«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس العشرون»
«حِفْظُ اللسَانِ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«حِفْظُ اللِّسَانِ عَن البَاطِلِ وَثَمَرَاتُهُ»
فَقَد قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَن جَمِيعِ الكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَت فِيهِ المَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي المَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لأَنَّهُ قَد يَنْجَرُّ الكَلَامُ المُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَو مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي العَادَةِ وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْء».
وَعَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُت». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الحَدِيثُ صَرِيحٌ في أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَت مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ المَصْلَحَةِ، فَلَا يَتَكَلَّم.
وَقَد جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حِفْظَ اللسَانِ مَعَ حِفْظِ الفَرْجِ جَوَازًا إِلَى الجَّنَّةِ وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، فَمَنْ ضَمِنَ اللسَانَ وَالفَرْجَ؛ ضَمِنَ لَه النَّبِيُّ ﷺ الجَنَّةَ، قَالَ ﷺ: «مَنْ يَضْمِن لِي مَا بَيْنَ لِحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الجَنَّةَ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
قَالَ الحَافِظُ: «الضَّمَانُ بِمَعْنَى الوَفَاءِ بِتَرْكِ المَعْصِيَةِ، فَأَطْلَقَ الضَّمَانَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ، وَهُوَ أَدَاءُ الحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَالمَعْنَى: مَن أَدَّى الحَقَّ الَّذِي عَلَى لِسَانِهِ مِن النُّطْقِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَو الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَأَدَّى الحَقَّ الَّذِي عَلَى فَرْجِهِ مِن وَضْعِهِ فِي الحَلَالِ وَكَفِّهِ عَن الحَرَامِ، وَقَوْلُهُ لِحْيَيْهِ: هُمَا العَظْمَانِ فِي جَانِبَيْ الفَمِ، وَالمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا: اللسَانُُ وَمَا يَتَأتَّى بِهِ النُّطْقُ، وَمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ: الفَرْجُ.
وَفِي بَيَانِ أَنَّ اللسَانَ قَائِدُ الأَعْضَاءِ فِي الاسْتِقَامَةِ وَالاعْوْجِاجِ، أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو سَعِيد الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وابنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ وَكَذَا صَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَتَكْفِيرُ الأَعْضَاءِ لِلِّسَانِ كِنَايَةٌ عَن تَنْزِيلِ الأَعْضَاءِ مَنْزِلَةَ الكَافِرِ بِالنِّعَمِ.
وَقَد جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ اللِّسَانَ أَخْوَفَ مَا يَخَافُ عَلَى سُفْيَانَ بن عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَدْ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسولُ اللهِ حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ رَبِيَّ اللهُ ثُمَّ اسْتَقِم».
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَخْوَفَ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ «فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا».
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَأَوَّلُ مَذْكُورٍ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعُقْبَةَ ابن عَامِر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في بَيَانِ النَّجَاةِ، هُوَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، فَعَن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا النَّجَاةُ؟
قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ»، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ كَفَّ اللِّسَانِ عَمَّا يَسُوءُ وَلَا يُرْضِي الرَّبَّ مِلَاكَ الأُمُورِ العَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِمُعَاذَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم أَوْ قَالَ: «عَلَى مَنَاخِرِهِم إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم»، عَن مُعَاذَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِن النَّارِ.
قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَتُحَجَّ الْبَيْتَ». ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ]السجدة: 16-17[.
ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟».
قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ فَالصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ» ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟».
قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا».
قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟
فقال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم؟!». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وَابْنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: «بِمِلَاكِ»: أَيْ بِمَا يَمْلِكُ بِهِ الإِنْسَانُ ذَلِكَ كُلَّهُ، بَحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ، وَقَوْلُهُ: يَكُبُّ مِن كَبَّهُ إِذَا صَنَعَهُ، وَحَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِم: بِمَعْنَى مَحْصُودَاتِهِم، عَلَى تَشْبِيهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ المَحْصُودِ بِالمِنْجَلِ، فَكَمَا أَنَّ المِنْجَلَ يَقْطَعُ مِن غَيْرِ تَمييزٍ بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ، فَكَذَلِكَ لِسَانُ المِكْثَارِ؛ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ فَنٍّ مِنَ الكَلَامِ مِن غَيْرِ تَمييزٍ بَيْنَ مَا يَحسُنْ وَمَا يَقْبُحُ.
