((سُوءُ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا))
*مِنْ عَاقِبَةِ كَسْبِ الْمَالِ الْحَرَامِ فِي الدُّنْيَا: مَحْقُ بَرَكَتِهِ وَضَيَاعُهُ:
إِنَّ النَّاسَ حَتَّى إِذَا مَا تَحَلَّلُوا مِنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَانْطَلَقَتْ أَيْدِيهِمْ فِي ثَرْوَاتِ النَّاسِ وَفِي أَمْوَالِهِمْ تَعِيثُ فِيهَا فَسَادًا، وَتَكْسِبُ حَرَامًا، وَتُحَصِّلُ إِثْمًا وَسُحْتًا، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ الْأَمِينَ ﷺ يُرِي النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ آيَاتٍ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُبَارِكُ فِي الْحَرَامِ، وَآكِلُ الْحَرَامِ كَشَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، لَا يُرْوَى أَبَدًا، كَالْإِبِلِ الْهِيمِ -وَهِيَ الَّتِي فِي أَجْوَافِهَا دَاءٌ مَا تَزَالُ تَشْرَبُ وَتَشْرَبُ بِلَا وَعْيٍ حَتَّى تَنْقَضَّ مَعِدَاتُهَا مِمَّا تَشْرَبُ، لَا تَعِي وَلَا تُدْرِكُ-.
تَشْرَبُ شُرْبَ الْهِيمِ مَتَى مَا أَخَذْتَ الْحَرَامَ، وَالدِّرْهَمُ الْحَرَامُ مَتَى دَخَلَ عَلَى الْحَلَالِ أَفْسَدَهُ، تَمَامًا كَقَطْرَةِ الدَّمِ تُخَالِطُ كُوبَ الْمَاءِ أَوْ كُوبَ اللَّبَنِ الْبَارِدِ الْعَذْبِ الَّذِي تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَلَكِنَّ قَطْرَةَ الْبَوْلِ إِذَا مَا خَالَطَتْهُ أَفْسَدَتْهُ، تَعَافُهُ النَّفْسُ وَلَا تُقْبِلُ عَلَيْهِ.
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَرْبِيُّ فِي ((غَرِيبِهِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ نَاصِرٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فَتَجِدُهُ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)): ((أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ خَمْرًا عَلَى سَفِينَةٍ، فَكَانَ يَشُوبُ خَمْرَهُ بِالْمَاءِ -يَغُشُّ الْحَرَامَ، كَانَ يَغُشُّ الْخَمْرَ- يَبِيعُ خَمْرًا عَلَى سَفِينَةٍ، فَكَانَ يَشُوبُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ، فَجَمَعَ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَ مَعَهُ قِرْدٌ فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ خَطْفًا، وَصَعِدَ الدَّقَلَ -وَهُوَ تِلْكَ الْخَشَبَةُ الَّتِي يُنْشَرُ عَلَيْهَا الشِّرَاعُ، يَقُولُ عَنْهَا أَهْلُ الْبَحَرِيَّةِ الصَّارِي-.
أَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ بِدَنَانِيرِ الرَّجُلِ، وَصَعِدَ الدَّقَلَ، فَكَانَ فِي أَعْلَاهُ الْآنَ هُوَ بَيْنَ الرِّيحِ وَالْمَاءِ وَالسَّمَاءِ، وَالْكِيسُ فِي يَدِهِ، وَهُوَ قِرْدٌ وَابْنُ قِرْدٍ، فَمَاذَا يَكُونُ؟
لَوْ أَنَّهُ أَلْقَى الْكِيسَ جُمْلَةً فِي الْمَاءِ، فَأَخْرِجْهُ إِنِ اسْتَطَعْتَ.
وَلَكِنْ انْظُرْ! بِمَاذَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ قَالَ: ((فَفَتَحَ الْكِيسَ، فَأَخَذَ دِينَارًا رَمَاهُ بِالْبَحْرِ، وَآخَرُ رَمَاهُ عَلَى السَّفِينَةِ، وَظَلَّ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ الْكِيسُ)). فَأَعَادَ مَا كَانَ مَغْشُوشًا إِلَى أَصْلِهِ، وَأَعَادَ لِلرَّجُلِ ثَمَنَ خَمْرِهِ.
