عَدْلُ الْإِسْلَامِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ


 ((عَدْلُ الْإِسْلَامِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ))

لَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْإِنْسَانَ مُطْلَقًا وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وَلتَفْضِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- لِبَنِي آدَمَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ؛ لِهَدَايَتِهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ, فَمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَحَمَلَ الْأَمَانَةَ؛ نَالَ هَذَا الشَّرَفَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهِ, وَمَنْ اتَّبَعَ سَبِيلَ الشَّيْطَانِ، وَاعْتَنَقَ طَرِيقَ الْغِوَايَةِ؛ خَسِرَ  هَذِهِ الْكَرَامَةَ، وَنَزَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى دَرَجَةِ الْحَضِيضِ فِي الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ, كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 55].

وَالْإِسْلَامُ حَفِظَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ حُقُوقَهُمْ مَا دَامُوا لَمْ يُنَاصِبُوا الْمُسْلِمِينَ الْعِدَاءَ, وَلَمْ يَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى؛ فَهُمْ عَلَى عَهْدِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ, كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

بَلْ أَمَرَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-:

{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)) ؛ أَيْ: النَّاسَ عُمُومًا.

وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَأَمَرَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ نُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا, وَأَبَاحَ لَنَا أَنْ نَبَرَّ وَنَصِلَ مَنْ يَصِلُنَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

فَالْإِسْلَامُ مَا جَاءَ لِقَتْلِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْخَيْرِ, وَأَمَّا الْقِتَالُ فَهُوَ عِلَاجٌ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ, لَكِنَّ الْأَصْلَ؛ الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن.

ثُمَّ إِنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ  يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْعَدْلِ وَدِينُ الرَّحْمَةِ حَتَّى مَعَ الْكُفَّارِ.

قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ ﷺ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

فَالْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ, وَقَتْلَ الشُّيُوخِ الْكِبَارِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ رَأَيٌ فِي الْقِتَالِ, وَيُحَرِّمُ قَتْلَ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ شَرُّهُمْ وَكُفْرُهُمْ قَاصِرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِمْ, وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ, وَلِهَذَا نَهَى الْإِسْلَامُ عَنْ قَتْلِهِمْ, ثُمَّ إِذَا وَقَعَ الْأَسِيرُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْسِنُوا إِلَيْهِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الانسان: 8-9].

فَإِذَا رَأَى الْأَسِيرُ هَذَا التَّعَامُلَ الطَّيِّبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبَّمَا شَرَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- صَدْرَهُ لِلْإِيمَانِ, وَذَهَبَتْ عَنْهُ الْعُنْجُهِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ قَدْ صَدَّتْهُ عَنِ الدِّينِ، فَيَدْخُلُ -بِسَبَبِ ذَلِكَ وَرَحمَةِ أَرحَمِ الرَّاحِمِينَ- فِي دِينِ اللهِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا أَحَبُّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ, أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَمِنَ الْبِلَادِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: ((عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ أَقْوَامٍ يُقَادُونَ إِلَى الجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ))، يَأسِرُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ, وَلَكِنْ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ, فَأَحْسَنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَأَجَادُوا التَّعَامُلَ مَعَهُمْ, وَأَخَذُوا يَرْفُقُونَ بِهِمْ؛ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ، وَإِدْخَالِهُمُ الْجَنَّةَ.

وَالْإِسْلَامُ يُجِيزُ الصُّلْحَ مَعَ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ, قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].

لَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ, وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْخَيْرُ لِلْكُفَّارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَكَّرُوا وَتَرَوَّوْا وَدَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ وَاقْتِنَاعٍ.

وَصَالَحَ النَّبِيُّ ﷺ الْيَهُودَ عِنْدَ قُدُومِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ, وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ وَفَوْا بِالْعَهْدِ لَوَفَى لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ, وَلَكِنَّهُمْ خَانُوا الْعَهْدَ فَأَوْقَعَ اللهُ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ.

وَإِذَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ إِمَّا بِالْعَهْدِ وَإِمَّا بِالْأَمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُحَرِّمُ التَّعَدِّي عَلَى مَالِ الْمُعَاهَدِ أَوْ عَلَى حَيَاتِهِ, فَيَكُونُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ, وَمَنْ تَعَدَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ, ((وَمَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

كَافِرٌ إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُعَاهَدٌ، فَإِنَّ اللهَ تَوَعَّدَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ, مَعَ أَنَّهُ قَتَلَ كَافِرًا!!

لَكِنَّ هَذَا الْكَافِرَ لَهُ عَهْدٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

وَيَقُولُ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].

فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ بِمُوجَبِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

 

المصدر:العدل وأثره في استقرار المجتمع

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللهُ بِهَا عَلَى الثَّقَليْنِ نِعْمَةُ الرَسُولِ ﷺ
  رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْعَالَمِ بِشَهَادَةِ الْغَرْبِيِّينَ
  مِنْ أَعْظَمِ حِكَمِ الْعِيدِ: اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ
  وَسَطِيَّةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ
  إِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ
  الحُبُّ الفِطْرِيُّ لِلْأَوْطَانِ
  الْوَفَاءُ بِعَهْدِ اللهِ وَمِيثَاقِهِ
  مَخَاطِرُ الِانْحِلَالِ الْأَخْلَاقِيِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ: الْعَمَلُ الْجَادُّ
  بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ
  وُجُوبُ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
  مَنْزِلَةُ الزَّكَاةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  نِدَاءٌ إِلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: بَيَانُ مَكَانَةِ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْإِسْلَامِ
  الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان