دَوْرُ الِابْتِلَاءِ فِي تَرْبِيَةِ النُّفُوسِ


 ((دَوْرُ الِابْتِلَاءِ فِي تَرْبِيَةِ النُّفُوسِ))

((إِنَّ لِلِابْتِلَاءِ قِيمَةً تَرْبَوِيَّةً عَظِيمَةً جِدًّا؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ وَمَظَاهِرِهِ الْعَدِيدَةِ لَهُ دَوْرٌ عَظِيمٌ فِي تَرْبِيَةِ النُّفُوسِ، وَفِي تَدْرِيبِهَا عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَتَهْيِئَتِهَا لِمُوَاجَهَةِ أَيِّ ظَرْفٍ طَارِئٍ أَوْ مُحْتَمَلٍ.

كَمَا أَنَّ فِي الِابْتِلَاءِ بِأَنْوَاعِهِ وَمَظَاهِرِهِ تَدْرِيبًا لِلْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالذِّهْنِيَّةِ، وَتَوْجِيهًا لَهَا كَيْ تَسِيرَ عَلَى الْمَنْهَجِ السَّوِيِّ الَّذِي يُحَقِّقُ الْغَايَةَ الْمَرْجُوَّةَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ حِمَايَةً لَهَا مِنَ الزَّيْغِ وَالِانْحِرَافِ.

وَهَذِهِ بَعْضُ الثِّمَارِ التَّرْبَوِيَّةِ لِعَمَلِيَّةِ الِابْتِلَاءِ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَاقَةً بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَاةِ:

* الِابْتِلَاءُ تَرْبِيَةٌ بِالْخِبْرَةِ: فَيُرَبِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَبْتَلِيهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ وَبِأَيِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الْعَدِيدَةِ، يَجْعَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الِابْتِلَاءَ تَرْبِيَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُفِيدَ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ التَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ خِبْرَةً تُمَكِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مُعَالَجَةِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ مُعَالَجَةً صَحِيحَةً.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الْمُبْتَلَى بِالذَّنْبِ يُصْبِحُ كَالطَّبِيبِ الْمُجَرِّبِ الَّذِي عَرَفَ الْمَرَضَ مُبَاشَرَةً، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ يَعْرِفُ كَيْفَ يُعَالِجُهُ عِلَاجًا صَحِيحًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَعْرَفُ النَّاسِ بِالْآفَاتِ أَكْثَرُهُمْ آفَاتٍ)).

وَهَذِهِ قِيمَةٌ مَعْرِفِيَّةٌ أَوَّلًا، وَهِيَ قِيمَةٌ عَمَلِيَّةٌ ثَانِيًا؛ فَهِيَ تُفِيدُ فِي مُعَالَجَةِ الْحَالَاتِ الْمُمَاثِلَةِ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ تَرْبِيَةٌ بِالْخِبْرَةِ.

* وَالِابْتِلَاءُ تَدَرُّبٌ عَلَى الْحَذَرِ وَأَخْذِ الْحَيْطَةِ:

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((مِنْ فَوَائِدِ الِابْتِلَاءِ تَحَرُّزُ الْمُبْتَلَى مِنْ مَصَائِدِ الْعَدُوِّ وَمَكَامِنِهِ، وَمَعْرِفَةُ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطُّرُقِ؟ وَأَيْنَ تَقَعُ مَكَامِنُهُمْ؟ وَمِنْ أَيْنَ يَخْرُجُونَ عَلَيْهِ؟ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ؟

وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَعْرِفَةِ قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُمْ، وَتَأَهَّبَ لِلِقَائِهِمْ، وَعَرَفَ كَيْفَ يَدْفَعُ شَرَّهُمْ وَكَيْدَهُمْ، وَلَوْ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِمْ عَلَى غِرَّةٍ وَطُمْأَنِينَةٍ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَظْفَرُوا بِهِ وَيَجْتَاحُوهُ -أَيْ: يَسْتَأْصِلُوهُ وَيَذْهَبُوا بِذَاتِهِ- جُمْلَةً)).

* وَالِابْتِلَاءُ يُكْسِبُ الْعَبْدَ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ فِي مُوَاجَهَةِ الْأَعْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ دَاءِ الْغَفْلَةِ، وَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِجْمَاعِ وَاسْتِنْفَارِ الْقُوَى، وَالتَّشَجُّعِ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.