كَانَ يَشُوبُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ، فَأَخَذَ الْكِيسَ، فَكَانَ يُلْقِي دِينَارًا فِي الْمَاءِ، وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ حَتَى فَرَغَ الْكِيسُ، فَنَزَلَ.
هَذِهِ الْخَمْرُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، ذَمَّ النَّبِيُّ ﷺ شَوْبَهَا أَيْ غِشَّهَا، وَلَمْ يَذُمَّ بَيْعَهَا، لِمَ؟
لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فِي شَرِيعَةِ هَذَا الرَّجُلِ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ تُحَرَّمْ فِي شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَوَّلَ الْأَمْرِ, بْلْ كَانَتْ تُبَاعُ وَتْشْتَرَى وَتُشْرَبُ، ثُمَّ ذَمَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَمْرَ فِي أَصْلِهَا, ثُمَّ حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدُ ذَلِكَ أَنْ يَقْرَبَ الْمَرْءُ الصَّلَاةَ سَكْرَانًا، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ حَرَّمَهَا تَحْرِيمًا جَازِمًا، وَلَعَنَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا عَشْرَةً بِلَعْنَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَفِي بَدْءِ الْأَمْرِ كَانَ غِشُّ الْخَمْرِ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ مُحَرَّمًا، وَكَانَ شُرْبُهَا غَيْرَ حَرَامٍ حَتَّى حُرِّمَتْ.
فَهَذَا هَذَا؛ فَلَا تَسْتَهْوِلَنَّهُ فِي الْحَدِيثِ.
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا كَانَ مُلْتَوِيَ السَّرِيرَةِ، إِذَا كَانَ مُعْوَجَّ الضَّمِيرِ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِيمٍ فِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِ، وَفِي نَظَرِهِ إِلَى الْحَيَاةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنْ مُعْتَقَدِهِ فِي قَلْبِهِ وَيَقِينِهِ فِي فُؤَادِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي شَيْءٍ.
لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الْبَرَكَةَ فِي اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ﷺ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْهَلَاكَ وَالدَّمَارَ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
*مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا: عَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ:
النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ.. يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له؟!!».
هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ الصَّحِيحُ يُرَكِّزُ عَلَى أَصْلٍ خَطِيرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ، وَيُحَذِّرُ مِنْ خُطُورَةِ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَيَجْعَلُ الرَّبْطَ مُبَاشِرٍ بَيْنَ أَكْلِ الْحَلالِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ، وَيُبَيِّنَ أَنَّ أَعْظَمَ قَوَاطِعِ الدُّعَاءِ وَمَوَانِعِهِ هُوَ: أَكْلُ الْحَرَامِ.
فِي الْأَثَرِ: ((أَنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَرَّ بِرَجُلٍ قَائِمٍ يَدْعُو اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- يَمُدُّ يَدَيْهِ يُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ زَمَانًا طَوِيلًا، فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ، أَمَا اسْتَجَبْتَ لَهُ يَا رَبُّ)).
فَأَوْحَى اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: «إِنَّ هَذَا لَوْ تَلَفَتْ نَفْسُهُ فِي الدُّعَاءِ وَمَدَّ يَدَيِهِ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ».
فَقَالَ: ((وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَبُّ؟))
قَالَ: «إِنَّ فِي بَطْنِهِ الْحَرَامُ، وَعَلَى ظَهْرِهِ، وَفِي بَيتِهِ الحَرَامُ».
أَكْلُ الْحَرَامِ يُثْمِرُ هَذَا الثَّمَرَ الخَبِيثَ، وَهُوَ قَطْعُ الدُّعَاءِ؛ فَلَا اسْتِجَابَةَ، وَلَوْ ظَلَّ يَدْعُو حَتَّى تَفْنَى نَفْسُهُ في الدُّعَاءِ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَى السَّحَابِ، إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ وَهُوَ يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، فِي بَطْنِهِ الْحَرَامُ، وَعَلى ظَهْرِهِ الْحَرَامُ، يُكْسَى مِنَ الْحَرَامِ، وَفِي بَيْتِهِ الْحَرَامُ، لَا يُسْتَجَابُ لَهُ.
