((الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ))
عِبَادَ اللهِ! السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا آخِذِينَ بِقَوَاعِدِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَفِي النَّاسِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ بِهَا قَائِمٌ وَلَهَا آخِذٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا كَذَلِكَ؛ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ!! وَتَحَمَّلُوا مَسْئُولِيَّتَكُمْ، وَتَأَمَّلُوا فِي أَحْوَالِ أَهْلِ الْأَقْطَارِ وَأَهْلِ الْأَمْصَارِ مِمَّنْ جَرَّ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ عَلَى قَوَاعِدِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ الْوَيْلَ وَالثُّبُورَ وَالدَّمَارَ، تَأَمَّلُوا وَاعْتَبِرُوا!!
وَهَذِهِ تَجْرِبَةٌ يَرْوِيهَا رَجُلٌ عَاصَرَهَا وَشَاهَدَهَا فِي الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَةِ، وَمَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ، وَإِذَا مَنَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْكَ فَكَشَفَ عَنْكَ غُلَافَ الْعَقْلِ، وَأَنْفَذَ إِلَى الْقَلْبِ شُعَاعَ الْبَصِيرَةِ لِكَيْ يُذِيبَ مَا هُنَالِكَ مِنْ ثُلُوجِ الْجُمُودِ عَلَى أَقْوَالِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّبَعَ؛ عَلِمْتَ عِلْمَ مَا أَقُولُ وَاقِعًا مَشْهُودًا مَنْظُورًا مَا زَالَ مَحْفُوظًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَرَاهُ رَأْيَ الْعَيْنِ بِمَشَاهِدِهِ.
قَالَ: ((لَقَدْ عَاشَتِ الْجَزَائِرُ مُنْذُ اسْتِقْلَالِهَا عَنِ الْعَدُوِّ الْفَرَنْسِيِّ الْكَافِرِ أَيَّامَ فِتْنَةٍ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا.
* أَمَّا الدِّينُ: فَلِأَنَّ الِاسْتِعْمَارَ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا مِنْهُ سِوَى رَوَاسِبِ الشِّرْكِ، وَشَعَائِرِ الْبِدَعِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لِأَهْلِهَا (جَمْعِيَّةَ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْجَزَائِرِيِّينَ) -وَكَانَتْ عَلَى مَنْهَجِ أَهْلِ السُّنَّةِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا-؛ لَمَا بَقِيَ فِيهِمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ شِرْكٍ وَتَوْحِيدٍ، وَلَا بَيْنَ سُنَّةٍ وَبِدْعَةٍ، إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ.
* وَأَمَّا الدُّنْيَا: فَقَدْ كَانَ لِلسَّرِقَةِ أَثَرٌ مُقْلِقٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَحَاشَى أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فَضْلَ مَالٍ عَلَى نَفَقَتِهِ الْيَوْمِيَّةِ وَهُوَ يُرِيدُ امْتِطَاءَ النَّقْلِ الْجَمَاعِيِّ، وَكَانَ مِنْ غَرَائِبِ الْمَنَاظِرِ أَنْ تَرَى عَلَى الْمَرْأَةِ حِلْيَتَهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُغْتَصَبَ مِنْهَا نَهَارًا جَهَارًا.
فَمَا لَبِثَ الْأَمْرُ أَنْ تَدَيَّنَ النَّاسُ حَتَّى أَمِنُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَنَسُوا مَا كَانَ أَقْلَقَهُمْ مِنْ قَبْلُ، لَمَّا عَمِلَتْ جَمْعِيَّةُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْجَزَائِرِيِّينَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِهَا- فِي الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَيَانِ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ؛ أَصْلَحَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَجَاءَتْ أَيَّامُ رَخَاءٍ وَأَمْنٍ وَتَدَيُّنٍ قَوِيٍّ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَجُوبُ الْبِلَادَ شَرْقًا وَغَرْبًا، لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إِلَّا الذِّئْبَ، بَلْ لَا يُفَكِّرُ أَيْنَ يُؤْوِيهِ الْمَبِيتُ؛ لِأَنَّ الشَّعْبَ الْجَزَائِرِيَّ شَعْبٌ اجْتِمَاعِيٌّ مُتَكَافِلٌ، وَمَرَّ بِهِ زَمَنٌ لَا تَكَادُ تُصَادِفُ فِيهِ فَقِيرًا يَتَسَوَّلُ.
أَمَّا عَنِ الدِّينِ: فَقَدِ انْتَشَرَ فِيهَا قَبْلَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ -يَعْنِي مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِ الِاقْتِتَالِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ- التَّوْحِيدُ وَالسُّنَّةُ، وَانْحَسَرَ نَشَاطُ طَرَائِقِ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ انْحِسَارًا شَدِيدًا، وَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى خِدْرِهَا، وَوَجَدَتْ شَرَفَهَا فِي سِتْرِهَا، وَتُرِكَتِ الْخُمُورُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ، وَازْدَحَمَتِ الْمَسَاجِدُ بِأَهْلِهَا -حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِسُنَّةِ التَّوَرُّكِ فِي الصَّلَاةِ لِشِدَّةِ الزِّحَامِ فِي الْمَسَاجِدِ-، وَدَخَلَ الدِّينُ كُلَّ بَيْتٍ، وَعَضَّ الْعَدُوُّ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ.
ثُمَّ انْتَبَهَ الْعَدُوُّ، فَاسْتَفَزَّ مِنَ الشَّعْبِ أَصْلَبَهُ عُودًا، وَأَشَدَّهُ جُمُودًا، وَأَوْقَدَ نَارَ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَوْلَتِهِمْ، فَتَقَلَّصَ ظِلُّ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَحَلَّ مَحَلَّهَا خُطَبٌ نَارِيَّةٌ تَهْيِيجِيَّةٌ، حَتَّى وُلِدَ مِنْهَا مَوْلُودَانِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا سَبَقَ الْآخَرَ:
أَحَدُهُمَا: الْخُرُوجُ عَلَى الْحُكَّامِ.
وَثَانِيهُمَا: التَّكْفِيرُ.
وَالتَّكْفِيرُ وَالْخُرُوجُ رَضِيعَا لَبَانٍ وَاحِدٍ، وَرُبِّيَا فِي حِجْرٍ وَاحِدٍ، مَا حَلَّا دِيَارَ قَوْمٍ إِلَّا تَرَكَاهَا بَلَاقِعَ يَا صَاحِبِي، وَهَذَا حَقٌّ أَفَلَا تَتَّعِظُونَ؟!! أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ؟!!
يَقُولُ: وَدَخَلْنَا فِتْنَةً طَالَ مِنْهَا الْأَمَدُ، حَتَّى شَابَ مِنْهَا الْوَالِدُ وَمَا وَلَدَ، فَاسْتَحَالَ أَمْنُ الْبِلَادِ إِلَى رُعْبٍ، وَعُمْرَانُهَا إِلَى خَرْبٍ، وَبَاتَتْ مَسَاجِدُهَا الْآمِنَةُ مَسَارِحَ لِلْإِرْهَابِ، وَسَالَتْ مِنْ دِمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْهَارٌ غِزَارٌ!
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
هَذَا مَا حَدَثَ فِي الْجَزَائِرِ فَأَدَّى إِلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنْ إِسَالَةِ الدِّمَاءِ فِي الشَّوَارِعِ أَنْهَارًا، وَمَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ قَتْلٍ بِالْفُئُوسِ وَتَقْطِيعٍ لِلْأَعْضَاءِ بِالْفُئُوسِ أَمَامَ الْعَائِلَةِ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى عَائِلِهَا يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَبْيِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ، فَإِذَنْ هُنَّ سَبَايَا وَهُنَّ حَلَالٌ!!
((* فَبَدْءًا: بِالتَّهْيِيجِ السِّيَاسِيِّ عَلَى الْمَنَابِرِ بِاسْمِ التَّوْعِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ!