((فَقَدْ يَنْشَغِلُ الْإِنْسَانُ عَنْ عَدُوِّهِ اللَّدُودِ؛ وَهُوَ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَبِطَانَةُ الشَّرِّ، فَإِذَا أَصَابَهُ مِنْهُمْ سَهْمٌ اسْتَجْمَعَ قُوَّتَهُ وَحَمِيَّتَهُ، وَطَالَبَ بِثَأْرِهِ إِنْ كَانَ قَلْبُهُ حُرًّا كَرِيمًا؛ كَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ إِذَا جُرِحَ فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ بَعْدَهَا حَتَّى تَرَاهُ هَائِجًا مِقْدَامًا.

أَمَّا الْقَلْبُ الْجَبَانُ الْمَهِينُ فَإِنَّهُ إِذَا جُرِحَ فَهُوَ كَالرَّجُلِ الضَّعِيفِ، إِذَا جُرِحَ وَلَّى هَارِبًا، فَيَفْقِدُ بِذَلِكَ مُرُوءَتَهُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ يَطْلُبُ بِهَا الثَّأْرَ مِنْ عَدُوِّهِ، وَلَا عَدُوَّ أَعْدَى لِلْإِنْسَانِ مِنَ الشَّيْطَانِ)).

* وَالِابْتِلَاءُ -أَيْضًا- لَهُ قِيمَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ؛ وَهِيَ: الْمَعْرِفَةُ الْمُبَاشِرَةُ بِأَمْرَاضِ النَّفْسِ وَكَيْفِيَّةُ عِلَاجِهَا.

كَمَا أَنَّ لِلِابْتِلَاءِ أَثَرَهُ الْفَعَّالَ فِي مُقَاوَمَةِ آفَاتِ الْجَسَدِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهَا؛ فَإِنَّ لَهُ -أَيْضًا- دَوْرَهُ الْفَعَّالَ فِي مَعْرِفَةِ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ وَكَيْفِيَّةِ مُعَالَجَتِهَا.

((وَهَذِهِ هِيَ حَالُ الْمُؤْمِنِ يَكُونُ فَطِنًا حَاذِقًا أَعْرَفَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَأَبْعَدَهُمْ مِنْهُ، فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ ظَنَنْتَهُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ، فَإِذَا خَالَطْتَهُ رَأَيْتَهُ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ بُلِيَ بِالْآفَاتِ صَارَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِطُرُقِهَا، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَسُدَّهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْآخَرِينَ)) .

* الِابْتِلَاءُ لَهُ قِيمَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ أُخْرَى؛ وَهِيَ: تَدْرِيبُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْشِيطُهَا لِلْقِيَامِ بِمَهَامِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ.

وَهَذَا يَتَمَثَّلُ فِي الْيَقَظَةِ؛ لِأَنَّ صَدْمَةَ الِابْتِلَاءِ -خَاصَّةً بِالضَّرَّاءِ- هِيَ بِمَثَابَةِ صَيْحَةِ النَّذِيرِ لِقَوْمٍ نِيَامٍ تُنَبِّهُهُمْ مِنْ سُبَاتِ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَسَكْرَةِ أَحْلَامِ الْيَقَظَةِ، يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى- وَاصِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ غَرِقُوا فِي مَجْرَى الْغَفْلَةِ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.

وَهَذِهِ الْيَقَظَةُ هِيَ -كَمَا يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ-: ((أَوَّلُ مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَعْنِي -أَيِ الْيَقَظَةُ- انْزِعَاجَ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ.

وَيَا لَلَّهِ..! مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ! وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا! وَمَا أَقْوَى إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ! وَمِنَ الْيَقَظَةِ يَنْتَقِلُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعَزْمِ -وَهُوَ الْعَقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الشَّيْءِ-، وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ تَكُونُ عَزِيمَتُهُ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ، وَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ يَكُونُ تَذَكُّرُهُ)).

تَدْرِيبُ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَتَنْشِيطُهَا لِلْقِيَامِ بِمَهَامِّهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ يَكُونُ بِالْيَقَظَةِ، وَيَكُونُ بِالْفِكْرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالِاعْتِبَارِ:

إِذَا ابْتُلِيَ الْإِنْسَانُ وَاسْتَيْقَظَ بَدَأَ مَرْحَلَةَ التَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَإِعْمَالِ الْخَاطِرِ فِي تَجْرِبَةِ الِابْتِلَاءِ.

