَّ، فَحَفِظَ اللهُ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَهُ فِيمَا يَبْقَى؛ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

*عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ، وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا :

أَرَى مِصْرَ يَلْهُو بِحَدِّ السِّلَاحِ   ***   وَيَلْعَبُ بِالنَّارِ وِلْدَانُهَا

وَرَاحَ بِغَيْرِ مَجَالِ الْعُقُولِ          ***    يُجِيلُ السِّيَاسَةَ غِلْمَانُهَا

وَمَا الْقَتْلُ تَحْيَا عَلَيْهِ الْبِلَادُ     *** وَلَا هِمَّةُ الْقَوْلِ عُمْرَانُهَا

وَلَا الْحُكْمُ أَنْ تَنْقَضِي دَوْلَةٌ    *** وَتُقْبِلَ أُخْرَى وَأَعْوَانُهَا

وَلَكِنْ عَلَى الْجَيشِ تَقْوَى الْبِلَادُ *** وَبِالْعِلْمِ تَشْتَدُّ أَرْكَانُهَا

((الْجَيْشُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كُلُّ الْأُمَّةِ))

مَاذَا لَوْ تَخَلَّى الشَّعْبُ عَنْ جَيْشِهِ؟!!

أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! لَا شَكَّ أَنَّ الْأَيَّامَ الْقَادِمَةَ تُعَدُّ مُنْعَطَفًا حَادًّا خَطِيرًا فِي تَارِيخِ هَذَا الْوَطَنِ وَفِي مُسْتَقْبَلِهِ.

وَالْآنَ لِسَانُ الْمِيزَانِ يَتَذَبْذَبُ بِلَا رُجْحَانٍ بَيْنَ كِفَّتَيْنِ: فَإِمَّا اسْتِقْرَارٌ وَهَنَاءٌ، وَإِمَّا فَوْضَى وَشَقَاءٌ.

وَالَّذِي قَضَى اللهُ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحًا إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ هُوَ هَذَا الشَّعْبُ نَفْسُهُ، فَإِمَّا انْتَبَهَ، وَاجْتَمَعَ، وَأَدْرَكَ الرَّكْبَ فَسَلِمَ، وَإِمَّا غَفَلَ وَاخْتَلَفَ، وَتَخَلَّفَ عَنِ الرَّكْبِ فَضَاعَ وَنَدِمَ، وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ!!

وَمِنْ حَقِّ شَعْبِنَا الْكَرِيمِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ الْإِجَابَةَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: مَاذَا لَوْ تَخَلَّى الشَّعْبُ عَنْ جَيْشِهِ؟

وَالْإِجَابَةُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ تَسْتَدْعِي الْإِجَابَةَ عَنْ سُؤَالٍ آخَرَ تُوَضِّحُهُ، وَهُوَ: وَكَيْفَ يَتَخَلَّى الشَّعْبُ عَنْ جَيْشِهِ؟

وَالْجَوَابُ: بِأَنْ يَتْرُكَ الشَّعْبُ جَيْشَهُ بِلَا غِطَاءٍ دَاخِلِيٍّ، وَبِلَا غِطَاءٍ دَوْلِيٍّ، فَأَمَّا الْغِطَاءُ الْمَحَلِيِّ؛ فَتَخَلِّي الشَّعْبِ عَنِ الْجَيْشِ بِأَنْ يَظَلَّ الْجُنُودُ وَالضُّبَّاطُ يُوَاجِهُونَ الْمَوْتَ بِصُدُورٍ عَارِيَةٍ، وَهِمَمٍ عَاتِيَةٍ، يُضْنِيهُمُ السَّهَرُ، وَيَحُفُّهُمُ الْخَطَرُ، تَتَرَاقَصُ حَوْلَهُمْ أَشْبَاحُ عَدُوٍّ يُكَفِّرُهُمْ، وَيَسْتَبِيحُ دِمَاءَهُمْ وَيَقْتُلُهُمْ، وَيَسْعَى جَاهِدًا لِتَدْمِيرِهِمْ وَنَسْفِهِمْ.

وَيَبْقَى الشَّعْبُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ غَيْرَ مُدْرِكٍ لِحَقِيقَةِ الْأُمُورِ، يُطَالِبُ بِالْأَمَانِ، وَلَا يَبْذُلُ لِتَحْصِيلِهِ كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا، وَيَطْلُبُ الْحِمَايَةَ، وَلَا يَسْلُكُ لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا سَبِيلًا!!

