((الْمَوْعِظَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ))
((رَمَضَانُ مَدْرَسَةُ تَعْلِيمٍ وَتَهْذِيبٍ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
((رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ لِتَعَلُّمِ الطَّاعَاتِ))
فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ عَلَّمَ الْأُمَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَيْفَ تَكُونُ عَابِدَةً للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَصَارَ الشَّهْرُ مَدْرَسَةً لِتَعَلُّمِ الطَّاعَاتِ، وَالْإِقْبَالِ عَلى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَطَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ مَدْرَسَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَعْبُدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَكَيْفَ نُحَصِّلُ التَّقْوَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فَأَنْتُمْ تُحَصِّلُونَ التَّقْوَى بِصِيَامِكُمْ لِرَبِّكُمْ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَى صَائِمًا وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ مُفْطِرٌ، آتٍ بِكُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الصِّيَامِ عَلَيهِ.
وَلَكِنْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِهِ سِوَى اللهِ، وَهُوَ يُرَاقِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ.
فِي السِّرِّ بِأَلَّا يَفْسَخَ نِيَّةَ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَخَ النِّيَّةَ، وَلَوْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَلَمْ يَأْتِ بِمُفَطِّرٍ؛ فَقَدْ أَفْطَرَ، فَهَذَا سِرٌّ بَاطِنٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيهِ إِلَّا اللهُ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى نِيَّةِ الصِّيَامِ لَا يَفْسَخُهَا.
ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ بَعِيدٌ عَنْ كُلِّ مَا يُفْطِرُ، فِي الجَلْوَةِ كَمَا هُوَ فِي الخَلْوَةِ، فِي السِّرِّ كَمَا هُوَ فِي الْعَلَنِ، وَالَّذِي يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَالصِّيَامُ يُعَلِّمُنَا التَّقْوَى، وَشَهْرُ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ؛ يَتَعَلَّمُ الْإِنْسَانُ فِيهَا كَيْفَ يَكُونُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُحَصِّلًا لِلتَّقْوَى.
ثُمَّ هُوَ مَدْرَسَةٌ يَتَعَلَّمُ المَرْءُ فِيهَا كَيْفَ يُصَلِّي للهِ، وَكَيْفَ يَقُومُ اللَّيْلَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ قِيَامَ اللَّيْلِ شَرَفَ المُؤْمِنِ .
((شَهْرُ رَمَضَانَ يُعَلِّمُنَا تَحْقِيقَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّقْوَى))
كَيْفَ نُحَقِّقُ الْإِخْلَاصَ وَالتَّقْوَى؟
شَهْرُ رَمَضَانَ يُعَلِّمُنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أُصُولَ الْعِبَادَةِ: كَيْفَ نُخْلِصُ الْأَعْمَالَ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، كَيْفَ نُحَصِّلُ التَّقْوَى؟
وَالتَّقْوَى فِي أَجْمَعِ التَّعْرِيفَاتِ هِيَ: فِعْلُ المَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ المَنْهِيَّاتِ، أَنْ تَفْعَلَ مَا بِهِ أُمِرْتَ، وَأَنْ تَكُفَّ عَمَّا عَنْهُ نُهِيتَ.
فَهَذِهِ هِيَ التَّقْوَى، وَهَذَا مِنْ أَجْمَعِ مَا يَكُونُ، فَإِنْ فَعَلْتَهُ؛ فَقَدِ اسْتَوَى ظَاهِرُكَ وَبَاطِنُكَ، وَكَانَ لَكَ مِنَ اللهِ الْمَحَلُّ الْأَسْنَى، وَكُنْتَ مِنْهُ قَرِيبًا، وَلَدَيْهِ حَبِيبًا؛ لِأَنَّكَ تَأْتِي مَا يُحِبُّهُ، وَتَذَرُ مَا يُبْغِضُهُ.
وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُحِبُّ أَوْلِيَاءَهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدَافِعُ عَنْهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ عُدْوَانًا عَلَيْهِمْ.
فَإِذَنْ؛ تُحَصَّلُ التَّقْوَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالصِّيَامِ.
((شَهْرُ رَمَضَانَ يُعَلِّمُنَا الصَّبْرَ))
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَتَعَلَّمُ الصَّبْرَ، وَالصَّبْرُ فِيهِ إِنَّمَا يَكُونُ صَبْرًا عَلَى الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ المُنَزَّلَةَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ شَرْعِيَّةٌ وَكَوْنِيَّةٌ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَخَلَقَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مُتَنَزَّلًا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، شَرْعًا وَقَدَرًا؛ لِكَيْ نَعْرِفَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهَذَا تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَمُسْتَلْزِمٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَهُوَ تَوْحِيدٌ كُلُّهُ، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطَّلَاق: 12].
مِثْلُهُنَّ عَدَدًا لَا صِفَةً، فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي الصِّفَةِ وَالْكَمِّ وَالْمِقْدَارِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ سَبْعًا وَهَذِهِ سَبْعًا، فَهِيَ كَمِثْلِهَا عَدَدًا لَا صِفَةً، {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قَدَرًا وَشَرْعًا.
الْأَوَامِرُ الشَّرْعِيَّةُ فِيمَا يَصْلُحُ بِهِ الخَلْقُ، وَمَا يُوحِيهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- لِرُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ؛ لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الْوَحْيُ.
وَسُمِّيَ وَحْيًا؛ لِأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ، فَالْحَيَا الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ تَحْيَا بِهِ الْأَرْضُ بَعْدَ مَوْتِهَا إِذَا مَا أَصَابَهَا غَيْثُ السَّمَاءِ بِأَمْرِ رَبِّهَا وَخَالِقِهَا وَإِلَهِهَا، فَكَذَلِكَ الْوَحْيُ، تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ المَيْتَةُ، وَتُسْتَنْقَذُ بِهِ الْأَرْوَاحُ الشَّارِدَةُ، وَتُعَادُ بِهِ الْأَجْسَامُ عَنْ شُرُودِهَا وَنِفَارِهَا؛ لِكَيْ تُقَامَ عَلَى صِرَاطِ رَبِّهَا.
فَيُنَزِّلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ، وَالْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ فِي تَصْرِيفِ خَلْقِهِ، فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتِةِ، فِي الرِّزْقِ، فِي المَعَزَّةِ وَالمَذَلَّةِ، فِي الْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ، فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ، فِي الْعَطَاءِ وَالمَنْعِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} قَدَرًا وَشَرْعًا {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطَّلَاق: 12].
يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ وَالصِّيَامُ كَيْفَ نَصْبِرُ عَلَى أَوَامِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ الْكَوْنِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ، وَفِيهِ حِرْمَانٌ.
فَالْحِرْمَانُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِيهِ ضَبْطٌ لِلْغَرِيزَةِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَنْكَحٍ، فِيهِ ضَبْطٌ لِلنَّفْسِ عَلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ.
وَهَذَا أَمْرٌ تَتَمَلْمَلُ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَتَجْزَعُ مِنْهُ الْقُلُوبُ إِلَّا إِذَا اطْمَأَنَّتْ بِذِكْرِ رَبِّهَا، وَأَنَابَتْ إِلَى أَوَامِرِ نَبِيِّهَا ﷺ، فَفِي هَذَا مَشَقَّةٌ، فَيَحْتَسِبُ المَرْءُ مَا يَجِدُ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَمِنَ الْعَنَاءِ، وَمِنَ الْعَطَشِ، وَمِنَ الجُوعِ، وَمِنَ الحِرْمَانِ...هَذَا كُلُّهُ يَحْتَسِبُهُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَهُوَ يَصْبِرُ عَلَى مَا فَرَضَ عَلَيْهِ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَمْرٍ، وَيَكُونُ مُحْتَسِبًا فِيمَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَلَا يَنَالُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إِلَّا الخَيْرُ.
يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ بِصِيَامِهِ كَيْفَ نَفْزَعُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ بَعْضِ مَا تُحِبُّ؛ حَتَّى نُحِسَّ بِالمَحْرُومِ حَقًّا وَصِدْقًا: بِمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا آتَانَا بِالَّذِي يَجِدُ مَسَّ الجُوعِ، وَالَّذِي يُعَانِي مِنْ حَبْسِ الْقَطْرِ عَنِ الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُ قَطْرَةَ المَاءِ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يُعَانُونَ مِنَ الجَفَافِ فِي الْعَالِمِ!!
فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْتَ إِلَى الرِّيِّ؛ فَاحْمَدِ اللهَ عَلَى مَا آتَاكَ، وَقَدْ أَنْعَمَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ مَلْكِكَ، وَبِغَيْرِ قُدْرَةٍ مِنْكَ وَلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا طَوْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ المُتَفَضِّلُ وَحْدَهُ، وَهُوَ المَانُّ وَحْدَهُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَقْضِي بِمَا يُرِيدُ.
((رَمَضَانُ شَهْرٌ لِإِعَادَةِ صِيَاغَةِ الْمُسْلِمِ))
عِبَادَ اللهِ! فِي رَمَضَانَ مَا يَزَالُ الْحَالُ يَرْتَقِي بِالمسْلِمِ إِلَى الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ الْـمَرْءُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ وَقَدْ أُعِيدَتْ صِيَاغَتُهُ.
وَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ خُبْثُهُ.
وَانْتَفَى عَنْهُ وَضَرُهُ.
وَزَالَتْ عَنْهُ أَقْذَارُهُ، وَعَادَ جَدِيدًا صَحِيحًا مُغْفُورًا لَهُ.
فَاللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.