إِذَا ابْتُلِيَ بِالْفَاحِشَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا مَا ابْتُلِيَ بِالضُّرِّ وَالشَّرِّ؛ فَإِنَّهُ إِذَا مَا اسْتَيْقَظَ بَدَأَ مَرْحَلَةَ الْفِكْرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّأَمُّلِ وَإِعْمَالِ الْخَاطِرِ فِي تَجْرِبَةِ الِابْتِلَاءِ، وَرَدَّدَهَا قَلْبُهُ مُعْتَبِرًا.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : «أَصْلُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قِبَلِ التَّفَكُّرِ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ، وَأَنْفَعُ الْفِكْرِ الْفِكْرُ فِي مَصَالِحِ الْمَعَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، وَفِي طُرُقِ اجْتِلَابِهَا، وَفِي دَفْعِ مَفَاسِدِ الْمَعَادِ، وَفِي طُرُقِ اجْتِنَابِهَا.

فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَفْكَارٍ هِيَ أَجَلُّ الْأَفْكَارِ، وَيَلِيهَا أَرْبَعَةٌ: فِكْرٌ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَطُرُقِ تَحْصِيلِهَا، وَفِكْرٌ فِي مَفَاسِدِ الدُّنْيَا، وَطُرُقِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا)).

إِنَّ أَعْظَمَ الْفِكْرِ فِكْرٌ يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَيُؤَدِّي إِلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ صُنْعِ اللهِ سُبْحَانَهُ.

وَمِنْ تَدْرِيبِ الْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ: التَّذَكُّرُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الِابْتِلَاءِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ وَفَضْلٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ الْإِنْسَانَ وَيُثَبِّتُهُ عَلَى صِرَاطِ رَبِّهِ الْمُسْتَقِيمِ: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.

وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَذَكَّرَ مَصِيرَهُ لَوْ أَنَّهُ تُرِكَ لِهَوَاهُ بِدُونِ تَذْكِرَةٍ؛ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

وَعِنْدَ الِابْتِلَاءِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَحَالَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؛ أَنْ يُبْتَلَى هُنَا أَمْ هُنَاكَ، {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى}، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.

وَعِنْدَ سَاعَةِ الِاضْطِرَارِ وَالِابْتِلَاءِ يَعْرِفُ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَنْ يَكْشِفَ السُّوءَ إِلَّا اللهُ؛ {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}.

إِنَّ الْمَرْءَ إِذَا أَفْلَحَ فِي الْوُصُولِ بِالتَّذَكُّرِ بَعْدَ النِّسْيَانِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنَ التَّدَرُّجِ وَالِارْتِقَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَقَدْ أُوتِيَ حِكْمَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَعَرَفَ حِكْمَةَ هَذَا الِابْتِلَاءِ؛ {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ}.

وَيَتَأَكَّدُ هَذَا الْمَعْنَى لِلِابْتِلَاءِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ}.

فَالتَّذَكُّرُ يُورِثُ الْبَصِيرَةَ: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}؛ وَالْمَقْصُودُ بِهِ هُنَا - كَمَا يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ-: ((أَنَّهُمْ تَذَكَّرُوا عِقَابَ اللهِ وَجَزِيلَ ثَوَابِهِ، وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، فَتَابُوا وَأَنَابُوا، وَاسْتَعَاذُوا بِاللهِ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَرِيبٍ)).

* وَأَيْضًا.. الِابْتِلَاءُ هُوَ تَمْحِيصٌ لِلْقَلْبِ وَتَزْكِيَةٌ لَهُ: وَفِيهِ اسْتِنْفَارُ تِلْكَ الطَّاقَاتِ الَّتِي تَكُونُ كَامِنَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَيَسْتَخْرِجُهَا الْبَلَاءُ رَائِعَةً مُتَوَهِّجَةً؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَقْلُ مَنَاطَ التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى أَعْمَالَ الْقُلُوبِ.

فَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ مَتَى مَا صَلُحَ الْعَقْلُ وَالْقَلْبُ صَلُحَتِ الْجَوَارِحُ وَصَلُحَ اللِّسَانُ، وَبِذَلِكَ تَصْلُحُ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ صَلَاحُ الْأَحْوَالِ فِي الدَّارَيْنِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.

إِنَّ الِابْتِلَاءَ يُمَحِّصُ الْقَلْبَ وَيُخَلِّصُهُ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ؛ مِثْلِ: الْغَفْلَةِ، وَالْغِلِّ، وَالْغَيْظِ، وَالْغَضَبِ، وَالْكِبْرِ، وَالنِّفَاقِ، وَاللَّهْوِ، وَاللَّعِبِ، وَالْحَسَدِ، وَالْحِقْدِ، وَالْوَسْوَسَةِ، وَالشَّكِّ، وَالرِّيبَةِ، وَالْقَسْوَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْفَظَاظَةِ، وَالْغَيِّ، وَالِابْتِدَاعِ، وَالزَّيْغِ» اهـ .