وَفِي إِعْرَاضِ المَرْءِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ سَمْتٌ حَسَنٌ، وَعَلَامَةٌ مِن عَلَامَاتِ حُسْنِ الإِسْلَامِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَن رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
فَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ زَمَانِهِ وَأَنَّهُ رَأْسُ مَالِهِ، لَمْ يُنْفِقْهُ إِلَّا فِي فَائِدَةٍ، ، وَهَذِهِ المَعْرِفَةُ تُوجِبُ حَبْسَ اللِّسَانِ عَن الكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي؛ لأَنَّهُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِ جَوْهَرَةٍ، فَأَخَذَ عِوَضَهَا مَدَرَةً أَوْ بَعْرَةً، وَهَذَا مِن خُسْرَانِ العُمُرِ.
«آدَابُ الْكَلَامِ»
وَأَمَّا آدَابِ الْكَلَامِ:
فَقَدْ قَالَ المَاوَرْدِيُّ: «اعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلَامِ آدَابًا إنْ أَغْفَلَهَا الْمُتَكَلِّمُ أَذْهَبَ رَوْنَقَ كَلَامِهِ، وَطَمَسَ بَهْجَةَ بَيَانِهِ، وَلَهَى النَّاسَ عَنْ مَحَاسِنِ فَضْلِهِ بِمُسَاوِئ أَدَبِهِ، فَعَدَلُوا عَنْ مَنَاقِبِهِ بِذِكْرِ مَثَالِبِهِ».
فَمِن آدَابِ الكَلَامِ: «أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ فِي مَدْحٍ وَلَا يُسْرِفَ فِي ذَمٍّ وَإِنْ كَانَتِ النَّزَاهَةُ عَنِ الذَّمِّ كَرَمًا وَالتَّجَاوُزُ فِي الْمَدْحِ مَلَقًا يَصْدُرُ عَنْ مَهَانَةٍ، وَالسَّرَفُ فِي الذَّمِّ انْتِقَامٌ يَصْدُرُ عَنْ شَرٍّ، وَكِلَاهُمَا شَيْنٌ وَإِنْ سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ».
وَحُكِيَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: «سَهِرْتُ لَيْلَتِي أُفَكِّرُ فِي كَلِمَةٍ أُرْضِي بِهَا سُلْطَانِي وَلَا أُسْخِطُ بِهَا رَبِّي فَمَا وَجَدْتهَا».
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينُهُ؛ فَيَخْرُجُ وَمَا مَعَهُ دِينُهُ. قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يُرْضِيهُ بِمَا يُسْخِطُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-».
وَسَمِعَ ابْنُ الرُّومِيِّ رَجُلًا يَصِفُ رَجُلًا وَيُبَالِغُ فِي مَدْحِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إذَا مَا وَصَفْتَ امْرَأً لِامْرِئٍ .......... فَلَا تَغْلُ فِي وَصْفِهِ وَاقْصِدْ
فَـإِنَّــك إنْ تَغْـلُ تَغْــلُ ..............الظُّنُونُ فِيهِ إلَى الْأَمَدِ الْأَبْعَدِ
فَيَضْأَلُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ ........... لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَلَى الْمَشْهَدِ
وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: «أَنْ لَا تَبْعَثَهُ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ فِي وَعْدٍ أَوْ وَعِيدٍ يَعْجِزُ عَنْهُمَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِمَا، فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ بالوَعْدٍ والوَعِيدٍ لِسَانَهُ وَأَرْسَلَ فِيهِمَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَسْتَثْقِلْ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَسْتَثْقِلُهُ مِنَ الْعَمَلِ، صَارَ وَعْدُهُ نَكْثًا وَوَعِيدُهُ عَجْزًا».
وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: «أنه إنْ قَالَ قَوْلًا حَقَّقَهُ بِفِعْلِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ صَدَّقَهُ بعَمِلَهُ، فَإِنَّ إرْسَالَ الْقَوْلِ اخْتِيَارٌ، وَإِنَّ الْعَمَلَ بِهِ اضْطِرَارٌ، وَلَئِنْ يَفْعَلَ مَا لَمْ يَقُلْ أَجْمَلُ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَفْعَلْ».
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: أَحْسَنُ الْكَلَامِ مَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَلَامِ؛ أَيْ يُكْتَفِي بِالْفِعْلِ فيه مِنْ الْقَوْلِ. الْقَوْلُ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ، وَالْفِعْلُ مَا وَكَّدَهُ الْعَقْلُ، لَا يَثْبُتُ الْقَوْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِلُّهُ مِنْ تَحْتِهِ الْأَصْلُ.
وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَنْ يُرَاعِيَ مَخَارِجَ كَلَامِهِ بِحَسَبِ مَقَاصِدِهِ وَأَغْرَاضِهِ، فَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا قَرَنَهُ بِاللِّينِ وَاللُّطْفِ، وَإِنْ كَانَ تَرْهِيبًا خَلَطَهُ بِالْخُشُونَةِ وَالْعُنْفِ.
فَإِنَّ لِينَ اللَّفْظِ فِي التَّرْهِيبِ وَخُشُونَتُهُ فِي التَّرْغِيبِ خُرُوجٌ عَنْ مَوْضِعِهِمَا وَتَعْطِيلٌ لِلْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَيَصِيرُ الْكَلَامُ لَغْوًا وَالْغَرَضُ الْمَقْصُودُ لَهْوًا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ لِابْنِهِ: «يَا بُنَيَّ إنْ كُنْت فِي قَوْمٍ فَلَا تَتَكَلَّمْ بِكَلَامِ مَنْ هُوَ فَوْقَك فَيَمْقُتُوك، وَلَا بِكَلَامِ مَنْ هُوَ دُونَك فَيَزْدَرُوك».
وَمِنْ آدَابِ الْكَلَامِ: أَنْ لَا يَرْفَعَ بِكَلَامِهِ صَوْتًا مُسْتْكَرهًا وَلَا يَنْزَعِجَ لَهُ انْزِعَاجًا مُسْتَهْجَنًا، وَلْيَكُفَّ عَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ طَيْشًا وَعَنْ حَرَكَةٍ تَكُونُ عِيًّا، فَإِنَّ نَقْصَ الطَّيْشِ أَكْثَرُ مِنْ فَضْلِ الْبَلَاغَةِ.
وَقَدْ رُوي أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: أَخَطِيبٌ أَنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ لَوْلَا أَنَّك تُكْثِرُ الرَّدَّ، وَتُشِيرُ بِالْيَدِ، وَتَقُولُ أَمَّا بَعْدُ.
وَمِنْ آدَابِهِ: أَنْ يَتَجَافَى هجرَ الْقَوْلِ وَمُسْتَقْبَحَ الْكَلَامِ، وَلْيَعْدِلْ إلَى الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَقْبَحُ صَرِيحُهُ وَيُسْتَهْجَنُ فَصِيحُهُ؛ ولِيَبْلُغَ الْغَرَضَ وَلِسَانُهُ نَزِهٌ وَأَدَبُهُ مَصُونٌ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]، قَالَ: كَانُوا إذَا ذَكَرُوا الْفُرُوجَ كَنَّوْا عَنْهَا، وَكَمَا أَنَّهُ يَصُونُ لِسَانَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَهَكَذَا يَصُونُ عَنْهُ سَمْعَهُ، فَلَا يَسْمَعُ خَنَا وَلَا يُصْغِي إلَى فُحْشٍ، فَإِنَّ سَمَاعَ الْفُحْشِ دَاعٍ إلَى إظْهَارِهِ، وَذَرِيعَةٌ إلَى إنْكَارِهِ، وَإِذَا وَجَدَ عَنِ الْفُحْشِ مُعْرِضًا كَفَّ قَائِلُ الْفُحْشِ وَكَانَ إعْرَاضُهُ أَحَدَ النَّكِيرَيْنِ، كَمَا أَنَّ سَمَاعَهُ أَحَدُ الْبَاعِثَيْنِ.