وَأَنْ يَبْقَى الشَّعْبُ غَيْرَ مُوقِنٍ بِأَنَّ لَهُ عَدُوًّا يُكَفِّرُهُ، وَيَسْتَحِلُّ دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِرْضَهُ، وَقَدْ تَحَالَفَ هَذَا الْعَدُوُّ مَعَ عَدُوٍّ لِلشَّعْبِ آخَرَ؛ يَطْلُبُ دِيَارَهُ وَنِيلَهُ وَأَرْضَهُ.

أَنْ يَبْقَى الشَّعْبُ مُبَدِّدًا لِوَقْتِهِ، مُنَعَّمًا بِدِفْئِهِ، طَالِبًا لِلَذَّاتِهِ، مُقْبِلًا عَلَى مَلَذَّاتِهِ، غَيْرَ مُقَدِّرٍ تَقْدِيرًا صَحِيحًا حَقِيقَةَ مَا يُبْذَلُ لِيُنَعَّمَ بِذَلِكَ؛ مِنْ أَرْوَاحٍ زَاهِقَةٍ، وَدِمَاءٍ نَازِفَةٍ، وَجِرَاحٍ نِيرَانُ آلَامِهَا مُحْرِقَةٌ، وَآثَارُ جِرَاحِهَا صَاعِقَةٌ.

أَنْ يَبْقَى الشَّعْبُ غَيْرَ مُدْرِكٍ أَنَّهُ يَخُوضُ حَرْبًا حَقِيقَيَّةً مَعَ عَدُوٍّ يَسْتَعْمِلُ كُلَّ وَسَائِلِ الْحَرْبِ الْقَذِرَةِ، مِمَّا لَا تُقِرُّهُ الشَّرَائِعُ وَلَا الْأَخْلَاقُ وَالْأَعْرَافُ.

وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ -يَعْنِي الْعَدُوُّ- يَعْتَقِدُهَا حَرْبًا مُقَدَّسَةً، تُسْتَبَاحُ فِي قُدْسِهَا الْأَنْفُسُ، وَتُرَاقُ الدِّمَاءُ، وَتُنْهَبُ الْأَمْوَالُ، وَتُهْتَكُ الْأَعْرَاضُ.

الْخَطَرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ أَنْ يَبْقَى الشَّعْبُ غَيْرَ مُدْرِكٍ أَنَّهُ فِي خَطَرٍ، فَإِنَّهُ أَخْطَرُ مِنَ الْخَطَرِ أَلَّا يُحِسَّ بِالْخَطَرِ مَنْ هُوَ فِي الْخَطَرِ، فَإِنَّ الْخَطَرَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ أَنْ يُحِسَّ الْمَرْءُ بِأَنَّهُ فِي أَمَانٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِى هُوَ فِيهِ قَدْ أَحَاطَهُ الْخَطَرُ.

إِذَا لَمْ يَشْكُرِ الشَّعْبُ أَفْرَادًا؛ الَّذِينَ جَعَلُوا النِّعْمَةَ وَاصِلَةً إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ سَبِيلِهِمْ، إِذَا لَمْ يَشْكُرْ أَفْرَادُ الشَّعْبِ نِعْمَةَ الدِّفْءِ الَّتِي لَا يَجِدُهَا مَنْ يُجَمِّدُ الْبَرْدُ أَطْرَافَهُ، وَهُوَ سَاهِرٌ لِحِمَايَتِهِ؛ لِيَنْعَمُوا بِدِفْئِهِمْ وَنَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَشْكُرُوا نِعْمَةَ الْأَمْنِ الَّتِي يَفْقِدُهَا مَنْ يَسْتَهِينُ بِالْخَطَرِ، وَهُوَ مُتَوَقِّعٌ لِلْمَوْتِ، مُرَابِطٌ لِأَجْلِ أَمْنِهِمْ وَأَمَانِهِمْ.

إِذَا لَمْ يُحِسَّ أَفْرَادُ الشَّعْبِ ذَلِكَ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ؛ فَقَدْ تَخَلَّوْا عَنْ حُرَّاسِهِمُ السَّاهِرِينَ وَأَبْطَالِهِمُ الْمُرَابِطِينَ.

إِذَا بَقِيَتْ جُمُوعُ الشَّعْبِ مُسْتَغْرِقَةً فِي الْهُمُومِ الصَّغِيرَةِ، وَالْأَغْرَاضِ الْقَلِيلَةِ، تُبَدِّدُ طَاقَاتِهَا فِي خِلَافَاتِهَا الْقَرِيبَةِ، وَتُبَعْثِرُ جُهُودَهَا فِي مَآرِبِهَا الْيَسِيرَةِ، مُنْشَغِلَةً بِمَعَارِكِ الْحَوَارِي، تَارِكَةً سَاحَةَ النِّزَالِ الْحَقِيقِيَّةِ تَعْبَثُ فِيهَا أَشْبَاحُ الظَّلَامِ إِفْسَادًا وَتَخْرِيبًا، وَتَزْرَعُ فِي أَرْجَائِهَا الْأَحْزَانَ تَرْوِيعًا وَتَرْهِيبًا.

إِذَا بَقِيَ الشَّعْبُ كَذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَخَلَّى عَنْ جَيْشِهِ الْمُنَاضِلِ!!

وَأَمَّا كَيْفَ يَتْرُكُ الشَّعْبُ جَيْشَهُ بِلَا غِطَاءٍ دَوْلِيٍّ، فَذَلِكَ فِي جُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ جَامِعَةٍ: بِأَنْ يَدْعُوَ الشَّعْبُ جَيْشَهُ؛ لِيَكُونَ نَاصِرَهُ وَمُعِينَهُ فِي تَحْقِيقِ مُرَادِهِ، فَإِذَا لَبَّاهُ، وَحَقَّقَ مُرَادَهُ، وَتَحَمَّلَ مَسْئُولِيَّةَ ذَلِكَ، وَتَعَرَّضَ لِأَخْطَارِهَا، وَذَاقَ مَرَارَةَ مَخَاطِرِهَا، مَضَى الشَّعْبُ لِطِيَّتِهِ، وَقَدْ حَقَّقَ الْجَيْشُ بُغْيِتَهُ، وَتَرَكَ جَيْشَهُ يُصَوِّرُهُ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَالْوَطَنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْغِ إِلَّا مَصْلَحَتَهُ، وَلَمْ يُرِدْ سِوَى مُرَادِهِ لَا مُرَادَ شَعْبِهِ.

إِنَّمَا يُنَاصِرُ الشَّعْبُ جَيْشَهُ فِي حَرْبِهِ وَكِفَاحِهِ بِأَنْ يَكُونَ ظَهِيرَهُ وَحِصْنَهُ، كَمَا أَنَّ جَيْشَهُ دِرْعُهُ وَسَيْفُهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا مَا دَعَاهُ لَبَّاهُ، وَإِذَا مَا طَلَبَهُ وَجَدَهُ، وَإِذَا مَا اسْتَمْهَلَهُ أَمْهَلَهُ، وَإِذَا مَا اسْتَنْظَرَهُ أَنْظَرَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ جَيْشِهِ بُنْيَانًا مَرْصُوصًا، فَلَا يَجْرُؤُ حَاقِدٌ وَلَا مُعَادٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الْجَيْشَ صَنَعَ لِنَفْسِهِ، وَلَا صَنَعَ شَيْئًا بِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ فِي خِدْمَةِ شَعْبِهِ، وَرَهْنَ إِشَارَتِهِ وَأَمْرِهِ.

وَأَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ وَهُوَ: مَاذَا لَوْ تَخَلَّى الشَّعْبُ عَنْ جَيْشِهِ، فَتَرَكَهُ بِلَا غِطَاءٍ مَحَلِيٍّ وَلَا غِطَاءٍ دَوْلِيٍّ؟

فَالْجَوَابُ هُوَ: خَرَابُ الْبِلَادِ، وَإِفْسَادُ الْعِبَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْدَاءَ يَتَرَبَّصُونَ كُلَّهُمْ مُنْتَظِرِينَ مَا تُسْفِرُ عَنْهُ الْأَيَّامُ الْمُقْبِلَةُ، وَهُمْ جَادُّونَ فِي مُؤَامَرَاتِهِمْ؛ لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى فِي الْبِلَادِ.

إِنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ هُوَ حَائِطُ الصَّدِّ الْبَاقِي دُونَ إِنْفَاذِ الْمُخَطَّطِ الصُّهْيُونِيِّ الصَّلِيبِيِّ التُّرْكِيِّ الْقَطَرِيِّ الْحَمَاسِيِّ الْإِخْوَانِيِّ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالتَّخَلِّي عَنْهُ دَاخِلِيًّا أَوْ خَارِجِيًّا خِيَانَةٌ لِلدِّينِ وَخِيَانَةً لِلْوَطَنِ.

إِنَّ الْأَيَّامَ الْقَادِمَةَ أَيَّامٌ حَاسِمَةٌ، لَا فِي تَارِيخِ مِصْرَ وَمُسْتَقْبَلِهَا وَحْدَهَا، بَلْ فِي تَارِيخِ وَمُسْتَقْبَلِ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ كُلِّهَا.

وَالنَّتِيجَةُ إِمَّا أَنْ تَنْحَسِرَ مَوْجَاتُ التَّآمُرِ، وَأَنْ تَنْحَسِرَ مَوْجَاتُ الْإِرْهَابِ عَنِ الْمَنْطِقَةِ كُلِّهَا، وَإِمَّا أَنْ يَنْهَارَ حَائِطُ الصَّدِّ الْبَاقِي -سَلَّمَهُ اللهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ-، وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ التَّفْتِيتُ، بِإِنْفَاذِ (مُخَطَّطِ بِرْنَارَد لِويس) لِتَفْتِيتِ الْعَالِمِ الْإِسْلَامِيِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ.

وَكُلُّ مَا تَرَاهُ وَمَا لَا تَرَاهُ، وَكُلُّ مَا تَعْلَمُهُ وَمَا لَا تَعْلَمُهُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى إِنْفَاذِ هَذَا الْمُخَطَّطِ.

وَ(بِرْنَارَد لِوِيس) هُوَ مُسْتَشْرِقٌ بِرِيطَانِيُّ الْأَصْلِ، يَهُودِيُّ الدِّيَانَةِ، صُهْيُونِيُّ الِانْتِمَاءِ، أَمْرِيكِيُّ الْجِنْسِيَّةِ، وَهُوَ صَاحِبُ أَخْطَرِ مَشْرُوعٍ فِي الْقَرْنِ الْمَاضِي -وَمَا زَالَ مُمْتَدًّا مُسْتَمِرًّا- لِتَفْتِيتِ الْعَالِمِ الْعَرِبِيِّ وَالْإِسْلَامِيِّ مِنْ بَاكِسْتَانَ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَقَدْ نَشَرَتْهُ ((مَجَلَّةُ وَزَارَةِ الدِّفَاعِ الْأَمْرِيكِيَّةِ)).

انْتَبِهُوا -عِبَادَ اللهِ- وَاعْلَمُوا أَنَّ حَائِطَ الصَّدِّ الْبَاقِي الْيَوْمَ هُوَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ.

يَا أَيُّهَا الشَّعْبُ! إِنَّ أَيَّامَكَ الْمُقْبِلَةَ أَيَّامٌ حَاسِمَةٌ -نَسْأَلُ اللهَ فِيهَا السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

فَنَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يَحْفَظَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ جَيْشَهَا وَأَمْنَهَا، وَأَنْ يُؤَلِّفَ بَيْنَ قُلُوبِ أَبْنَائِهَا، وَأَنْ يَرُدَّ عَنْهَا كَيْدَ الْكَائِدِينَ وَمَكْرَ الْمَاكِرِينَ، وَتَآمُرَ الْمُتَآمِرِينَ.

إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  الْأَمَلُ حَيَاةٌ
  مَرَاحِلُ وَسِمَاتُ بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  الخَوْفُ مِن اللهِ وَثَمَرَاتُهُ وآثَارُهُ عَلَى الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ
  عَلَى عَتَبَاتِ الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالرَّجَاءِ وَحُسْنِ الِاسْتِعْدَادِ
  الرد على شبهات أنصار بيت المقدس
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ مَعَ رَبِّهِ
  مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الْخَفِيَّةِ: التَّقْوَى
  سمات وسلوك الشخصية الوطنية في ضوء الشرع الحنيف
  الْجَارُ مَفْهُومُهُ وَحُقُوقُهُ
  تَكْرِيمُ الْمَرْأَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَرَدُّ الشُّبُهَاتِ الْمُثَارَةِ حَوْلَهَا
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان