((الْمَوْعِظَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ))
((رَمَضَانُ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي ((السِّيَرِ)) ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ, قَالَ: ((مَنْ أَحْسَنَ فَلْيَرْجُ الثَّوَابَ، وَمَنْ أَسَاءَ فَلَا يَسْتَنْكِرِ الْجَزَاءَ، وَمَنْ أَخَذَ عِزًّا بِغَيْرِ حَقٍّ, أَوْرَثَهُ اللهُ ذُلًّا بِحَقٍّ، وَمَنْ جَمَعَ مَالًا بِظُلْمٍ، أَوْرَثَهُ اللهُ فَقْرًا بِغَيْرِ ظُلْمٍ)).
مَنْ أَحْسَنَ فَلْيَرْجُ الثَّوَابَ.. فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَحْسَنَ مِمَّنْ أَسَاءَ!! وَمَنْ أَسَاءَ فَلَا يَسْتَنْكِرِ الْجَزَاءَ!!
((رَمَضَانُ.. فُرْصَةٌ لِلْمُحَاسَبَةِ))
عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ فُرْصَةٌ؛ فُرْصَةُ الْمُرَاجَعَةِ، وَفُرْصَةُ الْمُحَاسَبَةِ لِلنَّفْسِ كَمَا فَعَلَ حَنْظَلَةُ الْأُسَيِّدِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، الْتَفَتَ فَوَجَدَ تَفَاوُتًا فِي الْحَالِ فَعَدَّهُ نِفَاقًا، فَلَقِيَهُ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟
قَالَ: أَصْبَحْتُ مُنَافِقًا!!
قَالَ: وَيْحَكَ! انْظُرْ مَا تَقُولُ.
قَالَ: تَفَاوُتٌ -يَا أَبَا بَكْرٍ- يَأْتِي إِلَى الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ بِحَالَاتٍ تَكْسِرُ الْقَلْبَ كَسْرًا، وَتَحْطِمُ الرُّوحَ حَطْمًا، نَكُونُ عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ يُحَدِّثُنَا عَنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ كَأَنَّا رَأْيَ الْعَيْنِ، كَأَنَّا نَنْظُرُ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا فِيهَا، وَنَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ، وَكَأَنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى النَّارِ وَإِلَى أَهْلِهَا فِيهَا وَكَأَنَّهُمْ فِيهَا يُعَذَّبُونَ، فَإِذَا مَا انْصَرَفَنَا إِلَى أَهْلِينَا وَضَيْعَاتِنَا وَأَزْوَاجِنَا؛ عَافَسْنَا الزَّوْجَاتِ وَالضَّيْعَاتِ وَالْأَمْوَالَ وَنَسِينَا كَثِيرًا!!
فَقَالَ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِثْلَ الَّذِي تَقُولُ .
مُحَاسَبَةٌ.. وَهِيَ بِذَاتِهَا الَّتِي جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-، قَالَ: «مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي الْجَنَّةِ، آكُلُ ثِمَارَهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا، وَأُعَانِقُ أَبْكَارَهَا، ثُمَّ مَثَّلْتُ نَفْسِي فِي النَّارِ، آكُلُ مِنْ زَقُّومِهَا، وَأَشْرَبُ مِنْ صَدِيدِهَا، وَأُعَالِجُ سَلَاسِلَهَا وَأَغْلَالَهَا؛ فَقُلْتُ لِنَفْسِي: أَيْ نَفْسِي، أَيُّ شَيْءٍ تُرِيدِينَ؟
قَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ أُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا؛ فَأَعْمَلَ صَالِحًا!!
قَالَ: قُلْتُ: فَأَنْتِ فِي الْأُمْنِيَةِ فَاعْمَلِي».
إِذْ إِنَّكِ فِي الْأُمْنِيَّةِ وَلَمْ تُغَادِرِي الدُّنْيَا بَعْدُ!!
مَثَّلْتُ لِنَفْسِي الْجَنَّةَ وَمَثَّلْتُ لِنَفْسِي النَّارَ.. فَإِذَا كَانَ وَاحِدٌ فِي النَّارِ؛ فَمَا أُمْنِيَّتُهُ؟!!
أَنْ يُرَدَّ إِلَى الدُّنْيَا؛ لِيَعْمَلَ صَالِحًا، فَيَا مَنْ لَمْ تَمُتْ بَعْدُ! أَنْتَ فِي الدُّنْيَا فَلِمَ لَا تَعْمَلُ صَالِحًا؟!!
بِهَذِهِ الْمُحَاسَبَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، وَإِلَّا فَشَهْرٌ جَاءَ وَشَهْرٌ انْصَرَمَ، وَأَيَّامٌ تَوَلَّتْ، وَلَيَالٍ قَضَتْ، ثُمَّ لَا شَيْءَ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ أَعْظَمَ إِثْمًا، وَأَكْبَرَ وِزْرًا، وَقَدْ رَغِمَ أَنْفُهُ وَصَارَ ذَلِيلًا كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ فِي تَأْمِينِهِ عَلَى دُعَاءِ جِبْرِيلَ: ((وَرَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ انْسَلَخَ عَنْهُ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ آمِين!