وَقد أَنْشَدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيُّ :
تَحَـرَّ مِــنْ الطُّــرُقِ أَوْسَاطَهَـا *** وَعُدْ عَـنِ الْمَوْضِـعِ الْمُشْـتَبِهْ
وَسَمْعَك صُنْ عَنْ قَبِيحِ الْكَلَامِ *** كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهِ
فَإِنَّك عِنْدَ اسْتِــمَاعِ الْقَـبِيحِ *** شَرِيــكٌ لِقَائِلِــهِ فَانْتَبِـــهْ
وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى فُحْشِ الْقَوْلِ وَهُجْرِهِ وفِي وُجُوبِ اجْتِنَابِهِ، وَلُزُومِ تَنَكُّبِهِ، مَا كَانَ شَنِيعَ الْبَدِيهَةِ مُسْتَنْكَرَ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ عَقِبَ التَّأَمُّلِ سَلِيمًا، وَبَعْدَ الْكَشْفِ وَالرَّوِيَّةِ مُسْتَقِيمًا.
«آفَاتُ اللِّسَانِ»
وَآفَاتُ اللِّسَانِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَلَهَا فِي القُلُوبِ حَلَاوَةٌ، وَلَهَا بَوَاعِثُ مِن الطَّبْعِ، وَلَا نَجَاةَ مِن خَطَرِهَا إِلَّا بِالصَّمْتِ، وَالصَّمْتُ يَجْمَعُ الهِمَّةَ وَيُفرِّغُ الفِكْرَ.
وَفِي الحَدِيثِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنُ لِي مَا بَيْنَ لِحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الجَنَّةَ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَر، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي «المُسْنَدِ»، وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ».
وَقَد قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا شَيْءٌ أَحْوَجُ إِلَى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ».
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنْصِفْ أُذُنَيْكَ مِنْ فِيكَ، فَإِنَّمَا جُعِلَت لَكَ أُذُنَانِ وَفَمٌ وَاحِدٌ؛ لِتَسْمَعَ أَكْثَرَ مِمَّا تَتَكَلَّمُ بِهِ».
وَقَالَ الحُسَيْنُ بْنُ مَخْلدٍ: «مَا تَكَلَّمْتُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةٍ بِكَلِمَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَعْتَذِرَ عَنْهَا».
مِن آفَاتِ اللِّسَانِ: الشِّرْكُ بِاللهِ:
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مَعْصِيَةُ النُّطْقِ يَدْخُلُ فِيهَا الشِّرْكُ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيَدْخُلُ فِيهَا القَوْلُ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَهُوَ قَرِينُ الشِّرْكِ».
فَإِنَّ آفَاتِ الكَلَامِ مَا تَزَالُ تَخْبِطُ فِي دَرَكَاتِ البَاطِنِ حَتَّى تَسْتَوِي عَلَى حَمْئَةِ القَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، وَلَم يُبِحِ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ، وَلَا أَنْ يُسْنِدَ لَهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ، بَلْ قَالَ عَنْ صَفِّيِّهِ وَخَلِيلِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ ]الحاقة: 45-47.[
وَحَرَّمَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- القَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ تَحْرِيمًا صَرِيحًا، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنْوَاعَ المُحَرَّمَاتِ وَبَعْضُهَا أَغْلَظُ مِن بَعْضٍ: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ]الأعراف: 33[.
قَالَ الإِمَامُ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «القَوْلُ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ هُوَ أَشَدُّ هَذِهِ المُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا إِثْمًا وَتَجْرِيمًا».
وِلِهَذَا ذُكِرَ فِي المَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ مِن المُحَرَّمَاتِ، الَّتِي اتَّفَقَت عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ وَالأَدْيَانُ، وَلَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ لَا تَكُونُ إِلَّا مُحَرَّمَةً وَلَيْسَت كَالمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الخِنْزِيرِ الَّذِي يُبَاحُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ.
وَقَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ]النحل:16-17[. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِم سُبْحَانَهُ بِالوَعِيدِ عَلَى الكَذِبِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، وَقَوْلِهِم لِمَا لَم يُحَرِّمْهُ؛ هَذَا حَرَامٌ وَلِمَا لَمْ يُحِلُّهُ؛ هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلعَبْدِ أَنْ يَقُولَ هَذَا حَلَالَ وَهَذَا حَرَامٌ إِلَّا بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ.
«جُمْلَةٌ مِن الأَخْلَاقِ الحَمِيدَةِ المُتَعَلِّقَةِ باللِّسَانِ»
*كن صادِقًا:
إنَّ الصِّدْقَ عَزِيزٌ، وَعَوِّد نَفْسَكَ الصِّدْقَ، فإنَّهُ يحتاجُ إلى تَعْوِيدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَأَمْسِكْ لِسَانَكَ عَن اللغْوِ، حَتَّى لا يَجُرَّكَ اللغْوُ إلى هذا الكَذِبِ المُسْتَقْبَحِ، واعْلَم أنَّ الكَذِبَ لا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ ذي المُرُوءَةِ، وأنَّهُ لو نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ السماءِ والأَرْضِ أَنَّ الكَذِبَ حَلَالٌ مَا فَعَلْتُهُ؛ لِتَمَامِ مُرُوءَتِهِ وكَمَالِ رجولتِهِ؛ لأنَّ الكَذِبَ يُزْرِي به، وَيَحُطُّ مِن قَدْرِهِ، وَيُحَقِّرُ مِن شَأْنِهِ.
*أَمْسِك لِسَانَكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ:
قَالَ النوويُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَم أنهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عن جميعِ الكلامِ؛ إلا كلامًا ظَهَرَت فيه المَصْلَحَةُ، ومَتَى اسْتَوَى الكلامُ وتَرْكُهُ في المَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الإمْسَاكُ عنه؛ لأنَّهُ قد يَنْجَرُّ الكلامُ المُبَاحُ إلى حَرَامٍ أو مَكْرُوهٍ، وذلك كَثِيرٌ في العادةِ، والسَّلَامَةُ لا يَعْدِلُهَا شَيْء».
وعن أبي هُريرة-رضي اللهُ عنه- عن النبيِّ ﷺ قال: «مَن كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْم الآخر فَليَقُل خَيْرًا، أو ليَصْمُت». متفقٌ عليه.
وهذا الحديثُ صريحٌ في أنهُ يَنْبَغِي أنْ لا يُتَكَلَّمَ إلَّا إذا كان الكلامُ خيرًا، وهو الذي ظَهَرَت مصلحتُهُ، ومتى شَكَّ في ظهورِ المَصْلَحَةِ، فَلَا يَتَكَلَّم، وقد جَعَلَ النبيُّ ﷺ حِفْظَ اللسانِ مع حِفْظِ الفَرْجِ جَوَازًا إلى الجَنَّةِ ونَجَاةً مِن النَّارِ، فَمَن ضَمِنَ اللسَانَ والفَرْجَ؛ ضَمِنَ له النبيُّ ﷺ الجَنَّةَ، قَالَ ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ». رواهُ البُخَاريُّ.
*مِن أعْظَمِ آفَاتِ اللسَانِ: الكلامُ فيما لا يَعني:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ». أخرجَهُ الترمذيُّ، وابن ماجَه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأخرجه أحمد، والطبرانيُّ في «الكبير» عن الحسين بن علي -رضي الله عنهما-، وصححه الألبانيُّ في «صحيحِ الجامع» وغيرُه.
وهذا الحديثُ العظيم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» أصلٌ كبيرٌ في تأديبِ النَّفْسِ وتهذيبِهَا، وَتَرْكِ ما لا جَدْوَى فيه ولا نَفْع.
قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: «هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ مِن أصولِ الأدبِ، وقد حَكَى الإمامُ أبو عمرو بن الصلاح عن أبي مُحمد بن أبي زيد -إمامِ المالكية في زَمَانِهِ- أنه قال: جِماعُ آدابِ الخيرِ وأزِمَّتُه تَتَفَرَّعُ مِن أربعةِ أحاديث:
1*قولُ النبيِّ ﷺ: «مَن كانَ يُؤمَنُ باللهِ واليوم الآخر فَلْيَقُل خَيْرًا أو ليَصْمُت».
2*وقولُهُ ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ».
3*وقولُهُ ﷺ للذي اخَتْصَرَ له الوَصِيَّةَ: «لَا تَغْضَبْ».
4*وقولُهُ ﷺ: «المُؤمِنُ يُحِبُّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
«فَلْنَتَّقِ اللهَ فِي أَلْسِنَتِنَا»
«فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي أَلْسِنَتِنَا، وَلْنَعْلَم أَنَّ الغِيبَةَ مِن حُقُوقِ العِبَادِ، يَعْنِي لَنْ تَتُوبَ مِنْهَا إِلَّا إِذَا أَحَلَّكَ مَنْ اغْتَبْتَهُ، تَوَرَّطْتَ؛ لأَنَّكَ إِذَا تُبْتَ إِلَى اللهِ؛ فَكَفَفْتَ عَنِ الغِيبَةِ، وَعَزَمْتَ عَلَى أَلَّا تَعُودَ وَنَدِمْتَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؛ لَا تَصِحُّ تَوْبَتُكَ، إِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ العِبَادِ حَتَّى تُؤدِّيَ الحُقُوقَ إِلَى أَصْحَابِهَا.
هَل تَذْهَب إِلَى مَنِ اغْتَبْتَهُ؛ لِتَقُولَ: اغْتَبْتُكَ، فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ؟ سَيَقُولُ لَكَ: مَاذَا قُلْتَ؟ فَإِنْ قُلْتَ؛ دَارَت المَعْرَكَةُ وَرُبَّمَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ، وَإِنْ لَم تَقُل؛ قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا أُسَامِحْكَ حَتَّى نَمْثُلَ بَيْنَ يَدَيْ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
لِمَاذَا تُوَرِّطُ نَفْسَكَ؟!
قَالَ الحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: «لَو كُنْتُ مُغْتَابًا أَحَدًا؛ لَاغْتَبْتُ أَبَوَيَّ، هُمَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِي».
مَا دُمْتَ تُوَزِّعُ الحَسَنَاتِ!!
مَا دُمْتَ تُوَزِّعُ الحَسَنَاتِ، فَأَبَوَاكَ أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ.
وَمِنَ السَّفَهِ العَقْلِيِّ وَالفَسَادِ الفِكْرِيِّ وَالخَلَلِ النَّفْسِيِّ؛ أَنْ يَقَعَ المَرْءُ فِي الغِيبَةِ،؛ لأَنَّهُ لَن يَغْتَابَ إِلَّا مَن يُبْغِضُهُ، لَن يَغْتَابَ إِلَّا مَن يَكْرَهُهُ، فَأَنْتَ تُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِكَ، تَجْعَلُ رَقَبَتَكَ فِي يَدِهِ، وَهُوَ لَكَ عَدُوٌّ، وَهُوَ لَكَ مُبْغِضٌ وَأَنْتَ لَهُ كَذَلِكَ، هَلْ هَذَا مِنَ العَقْلِ فِي شَيْءٍ؟!
اتَّقُوا اللهَ مَعْشَرَ المسْلِمِينَ، وَأَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُم.
وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ أَلْسِنَتَنَا مِن كلِّ سُوءٍ، وَقُلُوبَنَا مِن كُلِّ وَارِدِ شَرٍّ، وَأَنْ يَغْفِرَ لِأَمْوَاتِنَا وَأَمْوَاتِ المُسْلِمِينَ.
اللهم اغْفِر لِأَمْوَاتِنَا وَأَمْوَاتِ المُسْلِمِينَ، وَارْحَمْنَا وَارْحَم أَمْوَاتَنَا وَأَمْوَاتَ المُسْلِمِينَ
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