* وَتَثْنِيَةً: بِالتَّعْبِئَةِ الْجَمَاهِيرِيَّةِ بِاسْمِ الْـمُحَافَظَةِ عَلَى الْهُوِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ!
* وَتَثْلِيثًا: بِالْخُرُوجِ عَلَى الْحُكَّامِ بِاسْمِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ!
* وَتَرْبِيعًا: بِتَكْفِيرِ الْمُسْلِمِينَ بِاسْمِ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ!
* وَتَخْمِيسًا: بِالتَّفْجِيرَاتِ الْعَشْوَائِيَّةِ وَالْـمَجَازِرِ الْجَمَاعِيَّةِ بِاسْمِ الْجِهَادِ!!
هَذَا الَّذِي شَيَّبَ رُءُوسَ الْمُصْلِحِينَ، وَشَابَ بِكَدَرٍ عَظِيمٍ صَفَاءَ دِينِ الْمُسْلِمِينَ! حَتَّى شَوَّهَ صُورَتَهُ لَدَى أَعْدَائِهِ، بِسَبَبِ فَسَادِ تَصَرُّفِ أَدْعِيَائِهِ، وَإِنَّنِي لَأَتَعَجَّبُ كُلَّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْمٍ يُبَارِكُونَ الْفِتْنَةَ الْقَائِمَةَ فِي وَطَنِنَا الْعَزِيزِ: الْجَزَائِرِ!)) -يَقُولُ الرَّجُلُ-.
لِأَنَّ أَهْلَ الْفِتْنَةِ وَالتَّهْيِيجِ بِتِلْكَ الْخُطَبِ الْحَمَاسِيَّةِ، وَالْفَتَاوَى غَيْرِ الْمَسْئُولَةِ الَّتِي لَمْ تُبْنَ إِلَّا عَلَى الْجَهْلِ وَالتَّهَوُّرِ مِنْ أَقْوَامٍ أَحْدَاثِ الْأَسْنَانِ، لَيْسُوا بِقَعِيدِينَ فِي الْعِلْمِ، بِحَيْثُ يُسْتَفْتَوْنَ عِنْدَ حُلُولِ النَّوَازِلِ، كَانُوا يُبَارِكُونَ مَا يَحْدُثُ، وَيَقُولُونَ: إِلَى الْأَمَامِ... إِلَى الْأَمَامِ يَا رِجَالُ!!
وَالدِّمَاءُ فِي أَعْنَاقِ هَؤُلَاءِ، يَأْتُونَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
يَقُولُ: ((وَمَا هِيَ إِلَّا دِيَارُ الْمُسْلِمِينَ! تَرَكُوا حَبْلَهَا فِي اضْطِرَابٍ، وَأَبْنَاءَهَا فِي احْتِرَابٍ! وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَافِرٍ وَاضِحٍ لَزَالَ الْعَجَبُ، فَالْعَدُوُّ الْخَارِجِيُّ لَا يَأْلُونَا خَبَالًا، وَلَا يَدَّخِرُ عَنَّا وَبَالًا، تِلْكَ سُنَّةٌ مَعْلُومَةٌ.
إِلَّا أَنَّ الْمُقْلِقَ حَقِيقَةً قَابِلِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّآكُلِ الدَّاخِلِيِّ، حَتَّى كَانَتْ كَوَخْزِ الْإِبَرِ فِي الْمَضَاجِعِ!
الْخَـطْـبُ خَـطْـبٌ فَـادِحُ=وَالْعَـيْبُ عَـيْبٌ فَاضِـحُ
وَعَارُنَا فِـي النَّـاسِ لَا=تَـحْـمِـلُـهُ النَّـوَاضِحُ
ثُمَّ لَا غِنَى لِسَائِرِ الْأَقْطَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّ الْبَلَاءَ وَاحِدٌ وَالْمُسْلِمِينَ لُحْمَةٌ وَاحِدَةٌ)).
فَهَلْ وَعَى قَوْمِي؟!!
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ..
المصدر:نَصِيحَةٌ إِلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ الْحَبِيبَةِ