فَقَالَ: ((آمِين)) ﷺ .
فَهِيَ فُرْصَةٌ عَسَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُمَتِّعَنَا بِهَا فَنَبْتَهِلَهَا حَتَّى لَا نَكُونَ مِنَ النَّادِمِينَ وَلَا الْخَزَايَا الْمَحْزُونِينَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((هَلْ غَيَّرَ رَمَضَانُ فِيكَ شَيْئًا؟!!))
عِبَادَ اللهِ! قَدْ مَضَى رَمَضَانُ؛ فَمَاذَا كَانَ؟!!
لَا شَيْءَ، الَّذِي كَانَ عَاصِيًا ازْدَادَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ عِصْيَانًا، وَالَّذِي كَانَ طَائِعًا لَمْ يَتَقَدَّمْ بِالطَّاعَةِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، خُنُوعٌ وَخُضُوعٌ، وَكَسَلٌ وَإِحْبَاطٌ!!
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي؛ فَقَدِ اهْتَدَى» .
وَتَأَمَّلْ فِي ذَاتِكَ، وَدَعْ عَنْكَ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، وَلَا تَلْتَفِتْ لِأَحَدٍ؛ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ نَفْسِكَ بِنَفْسِكَ أَمَامَ رَبِّكَ -جَلَّ وَعَلَا- قَبْلَ أَنْ تُسْأَلَ عَمَّنْ تَعُولُ، أَنْتَ أَوَّلًا، أَنْتَ بِذَاتِكَ قَبْلُ، أَنْتَ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ مَسْئُولٌ عَنْ ذَاتِكَ؛ فَفَتِّشْ عَنْ ضَمِيرِكَ!!
أَتَغَيَّرَ فِيكَ شَيْءٌ؟!!
أَنْكَسَرَتْ حِدَّتُكَ بِلَفْظِكَ، وَحَرَكَةِ حَيَاتِكَ؟!!
أَوَ عَادَ الصَّخَبُ عِنْدَكَ هُدُوءًا؟!!
أَوَ صَارَ السَّفَهُ لَدَيْكَ حِلْمًا؟!!
أَوَ تَحَوَّلَ الْبُخْلُ لَدَيْكَ إِلَى سَخَاءٍ وَعَطَاءٍ؟!!
أَعَادَ النَّظَرُ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَكَ إِمْسَاكًا عَنِ الشَّهَوَاتِ؟!!
قُلْ لِنَفْسِكَ: هَلْ كَانَ أَكْلُ الْحَرَامِ الَّذِي ظَلَّ مَاضِيًا -حَتَّى فِي الشَّهْرِ-، هَلْ هَذَا الَّذِي كَانَ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ جَاءَتْهُ وَقْفَةٌ بِتُؤَدَةٍ؛ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ فِيهِ وَالتَّفْتِيشِ فِي أَطْوَائِهِ؛ لِيَضَعَ الرَّجُلُ اللُّقْمَةَ الْحَلَالَ فِي فَمِهِ وَفِي فَمِ امْرَأَتِهِ؟!!
هَلْ رَاجَعْتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ -وَقَدِ انْقَضَى- هَلْ رَاجَعْتَ فِيهِ سُبُلَ الْعَيْشِ، وَتَحْصِيلَ الْكَسْبِ؟!!
هَلْ رَاجَعْتَ فِيهِ عَدَاوَاتِكَ، وَرَاجَعْتَ فِيهِ مَوَدَّاتِكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَفْحَصَهَا بَدْءًا عَلَى ضَوْءٍ جَدِيدٍ وَفِي ضَوْئِه؟!!
هَلْ رَاجَعْتَ صِلَاتِكَ الَّتِي تَصِلُهَا، وَصِلَاتِكَ الَّتِي قَطَعْتَهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَقُولَ: هَلِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَرَاءَهَا؟!!
وَهَلِ الدَّافِعُ مِمَّا آتِي وَأَتْرُكُ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَرْضَاتِهِ؛ أَمْ أَنَّ الْأَمْرَ مَا زَالَ مَبْنِيًّا عَلَى عِبَادَةِ الْهَوَى؟!!
أَلَا إِنَّهُ مَا زَالَ مَبْنِيًّا عَلَى عِبَادَةِ الْهَوَى، وَقَلَّ مَنِ انْتَفَعَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، وَلَا جَرَمَ؛ فَإِنَّ رَبَّكَ ذُو رَحَمَاتٍ غَامِرَةٍ، وَذُو فُيُوضَاتٍ بَاهِرَةٍ، يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَعَسَى رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنْ يَغْفِرَ لَنَا أَجْمَعِينَ وَلَا يُبَالِي، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.