*مِنْ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا: الْخَشْيَةُ مِنْ فَسَادِ الذُّرِّيَّةِ، وَانْفِلَاتِ الْأَوْلَادِ:
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَحَرُّونَ حَلَالًا مِنْ حَرَامٍ فَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ الْهُمَامُ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مِنْ حَرَامٍ أَخَذَ أَمْ مِنْ حَلَالٍ».
يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ حَرَامٍ، فَتَتَخَلَّقُ نُطْفَتُهُ مِنْ حَرَامٍ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ حَرَامٍ، فَتَتَخَلَّقُ بُوَيْضَتُهَا مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تَتَغَذَّى الْمَرْأَةُ عَلَى حَرَامٍ، فَيَدُورُ الدَّمُ بِالْغِذَاءِ إِلَى الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ، يُغَذِّي الْجَنِينَ مِنْ حَرَامٍ، ثُمَّ تُرْضِعُ الْوَلِيدَ اللَّبَنَ الْحَرَامَ، ثُمَّ يطعم بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْحَرَامِ، ثُمَّ تَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ نَجَابَةَ الْوَلَدِ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، دُونَ ذَلِكَ خَرْطُ الْقَتَادِ!!
لَا تَعْجَبَنَّ مِمَّا يَحْدُثُ لِتِلْكَ الْأَجْيَالِ الَّتِي قَدْ انْفَلَتَتْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-، فَإِنَّمَا هِيَ مِمَّنْ خُلِّقَ مِنْ حَرَامٍ، وَمِمَّنْ غُذِّيَ بِالْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَرَّعُ وَلَاةُ أُمُورِهِمْ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا يَتَوَقُّونَ وَلَا يَتَحَرُّونَ الْحَلَالَ الصِّرْفَ الْمَحْضَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ، أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً».
يَعْنِي فِي الْإِثْمِ، لَوْ وَقَعَ الْمَرْءُ فِي الزِّنَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً لَكَانَ أَهْوَنَ وَأَقَلَّ إِثْمًا مِنْ دِرْهَمِ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حُوبًا»: أَيْ إِثْمًا، وَفِي رِوَايَةٍ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بابًا أَدْنَاهَا -أَدْنَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا- مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ».
أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ أَعَلى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا؛ لِأَنَّ أعَلَى دَرَجَةٍ فِي الزِّنَا هِيَ زِنَا الْمَحَارِمِ، وَأَعَلى دَرَجَةٍ فِي زِنَا الْمَحَارِمِ أَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِأُمِّهِ، وَأَعَلَى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا هِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعُونَ، فَإِذَا كَانَتْ أَقَلُّ دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ هِيَ مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، فَكَيْفَ بِأَعَلى دَرَجَةٍ فِي الرِّبَا؟!!
لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ حَلَالٍ، لَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَتَوَرَّعُ الْمَرْءُ وَلَا يُمْسِكُ عَنِ الْحَرَامِ!! فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟!! أَعْظَمُ بَابٍ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، بَلْ لَا يَتَأَتَّى الْإِيمَانُ وَالْيَقِينُ لِلْعَبْدِ إِلَّا مِنْ خِلَالِهِ، وَلَا يَنْفُذُ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا مِنْ بَابِهِ، أَكْبَرُ أَمْرٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ.
*سُوءِ عَاقِبَةِ بَابٍ مِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ أَكْلِ السُّحْتِ وَهُوَ الرِّبَا فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ:
لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الْأَمْثَالَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شُؤْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَعَلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ الْأَكْرَمِ ﷺ.
وَلِلْمَعْصِيَةِ آثَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا فِي حَالِ الْإِنْسَانِ، وَفِي كَوْنِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَفِي بَرْزَخِهِ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ إِلَى أَنْ تَقُومَ قِيَامَتُهُ.
وَفِي الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِهَا عِنْدَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
لَوْ أَخَذْتَ عَلَى ذَلِكَ مِثَالًا مَا ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَثَرِ مَعْصِيَةِ الرِّبَا، وَالِاجْتَرَاءِ عَلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الْعَظِيمِ، وَأَثَرِهِ الْفَاعِلِ الْفَعَّالِ فِي الْخَلْقِ مِمَّنْ تَوَرَّطُوا فِيهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ؛ لَكَفَاكَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البَقَرَة: 279].
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ إِنْسَانًا دَخَلَ حَرْبًا مَعَ مَالِكِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ!!
مَعَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ!!
مَعَ الْخَلَّاقِ الْعَظِيمِ الَّذِي أَمْرُهُ بَعْدَ الْكَافِ وَالنُّونِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ.
لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ أَثَرَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَثَرَهَا فِي الْفَرْدِ وَفِي الْمُجْتَمَعِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَفِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ رَبِّكَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279].
وَالَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحَرْبِ مَعَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَمَعَ رَسُولِهِ ﷺ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اضْطِرَابَ نَفْسِهِ، وَقَلَقَ قَلْبِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْرَارِ حَيَاتِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ اخْتِلَافَ قَلْبِهِ عَلَيْهِ، وَتَمَرُّدَ ذَاتِهِ عَلَى وُجُودِهِ، لَكَ أَنْ تَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ كَالرِّيشَةِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ اسْتِقْرَارٍ، وَلَا قَرَارٍ يَقَرُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ اطْمِئْنَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي حَرْبٍ مَعَ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ، هَذَا فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ: فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ الرَّسُولِ ﷺ -وَهُوَ فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) -رَحِمَهُ اللهُ- : ((رَأَى النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَمَا أَتَاهُ آتِيَانِ فَأَخَذَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَرَأَى رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ.
وَرَأَى رَجُلًا يَقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ، وَعِنْدَهُ حِجَارَةٌ، فَيَسْبَحُ السَّابِحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَعْنِي يَفْتَحُ فَمَهُ إِلَى آخِرِهِ- عِنْدَ ذَلِكَ الْوَاقِفِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الدِّمَاءِ هَذَا، فَيَأْخُذُ الرَّجُلُ الْوَاقِفُ عَلَى الشَّاطِئِ حَجَرًا مِنَ الْحِجَارَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، فَيَجْعَلُهَا فِي فَمِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا -يَأْخُذُ هَذَا الْحَجَرَ فِي فَمِهِ-، ثُمَّ يَسْبَحُ فِي نَهْرِ الدَّمِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْبَحَ، ثُمَّ يَعُودُ، فَيَفْغَرُ فَاهُ -يَفْتَحُ فَمَهُ- فَيُلْقَمُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَرًا، يَظَلُّ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ السَّاعَةَ)). فَهَذَا عِقَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ.
وَأَمَّا فِي الْقِيَامَةِ: فَإِنَّهُ كَمَا وَصَفَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ يُوفِضُونَ -يَنْطَلِقُونَ مُسْرِعِينَ-، وَأَمَّا هَذَا -أَيْ آكِلُ الرِّبَا- فَلَا يَقُومُ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ؛ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((إِنَّ آكِلَ الرِّبَا يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ)) .
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحَديد: 20]. -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.
إِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ فِي النَّاسِ حُبَّ الذَّاتِ، فَلَا يَعْرِفُ الْمَرْءُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يُهِمُّهُ إِلَّا مَصْلَحَتُهُ وَمَنْفَعَتُهُ، وَبِذَلِكَ تَنْعَدِمُ رُوحُ التَّضْحِيَةِ وَالْإِيثَارِ، وَتَنْعَدِمُ مَعَانِي حُبِّ الْخَيْرِ لِلْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَتَحُلُّ مَحَلَّهَا رُوحُ حُبِّ الذَّاتِ، وَالْأَثَرَةُ، وَالْأَنَانِيَةُ، وَتَتَلَاشَى الرَّوَابِطُ الْأَخَوِيَّةُ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الْإِنْسَانِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ الرِّبَا يُوَلِّدُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغَضَاءَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَيَدْعُو إِلَى تَفْكِيكِ الرَّوَابِطِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالِاجْتَمَاعِيَّةِ بَيْنَ طَبَقَاتِ النَّاسِ، وَيَقْضِي عَلَى كُلِّ مَظَاهِرِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالْإِحْسَانِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ.
المصدر: أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