عُقُوبَاتٌ شَدِيدَةٌ لِقَاطِعِ الرَّحِمِ
إِنَّ الْقَطِيعَةَ لِلرَّحِمِ أَمْرُهَا عَظِيمٌ وَإِثْمُهَا كَبِيرٌ، وَالصِّلَةُ فَضْلُهَا كَبِيرٌ وَأَجْرُهَا عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ ﻷ.
*مِنْ عُقُوبَاتِ قَطْعِ الرَّحِمِ: أَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ:
فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ سُلَيْمَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ ابْنِ عَفَّانَ قَالَ: جَاءَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «أُحَرِّجُ عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ عِنْدِنَا» فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ حَتَّى قَالَ ثَلَاثًا، فَأَتَى فَتًى عَمَّةً لَهُ قَدْ صَرَمَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، مَا جَاءَ بِكَ؟
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا.
قَالَتِ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَسَلْهُ: لِمَ قَالَ ذَاكَ؟
قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ص يَقُولُ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يَقْبَلُ عَمَلَ قَاطِعِ رَحِمٍ». هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
«فَأَتَى فَتًى عَمَّةً لَهُ قَدْ صَرَمَهَا»؛ أَيْ: هَجَرَهَا وَقَطَعَ حَبْلَ وِصَالِهَا وَتَرَكَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْهِجْرَانِ؟
قَوْلُهُ ص: «تُعْرَضُ»: مَعْنَى الْعَرْضِ: الْإِظْهَارُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقْرَأُ الصُّحُفَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَرَّجَ -أَيْ: أَوْقَعَ فِي الضِّيقِ وَالْإِثْمِ- عَلَى كُلِّ قَاطِعِ رَحِمٍ لَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
*وَمِنْ الْعُقُوبَاتِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ:
1أَخْبَرَ جُبَيْرِ ابْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ». هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَأْوِيلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ قَطْعَ الرَّحِمِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا شُبْهَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا فَهَذَا كَافِرٌ مُرْتَدٌ. فَهَذَا تَأْوِيلٌ، وَهَذَا يَدْخُلُ النَّارَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ.
الثَّانِي: لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ أَوَّلَ الْأَمْرِ بَلْ يُعَاقَبُ بِتَأَخُّرِهِ الْقَدْرَ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ - تَبَارَك وَتَعَالَى- فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَانٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عَدَمَ دُخُولِ الْجَنَّةِ يُحْمَلُ تَارَةً عَلَى مَنْ يَسْتَحِلُّ الْقَطِيعَةَ -وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ- وَأُخْرَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَعَ السَّابِقِينَ.
*عُقُوبَةُ قَاطِعِ الرَّحِمِ فِي الدُّنْيَا:
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُيَيْنَةُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ». وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
«أَحْرَى»؛ أَيْ: أَجْدَرُ وَأَوْلَى.
«مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ»؛ أَيْ: مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ.
وَاشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى بَيَانِ إِثْمَيْنِ عَظِيمَيْنِ، هُمَا:
*قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ إِثْمِهِ وَحُمْكِه.
*وَالْبَغْيُ، الَّذِي هُوَ ظُلْمُ الْغَيْرِ فِي مَالِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ دَمِهِ.
وَقَطِيعَةُ الْأَرْحَامِ عَدَمُ صِلَتِهَا.
فَالْقَاطِعُ وَالْبَاغِي يَجْمَعُ اللهُ لَهُمَا بَيْنَ عُقُوبَتَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِخَطَرِ مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الذَّنْبِ، فَمَنْ قَطَعَ أَرْحَامَهُ وَبَغَى عَلَى النَّاسِ بِدُونِ حَقٍّ وَبِدُونِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، سَيَكُونُ جَزَاؤُهُ أَنْ يُعَاقِبَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَيُعَاقِبَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَكُلُّ هَذَا فِيهِ تَرْهِيبٌ عَظِيمٌ مِنَ الْوُقُوعِ فِي قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ، وَمِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبَغْيِ الَّذِي هُوَ التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ بِدُونِ حَقٍّ، بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَدِّي؛ إِمَّا بِالْوُقُوعِ فِي الْعِرْضِ؛ كَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالْكَذِبِ، وَإِمَّا بِسَفْكِ الدَّمِ كَالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ، وَإِمَّا بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَالنَّهْبِ وَالِاخْتِلَاسِ وَالْغِشِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَالْغِشِّ فِي الْعَمَلِ الْوَظِيفِيِّ، كُلُّ هَذَا يُعْتَبَرُ بَغْيًا، أَوْ شَهَادَةِ الزُّورِ عَلَى شَخْصٍ فَيُظْلَمُ، كُلُّ هَذَا مِنَ الْبَغْيِ.
وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ ص مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَبَيَّنَ بِأَنَّ الْقَاطِعَ وَالْبَاغِيَ عَلَى الْغَيْرِ عُقُوبَتُهُمَا مُعَجَّلَةٌ وَمُؤَجَّلَةٌ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْبَغْيِ الْمُشِينِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَذَابِ الْمُهِينِ.
المصدر :صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