فَالِابْتِلَاءُ لَهُ قِيمَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَمَنْ لَمْ تَحْتَرِقْ لَهُ بِدَايَةٌ فَلَنْ تُشْرِقَ لَهُ نِهَايَةٌ.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَبْتَلِي الْعَبْدَ لِكَيْ يُرَبِّيَهِ، وَلِكَيْ يَسْتَخْرِجَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَلْبِهِ تِلْكَ الْآفَاتِ الَّتِي إِذَا ابْتُلِيَ بِهَا قَلْبٌ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا.

وَيَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ -أَيِ: الْأَفْضَلُ- فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، فَإِذَا كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي ابْتِلَائِهِ)) .

يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُمَحِّصَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ سَخِيمَتَهُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَلَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ قَلْبِهِ مَا يَنْخَرُ فِيهِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ طَلَاحُهُ إِذَا مَا نَمَا فِيهِ وَزَكَا.

وَلَكِنْ يُزَكِّي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقُلُوبَ بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْخِصَالِ الطَّيِّبَةِ؛ لِيَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى الْمَحَكِّ دَائِمًا وَأَبَدًا.

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَبِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَمَهْمَا كَانَ حَالُ الْعَبْدِ فِي حَالِ ابْتِلَاءٍ، وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالِ الِابْتِلَاءِ أَبَدًا، ((فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ خَائِفًا مِنَ اللهِ، رَاجِيًا لَهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا.

إِنْ نَظَرَ إِلَى ذُنُوبِهِ، وَعَدْلِ اللهِ، وَشِدَّةِ عِقَابِهِ؛ خَشِيَ رَبَّهُ وَخَافَهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى فَضْلِهِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَعَفْوِهِ الشَّامِلِ؛ رَجَا وَطَمِعَ.

إِنْ وُفِّقَ لِطَاعَةٍ رَجَا مِنْ رَبِّهِ تَمَامَ النِّعْمَةِ بِقَبُولِهَا، وَخَافَ مِنْ رَدِّهَا بِتَقْصِيرِهِ فِي حَقِّهَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَتِهِ رَجَا مِنْ رَبِّهِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَمَحْوَهَا، وَخَشِيَ بِسَبَبِ ضَعْفِ التَّوْبَةِ وَالِالْتِفَاتِ لِلذَّنْبِ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَيْهَا.

وَعِنْدَ النِّعَمِ وَالْيَسَارِ يَرْجُو اللهَ دَوَامَهَا وَالزِّيَادَةَ مِنْهَا، وَالتَّوْفِيقَ لِشُكْرِهَا، وَيَخْشَى بِإِخْلَالِهِ بِالشُّكْرِ مِنْ سَلْبِهَا.

وَعِنْدَ الْمَكَارِهِ وَالْمَصَائِبِ يَرْجُو اللهَ دَفْعَهَا، وَيَنْتَظِرُ الْفَرَجَ بِحَلِّهَا، وَيَرْجُو -أَيْضًا- أَنْ يُثِيبَهُ اللهُ عَلَيْهَا حِينَ يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الصَّبْرِ، وَيَخْشَى مِنَ اجْتِمَاعِ الْمُصِيبَتَيْنِ؛ فَوَاتِ الْأَجْرِ الْمَحْبُوبِ، وَحُصُولِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ إِذَا لَمْ يُوَفَّقْ لِلْقِيَامِ بِالصَّبْرِ الْوَاجِبِ» .

 

المصدر:الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  حُسْنُ الخُلُقِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ وَوَاجِبَاتُهُ تِجَاهَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
  آثَارٌ عَظِيمَةٌ وَثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْأُمَّةِ
  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ
  خُلُقُ الْوَفَاءِ
  تَقْدِيمُ مَصَالِحِ النَّاسِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ
  تَحْرِيمُ الْإِسْلَامِ للتَّفْجِيرُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالقَتْلُ وَالتَّخْرِيب
  فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
  مِنْ فَضَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: هَجْرُ الْفَوَاحِشِ وَالنَّظَرِ وَالسَّمَاعِ الْمُحَرَّمِ
  نَصَائِحُ جَامِعَةٌ فِي يَوْمِ عِيدِ الْمُسْلِمِينَ
  رَمَضَانُ وَالْقُرْآنُ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى التَّوْحِيدِ
  دَلَائِلُ عَدْلِ وَرَحْمَةِ الْإِسْلَامِ بِالْعَالَمِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان