((الْبِرُّ الْحَقُّ بِالْأَبَوَيْنِ))
عَبْدَ اللهِ! تَحْسَبُ الْبِرَّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تُحِبُّ؟!!
كَلَّا وَحَاشَا! بَلِ الْبِرُّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تَكْرَهُ.. لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تُحِبُّ؛ لِأَنَّكَ إِنْ أَطَعْتَ فِيمَا تُحِبُّ فَهَذَا هَوَى النَّفْسِ يَحْمِلُكَ، فَهَذَا حُبُّ مَا تَفْعَلُ هُوَ الَّذِي يَؤُزُّكَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تَفْعَلُ وَأَنْ تَدَعَ مَا تَدَعُ.
لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَأْتِيَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تُحِبُّ حَتَّى تَصِيرَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بَارًّا، حَاشَا وَكَلَّا، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تَكْرَهُ، وَلَقْد تُبْتَلَى بِأَبَوَيْنِ عَصَبِيَّيْنِ لَا يَكَادَانِ يَسْتَقِرَّانِ عَلَى حَالٍ أَبَدًا، وَأَنْتَ كَالْحَبْلِ الْمَشْدُودِ بَيْنَ قِمَّتَيْنِ، أَوْ كَالسَّائِرِ عَلَى ذَلِكَ الْحَبْلِ يَخْشَى الْهَاوِيَةَ الَّتِي فَغَرَتْ فَاهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ بَلْ تَحْتَ جَسَدِهِ بِأَمْثَالِ أَنْيَابِ التَّنَانِينِ، وَإِنَّ فِيهَا لَلَظًى مُسْتَعِرًا لَا يَخْبُو أُوَارُهُ لَحْظَةً مِنْ زَمَانٍ!!
قَدْ تُبْتَلَى بِذَلِكَ.. وَهُوَ ابْتِلَاءٌ! وَهَلْ هُنَاكَ ابْتِلَاءٌ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُولَدَ الرَّجُلُ مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ؟!!
حَتَّى لَوْ كَانَ هُوَ ابْتِلَاءً وَللهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَعَلَى الْمَرْءِ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ.
وَيَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ إِذَا وُلِدَ لِأَبَوَيْنِ مُشْرِكَيْنِ، بَلْ تَعَدَّى طَوْرَيْهِمَا وَجَاهَدَاهُ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَ هَذَا يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
وَإِنِ اشْتَدَّا عَلَيْكَ بِالطَّلَبِ -أَيُّهَا الِابْنُ الْمُؤْمِنُ- مُكْرِهَيْنِ لَكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي شِرْكًا مَا، لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ فَلَا تَسْتَجِبْ لَهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.
وَوَافِقْهُمَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُصَاحَبَةً حَسَنَةً، وَقَدِّمْ لَهُمَا مَعْرُوفًا؛ كَمَالٍ، وَتَكْرِيمٍ، وَخِدْمَةٍ.
وَاتَّبِعْ فِي مَسِيرَتِكَ فِي حَيَاتِكَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَيَّ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِلَيَّ بَعْدَ رِحْلَةِ الِامْتِحَانِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ- إِلَيَّ رُجُوعُكُمْ، وَمَكَانُ رُجُوعِكُمْ، وَزَمَانُهُ، فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لِأُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ.
لَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالصُّحْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْكُفْرِ.
وَالْأَبَوَانِ إِذَا لَمْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ -فَكُلُّ ذَنْبٍ دُونَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ كَانَ كُفْرًا فَهُوَ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَأَكْبَرُهُ- فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَبَوَانِ كَافِرَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُونَا عَاصِيَيْنِ، وَلَكِنْ غَايَةَ مَا هُنَالِكَ أَنَّهُمَا رُبُّمَا كَانَا مُتَسَلِّطَيْنِ -وَالْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ سُلْطَةٌ مُتَسَلِّطَةٌ جَبَّارَةٌ قَدْ يُسَاءُ اسْتِغَلَالُهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ، وَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ وَالْمَشَقَّةِ تَكُونُ الْمَثُوبَةُ وَالْأَجْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَاللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ الْجَوَادُ.
قَدْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِأَبَوَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَكِنْ مَا عَلَى الْمَرْءِ إِلَّا أَنْ يُطِيعَ.
وَهَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ، وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تَعُقَّ وَالِدَكَ، وَلَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، غَيْرَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أَوْ دَعْ» .
لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الطَّاعَةُ فِيمَا تُحِبُّ؛ بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ الطَّاعَةُ فِيمَا تَكْرَهُ، وَلَقَدْ تُؤْتَى مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَلَا تَدْرِي، إِذَا مَا أَمَرَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِذَا مَا أَصْدَرَا قَرَارًا مِنَ الْقَرَارَاتِ -طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي دِينٍ، وَلَا يَطْعَنُ فِي عَقِيدَةٍ، وَلَا يَجْرَحُ فِي الْإِسْلَامِ- فَسَمْعًا وَطَاعَةً.
((مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ أَبَوَيْهِ)).
((مَلْعُونٌ)): مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَانْظُرْ إِلَى الْمَطْرُودِ خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ، خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ لَا تُدْرِكُهُ وَلَا تَنْزِلُ عَلَيْهِ!!
انْظُرْ إِلَيْهِ مَا يَصْنَعُ هَذَا الْمَلْعُونُ؟!!
أَلَا إِنَّ الذُّنُوبَ بِآثَارِهَا، وَإِنَّ الْآثَامَ بِنَتَائِجِهَا.. فَاعِلَةٌ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ، فَاعِلَةٌ فِي الرُّوحِ الْحَيَّةِ، فَاعِلَةٌ فِي دُنْيَا اللهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا، وَأُمَمًا وَعَالَمًا؛ وَالْعَالَمُ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.
فَاللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
المصدر:التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