((لَنْ تُوَفِّيَ أَبَوَيْكَ حَقَّهُمَا!!))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُوَفِّيَ أَبَاهُ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ وَعَلَى سَبِيلِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوَفِّيَ أَبَاهُ حَقَّهُ بِحَالٍ أَبَدًا، فَمَا تَقُولُ فِي الْأُمِّ؟!!
وَرَجُلٌ كَانَ يَحْمِلُ أُمَّهُ يَطُوفُ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ مَا فِيهِ، فَلَمَّا عَرِضَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ -يَعْنِي: يَا ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- أَتَرَى أَنِّي بِذَلِكَ قَدْ وَفَّيْتُهَا حَقَّهَا؟
قَالَ: وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ -يَعْنِي: وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ طَلْقَاتِ الْوَضْعِ، وَهِيَ انْقِبَاضَاتُ الرَّحِمِ بِعَضَلَاتِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَنْوَاعِ، وَتَكُونُ مُعْتَصِرَةً جِدًّا لِمَا فِي الدَّاخِلِ، وَهُوَ أَمْرٌ يُحْدِثُ أَلَمًا لَا يَعْلَمُ مَدَاهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
حَتَّى إِنَّكَ لَوْ حَمَلْتَ أُمَّكَ عَلَى عَاتِقَيْكَ وَطُفْتَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَفِي ثَوْرَةِ الْهَجِيرِ، ثُمَّ إِنَّكَ أَرَدْتَ أَنْ تُوَافِيَ بَيْنَ مَا جِئْتَ وَمَا جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْدِلُ.. قَالَ: وَلَا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ -يَعْنِي: مِنْ طَلْقَاتِ الْوَضْعِ الَّتِي عَانَتْ فِيهَا مَا عَانَتْ.
إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ)).
وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ.
خُذْ إِلَيْكَ رَفْعَ الصَّوْتِ -مَثَلًا- فِي حَضْرَتِهِمَا، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
خُذْ إِلَيْكَ نَظَرُ الشَّزَرِ وَإِحْدَادُ الْبَصَرِ إِلَيْهِمَا؛ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَضْلًا عَنْ عِصْيَانِ أَمْرِهِمَا، فَضْلًا عَنِ الْبَطَرِ عَلَيْهِمَا، فَضْلًا عَنْ مُوَاجَهِتِهِمَا بِاللَّعْنِ مِنْ وَرَائِهِمَا حِينًا وَمِنْ خَلْفِ ظَهْرَيْهِمَا أَحْيَانًا كَثِيرَةً، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟
قَالَ: ((يَلْعَنُ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَلْعَنُ أَبَاهُ وَيَلْعَنُ أُمَّهُ)).
كَمَا قَالَ رَسُولُنَا ﷺ فِي سَبِّ الْوَالِدَيْنِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبًّا مُبَاشِرًا، أَمَّا فِي السَّبَبِ غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إِنَّكَ لَوْ نَظَرْتَ فِي الْأَمْرِ نَظَرًا عَقْلِيًّا مَحْضًا لَوَجَدْتَ أَنَّكَ لَا يُمْكِنُ أَبَدًا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تُوَفِّيَ أَبَوْيَكَ وَلَا أَحَدَهُمَا شَيْئًا مِنَ الْفَضْلِ الَّذِي لَهُمَا عِنْدَكَ؛ لِأَنَّكَ إِذَا مَا خَدَمْتَهُمَا مَا خَدَمْتَهُمَا عِنْدَ عُلُوِّ سِنِّهِمَا وَكِبَرِ أَعْمَارِهِمَا وَبُلُوغِهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ الْمَبَالِغَ، فَإِنَّكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ تُقَارِنَ بَيْنَ خِدْمَتِكَ -وَأَنْتَ تَتَمَنَّى فِي قَرَارَةِ نَفْسِكَ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِمَا، أَوْ وَأَنْتَ تَسْتَاءُ مِنْهُمَا-.
لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَارِنَ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالِ وَهُمَا يَفْعَلَانِ مَعَكَ الشَّيْءَ نَفْسَهُ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُمَا يَتَمَنَّيَانِ لَكَ الْحَيَاةَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِمَا جِدًّا أَنْ يَجِدَاكَ فِي حَالَةِ بُؤْسٍ وَلَوْ كَانَتْ حَالَةً يَسِيرَةً، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي قَلْبِ الْأَبَوَيْنِ.
وَمِنْ أَجْلِهَا لَمْ يُوصِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْقُرْآنِ الْأَبَوَيْنِ بِأَوْلَادِهِمَا، لَا تَجِدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ كُلِّهِ -فِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا تَجِدُ وَصِيَّةً صَرِيحَةً يُوصِي اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا الْآبَاءَ بِالْأَبْنَاءِ، وَلَكِنَّكَ تَجِدُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا الْوَصِيَّةَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْإِلْزَامِ لِلْأَبْنَاءِ بِالْآبَاءِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الرَّحْمَةَ مَغْرُوسَةً وَجَعَلَهَا مَرْكُوزَةً فِي طِبَاعِ الْأَبَوَيْنِ، وَأَيْضًا لِأَنَّ الِابْنَ بَضْعَةٌ -أَيْ جُزْءٌ- مِنْ أَبِيهِ، وَدَائِمًا الْأَصْلُ يَحِنُّ لِمَا هُوَ فَرْعٌ مِنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّوْصِيَةِ.
وَأَمَّا أَنَا وَأَنْتَ فَالْوَصِيَّةُ تَشْمَلُنَا بِأَبَوَيْنَا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَإِيَّاهُمَا، وَأَنْ يَرْحَمَنَا وَإِيَّاهُمَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
إِنَّكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ -لَوْ نَظَرْتَ فِي الْأَمْرِ نَظَرًا عَقْلِيًّا- أَنْ تُوَازِنَ بَيْنَ مَا تَأْتِي أَنْتَ بِهِ لِأَبَوَيْكَ وَبَيْنَ مَا قَدَّمَاهُ هُمَا لَكَ.
بَلْ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِيهَا قَانُونًا عَظِيمًا أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ -وَذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي ((الْمُسْتَدْرَكِ))، وَقَالَ: ((إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ))-: مِنَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبِي يَأْكُلُ مَالِي.
فَقَالَ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).
قَالَ: أَنَا أَعْمَلُ مَا أَعْمَلُ أُحَصِّلُ الْمَالَ، ثُمَّ آتِي بِهِ إِلَى أَبِي، فَهُوَ يُنْفِقُهُ وَيُبَدِّدُهُ بِدَدًا وَيُمَزِّقُهُ مِزَقًا.
فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبِيكَ)).
وَذَهَبَ الْوَلَدُ لِكَيْ يَسْتَدْعِي أَبَاهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِذَا جَاءَكَ الرَّجُلُ فَسَلْهُ عَنْ شَيْءٍ جَالَ فِي خَاطِرِهِ، وَاعْتَمَلَ فِي صَدْرِهِ لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ -يَعْنِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ هُوَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَتَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ هُوَ -أَيْ: أُذُنَا الرَّجُلِ-.
فَلَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ، وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ ابْنَكَ يَدَّعِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَأْكُلُ مَالَهُ)).
فَقَالَ الرَّجُلُ -وَالْأَسَى يَعْتَصِرُهُ-: يَا رَسُولَ اللهِ! سَلْهُ هَلْ أُنْفِقُهُ إِلَّا عَلَى نَفْسِي أَوْ عَلَى أُمِّهِ أَوْ عَلَى إِحْدَى بَنَاتِي -أَيْ: أَخَوَاتِهِ- أَوْ إِخْوَانِهِ أَوْ أُنْفِقُهُ عَلَى إِحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَحَدِّثْنِي عَنْ شَيْءٍ دَارَ فِي نَفْسِكَ لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاكَ)).
فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا زَالَ اللهُ يَزِيدُنَا عَلَيْكَ يَقِينًا يَا رَسُولَ اللهِ وَبِكَ ﷺ، وَوَاللهِ مَا تَكَلَّمْتُ بِذَلِكَ قَطُّ، وَإِنَّمَا قُلْتُ فِي نَفْسِي مَقُولَةً أَعْتِبُ بِهَا عَلَى وَلَدِي هَذَا. قُلْتُ:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعْلْتُكَ يَافِعًا = تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ = لِسُقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ
حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي = نِهَايَةَ مَا كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً = كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي = فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
فَأَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَتِفَيِ الْوَلَدِ، وَأَخَذَ يَقُولُ لَهُ -نَافِضًا إِيَّاهُ-: ((أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ، أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)) .
وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمَةٌ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُؤْتَى بِتَعْسِيرِ أُمُورِهِ، وَبِتَخْلِيطٍ فِي أَحْوَالِ حَيَاتِهِ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ أُوتِيَ، وَإِنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَبْوَابِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ، فَأَوْصِدُوهُ إِيصَادًا وَأَحْكِمُوهُ رِتَاجًا -عِبَادَ اللهِ- بِالْبِرِّ بِالْأَبَوَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَإِلَّا فَإِنَّ الذُّلَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِالْعَاقِّ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((رَغِمَ أَنْفُ.. رَغِمَ أَنْفُ.. رَغِمَ أَنْفُ مَنْ بَلَغَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ)). كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ .
فَدَعَا بِالذِّلَّةِ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِكُلِّ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ.
المصدر:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